سَارِقو الوقتِ د.طارق ابو غزالة كثيرة هي الأمور التي تندرج في لائحة المتهمين بسرقة الوقت، الفيديو كليب ويكونُ بحق من أخطر وأعتى "سارقي الوقت"

مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب | د. طارق أبو غزالة

                                                 البروفيسور طارق أبو غزالة
التفكير الموضوعي 
كثيرة هي الأمور التي تندرج في لائحة المتهمين بسرقة الوقت، ولكنْ على ما يبدو أن الفيديو كليب يكاد يتصدر تلك اللائحة، ويكونُ بحق من أخطر وأعتى "سارقي الوقت" في زماننا، إن الفيديو كليب هو لحظات من عمر كــــل واحد فينا صممت بدقة و تقنية عالية ولهدفٍ محدد، ولسبب ما فإنّ هذه اللحظات - التي قلما يعيرها الواحد اهتماماً، أو يحتسبها من وقته الذي يمضي بلا عودة – قد تحولت إلى خطرٍ حقيقي يهدد الأمة في أهم مصادر ثروتها.. وهو الشباب، ويخدم الهدف الذي صمم من أجله، فما هو هذا الهدف ؟ إن مشكلة الفيديو كليب وتأثيره الاجتماعي في شريحة الشباب خاصة، قد حيّرت كثيرين ممن يحرصون على هؤلاء الشباب وعلى النسيج الاجتماعي الذي يشكله .

ولكن هذه المشكلة بنظري لم تشخص تشخيصاً دقيقاً، فكثير ممن عادى الفيديو كليب ـ وهو محق بهذه العداوة ـ ، عاداه لأنه مدعاة لإثارة الغرائز والشهوات وانحرافٌ عن جادة العفاف والطهر لما فيه من خلاعة وابتذال وعرض لمفاتن العورات التي هي بحق سهم من سهام إبليس . ولكن هل هذا هو التأثير الوحيد والأخطر للفيديو كليب؟ هل هو حقاً هذا التبذل والعري ؟ هل هو حقاً إثارة الشهوات ؟
برأيي إن هذه الأسباب أعلاه ما هي إلا قمة جبل الجليد والمخفي أعظم. إن تأثير الفيديو كليب المدمر لا ينحصر في هذه الأمور فقط , ولكن يتجاوزها إلى ما هو أهم، فلنناقش الفيديو كليب مناقشة موضوعية هادئة بعيدة عن التعصب والهوى .
أولاًَ : - من هي الشريحة التي ينتج الفيديو كليب لأجلها ؟

إنها لاشك شريحة الشباب بشكلٍ عام والشباب هنا الشباب والشابات معاً، هذه الشريحة أعمارها تبدأ من سنّ البلوغ ولعلها تنتهي في أواخر العشرينات، هذا السن هو سن بناء الأمم ففيه يتحصل الشاب أو الفتاة على معارف ومهارات أساسية تؤهلهم فيما بعد لدخول ميدان العمل والكسب، وتؤهلهم لدخول حلبة التنافس الشريف من أجل بناء الأوطان وعمرانها.
منحة جامعة Waikato لدراسة البكالوريوس و الدراسات العليا في ...

 وهو سن يكون فيه طموح الإنسان عالياً بأن يرتقي في درجات النجاح الاجتماعي. ففي هذا السن يتحصل الشاب والشابة على الشهادة الإعدادية فالثانوية فالشهادة الجامعية والتعليم العالي, و في هذا السن يتحصل الشاب والشابة على مهنة تعين على التكسب, فما علاقة الفيديو كليب بكل ما سبق وما هو تأثير الفيديو كليب على كل ذلك 
الدراسات العليا ميدان جديد لتفوق الإماراتية
ثانياً : - ما هي المعاني التي يدور حولها الفيديو كليب ؟
إن من يحلل معاني الفيديو يجدها تدور حول فكرة واحدة: شاب يتحدث عن فتاة أو فتاة تتحدث عن شاب . ولكن القصة لا تقف هنا . فهناك خلفية للفيديو كليب تدور كلها في الخيال .
فهذا الحديث الغزلي يدور في السيارات الفارهة أو القصور المنيفة أو الزوارق المشرعة أو الحدائق الغنّاء بوجود القيثارات والألوان والظلال والخيالات التي تسرح بخيال الشاب والشابة إلى فضاءات تتجاوز واقعه وتحلق به في عالم الأحلام الوردية مع جوقة من أجمل الفتيات اللابسات للبياض من الثياب وهن يرقصن على ظلال الشموع والقيثارات. 
وتنتقل اللقطات من هذه لتلك ترفع خيال الشباب و الفتاة من درجة إلى أخرى حتى تصل به وبها إلى شاهق! 
ثم ينتهي الفيديو كليب!. يهوى بعدها الشاب أو الفتاة إلى مكان سحيق فيفيق على واقعه وإذا به عليه أن يذاكر ويدرس ويمتحن ويرى ذلك بعيداً وقد رآه في الفيديو كليب قريباً. 
أو يجد نفسه في واقعه وأن عليه أن يستيقظ عند الغداة ليعمل الدقيقة تلو الدقيقة والساعة تلو الساعة كي يتحصل على ما يسد من رمقه فيرى الحلم وقد أصبح بعيد المنال.

