ضحايا اتحاد منتجي المحتوى أو الكارتل
ضحايا اتحاد منتجي المحتوى أو الكارتل.
Rashad AbdelQader
كان يوم أمس يوماً مشهوداً سنعود إليه مراراً لسنوات قادمة عندما سنتذكر نحن الصحفيون كيف بدأت القصة بأكملها. فقد نشرت وول ستريت جورنال وثيقة عن دراسة داخلية مسربة أجرتها فيسبوك عام 2018 تفيد بأن خوارزميات المنصة لا "تجمع ما بين الناس" كما تدّعي، بل "تقسّمهم" في عملية استقطاب معقدة إلى جماعات وطوائف وقبائل متناحرة.
هذا الاستنتاج ليس بجديد. في الواقع، نحن نتحدث عنه منذ عام 2017.
فبعد أن جمعت منصة فيسبوك الناس منذ بدايات "الربيع العربي" للخروج في ثورات على الأنظمة، كانت هي ذاتها التي عززت التناحر فيما بين السني والشيعي، العربي والكردي والأمازيغي، المسلم والمسيحي والإيزيدي، العلماني والمتدين، السلفي والمتصوف، المحجبة وغير المحجبة، الرجل والمرأة في سلسلة لا تنتهي.
وقد فعلت ذلك -بحسب الوثيقة المسربة- مستغلة انجذاب الدماغ البشري إلى "الاستقطاب" لتشجع المستخدمين على قضاء المزيد من الوقت على المنصة بهدف تحقيق أرباح إعلانية أكبر. فكلما كان العالم أكثر انقساماً، كلما كان الناس مستعدين لقضاء المزيد من الوقت في خوض حروبهم الرقمية.
الجديد أن فيسبوك قررت حينها تجاهل النتائج التي توصلت إليها الدراسة الداخلية وأغلقت على التوصيات التي قدمتها في دُرجٍ محكم، لأنها ما كانت ستتحمل ضربة أخرى بعد الإجراءات التي اتخذتها إثر فضيحة بيع بيانات المستخدمين لكامبريدج آناليتيكا ما أدى للتلاعب بالانتخابات الأمريكية التي أوصلت ترامب لكرسي الرئاسة.
وكانت الفكرة السائدة لدى الرؤساء التنفيذيين لفيسبوك هي: الإعلام يكرهنا مهما فعلنا، لذلك دعونا نتبع سياسة سد الثغرات بدلاً من البحث عن حلول دائمة لمشاكل الخوارزمية.
الإعلام لم يكن يكره فيسبوك. كان، في الواقع، يحاول الدفاع عن حصصه من الإعلانات التي كانت تقتطعها فيسبوك باطراد. فلأول مرة في تاريخ صناعة النشر، كان الموزع -فيسبوك- يحظى بمعظم أرباح إنتاج المحتوى.
منذ ذلك الحين وحتى الآن، شهدت المعركة بين المؤسسات الصحافية الكبرى ومنصة فيسبوك تطورات مهمة.
كان آخرها قبل أسابيع عندما عمدت الحكومة الأسترالية -بعيداً عن الأعين - إلى إجبار فيسبوك / وجوجل على التفاوض مع الناشرين لدفع المستحقات المترتبة عليهما، عندما أفضت أزمة فيروس كورونا الشهر الماضي إلى خسارة المئات من المؤسسات الصحافية أعمالها.
وبذلك تكون أستراليا أول دولة تحسم هذا الصراع المرير بين الطرفين، ما قد يؤدي إلى ارتدادات أخرى شبيهة، من شأنها تغيير ميزان القوة في الصراع الدائر بين شركات التكنولوجيا العملاقة والصحافة التي تمر في وقت عصيب.
الخلاف محل النزاع بين هؤلاء اللاعبين الكبار بسيط رغم تعقيداته؛ وهو نابع من "حقيقةٍ" تم التواضع عليها عالمياً متعلقة باستخدام الإنترنت، ومفادها: أن جوجل وفيسبوك يمكنهما "عرض" المحتوى الذي تنتجه المؤسسات الصحافية دون دفع مقابل مادي مباشر لهذه المؤسسات.
ويأمل المراقبون أن يكون لقرار الحكومة الأسترالية تأثير سقوط أحجار الدومينو. فقد تلتها فرنسا التي تستعد للبدء بتطبيق قانون حقوق المؤلف في إطار الاتحاد الأوروبي، ما سيجبر جوجل للدفع المباشر للناشرين.
إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة. فالمعركة بين المنصات والناشرين هي في آن واحد مسألة مبدأ اقتصادي وصراع سياسي قديم بين الأقوياء.
على مدى عقد كامل من الزمن، استطاعت المنصات التكنولوجية العملاقة عن طريق الإنفاق الهائل ولوبيات الضغط، إقرار نظام يمكنها من عرض محتوى الناشرين والاستفادة منه دون مقابل مباشر. وبذلك تمكنت هذه المنصات من سحب بساط الإعلانات بمليارات الدولارات من المؤسسات الصحفية. ليس ذلك فحسب، فقد أفضى تراخي مراقبة المحتوى إلى نشر المعلومات المضللة على حساب الصحافة المهنية.
هذا التراخي لم يكن وليد الصدفة، فهذه المنصات تعلم أن هذا النوع من المعلومات المضللة وصور الأطفال والمشاهير أكثر شعبية ورواجاً من الأخبار التي تقدمها المؤسسات الصحفية. وتعلم أيضاً أنها، نعم، تحتاج لوسائل الإعلام ولكن ليس مؤسسات إعلامية بعينها.
لكن قوة الصحافة، حتى في هذه الأيام، تجعلها قوة سياسية هائلة. فالحكومات تستجيب بطريقة أو بأخرى لوسائل الإعلام لأنها الفلتر الذي ينظر من خلاله الجمهور إلى الأشياء. ويظل السياسيون حريصون على إرضاء الصحافة التي تغطي أخبارهم.
أمام هذه المقاومة التي أبداها الناشرون الكبار، استجابت فيسبوك وجوجل حتى الآن باستراتيجيتين مختلفتين. وكلاهما جاءت على حساب الناشرين الصغار، لأنها تتجه إلى إنشاء نوع من الكارتل أو اتحاد لمنتجي المحتوى الكبار ما قد يدفع بالصغار إلى خارج اللعبة.
**استسلام فيسبوك**
فقد عمدت فيسبوك بعد تلقيها ضربة كبيرة لدورها في تضليل المعلومات ونشر بيانات المستخدمين في انتخابات عام 2016 الرئاسية بأمريكا، إلى منح الناشرين ما يريدون: المال. وأبرمت المنصة منذ شهر أكتوبر الماضي عقداً بأرقام سبعة وترخيص لمدة 3 سنوات مع الناشرين الكبار لنشر محتواهم عبر علامة تبويب جديدة للأخبار، ما سيضمن وصول محتوى المؤسسات الكبرى مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال.. إلخ إلى جمهور واسع، بينما سيظل محتوى المنتجين الصغار خاضعاً للوصول المحدود.
وفي مشهد ذكرنا بالجنرال ألفرد يودل الذي وقع على اتفاق استسلام ألمانيا غير المشروط أمام قوات الحلفاء في مايو 1945، ظهر مارك زوكربيرغ في أكتوبر الماضي مرتبكاً على المسرح في نوع من الاستسلام أمام روبرت تومسون، رئيس مجموعة نيوز جروب، الذي قال له: ما الذي أخّرك كل هذا الوقت؟، فانفجر الجمهور ضاحكاً في إشارة لها دلالاتها.
وتتفاوض فيسبوك حالياً مع الناشرين الأوروبيين لعقد اتفاق شبيه باتفاقها مع الناشرين الأمريكيين.
رشاوى جوجل
بدورها، اتبعت جوجل طوال سنوات مضت استراتيجية مختلفة بتقديم نوع من الرشاوى على شكل مِنَحْ مشاريع صحافية تجريبية للناشرين قائمة على التكنولوجيا التي تقدمها جوجل ذاتها.
وظلت جوجل طوال هذه السنوات أكثر تعنتاً من فيسبوك، وكان الخط البياني للمنح التي كانت تقدمها (مثل جوجل نيوز لاب) يتصاعد في أوقات الشدة عندما كانت تشعر بالتهديد، ويهبط عندما تشعر بالأمان. وكانت الحجة التي تقدمها دائما هي أن أرباح إعلانات الأخبار قليلة مقارنة بالسيارات والأزياء. حتى أنها عندما تعرضت للضغط في إسبانيا للدفع للناشرين عمدت إلى إزالة موادهم من قسم الأخبار على محرك البحث، لتجنب قوانين حقوق الملكية داخل الاتحاد الأوروبي.
ولكن هنالك ما يشير إلى أن استراتيجية جوجل أيضاً بدأت تتغير. فالشركة تجري مفاوضات مع بعض الناشرين الكبار في أمريكا وفرنسا لنشر موضوعاتهم كاملة (وليس أجزاء منها) بمقابل مادي. وأصبحت جوجل أكثر انفتاحاً للاعتراف بحقوق الناشرين.
إلا أن كل هذه الخطوات من قبل فيسبوك وجوجل تقدم، في الواقع، للناشرين ما يبقيهم على قيد الحياة، وليس ما يساعدهم على استكشاف طرق جديدة لسرد القصص الإخبارية.
وفي غضون ذلك يلجأ الناشرون الكبار مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست، إلى إنشاء منظومات ecosystems شبيه بتلك التي أنشأتها جوجل وفيسبوك حتى تتمكن من تعويض تكاليف إبداع أشكال جديدة في صناعة الأخبار. ويخشى أن هذه الـEcosystems أو ما يمكن تسميته بالكارتلات ستكون طاردة للمنافسين الصغار أمثالنا.
تعليقات