غزة.. قبل الاحتضار بالجدار

غزة.. قبل الاحتضار بالجدار
تاريخ الإضافة:31-12-2009

بقلم عادل صديق

في سابقة لم تشهدها المنطقة، زعمت الحكومة المصرية أنّ لها الحق في بناء الجدار الفولاذي لخنق غزة بإغلاق الأنفاق التي تعد شريان الحياة للقطاع المحاصر، وتدمير مقدرات غزة من المياه الجوفية وقتل أهلها فيما تتخذه من إجراءات أمنية لحدودها، وفيما تشهده الحدود من حفريات ضخمة ليس إلا للحفاظ على الأمن القومي المصري!


لقد كان الجدار المصري مفاجأة للمراقبين, إذ لا يعدو هذا الإجراء الذي تتخذه الحكومة المصرية أن يكون حلاًّ أمريكيًّا؛ لإحكام الخناق المستفز على المحاصرين من جهة، وعلاج القلق الصهيوني من تنامي المقاومة الإسلامية في غزة من جهة أخرى، مما أصبح هاجسًا أمنيًّا داخليًّا يهدِّد الداخل الصهيوني، وذلك من قِبل الذين يتسرّبون عبر الأنفاق؛ ليقوموا بعمليات استشهادية أو تهريب للمتفجرات إلى الكيان الصهيوني.

جاء الجدار المصري الظالم تقليدًا للجدار الصهيوني العازل على حدود قطاع غزة الشمالية والشرقية، والذي يهدف لمنع حفر الأنفاق، وبالتالي الحدّ من العمليات الاستشهادية التي تنتقل من غزة إلى الأرض المحتلة.

وكان يهدف أيضًا -بسوء نية وقصد- لخنق غزة مائيًّا، وهي التي تعتمد على المياه الجوفية، وحين تقدَّم التبريرات من مصر على أن الإجراءات الحدودية هي مسألة أمن قومي، فإن هذا يعني إدخال أهل غزة إلى مرحلة النزع الأخير؛ ترضيةً لأمريكا وللكيان الصهيوني الغاصب.

لقد أساءت الحرب -التي تحين ذكراها في 27 ديسمبر- للسمعة الصهيونية المدّعاة بأن الكيان الصهيوني واحة الديمقراطية وسط بحر متلاطم من الديكتاتوريات، في حين شهد العالم بوحشية قتل الآمنين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.

الأمن القومي المصري

لقد كثرت عبارات الأمن القومي على ألسنة المسئولين المصريين، وكأن الأطفال المحاصرين -الذين يبحثون عن لقمة يسدون بها رمقهم، وشربة ماء يروون بها ظمأهم- مصدر خطر على الأمن القومي المصري!!
وأكثر ما لفت الانتباه ما حدث في 23 يناير 2008م عقب انهيار السور الذي يفصل "الرّفحيْن" المصرية والفلسطينية، فقد ضاق بالمحاصرين ذرعًا فلم يكن أمامهم إلا أن يقتحموا الحواجز، فبدلاً من أن يواسي العالم هؤلاء المكروبين أمعن العالم في تضييق الخناق عليهم في حصار لا ينتهي، فلا طعام يكفي ولا دواء.

رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) خالد مشعل قال: إن اقتحام الحواجز كان بقرار شعبي. والرئيس المصري قال أمام الصحفيين: إنّه سمح بدخول الفلسطينيين عبر الجدار للتزود بالمواد الغذائية بشرط أن لا يكونوا مسلحين، وإنه أمر القوات المسلحة الحدودية بعدم منعهم من الدخول. إذن الموقف المصري حين يُعلن فهذا يعني أن هناك إرادة مصرية، ولو كانت بتأثير الموقف.

لقد مر نصف سكان غزة إلى مصر عبر الجدار وهم يتنسمون الحرية المفقودة على أثر القهر الذي يولده الحصار، وشعروا أنهم وسط أهليهم فاشتروا بكل ما لديهم من مال مقومات الحياة من طعام وشراب ودواء وغاز، وعاد أهل غزة من حيث أتوا، وبُني الجدار الحديدي مرة أخرى وبقوة تحمُّل أشد، ولم يكن يُفتح المعبر إلا قليلاً.