ثالثاً : - ما هي آثار الفيديو كليب ؟
إن ما يفعله الفيديو كليب إذاً هو عملية إحباط نفسي موجّه يقوم به بعلم أو دون علم مجموعة لا تتعدى المائة من الشباب والشابات الذين يظهرون في الفيديو كليب على أنهم رمز النجاح للشباب، فيعيش هذا الشاب أو الفتاة نجاحاً وهميّاً كالحلم لا ينزل إلى الواقع, يُضيع معه وقتاً ثميناً هو بأمس الحاجة إليه لبناء مستقبل ناجح فيركن عوضاً عن ذلك إلى القليل الذي 

يسد رمقه خلال عمله. وتتحقق بذلك مقولة بريدزينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي للرئيس كارتر خلال مؤتمر العولمة في فندق سان هوسيه عام 1995 عندما قال "يجب علينا تفعيل مصطلح الـ Titainment في حياة الشباب".
هذا الشباب الذي سوف يقوم بالعمل مقابل أبخس الأجور في زمن العولمة، والمصطلح مشتق من كلمتين tits التي ترمز إلى حلمة الثدي أي الحليب والغذاء، و(tainment) المشتقة من كلمة (entertainment ) والتي ترمز إلى التسلية.
 ويدخل تحتها الفيديو كليب والموسيقى والرياضة والأفلام وتلفزيون الواقع والمسابقات والتي هدفها الأول والأخير سرقة وقت هذا الشاب أو تلك الشابة.
 هذا الوقت الذي هو أساس النجاح والرقي . ومعنى هذا  المصطلح الخطير هو أنه في زمن العولمة و الشركات العابرة للقارات يجب تأمين أمرين للحفاظ على تدفق العمالة الرخيصة من شريحة الشباب : الغذاء والتسلية، الغذاء ضروري لحياة العامل، أمّا التسلية فضرورية لاستهلاك وقته وإبقائه مكانه دون أن يتطور مما يعني اعتماده على الآخرين للحصول على الغذاء.

إن من يصرف أوقاته في مشاهدة هدف أحرزه لاعبٌ مــا في مكان ما في محطة فضائية إثر محطة فضائية إنما يضيع شبابه ولا يتسلى، إن الذي يتابع أخبار آخر البطولات الأوروبية والآسيوية والأفريقية والآسيوأفريقية واللاتينية وكأس السوبر،إنما يضيع أهداف حياته هدفاً هدفاً وهو ينظر إلى اللاعبين يسجلون أهدافهم بأرجلهم .

إن الشباب هو رأس مال الأمّة من حيث الوقت ومن حيث الصحة ولابد من استغلال رأس المال هذا لبناء الأمّة وعمرانها، لذلك لابد من حفظ الوقت لهذا الشباب أولاً، وحفظ صحته ثانياً ولا يكون حفظ وقت الشباب بإغراق الفضائيات بهذا الكم الهائل من الفيديو كليب وأخبار الرياضة واستحداث عشرات المحطات المسخرة ليلاً ونهاراً لذلك، بل بالبدء بعملية بناء بطيئة.

وليعلم الشباب أن الحضارات لا تبنى بالطفرات أو الأحلام، بل تبدأ بالاستيقاظ كل يوم للذهاب إلى المدرسة أو الجامعة أو العمل وأداء ذلك على أتمّ وجه, ومشاهدة الحلم وهو يُبنى بالعرق والإجهاد، لا بالحلم والإخلاد.

إن شبابنا اليوم يظن أنّ شباب الأمم الراقية لا يختلفون عنا من حيث مشاهدتهم لهذه التسالي ولعل ذلك صحيح نوعاً مـــــا، ولكن ما لا يعلمه شبابنا أن شباب الأمم الراقية لا يشغله أمرٌعن أساسيات حياته، ولعل أبرز ما يميز شباب تلك الأمم الراقية هو اختفاء كثير منهم عن الأنظار لأشهر بل سنوات خلال التحضير لإطروحة الدكتوراة يخرج بعدها أحدهم وقد حصّل علماً تميز به عن أقرانه وأصبح سلعة نادرة تتراكض إليها المؤسسات والشركات والمعاهد والجامعات والحكومات للاستفادة مما حصله من عصارة الوقت الذي أنفقه على نفسه.

وأخيرا ليعلم شبابنا أنهم إنما يبيعون أوقاتهم بثمن بخس لشركات الإعلان, وليقارنوا بين دقيقتهم المجانية في مقابل دقيقة من أنفق وقته على نفسه والتي تقدر بحوالي نصف دولار في بداية التخرج والتي ما تفتأ تزيد في مقابل دقيقة شبابنا المجانية التي لا تفتأ تنقص لاعتماد الثاني على الأول في كل شي .

هذا ما سيميّز الأمم خلال الخمسين سنة القادمة: الاعتماد على النفس و امتلاك الوقت، فالأمم العليا ستكون التي تستهلك أوقات الأمم الدنيا لتصدّر إليها بضائعها الفكرية والمادية فتغير فيها تدريجياً إلى أن تصبح مسخاً فلا هي حافظت على تراثها ولا هي ارتقت كالأمم الأخرى .

وصدق رسول الله صلّى الله عليه و سلّم إذ قال:  "اليد العليا خير من اليد السفلى".
ولعل سائلاً يسأل: وما ضرر عشر دقائق في اليوم لفيديو كليب على الأفراد؟ ولكن حسابات الأمم لا تحسب حساباً فردياً فلنفرض أنّ كل شاب وفتاة يشاهدون فيديو كليب واحد مدته عشر دقائق في اليوم فبعملية حسابية بسيطة نجد أن لو شاهد هذا الكليب ثلث الشباب فقط لكان في ذلك إهدار لما محصلته 1000 سنة تراكمية.

 ويكفي الآن أن تضاعف الرقم إذا كان هؤلاء يشاهدون كليبين، وتضرب الرقم بـ 9 إذا كانت المشاهدة لمباراة واحدة، واضرب 9000 سنة الزمن الضائع على الأمة في مباراة واحدة بـ 48 مباراة لمشاهدة التصفيات الأولى لمسابقة فيها ثماني مجموعات وست فرق في كل مجموعة !

إن أهم مــا يميز مجتمعاتنا اليوم هو الإهدار الكبير للوقت الذي فيه حياة الأمم،هذا الإهدار للوقت هو السبب الحقيقي  لتخلف أمتنا!لعل الأوان قد آن كي نفهم فهماً حضاريّاً ما قاله نبي الحياة صلى الله عليه و سلّم:اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك و صحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك.

التفكير الموضوعي وإصلاح الحياة

تميزت الحضارة الإسلامية في عصرها الزاهر والحضارات الغربية التي ورثتها بتفكيرها الموضوعي الذي استمر حتى عصرنا الحالي، وظهرت الكثير من نتائجه في الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين.

فالتفكير الموضوعي هو علامة الحضارات المتقدمة، وله سمات  معينة لا بد من تواجدها قبل أن تظهر نتائج هذا التفكير في حياة الناس.

لكن مؤخراً بدأت طرائق التفكير الموضوعي تتغير في أمريكا، حيث بدأت تنحو منحى التفكير الحدسي الشخصي، فظهرت كتابات عديدة تدعو وتمجد هذا التفكير الحدسي الفردي، ما أدى إلى رد فعل من أصحاب التفكير الموضوعي.

ففي كتابه "فكر" الصادر عام 2006 انتقد مايكل لوغالت بشكل مباشر كتاب بلينك (طرفة عين) لمؤلفه الشهير مالكوم غلادويل الذي يتحدث فيه عن "قوة التفكير بدون تفكير" بحيث عنون لوغالت كتابه تحت شعار "لماذا لا يمكن اتخاذ القرارات الحاسمة بطرفة عين؟" في لمز واضح لكتاب غلادويل.

أثار كتاب لوغالت انتباه كثير من مجامع التفكير ومنها مجمع "مؤسسة التراث" اليمينية The Heritage Foundation، الذي وجه له الدعوة ليعطي نبذة عن الكتاب في محاضرة ألقاها في يناير/كانون الثاني 2006. 

ليس المهم هنا الكتاب بحد ذاته، لكن المهم تعامل مجامع التفكير معه.. فما هي مجامع التفكير؟

مجمع التفكير (أيضاً تُسمّى معهد السياسات) هو مؤسسة، أو معهد، أو شركة، أو مجموعة تقوم بالبحث وتنخرط في المناصرة في مجالات السياسة الاجتماعية، الاستراتيجية السياسية، الاقتصاد، وقضايا العلوم والتكنولوجيا، وسياسات الصناعة وإدارة الأعمال، أو النصح العسكري.

الكثير من مجامع التفكير هي منظمات غير ربحية مستثناة من دفع الضرائب في بلدان مثل أمريكا وكندا. وفي حين أن بعض مجامع التفكير تموّلها الحكومات والمجموعات ذات الصلة بموضوع المجمع أو الأعمال، فإن البعض الآخر يتموّل من بيع الاستشارات والأعمال البحثية المتعلقة بمنهجهم.

 هذه المجامع الفكرية تكاد تكون معدومة في العالم العربي والإسلامي.

وأسباب ندرتها متعددة ومن أهمها انعدام الحرية الفكرية وغياب الموضوعية.

إضافة إلى ذلك هناك غياب واضح لأهمية فهم المعرفة وإنتاجها.

في الفقرات القادمة سأتعرض لمفهوم جديد عن "المعرفة والمعلومات" (إنتاج المعرفة) من منظور قرآني.

هذا المنظور سيأخذ في حسبانه العلاقة بين إنتاج المعرفة وأثرها في مقاومة الإفساد وسفك الدماء والحد والوقاية منهما. 

اكتساب المعرفة وإنتاجها وعلاقة ذلك بالإفساد وسفك الدماء.

تبدأ قصة المعرفة في القرآن الكريم مع خلق آدم عليه السلام وظهوره على مسرح الأحداث الإنساني.

لكن هذا الظهور سيستدعي مباشرة تساؤلاً مبرراً من الملائكة بأن آدم سيتسبب في الإفساد وسفك الدماء.

إذ لم تكد الملائكة تسمع الله يخاطبها قائلاً: "إِنِّيْ جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيْفَةً"  (البقرة: 30)، معلناً بذلك عن ولادة الإنسان ليكون في الأرض خليفة حتى تساءلت متعجّبة: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" (البقرة: 30). 

إنها تهمتان إذاً تتهم بهما الملائكةُ آدمَ حتى قبل أن يصبح خليفة ويتسلَّم مهامه في الأرض، تهمة الإفساد وتهمة سفك الدماء.

التهمة الأولى 

الإفساد وهو بمثابة مقدمة لكل ما ينتج عنها حتى يصل الإفساد إلى ذروته المتمثلة بسفك الدماء. 

الإفساد مقدمة، وسفك الدماء نتيجة لها، بل أفظع نتائجه. وما بين المقدمة والنتيجة حياة كاملة من الشر تخيلها الملائكة ورموا آدم بها. 

لكن الله لم يكن ليخلق آدم ويجعله خليفة من دون إعداده لتحمل مسؤوليات الاستخلاف. 

فيجيب الله الملائكة: "قَالَ إِنِّيْ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُوْنَ" (البقرة: 30). 

وتبدأ عملية إعداد آدم وتأهيله ليصبح أهلاً لتحمل الأمانة بخطوتين اثنتين: 

"وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا" (البقرة: 31). 

إنها الخطوة الأولى في عملية الإعداد، في إشارة إلى أن هذه العملية لا بد لها بداية من تعليم كامل للعلم مع كل ما يحيط به من أسماء ومصطلحات ومعانٍ.  

ليس المهم هنا ماهية الأسماء التي تعلمها آدم، فالله تبارك وتعالى سكت عن هذه الماهية. وقد فصل المفسرون في هذه الأسماء إلا أن ذلك يبقى رجماً بالغيب، وحيث إن الله لم يطلعنا على هذا الغيب فلا مجال لأحد أن يكون قد عَلِمَه من غير هذا المصدر.

إنها إذاً عملية إدخال المعلومة؛ الخطوة الأولى في عملية البناء.

واستكمالاً لهذه الخطوة يسأل الله عز وجلّ الملائكة: 

"… فَقَالَ أَنْبِئُوْنِيْ بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ" (البقرة: 31)، لكن الملائكة توقفت عن ذلك، لأنها لم تتعلم تلك الأسماء: "قَالُوْا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا" (البقرة: 32)، في إشارة تعليمية بالغة الأهمية تستكمل الخطوة الأولى وتهيئ للثانية. وهي واجب التوقف عن الإدلاء بأي معلومة حين تغيب عن المسؤول عنها. فلو علم الملائكة تلك الأسماء لأنبأوا عنها فهم "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" (التحريم: 6). 

بعد ذلك مباشرة ينتقل الخطاب الإلهي إلى الخطوة الثانية في عملية تأهيل آدم وهي "قدرة المتعلم بعد التعليم على الإنباء بشكل صحيح عما تعلمه"

"قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ" (البقرة: 33) 

استعمل البيان الإلهي لفظ الإنباء لما يحتويه من دقة في نقل المعلومة، تشهد على ذلك مواضع هذا اللفظ الأخرى في القرآن الكريم:

"عمّ يتساءلون عن النبأ العظيم" (النبأ 1-2). 

"ولا ينبئك مثل خبير" (فاطر: 14). 

" قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير" (التحريم: 3). 

فالإنباء إذاً هو الخطوة التالية في عملية التأهيل. ويكوِّن مع العلم الضمانة الكاملة التي تقوم في وجه الإفساد وسفك الدماء حين حدوثهما.

وهنا وبعد أن يُتم آدم اختباره بنجاح ويُنبئ عما تعلمه على الوجه الصحيح يبادر البيان القرآني: 

"فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" (البقرة: 33). 

إنه الإنباء عن العلم إذاً الذي يميز الإنسان الذي يستطيع مقاومة الإفساد وإصلاح ما نجم عنه.

فصّل المفسرون كثيراً في معاني "الأسماء كلها" رغم أنها من علم الغيب، لكنهم لم يفصِّلوا في معاني "فلماّ أنبأهم" وهي الشرط المتمم لعملية تأهيل آدم التعليمية التي جعلته أهلاً للاستخلاف في الأرض وعمارتها ونفي تهمتي الإفساد وسفك الدماء عنه.

هذه الرحلة التي تبدأ بتعلم العلم وأسماء مفرداته في الحياة ومن ثم النضج فيه والتمكن منه، ليصل إلى درجة الإنبائية من دون تحريف أو تشويه هي رحلة الموضوعية في القرآن الكريم التي تبدأ بـ:

"إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة: 30). 

ولا تنتهي إلا والله يقول:

"اليوم أكملت لكم دينكم" (المائدة: 3). 

كان يمكن لآدم أن يخبر عن الأسماء بشكل خاطئ فهو ليس من صنف الملائكة بل له مطلق الحرية في اختيار ما يقوم به، هذا الاختيار الذي يعتبر السمة المميزة لبني البشر: "وهديناه النجدين" (البلد: 10). 

إذاً فالعلم والإنباء ضرورة لا بد منها لمحاربة الإفساد وسفك الدماء.

ولم تتم تبرئة آدم عليه السلام من التهمتين اللتين لحقتا به (الإفساد وسفك الدماء) حتى استكمال مرحلتي اكتساب ومن ثَمّ إنتاج المعرفة.

ولو تمعنا قليلاً في هذين المعنيين لرأينا أن إتمام العناصر المكونة لهذا النموذج ضروري جداً لفهمه بشكل كامل. 

إذاً هنا حدث أمران:

1-   اكتساب المعرفة (تعليم آدم الأسماء كلها). 

2-   الإنباء عن هذه المعرفة (فلمّا أنبأهم بأسمائهم). 

فمن هذا النموذج المعرفي، نستطيع أن نخلص إلى عدة نتائج:

هذا الاكتساب والإنتاج للمعرفة على الوجه الصحيح لا يؤدي فقط إلى الخير لكنه يعمل كلقاح وترياق ودفع للإفساد وسفك الدماء. 

إن اكتساب و/أو إنتاج المعرفة الزائفة هو الذي يؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء.

إن عدم اكتساب المعرفة و/أو عدم إنتاجها لن يؤدي إلى إفساد وسفك دماء ولكنه لن يدفعهما.

من هذه المعطيات نستطيع أن نشكل أربع نماذج حسب اكتساب وإنتاج المعرفة.

1-  النموذج الأول: هو نموذج العلم والإنباء الذي مثَّله آدم عليه السلام فاستحق بذلك شرف الاستخلاف في الأرض.

2- النموذج الثاني: هو نموذج الملائكة الذين لم يُؤْتَوا علم الأسماء فتوقّفوا عن الإنباء عنها إذ سُئلوا. وهذا النموذج يمثله قولهم "لا علم لنا". 

إنه نموذج لا يؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء لكنه نموذج حيادي لا يستطيع دفعهما.

3- النموذج الثالث: هو نموذج من يُؤتى علم الأسماء لكنه يستنكف عن الإنباء عنها إذ يُسأل.

إنه نموذج كاتم الشهادة الآثم قلبه.

نموذج سيؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء. 

4- النموذج الرابع والأخير: هو نموذج ذلك الذي لم يُؤت علم الأسماء لكنه رغم ذلك ينبئ عنها من غير علم حين يُسأل.

إنه نموذج شاهد الزور الذي يشهد زوراً بما لا يعلمه.

إنه الوجه الآخر لكاتم الشهادة.

وما بين شاهد الزور وكاتم الشهادة تدور أركان الشر والإفساد وسفك الدماء في هذا الكون، والأمثلة على ذلك كثيرة لا تنتهي بقتل فرد من الأفراد فحسب، ولكن باستعباد الشعوب تحت المسميات الكاذبة وقتل الناس جماعات بعد اختراع التهم لهم ورميهم بها جزافاً. أنه نموذج نراه اليوم فيما بات يُعرف بالأخبار الزائفة التي ترمي إلى تغيير الواقع عما هو عليه وسحر أعين الناس ليستطيع الفراعنة الجدد حكم البشر سُخرة.

إن استخلاف آدم في الأرض ليست عملية متروكة للمصادفة، وليست مدعاة للإفساد وسفك الدماء كما ظنت الملائكة، ولكنها على العكس تماماً، عملية محكمة مفصلة بقواعد وسنن اجتماعية وعلمية تلاحق الإفساد وتحاصره وتقلل من نتائجه، وما قد يؤدي إليه من شرور.

وهنا ملاحظة أخيرة لتبيين دور آدم في هذه الحياة.. الملائكة ظنت أن خلق آدم سيؤدي إلى الإفساد وسفك الدماء. ولكن لما تبين لنا أن خلق آدم إنما هو الذي سيمنع ويضاد ذلك، ولما كان عكس الإفساد هو الإصلاح، وعكس سفك الدماء والموت هو الحياة، فإن مهمة آدم بالتعريف إنما هي "إصلاح الحياة". إنّ فَهْمَنا لذلك سيؤدي بالضرورة إلى أن نفهم أن إصلاح الحياة عملية مستمرة لن تتوقف طالما أن هناك إفساداً وسفكاً للدماء.

هذه الرحلة من اكتساب المعرفة إلى إنتاجها على الشكل الصحيح هي ما سنسميه بالرحلة إلى الموضوعية.

في هذه الرحلة إلى الموضوعية سنتعرف على أسس ومنهجية التفكير الموضوعي ثم نعرج على تعريف "الحقيقة" والوصول إليها ومن ثَمَّ التعامل معها.

ونختم باستعراض بعض أخطاء التفكير التي تعيق التفكير الموضوعي وطرق علاجها.

ولابد من الإشارة إلى مصادر هذه الرحلة التي استخدمناها في البحث خلال سبعة عشر عاماً من الكتابة وإلقاء المحاضرات عن الموضوع.

أول هذه المصادر هو كتاب "فصول في التفكير الموضوعي" للدكتور عبدالكريم بكّار والذي شكّل وحدد إطار البحث وتفريعاته.

ثم كتاب Th!nk  "فكِّر" لمؤلفه مايكل لوغالت الذي أشرنا إليه في بداية هذه المقدمة.

وكتاب Deadly Decisions  "قرارات مميتة" لمؤلفه كرسيتوفر بيرنز الذي فصّل في موضوع العلاقة بين المعلومات الزائفة وعلاقتها بالإفساد وسفك الدماء.

وكتاب The Laws of Human Nature "قوانين الطبيعة البشرية" لمؤلفه الموسوعي روبرت غرين.

إضافة إلى الكثير من المقالات على الشبكة العنكبوتية التي سنشير إليها في حينه.

يبقى أن نشير إلى أن من أهم ما شكل عناصر هذه الرحلة هو التغذية الراجعة والتفاعل مع كثير ممن حضروا هذه المحاضرات فكنّا دوماً نعمد إلى تنقيحها اعتماداً على هذه الملاحظات والنصائح القيِّمة.

أخيراً، لعل هذه المقدمة تكون سبباً في إلقاء الضوء على أهمية مجامع التفكير لاكتساب المعرفة وإنتاجها بغية إصلاح الحياة ودفع الإفساد وسفك الدماء ومن ثَمَّ العمل على إنشاء هذه المجامع بتلك المواصفات وتمويلها بما لا يجعلها رهينة أي أجندة خارجة عن هذه الأهداف.



2014/10/10 04:36
كيف يشيطن الاستبداد خصومه؟
كيف يشيطن الاستبداد خصومه؟

د. طارق أبو غزالة

مقال مستوحى ترجمةً وتصرفاً من فيلم وثائقي لما وجدت فيه من حقائق يمكن تنزيلها والاستفادة منها في العالم العربي ما بعد ربيع الحرية.

سلسلة التدمير هي خارطة طريق تستعملها القوى المتغلبة لتوطيد تغلبها على من يقاوم هذا التغلب.

هذا المفهوم ورد في فيلم وثائقي عن الحرب على المخدرات اسمه “البيت الذي أعيش فيه”. The House I live in

الفيلم يتحدث عن حرب الحكومة الأمريكية على المخدرات خلال الخمسين سنة التي مضت وكيف استخدمت الحكومة سلسلة التدمير لدمغ جماعات إثنية أو وظيفية بمسمى المخدرات كي تبرر حربا لا هوادة فيها عليهم. فتحت هذه الحرب حاربت الحكومة السود, والطليان, والمكسيكان وحتى البيض.

يشرح هذا الفيلم بشكل مذهل الخطوات التي استعملتها الحكومة الأمريكية في كل مرة استهدفت فيها مجموعة من المجموعات المذكورة أعلاه.

هو استهداف على الكاتالوج أو خارطة طريق اسمها “سلسلة التدمير” Chain of Destruction  تتكون من خمس خطوات متتالية وظيفتها شيطنة أي مجموعة لتبرير ما تريد الحكومة أن تفعله بها بعد ذلك.  

سلسلة التدمير هذه استمرت خمسين سنة لكن الخطير في الموضوع أن هذه السلسة وجدت طريقها إلى بلادنا وفي خلال سنتين أنجزت ما عجزت عنه الحكومة الأمريكية في نصف قرن. والسبب في هذا برأيي يعود إلى سببين:

  1. الوعي الكبير لدى الشعب الأمريكي في فهم خطوات السلسلة.
  2. قوة المقاومة السلمية في أمريكا وتنظيمها المنضبط بسبب وجود قيادات متميزة قادت الحراك السلمي من أمثال مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس وغيرهم.

ما هي خطوات هذا السلسلة التدميرية؟

  • التحديد : Identification

أي تحديد المجموعة أو الجماعة المستهدفة ووصفها بأنها مصدر اضرابات ومشاكل للبلد. فجأة ومن دون مقدمات تصبح هذه المجموعة مجموعة سيئة وشريرة ويبدأ المجتمع بتغيير نظرته إليهم فبعد أن كان أفراد هذه المجموعة أناسا صالحين يصبحون لا قيمة لهم.

فطريقة تضخيم أي مشكلة هو أن تسأل السؤال الخطأ ومن ثم تجيب عليه بالإجابة الخطأ.

عادة يكون السؤال: من المسؤول عن كل مشاكلنا اليوم؟ ويأتي الجواب في حالة مجتمعات الربيع العربي: الإرهابيون ومن يؤيدهم ومن يمولهم بل كل من لا يجابههم.

بهذه الطريقة تتشيطن هذه المجموعة ويصبح من الصعب حتى الوقوف على الحياد ناهيك عن تأييدها.

  • النبذ Ostracization

وذلك بتسليط الإعلام عليهم لشيطنتهم ونبذهم ومن ثم نفيهم من المجتمع ليعيشوا في غيتويات. في هذه المرحلة يتعلم المجتمع كيف يكرهون أفراد هذه الجماعة وكيف يستولون على أعمالهم وكيف يجعلون حياتهم جحيما. في هذه المرحلة أيضا يُخرَج أفراد المجموعة من مساكنهم وينفون إلى الغيتويات المنفصلة عن باقي المجتمع. في هذه المرحلة أيضا يخسر أفراد المجموعة أماكنهم في المدارس والجامعات وينبذهم باقي الطلبة ويفصلون من الجامعات ويحل محلهم آخرون.

في مرحلة النبذ هذه يتحول أفراد المجموعة من أفراد مكروهين إلى أفراد خارجين على القانون مهددين للمجتمع. الغرض من كل هذا عزل هذه المجموعة عن باقي المجتمع ودفعهم خارجه إلى المنطقة الأقل مقاومة وفي بلادنا تكون باتجاه التطرف وحمل السلاح.

في أواخر هذه المرحلة يكون التأثير الاقتصادي قد أخذ مأخذه ونال من أفراد الجماعة وأنهكهم بسبب نبذ ومقاطعة المجتمع لهم.

  • المصادرة Confiscation

في هذه المرحلة يخسر أفراد المجموعة حقوقهم وحرياتهم المدنية, بل تُغيَّر القوانين وتُسنُّ  أخرى لتسهيل معاقبتهم وتوقيفهم وتفتيشهم على حواجز الأمن والجيش ولمصادرة ممتلكاتهم بل لاعتقال وإخفاء الناس أنفسهم.

تُمرَّر هنا القوانين اللازمة لشرعنة مصادرة الأموال والممتلكات دون حتى الحاجة لبيعها في أي مزاد. وفي بعض بلاد الربيع العربي ظهرت المصادرات في اسواق خاصة تباع بثمن بخس دراهم معدودة.

عملية نزع الأملاك هذه تُسهِّل بالضرورة عملية نزع الأرواح. أما أخطر ما يتم مصادرته فليس الأملاك ولا الأرواح لكن مصادرة أي أمل بالمستقبل.

  • التجميع Concentration

بعد المصادرة والاستيلاء على الممتلكات والأرواح تبدأ عملية التجميع باعتقال أفراد الجماعة وزجِّهم في السجون والمعتقلات والمخيمات. في هذه المرحلة أيضا يخسر أفراد المجموعة حقهم في التصويت وفي إنجاب الأولاد, ويسخَّرون ويستغَّلون في العمل. في هذه المرحلة أيضا تظهر حالات الاغتصاب والحمل وربما الإنجاب داخل السجون ما يؤدي إلى تغيير كامل في بنية ونفسية المعتقلين وقد يحدث في هذه المرحلة تغير شامل لدى بعض أفراد المجموعة في طريقة نظرتهم إلى المجتمع فمنهم من ينسحب تماما ومنهم من يبدأ عداوة شديدة قد تستمر لأجيال.

بعض أفراد الجماعة قد ينجحون في الهرب من مرحلة المعتقلات إلى بلدان حرة لكنهم يبقون دون موارد كافية لإحداث تغيير يذكر طالما بقوا مشتتين في بلدان الاغتراب.

  • الإبادة Annihilation

سوريا

مصر

وهي المرحلة النهائية في سلسلة التدمير وهنا قد تكون الإبادة غير مباشرة بمنع الرعاية الصحية والطعام عن أفراد الجماعة وبمنعهم من التزاوج والإنجاب. أو إبادة مباشرة بالقتل العمد يشرعن في ذلك استعمال كافة الأسلحة من السكين إلى فض الاعتصامات إلى القصف الصاروخي وبالطائرة واستخدام الكيماوي أو أفران الغاز.

تحدث هذه الخطوات بزخم ذاتي ومن دون أي ضغط من أحد, وكل خطوة في هذه السلسة تؤدي إلى الخطوة التي تليها.

الخطير في سلسلة التدمير هذه أنها حدثت كاملة في مصر وسوريا وفي زمن قياسي اختصر المسافات بين كل مرحلة من مراحلها ولعل سبب ذلك أن منظومة الاستبداد متجذرة في هذين البلدين لعقود طويلة استسلم خلالها شعب البلدين للأمر الواقع اللهم إلا انتفاضة هنا أو هناك يكون مصيرها إعادة حلقات السلسة من جديد. كما أن أحد أهم الأسباب في استطاعة النظامين في سوريا ومصر من حرق المراحل في سلسلة التدمير هو وجود آلة إعلامية جبارة شيطنت الطرف الآخر على مدار الساعة.

أما العامل الحاسم الذي استطاعت منظومة التدمير في سوريا ومصر به الوصول إلى الإبادة فهو عامل الجيش والقوات المسلحة التي أبادت الشعب دون أي صعوبة أو مقاومة تذكر من داخل هذه المؤسسة العسكرية والأمنية

لا أعلم ما هو الحل للفكاك من سلسلة التدمير هذه, إلا أن الأمر الوحيد الذي أعرفه أن لا بديل عن مقاومتها مع محاولة توعية باقي فئات المجتمع لمراحلها ولعملية غسل الدماغ التي يتعرضون لها, بالإضافة إلى تذكيرهم أن كل فرد فيهم مسؤول في الدنيا وفي الآخرة عما ترتكبه يداه وأن كل نفس بما كسبت رهينة ومهما ألقى المرء من أعذار للتنصل من المسؤولية الأخلاقية فهو لابد واقع تحت قول الله تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع الشيخ : عثمان حاج مصطفى

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

موسى ابن نصير قائد عسكري عربي في عصر الدولة الأموية. شارك موسى في فتح قبرص في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان