عمر بهاء الدين الأميري الأدب والمقاومة كنت أعرف عنه القليل في الأدب، وعلى كبررأيت أنه لابُد أنْ "أمحيَ أميّتي الشعرية لدى كبار الشعراء الذين لهم باع في الشعر العربي
قصيدة بألف قصيدة
هذه القصيدة قالها الشاعر السوري الراحل عمر بهاء الدين الأميري وهي القصيدة في الحنين إلى أولاده حينما سافروا وتركوه وحيدا في بيته وقال عباس محمود العقاد لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة في طليعته..استمتعوا بأبنائكم وأحبابكم قبل أن يرحلوا أو ترحلوا..
القصيدة بعنوان ( أبٌ )
أين الضجيج العذبُ والشغبُ
أين التدارس شابَه اللعبُ ؟
أين الطفولةَ في توقُدها
أين الدّمَى في الأرض والكتب ؟
أين التشاكس دونما غرض
أين التشاكيِ مالهُ سبب ؟
أين التباكي والتضاحُكِ في
وقت معا والحزنُ والطربُ ؟
أين التسابق في مجاورَتي
شغفا إذا أكلوا وإن شربوا ؟
يتزاحمون على مجالستي
والقرب مني حيثما انقلبوا
يتوجهون بسوق فطرتهم
نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا
فنشيدهم : (بابا) إذا فرحوا
ووعيدهم : ( بابا ) إذا غضبوا
وهتافهم : ( بابا ) إذا ابتعدوا
ونجيبهم :( بابا ) إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملء منزلنا
واليوم ويح اليوم قد ذهبوا
وكأنما الصمت الذي هبطت
أثقاله في الدار إذ غربوا
إغفاءة المحموم هدأتها
فيها يشيع الهم والتعب
ذهبوا أجل ذهبوا ومسكنهم
في القلب ما شطوا وما قربوا
إني أراهم أينما التفتت
نفسي وقد سكنوا وقد وثبوا
وأحس في خلدي تلاعبهم
في الدار ليس ينالهم نصب
وبريق أعينهم إذا ظفروا
ودموع حرقتهم إذا غلبوا
في كل ركن منهم أثر
وبكل زاوية لهم صخب
في النافذات زجاجها حطموا
في الحائط المدهون قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصحن فيه بعض ما أكلوا
في علبة الحلوى التي نهبوا
في الشطر من تفاحة قضموا
في فضلة الماء التي سكبوا
إني أراهم حيثما اتجهت
عيني كأسراب القطا سربوا
دمعي الذي كتمته جلدا
لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا
من أضلعي قلبا بهم يجب
ألفيتي كالطفل عاطفة
فإذا به كالغيث ينسكب
قد يعجب العذاب من رجل
يبكي ولو لم أبك فالعجب
هيهات ما كل البكا خور
إني وبي عزم الرجال أبُ
........................................
محمد سيد بركة
عمر بهاء الدين الأميري .. نجم سطع في سماء الأدب والفكر والعمل السياسي .. شاعر سوري رقيق العاطفة في تعبيره عذوبة تعبر عن عذوبة روحه.. أطلق عليه بعض الأدباء الألمان بعد إطلاعهم على ديوانه “مع الله ” شاعر الإنسانية المؤمنة ..
يقول الأميري: ” اتصل بي قنصل ألمانيا في حلب يريد شراء نسخ من ديواني “مع الله” طلبها عدد من الأدباء والشعراء الألمان وجلهم من المستشرقين فأهديته النسخ المطلوبة، فجاء لي بكتاب يتضمن تقديرا وشكرا ممن وصلتهم النسخ ، ثم زارني القنصل وقدم لي نسخة مختارات من الشعر الألماني الإلهي مهداة إلى صاحب ديوان “مع الله”، إلى الإنسان المؤمن الذي استطاع أن يعبر في هذا الزمن المادي عن مشاعر الإنسانية المؤمنة بأسلوب غير محلى وبطريقة إنسانية عامة “.. فأطلق عليه الذين اطلعوا على الكتاب من الأدباء وأهل الصحف هذا اللقب ، شاعر الإنسانية المؤمنة .
نشأته ومراحل حياته
ولد عمر بهاء الدين الأميري في 2/5/ 1916 م في مدينة حلب السورية لأبوين كريمين، وفي حلب نشأ الأميري وأتم دراسته الثانوية، ثم سافر إلى باريس فدرس الأدب وفقه اللغة بجامعة السوربون ، ولما عاد إلى سورية درس الحقوق في الجامعة السورية في دمشق .
عمل الأميري مدرسا لعلوم الاجتماع والنفس والتاريخ في حلب ودمشق ، وتولى إدارة المعهد العربي الإسلامي في دمشق.
التحق الأميري بالسلك الديبلوماسي، فعين وزيرا مفوضا، ثم سفيرا، وقضى شطرا من حياته سفيرا لبلده في المملكة العربية السعودية، وشطرا آخر في باكستان، ويبدو أنه اغتنم فرصة عمله في الباكستان فتعلم اللغة الأوردية حتى أتقنها، واستطاع أن يتحدث بها، ويحاضر، ويخطب، ثم ترك الديبلوماسية، وتفرغ لخدمة العمل الإسلامي بقية حياته، وظل سفيرا في وزارة الخارجية السورية..
ذهب إلى المغرب ليعمل أستاذًا لكرسي الإسلام والتيارات المعاصرة، في دار الحديث الحسنية بالرباط، واستمر في العمل خمسة عشر عاما، كما درس الحضارة الإسلامية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس .
كما عمل أيضا أستاذا زائرا ومحاضرا في جامعات الرياض، والإمام محمد بن سعود الإسلامية، والملك فيصل، والملك عبد العزيز في السعودية، وجامعات الأزهر، والجزائر، والكويت، وصنعاء، وقطر، والجامعة الأردنية في عمان، وجامعة الإمارات العربية في العين، وعدد من الجامعات الإسلامية في باكستان، وتركيا، وأندونيسيا.
كان الأميري عضوا برابطة الأدب الإسلامي العالمية ويعد أحد مؤسسيها، والمجمع العلمي العراقي، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن.
توفي الأميري مساء يوم السبت 22 من شوال 1412 هـ الموافق 25 من شهر أبريل 1992 م بعد حياة حافلة بالإبداع والكفاح من أجل نشر قيم الحب والتسامح والأخوة ، ومن أجل رقي الإسلام والمسلمين ..
مؤلفات الأميري
ترك الأميري تراثا شعريا وفكريا ضخما نذكر منه ..
أولا : الدواوين الشعرية
مع الله ، ألوان طيف ، أب ، أمى ، من وحى فلسطين ، أشواق وإشراق ، ملحمة النصر ، حجارة من سجيل ، قلب ورب ، رياحين الجنة ، الزحف المقدس ، نجاوى محمدية ، أذان الفجر، أنين وحنين ، أبوة وبنوة ، صفحات ونفحات ، ملحمة الجهاد ، عواطف وعواصف ، في رياض إقبال ، الزحف المقدس ، خماسيات ، أصداء الطفولة ، جمال وهوى، ألحان العزلة، صراع ، رجال وأشباه ، روح مباح، زورق، مع القاضي الزبيري، …
ثانيا : الأعمال الفكرية
الإسلام وأزمة الحضارة الإنسانية ، الخصائص الحضارية في الإسلام ، الإسلام في المعترك الحضاري ، المجتمع الإسلامي والتيارات المعاصرة ، في رحاب القرآن (الحلقة الأولى: في غار حراء) ، في رحاب القرآن (الحلقة الثانية: عروبة وإسلام) ، في رحاب القرآن (الحلقة الثالثة: وسطية الإسلام وأمته في ضوء الفقه الحضاري، لقاءان في طنجة ، قضية العروبة بين القومية والإسلام ، في الفقه الحضاري ، حكم البعثة المحمدية وآثارها في المكان والزمان والإنسان ، الشخصية المستقلة للحضارة الإسلامية ، الإسلام وحضارة المستقبل ، الأبعاد الحضارية للجهاد المقدس ، الحوار في منهجية البحث المقارن في التصور الحضاري المعاصر ، برا بالأبوة والتاريخ …
دراسات عنه
أنجزت عدة بحوث ودراسات أكاديمية عن شعر الأميري ونشرت مقالات كثيرة حول فكره، ومن أبرزها: كتاب “عمر بهاء الدين الأميري شاعر الإنسانية المؤمنة” لخالد بن سعود الحليبي، “يوميات وأيام عمر بهاء الدين الأميري”لباسل الرفاعي، “عمر بهاء الأميري شاعر الأبوة الحانية والبنوة البارة والفن الأصيل” للدكتور محمد علي الهاشمي أستاذ الأدب العربي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ودراسة عبد الحليم خلدون الكناني الصادرة في مجلة “دعوة الحق” المغربية وعنوانها: “نظرة في شعر عمر بهاء الدين الأميري”، وبحث الدكتور جابر قميحة عنوانه: “الغربة في شعر عمر بهاء الدين الأميري” الصادر في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية وإصدار عدد خاص من مجلة الأدب الإسلامي حول شعره وأدبه وحياته (العدد 60 -1429 هـ / 2008 م ) ، … وهذه الدراسات وما توافر لدينا من إنتاج الأميري كان مصدرنا في كتابة هذه المقالة..
شاعر الإنسانية المؤمنة
يتساءل الدكتور أحمد البراء الأميري نجل الشاعر:أهو شاعر إنسان أم إنسان شاعر ؟ أعني أي الصفتين أغلب عليه شاعريته أم إنسانيته ؟..لا يعنيني الجواب مادام أهم معالم تحديد هويته هو هذين السؤالين !
ويضيف قائلا : كان والدي –رحمه الله –شاعرا وإنسانا بكل ما في هاتين الكلمتين من آفاق وأعماق وأبعاد وامتداد ، وكان بعد ذلك فنانا بالطبع لا بالاكتساب ، وهذا هو ما جعل شعره نسيج وحده لأنه صقل موهبته بالمران والممارسة لا بالتعلم والمدراسة ..
ينطلق الأميرى فى أغلب شعره من قاعدة إيمانية روحية، وقلب ينبض بحب الإسلام والعربية والعروبة بل الإنسانية جمعاء ، ووجدان يعيش آلام المسلمين وآمالهم، يقول في ديوانه مع الله :
مع الله .. أول ديوان أنشره ، يحوي الجانب الإلهي من شعري،
مع الله في سبَحات الفِكـَر مع الله في لَمَحاتِ البصرْ
مع الله في زفَرات الحَشا مع الله في نبضات البَهَرْ
مع الله في رعشات الهوى مع الله في الخلجاتِ الأخَرْ
ويقول في قصيدة “ذرة “:
فكرتُ في آلاميَ الناميه وفي أمانيَّ وأحلاميهْ
وفي طريق الغيب أشتفـّـُـه وفي مجاهيل الغدِ الغافيهْ
وثمَّ في الحيْرَة ساحَتْ بيهْ عوالم الكون أفكاريهْ
فصِحْتُ مأخوذاً بإبداعها وسيْرِها هادية واعيهْ
حاشاه أن ينقضيَ خلا قها تَرْكِيَ فيها ذرَّة نابيهْ
فالشاعر يعيش صراع ، ويواجه أزمة فكرية ..إنه يفكر في آلامه المتزايدة ، وفي أحلامه التي لا تتحقق وفي الغيب الذي يتطلع إليه فلا يكشف شيئا من أستاره وفي الغد المجهول المحذور فتتملكه الحيرة ..لماذا ؟ لماذا يتألم ؟ لماذا يختفي الغد في أستار الغيب ولا ينكشف شيء منه ؟ !!
وفي حيرته تسبح به أفكاره في الملكوت ، فحيرته لا تتحول إلى تيه ينفصل فيه عن الكون وعن الله ، وإنما تخرج به روحه من سجن ذاته الذي أغلقته الحيرة النابتة في ضميره فتسيح به عالم الأكوان ..والشاعر يقدم تجربته كقصة شعورية وجدانية حية نابضة ..
ويقول في قصيدة “صلاة ” :
كلما أمعن الدجى وتحالكْ شِمْتُ في غوره الرهيب جَلالكْ
وتراءتْ لعين قلبي برايا من جمال، آنسْتُ فيها جمالكْ
وترامى لمسمع الروح همس من شفاه النجوم يتلو الثــَّـنا لكْ
ولهتراني تولـّـُه وخشوع واحتواني الشعور أني حِيالكْ
ما تمالكت أن يخر كِياني ساجدا واجـِـدا ومن يتمالك
أما في قصيدته الطويلة “ضراعة ثائر ” التي تعد من أعنف قصائد الديوان فهي سورة جسد ملتهبة يتلظى بها كيانه ولا يطيق كبتها ، في ليلة عاصفة تكاد تخرج به عن صوابه وضوابطه وكوابحه بعد تعرضه لفتنة جائحة ، ويثير هذا اللظى ، وعجزه عن كبحه ، يثير فيه أشجانا وذكريات ، تزيد من اضطراب نفسه ، وتجعل الصراع مرا عنيفا لا يكاد يطاق .. « كان في كراتشي… واستيقظ بعد منتصف ليلة عرفة، هائج النفس، ثائر الشباب، وكان قد تعرَّض في تلك الأمسية إلى إغراءٍ كثير.
“ذكر إقامته على التقوى في باريس، وهو طالب.وذكر مواقفه في الحج، في مثل هذه الليلة، منذ عام مضى.وذكر ما تعرض له قبل ساعات…وفي غمرة الحيرة، وسُوارالنفس، وأوار الظمأ، أنشأ القصيدة التالية. ولما كاد ينبلج الصباح، هدأتْ نفسه بعض الشيء، وعاد يراود الكرى” :
يقول :
كيف أنجو يا خالقي من شباب عارم عاصف التوثب ضاري
مستبدٍ بكلِّ ذرَّاتِ جسمي مستفز كوامن الأوطار
كـُـلـَّـما رُمْتُ كبتَه، ثارَ جهْلا وتخطى عقلي وأعيا وقاري
فأنا منه، ما كبحتُ هواهُ في جموح وحدة واستعار
كيف أنـْـجـو، وإنـَّـه مستقر في كياني، وفي صميم نجاري
هـو مـن طينـَـتي التي لـَـوَّثـَـتـْـنـي ورمتني فريسة الأقدار
إنه رجعة الصدى لفحيح لاهب الذات غاشم كفـّـار
قد تحدى أبي الكبيرَ قديماً فرماه من عالم الأبرار
إلى أن يقول :
كيف أنجو يا خالقي كيف أنجو والمقادير ألزمتـْـني إساري*
فتخيَّرْ لِمن خلقـْـتَ سبيلا ترتضيها، فإنَّ ذاكَ اختياري
أنني نازع إليك بنور منكَ، للنور في العوالم باري
وأنا مقسمٌ عليك بأسمائكَ،.. من راحم، ومن جبّار
لا تـُـفرِّط بمن دَعتـْـكَ خلاياهُ.. دراكاً في ليله والنهار
رُبَّ سار والسُحْبُ قد لفـَّـتِ النجمَ، .. فحارَ السّارون عبرَ القفار
سَفَرَ الفجرُ، فاستبان خـُـطاه، فرآها اهتدت بلا إبصار
واختياره لعنوان القصيدة ” ضراعة ثائر ” له دلالة على طبعه الوادع الهادئ الذي يطبع شعره كله حتى في أشد ساعات الثورة الجموح والانفلات ..
شاعر الأبوة الحانية
لم يعرف الشعر العربي قبل عمر بهاء الدين الأميري من خصص لأولاده وأحفاده ديوانا من من الشعر مثلما فعل الأميري حيث سكب عواطفه الأبوية في ديوان “أب ” و” رياحين الجنة ” ، فأسمعنا ألحان قلبه المفعم بحب أولاده ، وآهات روحه المتعبة من همهم ، وانشغال الفكر عليهم فعبر بذلك عن مشاعر كل أب نحو أكباده ومزع قلبه .ولا جدال في أن مشاعر الأبوة من أنبل المشاعر الإنسانية وأكرمها ..
يقول في مقدمة ديوانه “أب ” :
هذا الديوان : ألوان .. وألوان ..
ألحان إيمان .. وإحسان ..
إرنان أشجان .. وحنان ..
عطاء مفن .. أو فنان ..
أبوة شاعر ..
عصارة مشاعر ..
بوح إنسان .. إنسان ..
لا زمان له .. ولا مكان …
أما في قصيدته الأولى “براء ” وهو اسم أكبر أولاده تطالعنا العاطفة الإنسانية في أنقى وأصدق أشكالها ، عاطفة الأب المحب الحاني ، ينظر إلى مولوده الأول ، فيرى في عينيه الصافيتين وثغره الزاهي الرقيق سعادة تجعل العذاب حلوا ، وهناء تجلو عن النفس أوضاء العناء والهم .. يقول :
لصفاء عينيك العذاب
يحلو العذاب فلا عذاب
ولثغرك الزاهي الرقيق
وقد تفتح عن حباب
تتهنأ النفس العنا
ويلذها خوض الصعاب
ويمضي الشاعر في عزف ألحان الأبوة الخالدة فيخاطب وليده بأرق الكلماتواحلاها وقعا على الآذان فيقول :
يابسمة بفم الزمان
ودرة من غير عاب
يازهرة قدسية التكوين
عايقة الملاب
ما أنت إلا نعمة وافت
على غير ارتقاب
الأهل أنت أنيسهم
لك في قلوبهم رحاب
مهما اتيت فلا جناح
ولا ملام ولا عتاب
ثم يمضي الشاعر في مناجاة وليده ، قرة عينه :
أبراء يا بردا لروحي
لاح في لفحات آب
يا من أراه خلال طيف
الغيب يرفل في الثياب
أبراء هذا الدهر من
صفو وكدر يشاب
فاصبر إذا شد الزمان
عليك في ظفر وناب
ثم نقف مع قصيدته الخالدة والتي تعد من نوادر الأدب العالمي على حد تعبير الأديب عباس محمود العقاد ألا وهي قصيدة “أب ” التي تضمنت مشهدا شاخصا متحركا من الحياة الواقعية يضج بالحيوية والانطلاق بأسلوب رشيق عذب الإيقاع متألق بالعاطفة الصادقة الريانة المنسربة من أعماق القلب وأي قلب ؟ قلب الشاعر المرهف المحب الحنون .
في هذه القصيدة يصور الشاعر مشهد أولده الصاخب الضاج بالحركة والحياة والنطلاق والمرح في مصيف قرنايل بلبنان ، ثم يصور رحيلهم ووقع هذا الرحيل في نفسه حانا إلى ضجيجهم وشغبهم وتشاكسهم وتشاكيهم .
ويرى في هذه المتعبات المغضبات للآباء شيئا حبيبا إلى نفسه ، مؤنسا لها مسليا له في وحشته القاتلة وسأمه المبرح ، وما أروع تعبيره عن لهفته وآساه لرحيلهم بهذه العبارة “أين ” المشحونة بالألم ، الزاخرة بالحسرة، يقول :
أين الضجيج العذب والشغب
أين التدارس شابه اللعب
أين الطفولة في توقدها
أين الدمى في الأرض والكتب
أين التشاكس دونما غرض
أين التشاكي ماله سبب
أين التباكي والتضاحك في
وقت معا والحزن والطرب
وما أجمل تصويره الوحشة التي أناخت بكلكلها على صدره بعد رحيلهم ، فإذا هو يصعد زفرة القلب المعنى بفراقهم ولا يملك إلا أن يردد كلمة ذهبوا بكل ما تحمله من ايقاع عاطفي مؤثر حزين :
بالأمس كانوا ملء منزلنا
واليوم, ويح اليوم, قد ذهبوا
ذهبوا, أجل ذهبوا, ومسكنهم
في القلب ما شطّوا وما قربوا
إني أراني أينما التفتت
نفسي, وقد سكنوا, و قد وثبوا
في كل ركن منهم أثر
وبكل زاوية لهم صخبُ
في النافذات زجاجها حطّموا
في الحائط المدهون قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصحن فيه بعض ما أكلوا
في علبة الحلوى التي نهبوا
وفي نهاية هذه القصيدة ننصت إلى بوح الأبوة الحانية العطوف على فراخها الزغب وقد ركبو للرحيل فإذا نحن أمام أب يذوب حبا وحنانا ورقة إلا أنه يتظاهر بالجلد والتماسك فيكتم دمعه ويداري آساه حتى إذا ما غابوا عن عينيه أحس أنهم قد نزعوا قلبه من نياطه وأسالوا دمعه من مآقيه ، يقول :
دمعي الذي كتمته جلداً
لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا
من أضلعي قلباً بهم يجب
ألفيتني كالطفل عاطفة
فإذا به كالغيث ينسكب
قد يعجب العذال من رجل
يبكي ولو لم أبك فالعجب
هيهات ما كل البكا خورٌ
إني وبي عزم الرجال أب
ما أجمل وما أروع قول الشاعر” إني أب ” ففي هاتين الكلمتين تصوير عالم الأبوة الغني الحافل بضروب المشاعر وألوان الأحاسيس التي تموج بها نفوس الآباء نحو الأبناء ..
لقد كان قلب الشاعر في هذه القصيدة هو الذي يتكلم فلا عجب أن تكون في مجموعها دفقة عاطفة وخفقة قلب ورعشة وجدان وهزة نفس ورفة روح وسبحة خيال ..
فالأبوة بهذه الإنسانية العالمية وهذه العواطف التي امتدت عبر الزمان والمكان لم نقرأها لشاعر عربي آخر وإن ديوانه أب يعد بحق درة في جبين الشعر العربي والإنساني ..
أهم ماقيل عنه :
تعرف عمر بهاء الدين الأميري على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في فرنسا خلال دراسته في جامعة السوربون بين 1936 و1938. فكان من رواد نوادي التهذيب التي أسسها الشيخ الفضيل الورتلاني في باريس، ثم أصبح من أبرز المتعاونين معها ونشطائها، بمساهماته المختلفة.
وقد شهد بذلك الشيخ الورتلاني فقال عنه أنه : الشاب الذي نشأ في عبادة الله، المتوقد إسلامية، المشتعل عروبة، المتدفق غيرة.
كما كتب عنه كلمات مماثلة كل من الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والشيخ مبارك الميلي. ونشر الأميري في جريدة البصائر ومجلة الشهاب تقارير عرض من خلالها نشاطات النوادي وانجازاتها. ونشر كذلك مجموعة من قصائده في جريدة البصائر بعنوان: خماسيات الأميري.
كتب الشيخ أبو الحسن الندوي في تقديمه لديوان رياحين الجنة يصف الأميري بقوله: وجدت في شعرك لذّة ومتعة وسعادة، ما لا أجده في غيره من الشعر الجديد، وهو والحق يقال نفحات من الإيمان، وقبسات من نور القرآن، وصدق العاطفة، ورقّة الشعور، وتصوّر دقيق لهواجس النفس ، وخلجات الفكر، وكم تمنيت أن كنت معك في دعائك، وفي لحظات ابتهالاتك.
وقال يوم نعيه: إنه يستحق صفة شاعر الإنسانيّة المؤمنّة، وأمير شعراء الإسلاميين في النصف الثاني من القرن العشرين قاطبة، بعد محمد إقبال أمير الشعراء في النصف الأول .
وكتب الدكتور محمد علي الهاشمي: عمر بهاء الدين الأميري شاعر الأبوّة الحانية، والبنووة البارة، والفن الأصيل .
ومما قيل عنه : شاعر تكاد تسمع في كلماته رفيف أجنحة الملائكة وتحس فيها جلال الروح المحلقة عصافير في رياض الجنة، لم تنحت لغة القانون من إشراق عبارته الأدبي ولم تخدش جمال روحه يوميات المحاماة المليئة بدرن الحياة، بل ظل قبس روحه يتوهج كاللؤلؤ المكنون شذى إيمانه يعطر جنبات نفسه المفعمة بحب الله .
تعليقات