أنفاق غزة
حين يتكلمون عن الأنفاق ومدى اقتحامها لـ"الأمن القومي المصري" نذكر أنّ تاريخ حفر الأنفاق يعود إلى أوائل الثمانينيات، حيث كانت تستخدم لتهريب السجائر والذهب وبعض العملات الأجنبية، ومع بدء الانتفاضة الأولى عام 1987م استخدمت الأنفاق لتهريب الأسلحة وبعض المقاومين المطلوبين للاحتلال الإسرائيلي.

وكان لا يتعدى طول النفق الذي يربط بين منزلين متقابلين على جانبي الحدود آنذاك 30 مترًا، ولكن مع قدوم السلطة الوطنية وشروعها في محاربة حماس والأنفاق في إطار التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني، قامت قوات الاحتلال بتدمير آلاف المنازل المحاذية للشريط الحدودي تحت سمع وبصر ورعاية السلطة الوطنية الفلسطينية، الأمر الذي زاد من طول هذه الأنفاق.

حين شعرت غزة بالاحتياج لكل مقومات الحياة، لجأت إلى الأنفاق لتهريب الغذاء والدواء. والحاجة أمُّ الاختراع، فلم تكن الأنفاق إلاّ "حيلة المضطر"؛ فالمعابر تفتح فقط بعد تنازلات ومباحثات ورحلات مكوكية بين غزة والقاهرة، وبصورة متقطعة لا تفي باحتياجات "مليون ونصف المليون" هم تعداد أهل غزة.

واللافت أن أهمّ الأولويات الملحّة كانت الدواء وحليب الأطفال والوقود ثم الغذاء، ودخلت سلع كثيرة منها الملابس، وقطع الغيار، ثم السيارات مؤخرًا، وحـتى الحيـوانات دخلت عن طريق الأنفاق! وتراصت البضائع لتعيد الحياة إلى متاجر وأسواق القطاع الذي يفرض عليه الاحتلال الصهيوني حصارًا اقتصاديًّا وعسكريًّا خانقًا منذ يونيو 2007م، مهددًا بذلك حياة سكان غزة. لقد صارت الأنفاق تجارة كما قلنا، وظل الأمر هكذا حتى الاجتياح الوحشي الصهيوني في 27 ديسمبر 2008م لكسر إرادة المقاومة، ولكن الله U رد كيدهم في نحورهم؛ مما أدى إلى توقف حركة العمل في الأنفاق إلى حين.

رحلة المخاطر

لم يكن عبور الأنفاق رحلة سهلة وخاصة لتهريب البضائع والحيوانات والبشر من العالقين لفترات طويلة في رفح المصرية، فكثيرًا ما كانت الأنفاق تنهار على مَن فيها، سواء بأمرٍ قدريٍّ أو بفعل فاعل، وربما تم كشف مكان النفق، وألقيت فيه كبسولات الغاز لمنع استخدامه، أو قام الجانب المصري أو الصهيوني بتدميره بالقذائف أو المتفجرات، فيموت من يموت، وما من حساب إلا عند الله يوم القيامة، وينعق الناعقون: المهم الأمن القومي!!

الحكومة المصرية لا تعترف بأنّ غزة محرّرة إلى الآن -حتى وفق أوسلو- كما قال أستاذ القانون الدولي الدكتور نبيل حلمي، وذلك على قناة المحور في "برنامج 48 ساعة"! فغزة منطقة "محتلة" من الكيان الصهيوني، وأن المسئولية حال اللجوء للقضاء الدولي لإقدام مصر على إقامة الجدار الفولاذي تقع على عاتق "الكيان المحتل"، الذي من المفترض أن يعامل المناطق المحتلّة وفق القانون الدولي بتوفير مقتضيات الحياة.

ومن المؤكد أن كلام الدكتور نبيل منطقيًّا بما يلائم السياسة المصرية، ونسي أن غزة حررت بسبب أنها استعصت على الاحتلال، ففرَّ من مشاكلها "الجيش الصهيوني" إبّان الانتفاضة الأولى والثانية.

ورغم كلام أستاذ القانون الدولي فهو يخالف ما تم الاتفاق عليه بعد مماطلة طويلة في مباحثات أوسلو بين السلطة في عهد عرفات ومن جاء بعده والكيان الغاصب، وكانت بداية الاتفاق المذل "غزة وأريحا أولاً"، وكانت الضفة الممزقة بالجدران العازلة، والتي تخضع لإرادة المحتل والتنسيق الأمني بين السلطتين.

والأخطر من ذلك -بكلام وزير الخارجية الدكتور أحمد أبو الغيط، والدكتور نبيل حلمي أستاذ القانون الدولي- أن الحكومة المصرية نفت مسئوليتها عن غزة، والتي قلنا: إنها كانت قطاعًا في ذمّة مصر، حتى تم احتلالها في العام 1967م من قِبل الكيان الغاصب। ووزير الخارجية رغم إنكاره أنّ مصر لا تهدف إلى خنق غزة، وأن معبر رفح مفتوح طيلة الوقت،إلا أن الحقيقة تخالف ذلك جملة وتفصيلاً.

لقد فشل العدو في كسر إرادة أبناء غزة رغم الوحشيّة، وكانت الاعتداءات الصهيونية مدعومة بالسلاح المدمر وإمدادات الذخائر التي يتم تعويضها في الحال من الترسانة الأمريكية، وتأمين الغطاء المعلوماتي، فضلاً عن التبرير الأمريكي كالعادة؛ فالناطق الرسمي باسم البيت الأبيض حينذاك يرى أن الإجراءات "الصهيونية" هي دفاع عن النفس، وكذلك كل ناطق أمريكي.

وينقطع خط الإمداد عن طريق الأنفاق إبّان الحرب، وينشط عقب توقفها. لقد كانت استطلاعات العدو لأرض مكشوفة مسألة يسيرة؛ فغزة ليس لديها دفاع جوي، فصارت نهبًا لأكبر قوة جوية في الشرق الأوسط، واستطاعت الكشف عن الكثير من الأنفاق، وإنْ كان الصهاينة أقروا بأنه من المستحيل وقف التهريب دون خطة تشارك فيها مصر، فكانت الفكرة الصهيوأمريكية "الجدار الفولاذي".

البطالة في سيناء وغزة


تعاني الحكومة المصرية من القلاقل التي تنجم عن البطالة بين الشباب في سيناء، فسيناء دخلتها التنمية متأخرة، وكان من المفترض أن يبدأ حشد كافة القوى الاقتصادية والعمرانية بالذات لإيجاد بنية تحتية، وإنشاء مؤسسات ضخمة تعمل في المجالين الصناعي والزراعي، واستثمار قدرات الشباب المصري، وشباب سيناء جزء منه.

فأثناء الاحتلال الصهيوني لسيناء -للأسف- كان شباب سيناء يعمل في المزارع والمتاجر، والمصانع وحقول "سلب البترول المصري" من قِبل الصهاينة اللصوص، وهذه قضية "أمن قومي" لم تعُد حكومة مصر تنظر إليها، كما تغاضت عن المطالبة بحقوق "الأسرى الشهداء" الذين أبادهم اليهود عقب حرب الأيام الستة 1967م، رغم أن هذا الحق كجريمة حرب لا يسقط بالتقادم.

عمل الشباب في سيناء مضطرًّا -في مؤسسات الاحتلال- وكان البديل هو البطالة، وتوقّع سكان سيناء عقب التحرير أن يجد نعيم الحرية ورغد العيش، ولكن خاب ظنه أن يجد الاستثمارات التي تعوّضه ذلك القهر الذي عاشه ست سنوات أو يزيد.

ومع الأسف لم يبدأ الاستثمار في سيناء مبكرًا، فعانى من البطالة والحرمان إلا البعض الذين خرجوا من أرضهم بداعي السفر أو العمل، وهم الذين لم يتركوها ارتباطًا بها إبان الاحتلال، فقد كان في حاجة للتعليم والصحة والمرافق المتكاملة.

والباقون -وهم الكثرة- عاشوا بلا عمل، أو لجئوا إلى التهريب، أو التمرد على الواقع، ولكن مع حقبة الثمانينيات بدءوا العمل في الأنفاق كمصدر رزقٍ، فاحْتَوَتْهُمْ لدرجة أن إحصائية نشرتها جريدة الوفد أكدت أنّ 90% من الشباب يعملون فيها حتى العام 2009م بدلاً من الشغب والسهر في المقاهي حتى الصباح، والجريمة التي انتشرت ووصلت حتى ديسمبر 2009م إلى 53 ألف قضية جنائية، ومن المتوقع أن يتصاعد العدد مع إغلاق الأنفاق، وبلغ معدل ارتكاب الجريمة 194 جريمة يوميًّا بمتوسط 8 جرائم كل ساعة!! وأكدت البيانات الرسمية أن معدّلات الجريمة زادت في سيناء خلال الـ 15 عامًا الأخيرة بنسبة 266٪، وهذا معدل خطر لم يكن أثناء الاحتلال.

وأكدت جريدة الوفد حدوث زيادة هائلة في العنف والترويع المصاحب للجرائم، وأن العديد من الجرائم خاصة السرقة بالإكراه تقع على بُعد أمتار من أقسام الشرطة! كما كشفت تكرار حوادث السرقة المقيّدة ضد مجهول بشكل خطير، فقد تضمنت الأرقام الرسمية وقوع 2796 حادث سرقة خلال العام الحالي ضدّ مجهول!!

وأكدت الدراسة التي أجراها سعيد عتيق من أبناء الشريط الحدودي في سيناء، أن نسبة الذين يعملون في تجارة الأنفاق مع قطاع غزة حوالي 90٪ من شباب سيناء بين رفح المصرية والفلسطينية। كما أكدّت الدراسة عمل هؤلاء الشباب مهربين أو حفارين أو وسطاء لتجميع البضائع التي يتم تهريبها، ولا بد من إيجاد البديل؛ لأنّ الدراسة أوضحت أن البطالة وراء عمل شباب سيناء في الأنفاق، وللأسف لا بديل لهم، وخاصة أن الكثير من المصانع لا تكفي، والموجود منها مهددة بالإغلاق كما أشارت جريدة الفجر المستقلة.

ونطرح مع الآخرين هذا التساؤل الذي يأتي في حينه: ما الذي تخسره مصر من بقاء الأنفاق؟ وما الذي تجنيه من إغلاقها؟ سندرك أنّ الأنفاق التي تسعى مصر لإغلاقها قد احتوت ما لا يقل عن 5000 شاب من أبناء سيناء وغيرها من مدن مصر، ونفس العدد على الجانب الآخر في قطاع غزة، وأنها جنبتهم - أي الأنفاق- على الجانب المصري زيادة معدّل الجريمة والضياع، فهل تتحمل مصر هؤلاء في سجل البطالة الذي يزداد كل يوم؟!

أصابع الكيان الصهيوني

ويظل الكيان الصهيوني المغتصب في قلق لا ينتهي رغم قوّته الظاهرة وبطشه، وبدأ مجددًا التلميح بضربات وقائية على غزة، وخاصة أنّ حملة التجويع التي كانت بإيعاز منها لكافة أطراف الحصار لم تُؤتِ أكلها؛ فتجارة الأنفاق نشطت حتى وصلت لما يقارب المليار دولار خلال الفترة السابقة، ويصرّح الدكتور محمود الزهّار مؤخرًا بأنّ الأنفاق وفرت الاحتياجات الضرورية التي تساعد المحاصرين في غزة على الصمود.

إذن مساعي الكيان الصهيوني لا بد أن تضرب على وتر الضغط على مصر بطريق مباشر أو غير مباشر؛ فمصر لم توفِّ بوعودها لحفظ حدودها -من وجهة النظر الصهيونية- والتهريب لا يزال مستمرًّا، ولقد عقد قبيل قرار وقف حرب غزة يناير 2009م اجتماعًا بين وزيرتي خارجية الكيان وأمريكا حينذاك لتشديد الحصار على غزة دون الإشارة إلى دور لمصر؛ مما أزعج القيادات المصرية. وعندما تبرم إسرائيل اتفاقًا أمنيًّا مع الولايات المتحدة فقط؛ لمراقبة وحماية البر والبحر لضمان عدم وصول السلاح إلى غزة، وبدون حضور مصر أو حتى مشورتها أو وضعها في صورة الاتفاقية، فهذا يعني الإهانة لمصر ومكانتها ودورها، خاصةً أن أيّ اتفاقية من هذه الاتفاقيات هي اتفاقية أمنيّة تمس الأمن القومي المصري[1].

الجدار الفولاذي وخنق غزة:

قال أبو الغيط في رده على سؤال عما يتردد حول بناء مصر لجدار فولاذي على حدوها مع غزة، أو أنها تقوم بوضع أجهزة أمريكية للكشف عن أنفاق التهريب: "مسألة أنها جدار أو معدات للتجسس أو وسائل تنصت كلها أمور تتردد، ولكن المهم أن الأرض المصريّة يجب أن تكون مصانة، ويجب ألاَّ يسمح أي مصري بأن تنتهك أرضه بهذا الشكل أو ذاك".

بادئ الأمر، لم تكن "الحفريات" المصرية بالنسبة إلى سكان المدينة أكثر من "شأن مصري" داخل الأراضي المصريّة، لكن الأيام كشفت أن هذا "الشأن" هو فلسطيني، أكثر منه مصريًّا، ولا سيما أن الهدف منه إغلاق آخر متنفّس للقطاع المحاصَر، ألا وهو الأنفاق، التي تعدُّ مدينة رفح الحاضنة لها بفعل قربها من الحدود.

الغريب أن الكشف عن هذه المؤامرة المصرية جاء بداية عبر صحف الكيان الصهيوني تعبيرًا على الانتصار في الضغط على مصر، غير أنه تجلّى لاحقًا بظهور انعكاسات البناء المصري على "شريان الحياة" الغزّاوي، بعدما تسبّبت الحفريات المصريّة بإغلاق العديد من الأنفاق.

أوضح بعض سكان مدينة رفح الحدودية أنهم لاحظوا حركة ناشطة لجرّافات وآلات حفر ضخمة تقوم بأعمال حفريات غير واضحة بدقة منذ أيام في الجانب المصري من الحدود مع القطاع، ويؤكد بعض المراقبين أن الحركة الناشطة لقوات الأمن المصرية ووجود الحفارات العملاقة بمحاذاة الحدود، تزامنت مع زيارة وفد أجنبي، يعتقد أنه أمريكي للمنطقة الحدودية، وأدرك مراقبون في غزة أن مصر بدأت في إقامة الجدار من الفولاذ بعمق كبير في باطن الأرض بمحاذاة الحدود، لافتةً أنها أنجزت بعض المقاطع من هذا الجدار.

حصار للأنفاق وحصار للماء !

لقد بدأت بعض الأنفاق تنهار أو كما يقول بعض ملاك الأنفاق في غزة: "الجدار سبّب إغلاق عدد من أنفاق التهريب"، مقرًّا بأن "استكمال بناء هذا الجدار سيؤدي إلى أزمة حقيقية فيما يخصّ عمل الأنفاق"। فالحفارات المصرية أوجدت حفرًا عميقة ووضعت أنابيب حديدية ضخمة، الهدف من ورائها "ضخّ مياه لتخريب المنطقة الحدودية، والتسبُّب في انهيار الأنفاق القائمة، ومنع حفر أنفاق جديدة। ويقول البعض: إن الحفر مرحلة أولى لبناء الجدار الحديدي، والقضاء نهائيًّا على ظاهرة التهريب، بمساعدة أمريكية إسرائيلية.

ويقول البعض: إن الأنابيب المتزامن مدّها مع دقّ الألواح الفولاذية سوف تضخ مياه مالحة من البحر لتعويق أي أنفاق مستقبلية، على افتراض أن مالكي الأنفاق استطاعوا بوسيلة ما اختراق ألواح الصلب، كما أن رخاوة التربة ستؤدي إلى انهيارها، كما أن ذلك من جانبه أن يتسبب في كارثة بيئية بالغة التعقيد؛ حيث ستخرب البئر الوحيدة الذي يغذي قطاع غزة بالمياه الجوفية، فقد حذر المهندس نزار الوحيدي خبير المياه الفلسطيني من أنّ الجدار الفولاذي الذي تبنيه مصر على حدود قطاع غزة يعدُّ تهديدًا استراتيجيًّا للمخزون الجوفي لمياه القطاع، محذرًا من تشديد حصار القطاع اقتصاديًّا ومائيًّا بسبب هذا الجدار.

وأعرب الوحيدي عن قناعته بأنّ الجدار الفولاذي هو أشبه بمصائد المياه الجوفية التي حفرها الاحتلال الصهيوني على حدود غزة الشرقية والشمالية؛ ليشكل حصارًا مائيًّا إضافيًّا على القطاع، وأكّد أن الخزان الجوفي على الحدود الجنوبية لقطاع غزة هو خزان جوفي مشترك ومتداخل، وأكد الخبراء أنّ المشاريع التي تنفذ بهذه الطريقة ذات آثار سلبية كبيرة على البيئة.

وتزداد المأساة قتامة! فالكثيرون من المنبطحين والمهرولين يغلبهم الخوف، ولا يريدون خيار المقاومة، ويتنكرون لموقف غزة، وإن كان الشارع الإسلامي مع خيار المقاومة، لكن الحكومات تريد الشعب الفلسطيني مستأنسًا حتى تحقق الصهيونية ما تريد من مشروع "الدولة الصهيونية الكبرى" بامتدادها، ويريدون إجهاض إسلامية القدس، وبدلاً من أن تقوم مصر بفتح المعبر الذي يتنفسون منه الحرية، إذا بهم يضيّقون أكثر فأكثر لخنق غزة، وإملاء اشتراطات مذلة عليها.

كان الشعبُ الفلسطيني ينتظرُ تطوراتٍ بكسرِ الحصار، وليس هذه الحملة المحمومة التي تستهدف ما تبقّى من شرايين الحياة التي تمدُّ الشعب الفلسطيني بالمواد الغذائية الأساسية والأدوات الضرورية اللازمة، والوقود اللازم لتشغيل المولدات وحركة المركبات. إن ما تقوم بإنجازه الأنفاق المحفورة أسفل الحدود لا يمثل إلا معابر استثنائية في ظروفٍ طارئة، كانوا يريدون بديلاً لها يتمثل بفتح المعابر بشكل رسمي، وليس خطوات على طريق إحكام الخنق والحصار.

ويظل الواقع أن الجدار بُدئ العمل فيه بالفعل، وآثار ذلك ستكون وخيمة على مصر وسمعتها، وليس على قطاع غزة وحده! وإن كان هذا الجانب لا يهمُّ الكثيرين من أصحاب الشأن في مصر؛ فالمصالح الفردية هي المسيطرة الآن على القرارات، وإن كانت مصر قدمت الكثير للقضية الفلسطينية، فإن المنتظر منها كثيرٌ أيضًا، لا يترك المجال لأصحاب التبريرات التي لا تخدم أمنًا وطنيًّا ولا حدودًا مصطنعة، ولا حكومة ولا شعبًا، ولا يترك دماء الشهداء تشربها الرمال، وتذهب مع الريح।

--------------------------------------------------------------------------------
[1] وهو ما ذكره الصحفي جمال سلطان بتاريخ 17 يناير 2009م - المصريون.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع الشيخ : عثمان حاج مصطفى

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

موسى ابن نصير قائد عسكري عربي في عصر الدولة الأموية. شارك موسى في فتح قبرص في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان