د. علي بادحدح: الثورات العربية هي معارك الكرامة الغائبة والحقوق المهدرة
د. بادحدح: الثورات العربية معارك الكرامة الغائبة والحقوق المهدرة
أجرى الحوار: عادل صديق
الدكتور الشيخ علي عمر بادحدح من الدعاة العاملين الذين يحملون الهم الإسلامي في العالم، ونادرًا ما تجده يمر عليه الشهر دون عدة رحلات محاضرًا أو مصلحًا، أو فاتحًا لمشروعات تحمل الخير للغير، ولخدمة الدين في الدنيا، أو عاملاً لخدمة كتاب الله.
وهو من وجهاء السعودية وأصحاب الرأي فيها، وأستاذ في جامعة الملك عبد العزيز، وإمام لواحد من أكبر مساجد جدة. وها هي أجواء الثورة ألحت علينا، فكان وصول إجاباته مواكبة للربيع العربي في حلقته الثالثة بسقوط القذافي في ليبيا.. إجابات "الدكتور بادحدح" كانت صريحة بلا تحفظ في ثورات العالم العربي، وندعو الله أن ينفع بها إن شاء الله.. وإلى الحوار:
** فضيلة الشيخ الدكتور علي بادحدح، بما تفسر تفجِّر الثورات في العالم العربي وفي أوقات متقاربة؟
- كان الكم الهائل من الغضب من النظام والكراهية للأنظمة لافتًا للنظر، وقد شارك فيه وعبَّر عنه الشعوب الثائرة بكل شرائحها، صغارًا وكبارًا، شبابًا وشبانًا، رجالاً ونساءً. كانت الجموع تحمل جبالاً من المعاناة، وأرتالاً من المظالم. وكانت النفوس مشحونة بمشاعر السخط على الحقوق المسلوبة، والأموال المنهوبة. وكانت القلوب مملوءة بالغيظ من الكرامة المهدرة، والمكانة المضيعة. لقد بلغت الجماهير حد اليأس الذي فاض معه الكأس، وتحطم حاجز الخوف، واستوت معه الحياة والموت، فامتلأت القلوب بالثقة، واشتعلت النفوس بالحماسة.
والعجيب أن تلك المشاعر الغاضبة تحولت في لحظة واحدة إلى فرح عامر، وسعادة غامرة، بل إلى فيض عارم من الحبور والسرور، ظهر في بريق عيونهم، وابتسامات ثغورهم، وهتافاتهم، وأهازيجهم.
واللافت للنظر في الثورة المصرية على وجه الخصوص أن الفرح تجاوز مصر بمدنها وقراها إلى العواصم والمدن العربية، في رمزية عميقة الدلالة والمغزى. فلماذا الغضب العارم والفرح الغامر؟ إن ذلك يرجع لعدد من الأسباب من أبرزها: سلب النظام حقوق مواطنيه لصالح الحاكم وأسرته، والحزب وزمرته، واستأثر بالسلطة والثروة، حتى غدا (40%) من المصريين تحت خط الفقر، والممارسة الأمنية البوليسية في ظل قانون الطوارئ المستمر لمدة ثلاثين عامًا، كتمت الأنفاس، وزرعت الخوف، وجعلت من ضابط الشرطة فرعونًا مصغرًا، يبطش باسم الفرعون الأكبر، ويعذب بأدواته، ويحتمي بقوته وسلطته، وكانت مراكز الشرطة عمومًا ومقرات المباحث العامة وسجون أمن الدولة، أماكن وقع فيها استباحة كرامة المواطن، والاعتداء فيها على شرفه، وخرج منها بأمراض أو عاهات من التعذيب، وبعضهم خرج منها إلى المقابر.
ومصر بثرواتها وقدراتها وطاقاتها لديها مقومات نهضة أفضل، وتنمية أكمل، لكن الفساد والاستبداد حرم منها البلاد والعباد. ناهيك عن تردي الأحوال المعيشية الحيوية؛ فالتعليم العام يشهد أوضاعًا مزرية، والصحة تمثل حالة مأساوية، والخدمات العامة والبنية التحتية متخلفة، فضلاً عن العشوائيات ومساكن المقابر. والسبب الأكثر أهمية للشعب المصري، بل وللشعوب العربية والإسلامية: هو تهميش وتقزيم دور مصر القومي والإسلامي؛ فقد دخلت مصر نفق السلام بمعاهدة كامب ديفيد، ثم جاءت سنوات مبارك الذي حوَّل مصر إلى دولة تسير وفق الأهواء الأمريكية، وتحقق المصالح الإسرائيلية، وتمارس الضغوط على فلسطين وغيرها من الدول العربية. وما بيع الغاز بالأسعار المخفضة! وما قصة حرب غزة عنا ببعيد!
** لكن ما هو الدافع الأكبر لتحركات تلك الشعوب بهذه القوة في توقيت واحد تقريبًا؟
- كلمة واحدة مفردة هي التي حركت تلك الشعوب، وكانت هي كلمة السر في هذا الإصرار إنها (الكرامة الإنسانية) الكلمة التي طالما تغنى بها المتحدثون، وطالب بها المناضلون، وأكدت عليها دول العالم في صدور دساتيرها، وتعهدت جميع أجهزتها بحمايتها، وهي جوهر وجود الإنسان، والفيصل بينه وبين سائر الحيوان. كلمة يغيب مضمونها أحيانًا في واقع حياتنا، سواء في مواقفنا الإدارية والرسمية، أو في معاملاتنا الاجتماعية البينية، أو حتى في بيئاتنا الأسرية.
كلما سمعنا هذه الكلمة جالت في أذهاننا صور كثيرة؛ فمن كرامة الإنسان أن ينال دخلاً يكفل له ملبسًا نظيفًا، ومسكنًا ملائمًا، ومطعمًا كافيا، لكن هذه الحقوق -على أهميتها- ما هي إلا جزء مما يدخل في معنى الكرامة الإنسانية، غير أنها لا تكفي لحصولها، بل لو توفرت هذه الأمور بأضعاف مضاعفة لما كانت وحدها كافية لتحقيق الكرامة. فكم من أناس يملكون القصور والأموال الكثيرة، ومع ذلك يعيشون عيشة الذل والهوان! ليس لهم رأي معتبر، ولا قول مستمَع، ولا موقف مقدر. ومن ثَمَّ فلا قيمة لكل هذا المال والجاه إن لم يكن متناسبًا مع جوهر الكرامة الإنسانية، في حرية الإنسان، وفي أن تكون له مكانته المقدرة، واحترامه اللازم، وإلاّ فموت هذا الإنسان خير من حياته.
ومن مقتضيات الكرامة الإنسانية حفظ الضرورات الخمس وحمايتها من كل ما ينقصها أو يشوش عليها، وهي: (الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض)، فلا كرامة لمن لا يدافع عن دينه، ولا لمن يذل نفسه، أو يعطل عقله، أو يبذر ماله، أو يرضى بانتهاك عرضه، بل هو ممسوخ من إنسانيته، بإهداره لأهم مقتضيات كرامته، بل إن الحيوان أكرم منه؛ لأننا نرى الهر -مثلاً- إذا اعتدي عليه خرجت مخالبه ودافع عن نفسه.
وحتى لا يكون حديثنا تنظيرًا فارغًا فلننزله على واقعنا اليومي، فكم عاملنا أبناءنا بأسلوب قاس منتهك لكل قيمة، بالشتم والتحقير، في خلقته وهيئته، أو علمه أو عمله، أو في لباسه ومظهره، أو غير ذلك، دون إدراك للآثار النفسية السلبية لهذا التصرف، ثم نشكو ضعف شخصيات أبنائنا، وأنهم لا يعبرون عن آرائهم، ولا يستنكفون عن أذى أو مهانة!!
وكم نرى ونسمع في التعامل اليومي بين كل رئيس ومرءوس؛ في العمل أو في الدراسة؛ بين المعلم والطلاب، بين رب العمل والخادم أو السائق، بين الوالد والولد!!
والسجون في بلادنا العربية والإسلامية ما حالها؟ السجين يستباح عرضه وماله، بل عائلته وجيرته، مع أنه قد يكون مسجونًا ظلمًا، أو في أمر لا يد له فيه، ومع ذلك يلقى صنوف الإهانة والذل، والاعتداء القولي والفعلي.
إن إهدار الكرامة الإنسانية هو ما جعل كثيرًا من مجتمعاتنا قطعانًا تساق كالماشية ليس له رأي ولا موقف، تسامُ الخسف ولا تعرف أن تقول: (لا)!!
** كيف تنظرون إلى دور الشباب في الثورات العربية؟
- قبل أكثر من عشر سنوات اخترت عنوان (شباب آخر زمن) لمحاضرة ألقيتها على الشباب في نشاط صيفي، وقبل البدء وزعت أوراقًا على الجمهور ليكتبوا توقعاتهم عن دلالة العنوان؛ فجاء معظمها عن (شباب المخدرات) (شباب التقليعات) وهكذا، ثم اخترت العنوان نفسه لمحاضرة ألقيتها في إحدى الجامعات، وكررت السؤال وتكرر الجواب، وها أنا ذا اليوم أكرر العنوان نفسه.. في المرة الأولى تحدثت عن شباب المقاومة والانتفاضة في فلسطين، وقدمت نماذج منهم في العشرينيات والثلاثينيات من العمر؛ لكنهم قدموا أرواحهم في سبيل الله وأرعبوا العدو الصهيوني حتى صار يعد قتل الواحد منهم نصرًا عسكريًّا وإنجازًا استخباريًّا من الطراز الأول. وفي المرة الثانية تحدثت عن شباب التطوع والخدمة في أعمالهم المتنوعة لمساعدة المحتاجين وإغاثة المنكوبين والمحافظة على البيئة وحملات التوعية ونحو ذلك. ففي كل مرة كنت أحرص على أن أقدم صورة إيجابية عملية شواهدها حية وأمثلتها قوية؛ وذلك لأنني مؤمن بأن في شبابنا خيرًا كثيرًا، وأن في داخله طاقة حيوية، وفي نفسه مشاعر خيرية، وفي فكره آراء ورؤى إيجابية، وأن المشكلة تكمن في أنه ليست هناك قنوات تستوعب الطاقة وتستثمر الحيوية وتوجه الفكر وتحول هذا الشباب إلى قوة دافعة منتجة.
أمتنا شابة، ونسبة الشباب في مجتمعاتنا هي الأكبر عالميًّا، واليوم جُلّ شبابنا متعلمون، ومع الانفتاح الإعلامي والثورة المعلوماتية صار أكثرهم مطلعين وجلّهم واعين، ورؤيتهم للواقع فيها طموح للأفضل ورغبة في التغيير والإصلاح، وعند مقارنتهم لواقع دولهم ومجتمعاتهم مع دول ومجتمعات أخرى أقل في الموارد والثروات وليس لديها ما في الإسلام من شرائع محكمة، وأخلاق فاضلة، ومنهجية متكاملة.. ومع ذلك يرون تلك الدول متفوقة علميًّا، ومنتجة صناعيًّا، ومتقدمة اقتصاديًّا، وهنا نجد الاتجاهات مختلفة؛ ففئة تستسلم لليأس والإحباط، وقلة تهوي مع الملهيات والمخدرات، وجموع أخرى تتحرك لمزيد من التعليم والتأهيل والتطوير والتغيير.
وشباب اليوم -كما رأينا في الأحداث- هم شباب الثورة والانتصار، وهنا أسجل معالم جديدة لشباب آخر زمن. إنهم شباب التقنية والتواصل في الفيس بوك والتويتر واليوتيوب والبلاك بيري. إنهم شباب التعليم والتدريب من خريجي الجامعات والحاصلين على الشهادات والمنخرطين في الدورات. إنهم شباب الوحدة الوطنية الذي يوحّد ولا يفرّق، ويأتلف ولا يختلف. إنهم شباب المدينة والحضارة الذي يحافظ على المرافق العامة وينظف الشوارع ويمارس السلوك الحضاري. إنهم شباب السلم الاجتماعي الذي يرفض العنف ويمتنع عن التخريب، ويتقن فن الحصول على الحقوق بإيجابية وحيوية وقوة وقدرة دون حاجة للمواجهة والعنف..
إنهم شباب الوعي السياسي الذي قدم نموذجًا في الفهم والتحليل وأسس بناء الدولة الحديثة. إنهم شباب واعد لديه كثير مما يمكن أن يقدمه ويسهم به في خدمة مجتمعه ونهضة أمته. وهناك قلق لمسته لدى بعض الغيورين أنهم يريدون لهذا الشباب صبغة دينية لها في أذهانهم صورة معينة، وأنا لست قلقًا بشكل كبير، ولا شك أنني محب وحريص على تدين شبابنا، ولكنني أقول: إن تدينهم فطري، وإن كثيرين منهم ملتزمون بالفرائض ولديهم عاطفة إيمانية ورؤى إسلامية، ولا ننسى أن إسهامهم التقني والعلمي والعملي ودفعهم لعجلة الحياة المدنية هو إسلام؛ فالإسلام هو الحياة، فتحيَّة لشبابنا.
ما هي أبرز معالم هذه المشاركة الشبابية؟
- هناك عدة معالم تلفت النظر وتستحق الثناء والإشادة من أهمها:
1- الشبابية: فالبادئون هم الشباب، وهم الأكثرون، وهم المستمرون المواصلون، وأمتنا العربية أمة شابة، نسبة الشباب في سكانها مرتفعة.
2- التعليم: غالبية هؤلاء الشباب متعلمون وأكثرهم من خريجي الجامعات، وبعضهم من حملة الشهادات العليا، ولم يكن الوقود من المهمشين الأميين، فهؤلاء الشباب المتعلمون المثقفون هم أمل الأمة الحقيقي لمستقبلها، والرصيد الفعلي لقوتها.
3- المدنية: صبغة الثورة مدنية حيث كانت شعاراتها وممارساتها سلمية، وقد أثبتت للعالم بعدها عن العنف، ونبذها للتخريب، وحرصها على المصالح والمكتسبات الوطنية، وكشفت الأحداث المصدر الحقيقي للعنف والتخريب الذي تمثل في ممارسة الأجهزة الأمنية.
4- الإنسانية: مطالبات الشباب تضمنت في جوهرها مطالب إنسانية تنادي بالحرية والحقوق الإنسانية وكرامة المواطن ونبذ التسلط والظلم، ورفض الفساد والاستبداد، إضافة إلى المطالبة بحق الحياة الكريمة وفرص العمل المتساوية وتوفير الحد الأدنى من الأجور، وجعلوا عنوان تلك المطالب ما يعتقدون أنه العامل الأول لتحقيقها وهو مطلب رحيل الرئيس وتركه لمنصبه.
5- الاستقلالية: هذه الثورة -كما نطق روادها، وكما شهد واقعها، وكما أثبت تتبعها- ثورة جمهورها الأول والأكبر من الشباب لا يمثل أحزابًا سياسية، ولا جماعات دينية، بل يمثلون مصر الوطن الساكن في قلوب المصريين، فهم أبناء مصر رجالاً ونساء شيبًا وشبانًا صغارًا وكبارًا، من كل الاتجاهات ومن مختلف الطبقات ومن شتى المحافظات.
6- الوطنية: شعارات وممارسات الثورة المصرية عبرت عن روح الوطنية، وجسدت وحدة المواطنين، وكانت الجموع الغفيرة تجسد لحمة وطنية تمثل التعايش والتعاون، وتنبذ العنصرية والطائفية التي كانت الأنظمة الحاكمة وأجهزتها سببًا في إيجادها وإذكائها تخطيطًا أو ممارسة.
7- الحضارية: تجلت صور رائعة للشباب المتظاهرين حين شكلوا مجموعات للحفاظ على الأمن في فترات الانفلات، وقيامهم بتنظيف الشوارع وجمع النفايات، فضلاً عن التضامن في تأمين متطلبات المرابطة في ميادين المظاهرة.
8- الأمنية: سجلت الثورة حالة -غير مسبوقة- من الانضباط المني في صفوفها رغم جموعها الغفيرة، فلم تسجل حالات سرقة أو اعتداء، ولا تحرش أو إيذاء، ولا خصام أو عراك، بل على العكس كان هناك تسليم للمفقودات وتوثيق وتعاون لتسليمها لأصحابها.
إن شباب الثورة في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا حرروا رسالة إيجابية تنصّ على أن شباب أمتنا فيه خير كثير، ولديه طاقة كبيرة، وعقلية واعية، وغيرة وطنية، وممارسة حضارية، ومن حقه أن يأخذ دوره في الحياة، وأن ينال حقوقه السياسية والمدنية، وأن تتاح له الفرصة لتنمية ذاته وخدمة مجتمعه ورفعة أمته.
** لكن لماذا الحالة السورية مستعصية، لماذا تأخر نجاح الثورة السورية؟
- عاش الشعب السوري نحو نصف قرن تحت حكم حزب البعث، وظلت سوريا طوال هذه العقود تحكم بهذا الحزب دون أن تتمتع بأي من الحريات المعروفة، فلا وجود لأحزاب سياسية، ولا سماح لجمعيات خيرية، ولا حضور لمؤسسات المجتمع المدني، فضلاً عن غياب المنابر والبرامج المستقلة ذات الطابع الديني والفكري والثقافي، وأبشع من ذلك وأشنع اعتماد النظام على الحلول الأمنية والعسكرية لأي رأي مخالف أو توجه معارض، وشواهد ذلك كثيرة يأتي في مقدمتها مجازر حماة وتدمر وجسر الشغور التي قتل فيها النظام عشرات الآلاف من المواطنين السوريين في قسوة لا نظير لها، وبصورة تمثل -بكل المقاييس- جرائم إبادة إنسانية؛ مما أدى إلى تسرب مئات الآلاف من السوريين من سوريا إلى مختلف الدول هاربين من جحيم وطن يصادر حريتهم، ويمتهن كرامتهم، ويعتدي على حقوقهم.
وقد خرج الشعب السوري -كما خرجت الشعوب العربية الأخرى من قبله- ليعبِّر عن رأيه، ويطالب بالحرية والكرامة التي غيبها نظام الحكم طوال هذه العقود المتعاقبة، وكان المأمول من النظام الحاكم -وقد رأى عاقبة التجاهل لمطالب الشعوب في دول الجوار- أن يكون أكثر حكمة وعقلاً، سيما وأن رأس النظام شاب درس وتخرج في الجامعات الغربية، وكان من المتوقع أن يدرك أن الزمان قد استدار، وأن الشعوب اليوم لم تعد كما كانت بالأمس، وأن مجازر القتل لا يمكن تكرارها في زمن الفضاء المفتوح، وكاميرات الهواتف الجوالة، وحملات الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي.
وللأسف فإن النظام السوري جدد جرائمه، حيث شاهد العالم كله وحشية النظام، وإيثاره القتل على العقل، والدمار على الحوار؛ مما يدل على أن زبانية الظلم والإجرام لم يستوعبوا الدرس بعد، ولم يدركوا أن الخوف نزع من قلوب أبناء الشام الأحرار، وأن الشعوب إذا أرادت الحياة فلن يقف في وجهها قوات ولا جيوش.
** كيف ترون المخرج؟ وما هي رسالتكم إلى الحكومات العربية؟ وبماذا تنصحوها للخروج من غضبة الشعوب؟
- لا بد أن تعي الحكومات أن الزمن تغير، وأن عصر الانفتاح الإعلامي، وتدفق المعلومات وانكشاف الأسرار، لم تعد تجدي معه سياسات الحجب والمنع والمصادرة، وأن الجيل المتعلم الواعي لا يصح أن يهمش وتتم معاملته بالوسائل والحلول الأمنية، وأن المشاركة المجتمعية هي بصمة وعنوان المجتمعات البشرية في أنحاء المعمورة، والواقع المعاصر -سيما في المجال السياسي- أصبحت كلمته المسموعة وشعاراته المرفوعة وممارساته المنظورة كلها تقوم على المشاركة الشعبية الحقيقية في جميع المستويات من خلال الانتخابات الحرة النزيهة، وآن الأوان أن تنتهي حالات المنع الكامل لجميع أنواع وصور المشاركة الشعبية في عدد من الدول العربية، كما أنه آن الأوان أن تنتهي مهازل الانتخابات المزورة والنسب المخجلة التي شوهت صورة مجتمعاتنا العربية حتى صارت مضرب مثل في التزوير كما هو معلوم في كثير من دولنا العربية.
ومن ثَمَّ ينبغي إقرارًا توفير الحريات، من حرية التعبير وحرية التجمع وتكوين مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية. كما على هذه الحكومات أن تدرك أن تمكن العقلية البوليسية وتسليط أجهزة الأمن القمعية على الشعوب في عالمنا العربي، جعل لهذه الأجهزة أسوأ صورة عند الشعوب، حتى بات مجرد ذكر اسمها يصيبهم بالخوف والهلع؛ لأنهم يرونها وهي تنتهك حقوق المواطنين، وتعتدي بالضرب، وتتفنن في التعذيب، وتتحول إلى عنوان الظلم والقهر، وقدمت تلك الأجهزة أبشع صورة للعالم عن عالمنا العربي، وجعلته مضرب مثل في إهدار حقوق الإنسان، ولا بد من التغيير الجذري في الدول العربية بإلغاء كل ذلك، بدءًا من تغيير عقلية الحلول الأمنية لجميع المشكلات، ومرورًا باحترام حقوق الإنسان وكرامة المواطن، وتوفير كامل الضمانات لعدم التجاوز بوضع الأنظمة والعقوبات الرادعة، ومحاسبة ومعاقبة المعتدين.
أضف إلى ما سبق أن الفساد الإداري والمالي الذي تسبب في نهب الثروات وتخلف المجتمعات وتقلص الطبقة الوسطى، كما قذف بنسب كبيرة من الشعوب تحت خط الفقر، وجعل الدول العربية -في الجملة- دولاً متأخرة جدًّا في سُلَّم الدول في التعليم والصحة والشفافية وحرية الصحافة والإعلام، ومعظم ما أعلن عن تأسيسه في الدول العربية من هيئات لمكافحة الفساد ليس إلا شكلاً دعائيًّا لرفع الحرج الدولي أو تسكين الاحتجاج المحلي. وهنا نؤكد أن الفساد والاستبداد صنوان لا يفترقان، وأن الحكومات العربية مطالبة بشكل فوري إلى منع حقيقي لكل صور الفساد الإداري بجميع صور استغلال النفوذ والسلطة، وكذلك منع الفساد المالي بجميع ألاعيب سرقة الثروة، وإصدار أنظمة شفافية بأعلى المستويات، مشتملة على الجزاءات والعقوبات، والعمل بموجبها بشكل متكامل بدون استثناءات، كما يجب تعيين المهنيين الأكفاء في المناصب التي تحتاج إلى تخصص وخبرة مع النزاهة والسمعة، حتى تتطور المنشآت والخدمات الصحية، وتتقدم البرامج والمؤسسات التعليمية، وتتحسن الأوضاع المعيشية، وترتفع معدلات مستوى الدخل للمواطن.
وعلى هذه الحكومات أن تدرك كذلك أن حرية الإعلام وتدفق المعلومات ووسائل التواصل والاتصال أصبحت سمة من سمات العصر، وأدرجت ضمن حقوق الشعوب، والمنع العام والقطع المتعمد، والمصادرة المقصودة، والإغلاق التعسفي كل ذلك غير مقبول من جهة، كما أنه غير مجدٍ من جهة أخرى؛ لأن التقنيات الحديثة تتجاوز الحجب بوسائل متعددة، ومن هنا فينبغي لدولنا العربية أن تتجاوز الذهنية السلبية والممارسة القمعية، وتغير الواقع الحالي وفق نظم تعزز الحريات وتمنع التجاوزات.
وأخيرًا فإن استقلالية القضاء واحترام هيئاته وتنفيذ أحكامه، مع الفصل بين السلطات يعتبر أبرز ضمانات العدالة وتأمين الحقوق واسترداد ما يُعتدى عليه منها، ومن مصلحة الحكومات تعزيز استقلالية القضاء والمبادرة إلى ذلك بشكل عاجل وفاعل، والتزام التشريعات التي تكفل للمواطنين التقاضي أمام قاضيهم الطبيعي ومنع المحاكم العسكرية للمواطنين، وإنهاء جميع صور التدخل والضغط على القضاء والقضاة، وطيّ ملف الأحكام المسبقة والجاهزة التي تضر بالدولة والمجتمع. وعلى الحكام أن يكونوا المبادرين إلى التغيير الإيجابي، والرواد في النهج الإصلاحي، والبادئين بمد أيديهم إلى مواطنيهم لما فيه خير البلاد والعباد.
** ماذا عن جموع الأمة، ماذا تود أن تقول لهم؟
- إنني أنادي أمتنا العربية بكافة أجهزتها ومؤسساتها ورجالاتها من رجال الحكم والسياسة، وقيادات المجتمع من العلماء والدعاة والأكاديميين والمثقفين، والقيادات الشبابية الواعية المتعلمة، كافة الشرائح أن يجتمعوا على كلمة سواء من أجل الانخراط في جهود الإصلاح الحقيقي الشامل، والبدء في مسيرة النهضة والتنمية في مجالات الحياة المختلفة، وعلينا بانتهاج إستراتيجية المبادرات لا المواجهات، وأسل الله أن يجعل عاجل أمرنا وآجله إلى خير، وأن يحفظ البلاد والعباد.
إن نصرة إخواننا واجبة {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله)؛ أي لا يُسْلمه ويتركه لعدِّوه، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرئ يخذل امرأ مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موضع يحب نصرته).
وإلى جميع أبناء الأمة العربية والإسلامية في جميع المستويات ومن خلال جميع المؤسسات الإغاثية والحقوقية والإنسانية أن يبذلوا كل جهودهم لنصرة إخوانهم وتخليصهم من جرائم المستبدين، ولتتضامن المؤسسات العربية كل في مجال تخصصها ضمن إطار مؤسسات المجتمع المدني، ولتفتح الباب لإسهام الشعوب للقيام بالدور المطلوب، إضافة إلى التواصل مع جميع المؤسسات الدولية لحشدها في اتجاه نصرة أهلنا في ليبيا.
وندعو كل أفراد هذه الأمة إلى أن يعرف كل واحد منهم أن في عنقه أمانة، وأن على كاهله واجبًا لهذه الأمة، ولدين هذه الأمة، ولوحدة هذه الأمة، ولنهضة هذه الأمة؛ فما من أحد إلا وهو مسئول، وما من أحد إلا وعنده قدرة ومكانة في دائرة من دوائره؛ ولو في ذات نفسه، فضلاً عن دائرة أسرته، فضلاً عن أمر ولايته، فضلاً عما يكون عنده من قدرة مالية أو علمية أو غير ذلك؛ فإنه ما جرى ما جرى إلا بتقصير الأفراد والآحاد، وما جرى من ما جرى إلا لترك النصح والإرشاد، وما جرى فيما جرى إلا لأننا تباعدنا وافترقنا وتناحرنا واختلفنا. آن الأوان أن نتعظ بهذه الأحداث الجسام، لا ينبغي أن تمر مر الكرام.
والدعوة كذلك للمسلمين جميعًا أن يلتجئوا بالدعاء إلى الله، وأن تضج بالدعاء محاريبهم ومساجدهم بالقنوت والدعاء بأن يلطف الله بإخواننا ويعجل فرجهم، وأن يحقن دماءهم ويحفظ أعراضهم وأموالهم ويسلِّم ديارهم، وأن يعجل بهلاك الطاغية ويعيذهم من شروره، وأن يجعل الدائرة تدور عليه عاجلاً غير آجل: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وأن يريه عاقبة بغيه وظلمه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]، وما ذلك على الله بعزيز: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81].
وإلى إخواننا هناك أوجه نداء الرحمن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
وكل منا عليه واجب لا بد أن يؤديه، وكلنا بين يدي الله مسئول والحمد لله رب العالمين
** ماذا عن واجب العلماء والدعاة في هذه الأحداث؟
- على علماء الأمة ودعاتها: أن ينطقوا بكلمة الحق، وأن يهدوا إلى الرشد، وأن يسيروا في الناس بالحكمة، وأن يبثوا فيهم أسباب الأمن والطمأنينة، وأن يدرءوا كل أسباب الشرور والفتنة، وأن ينصحوا للراعي والرعية، وأن يقوموا بما يجب. وعلى جميع علماء الأمة أن يوحدوا كلمتهم، ويوجهوا نصحهم للحكام، ويبينوا لهم الواجب الشرعي إزاء هذا الحدث الجلل، وأن يعلنوا الموقف الواضح للوقوف مع الشعوب الطالبة لحريتها وكرامتها
أدعو علماء الأمة ومثقفيها ومفكريها الشرفاء أن ينتصروا للحقوق الإنسانية المنتهكة، والحريات المصادرة، وأن يعلنوا مواقفهم الرافضة والمستنكرة للجرائم المخالفة للأحكام الشرعية والقوانين الدولية، وأن يجتهدوا في نصرة الشعب السوري من خلال منظماتهم الشرعية وجمعياتهم الحقوقية وكافة مؤسسات المجتمع المدني، وأخص بالدعوة علماء سوريا ومفكريها في الداخل والخارج أن يكونوا مع نصرة الحق والتضامن مع الشعب، وأن يربئوا بأنفسهم أن يكونوا أعوانًا على الظلم، وأبواقًا للظالمين.
** هل من كلمة توجهها للجيوش العربية، خصوصًا أن بعضها انحاز إلى الشعوب والبعض الآخر اختار أن يكون نصيرًا للظلم؟
- الجيش في كل بلد يدافع عن الحدود ويردع المعتدين، وهو القوة التي تحافظ على سيادة الوطن وسلامة المواطنين، ومن هنا فإن الشرفاء المخلصين من قيادات الجيش مدعوون إلى ترسيخ هذه الصورة للجيش الوطني الذي ينحاز لأبناء شعبه ويحميهم، ولا يكون أداة لإزهاق أرواحهم وتدمير ممتلكاتهم، وأن يعصموا أيديهم من دماء أهلهم وإخوانهم، ولهم في جيش مصر وتونس خير أسوة.
كما أؤكد أن حقائق الشرع ودلائل الواقع كلها تشير إلى أن عاقبة الظلم هلاك الظالمين ولو بعد حين، فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس: 13]، وقال أيضًا: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]. ولا بد من الاعتبار والتوقف عن القتل والدمار، وإلا فالعاقبة وخيمة في الدنيا قبل الآخرة.
تعليقات