الدكتور محمد عمارة محمد عمارة "الباحث المَنهجي الموضوعي، الذي يخدم العلم، ويحترم المنهج.وقد حمل عقلية الفيلسوف، وقلب الصوفي، وانضباط الفقيه، وحماس الداعية، ورقَّة الأديب، وعزيمة المقاتل"(يوسف القرضاوي)
إني عاشق لرسول الله متبتل في محراب سنته وسيرته، متعلق بصفاته وشمائله، مفتون بسجاياه،واقف على أبواب عظمته،مبهور بالتحولات التي أنجزها في مسيرة الدين والدنيا،غيورعلى دينه،ودعوته، مقاتل دون حماه..
محمد عمارة "د. عمارة هو الباحث المَنهجي الموضوعي، الذي يخدم العلم، ويحترم المنهج،وقد حمل عقلية الفيلسوف،وقلب الصوفي، وانضباط الفقيه، وحماس الداعية، ورقَّة الأديب، وعزيمة المقاتل"(يوسف القرضاوي)
لم يكن رحيل محمد عمارة في الثامن والعشرين من فبراير 2020 مُجرد إعلان لوفاة مُفكر إسلامي أو باحث مصريّ عُرف بالموسوعية، فالصورة التي انطبعت في أذهان الكثيرين عند سماع اسم محمد عمارة أقرب ما تكون لذلك المُناضل العجوز الذي يُناظر في محفل جماهيري، أو الكهل الذي يمسك بالقلم لتسطير حكمته، أو الشيخ الذي يجلس في مكتبته العتيقة، يرتدي نظارته الغليظة، مُحاطا بتلاميذه يُسامرهم في العِلم.
فخلال الخمسين عاما الماضية حُفِر اسم "محمد عمارة" في الساحة الفكرية العربية، إذ كثيرا ماحضرت أفكاره في نقاشات التيارات الفكرية الإسلامية الحديثة، وقد كان حضوره إما استشهادا بفكره، أو للتحفظ على أُطروحاته، أو حتى ردا على بعض آرائه. لكنّ المتفق عليه -وعلى الرغم من هذه التباينات في الموقف ..
د. عمارة- أن اسمه ظل حاضرا بين تيارات الفكر الإسلامي، إذ من النادر أن تؤلَّف رسالة أكاديمية عربية في تناول ما يُسمى بـ "الفكر الإسلامي الحديث" إلا وستجد ضمن مراجعها كتابا من كتب محمد عمارة "آخر أجيال المثقفين يمكن القول إن جيل "عمارة" قد أُتيح له عددٌ من العوامل التي لم تعد حاضرة أو متوافرة في الأجيال التي تلته، حتى يُمكننا تسمية هذا الجيل من الأزاهرة الذين شهدوا ما قبل ثورة 1952 وما بعدها باعتبارهم "أواخر المثقفين الأزهريين".
فعلى الرغم من نشأة عمارة الأزهرية فإنه تقلّب في مسارات ودُروب شتى،من الكُتّاب والأزهر والسياسة ومصر الفتاة واليسار، ودخوله السجن، ثم اتجاهه للقومية العربية، وأخيرا مُنافحته عن الصحوة الإسلامية، والتي استقر به الحال مُنظِّرا لها منذ نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات حتى مماته.
وقد اجتمعت في عمارة تركيبة فريدة، فقد تحصّل على معرفته الدينية عبر التعليم الأزهري، والثقافة العربية من دار العلوم، والحركيّة السياسية المجتمعية عبر انتمائه إلى اليسار، بالإضافة إلى اطلاعه على مساحتَيْ المعارف المدنية والشرعية.
بين يدي الكتاب:
يشكل كتاب "الرد على افتراءات الجابري" لمؤلفه الدكتور محمد عمارة،مرافعة حقيقة في وجه بعض "الانزلاقات" التي وقع فيها مفكرنا الكبير الدكتور محمد عابد الجابري (رحمه الله) في مشروعه الأخير "مدخل لدراسة القرآن الكريم" الذي ختم به حياته، وقد تردد الدكتور محمد عمارة في نشر هذا المؤلف لولا أن كتب الجابري بدأت تعرف رواجا منقطع النظير، حيث تلقى إقبالا من طرف العديد من المثقفين والنخب وعموم القراء، وأيضا لأن الجابري، فيلسوف عربي بل وعالمي بصم تاريخه بمشاريعه الفكرية الضخمة، ومنها "العقل العربي"، في رباعيته المشهورة.
ولعل القراءة المتأنية لمؤلف الأستاذ محمد عمارة، تبين أن الدكتور الجابري، رغم كونه علما فكريا كبيرا في سماء وطننا العربي، لكنه باقتحامه لمجال دراسة القرآن الكريم، فإنه عن قصد أو غير قصد، وقع في انتحال مناهج غريبة وغربية لتطبيقها في دراسة القرآن الكريم، مما أوقعه كما يقول ذ.عمارة في أخطاء بل وخطايا، حيث اقترح ترتيبا للقرآن غير الترتيب المتواتر، وذلك باعتماده على أسباب النزول، أو في نفيه العصمة عن الرسول( ص)، أو في قوله إن القرآن الذي نقرأه اليوم ليس هو القرآن الذي نزل على قلب رسول لله (ص)، بل سقطت منه بعض الآيات؟؟ أو في نفيه الصدق التاريخي للقصص القرآني، وغير ذلك مما سنعرض لبعضه في هذه القراءة.
ولهذا، نعتبر أن هذا المؤلف جاء ليعالج إشكالية منهجية الرد على بعض المشاريع الفكرية للدكتور محمد عابد الجابري (رحمه الله)، والتي كان الغرض منها هو سحب البساط من المفكرين المسلمين والهجوم عليهم في عقر دارهم، ومحاولة تقديم قراءة جديدة للمقدس تكون بديلا عن القراءات من الداخل.
من جهة أخرى، تتجسد أهمية هذا الكتاب، لكون مؤلفه الدكتور محمد عمارة، هو أحد الأعلام البارزين في قراءة التراث والفكر الإسلامي والحضارة وفي تفكيك بنية الاستشراق، بل يمكن القول إن هذا المفكر يمثل موسوعة فكرية، حيث أن غزارة تأليفه الذي وصل إلى أكثر من 245 عنوانا، في مجالات شتى، وهو إلى جانب ذلك يتميز بأسلوبه العلمي والموضوعي، وبسعة اطلاعه، وبطريقة عرضه للأفكار، وبقوة حججه ونصاعة أدلته... كل ذلك يضفي على هذا المؤلف قيمة علمية كبيرة، ولهذا سعينا في هذه القراءة أن نكون أوفياء في نقل أهم الخلاصات الأساسية للكتاب، مستثيرين القراء لقراءة الكتاب بأكمله فذلك أدعى للإحاطة الجيدة بمكنونات هذا الكتاب.
يقع الكتاب في أربعة فصول وخاتمة، جاءت موزعة على الشكل التالي:
1- موقف الجابري من التراث.
2- الترتيب الجابري للقرآن.
3- أخطاء لا خطايا.
4- خطايا لا مجرد أخطاء.
الفصل الأول: موقف الجابري من التراث:
يعتبر محمد عمارة أنه لفهم فكر ومشروع الراحل محمد عابد الجابري، لا بد من فهم المنطلقات المعرفية والايبستمولوجية والبراديغمات التي ينطلق منها، ذلك أن منهج الجابري في فهم التراث، يمثل الأساس والمنطلق لتفكيك فكره، ولهذا نجد محمد عمارة في هذا الفصل التمهيدي، يحيل على دراسات الجابري للتراث،"ودعوته لقراءة هذا التراث من أجل تجاوزه" أو قول الجابري : " إن الحداثة تبدأ باحتواء التراث وامتلاكه، لأن ذلك وحده هو السبيل إلى تدشين سلسلة من "القطائع" معه إلى تحقيق تجاوز عميق له، إلى تراث جديد نصنعه، تراث جديد فعلا".
وهذه القطيعة مع التراث التي يدعو لها الجابري، لا تتضمن الاجتهادات التفسيرية للمقدس، بل تتضمن المقدس ذاته، حيث يقول: اللغة والشريعة والعقيدة والسياسية، في الماضي والحاضر، هي العناصر الرئيسية التي تتكون منها المرجعية التراثية، التي قلنا: إنه لا سبيل إلى تجديد العقل العربي إلا بالتحرر منها" .
مسألة القطيعة مع التراث، تعود في جذورها الفكرية، إلى العلاقة النكدة بين العلمنة والدين المسيحي الكنسي، التي وقعت في الغرب، وأدت إلى تحويل المعتقدات المسيحية إلى مفاهيم دنيوية، تحت عنوان بارز: "دين بلا سياسة، وسياسة بلا دين". ولهذا نجد الجابري يدعو إلى اتخاذ نفس الموقف من التراث عند الغربيين، قائلا: "ينبغي تحويل العقيدة إلى رأي".
ولهذا يؤكد د. محمد عمارة على القول أن الجابري بدعوته إلى هذه القطيعة، فإنه إنما يريد نسف الأسس الفكرية والفلسفية والعقادية التي يقوم عليها البنيان التصوري لأي مجتمع، فرغم أن الحداثة الغربية، أقامت قطيعة معرفية كبرى مع موروثها الديني اليهودي والنصراني- لكنها أحيت وجددت مواريثها الإغريقية الرومانية- في الفلسفة والقانون والعلوم والآداب والفنون- وأسست نهضتها الحديثة على "كلاسيكيات" هذه المواريث... أي أنها لم تقم قطيعة مع كل مكونات مرجعياتها التراثية... أما الجابري، فإنه- وبنصوص عباراته- قد دعا إلى "تدشين سلسلة من القطائع مع العناصر الرئيسية التي تتكون منها المرجعية التراثية بما في ذلك: اللغة، والشريعة، والعقيدة، والسياسة".
وهذه دعوة لم يسبقه فيها أحد، سوى سلامة موسى، مما يعطي فكرة واضحة عن خلفيات مشروع فكر محمد عابد الجابري، ومن ثم طبيعة مقاربته للقرآن الكريم.
الفصل الثاني: الترتيب الجابري للقرآن الكريم:
قد يستغرب القارئ لفكر محمد عابد الجابري، كيف يعقل أن يصدر من مفكر من طينته، هذا الموقف: أي إعادة النظر في ترتيب آيات القرآن الكريم؟ والعدول عن الترتيب الإلهي للوحي القرآني، الذي أكدته مراجعات جبريل (عليه السلام) الذي نزل بالوحي، أي الترتيب الذي سار عليه الصحابة الذين كتبوا الوحي، وحفظوه، وجمعوا صحائفه، ثم دونوه وأذاعوه في الأمصار، وهو نفس الترتيب الذي سارت عليه الأمة بشعوبها وقبائلها وأقطارها وعلمائها ومذاهبها عبر الزمان والمكان؟؟
يقول الجابري:" إن الهدف عندنا من "الترتيب حسب النزول" هو التعرف على المسار التكويني للنص القرآني باعتماد مطابقته مع مسار الدعوة المحمدية".
ويرى الدكتور محمد عمارة أن هذه الفكرة التي ابتدعها الجابري، إنما سبقه إليها العديد من المستشرقين، أمثال "فيشير" (18َ65-1949) و"بريتسل (1893-1941) وغيرهم، لكنها باءت بالفشل، كما يقول المستشرق الانجليزي "مونتمجمري وات (1909-2006) والذي قضى عمرا طويلا في الدراسة والبحث واستنتج ما يلي : " وإذا لم يكن محمد هو الذي رتب القرآن بناء على وحي نزل عليه، فمن الصعب أن نتصور أن يقوم بهذا العمل زيد بن ثابت أو أي مسلم آخر"
وقد شرح الجابري الدواعي التي دفعته للتفكير في إعادة ترتيب سور القرآن، عندما اعتبر أن "تفسير القرآن أو تفهيمه وفق مصطلحه، إنما يكون أوفق وأوضح إذا تم وفق ترتيب حسب أسباب النزول" ( انظر كتاب :" فهم القرآن: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول).
ويفند الدكتور محمد عمارة هذه الدعوى ويعتبرها مردودة، لأن أسباب النزول لا تمثل إلا نسبة قليلة بالنسبة لمجمل آيات القرآن الكريم. وعلاوة على هذا التهافت الذي وصل إليه صاحب أضخم مشروع فكري في الوطن العربي (الجابري)، فإن الذي يكشف ضحالة هذا الادعاء هو عدم رجوع المفكر الجابري، إلى أهم العلماء الذين اشتغلوا بعلوم القرآن، ومنهم العلامة السيوطي رحمة الله عليه.
وقد شرح د. محمد عمارة تناقض الجابري وذلك عندما انطلق من فرضية إعادة ترتيب آيات القرآن معتمدا على أسباب النزول، ثم عاد ليقول في تحليله أن هذه الأسباب قليلة ولا يمكن الاعتماد عليها، بل إنه شكك في بعض هذه الروايات لأنها تتضمن خبر الآحاد، واعتبر أن أكثرها ظنون وتخمينات".
ولعل هذا التناقض الذي كشفه د. محمد عمارة هو الذي جعله يستنتج التسرع الكبير الذي وقع فيه الجابري، إذ أراد أن يخرج كتبه في أقرب وقت دون النظر وتقليبه جيدا في مصادر العلوم وأعلامها الراسخون.
الفصل الثالث: أخطاء لا خطايا:
ميز د. عمارة في مستهل هذا الفصل، بين الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها أي مفكر ومجتهد، ومن ثم وجب التصحيح والحوار، وبين الخطايا الفكرية التي يستغرب من المفكر، وخصوصا إذا كان من طينة د.محمد عابد الجابري، أن يقع فيها.
وقد خصص الدكتور محمد عمارة فصلين من كتابه، الأول خصصه للشق ألأول، فيما خصص الثاني للشق الثاني.
فقد أحصى د.محمد عمارة في الشق الأول أكثر من تسعة أخطاء وقع فيها المفكر العربي محمد عابد الجابري،عندما ألف كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم: في التعريف بالقرآن".
أول هذه الأخطاء: هو تطبيقه منهاج الوضعية المنطقية الأوربية في النظر إلى الوحي والدين والإيمان، ذلك المنهاج الذي تصور أصحابه أن للفكر غرفا معلقة، فجعلوا للوحي والدين والإيمان غرفة مغلقة لا يدخلها العقل والعلم، إذ لا علاقة- بزعمهم - بينهما. فللإيمان معايير هي التسليم والاستسلام، وللعقل معايير هي النظر والبرهان، أي أن الوحي والدين والإيمان –وفق هذا المنهاج- لاعلاقة لهما بالعقل والبرهان.
وانطلاقا من هذا المنهاج الوضعي، قال الجابري: " إن الوحي ينتمي إلى منطقة التسليم والإيمان، وليس إلى ميدان البحث والبرهان".
ولتفنيد هذه الفكرة، أكد د.محمد عمارة أنه إذا كان جوهر الدين الإسلامي، ونقطة البدء فيه هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فإن طريق الإيمان هو العقل، والنظر العقلي وليس التسليم.
ولعل هذه الحقيقة التي تجاهلها الجابري، والتي يتجاهلها كل الذين ينظرون للوحي القرآني والإيمان الإسلامي بمنظار الفلسفة الوضعية الغربية، جاء الحديث عن العقل ومكانته وسلطانه وحاكمتيه في الوحي القرآني باللفظ، في تسعة وأربعين موضعا".
ولإدراك أهمية العقل ودوره المحوري في ترسيخ الإيمان في المنظومة الإسلامية، فإن د.محمد عمارة، استدعى شهادة من خارج النسق الإسلامي، وهي للمستشرق الفرنسي البروفيسور "إدوارد مونتيه" (1856-1927) الذي ترجم القرآن إلى الفرنسية، والذي قال في عقلانية الإسلام: " إن الإسلام في جوهره دين عقلي بأوسع معاني هذه الكلمة من الوجهتين الاشتقاقية والتاريخية، فإن تعريف الأسلوب العقلي rationalism بأنه طريقة تقيم العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق، ينطبق على الإسلام كامل الانطباق".
أما الخطأ الثاني، فجاء نتيجة المنطلقات الفكرية التي ينتهجها الجابري في قراءته للقرآن، حيث اعتبر أن العبادات الإسلامية تنتمي إلى المنقول اللامعقول وليست في متناول العقل.
يقول محمد عمارة في رده على هذه الأقوال: "إن الجابري خلط بين العبادات الإسلامية وبين صورة العبادات كما آلت إليها في الشرائع الدينية الأخرى، ففي المسيحية الحالية، تحولت كثير من العبادات إلى "أسرار كنسية" لا معقولة، بل مضادة للعقل والتعقل.."
وهذا الإسقاط فيه تجني كبير على العبادات الإسلامية التي تنتمي إلى دائرة المعقول، كالصلاة والصيام والحج والزكاة، خصوصا إذا نظرنا إلى مقاصدها الكبرى، بل حتى الجوانب التعبدية التي لا يعقلها العقل الإنساني في هذه العبادات الإسلامية، لأنها فوق إدراكه النسبي، مثل عدد الركعات في كل صلاة، ومثل تقبيل الحجر الأسود..، فهي معقولة إذا نظرنا إليها كسبل لترويض المسلم على طاعة الله سبحانه وتعالى في أداء الشعائر، والتي لها حكمة إلهية لا يعقلها الإنسان، إذ الطاعة في حد ذاتها عنوان محبة الله، وهذا الجانب هامشي بينما العبادات الإسلامية في جملتها واضحة حكمها وعللها، قائمة على العقل والمعقول.
الفصل الرابع: خطايا لا مجرد أخطاء:
إذا كان الدكتور محمد عمارة قد تعرض في الفصل الثالث إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها د.محمد عابد الجابري، في مؤلفه "مدخل إلى القرآن الكريم" فإن هذا الفصل يتناول بعض الخطايا التي سقط فيها المفكر المشهور، والتي تعد في نظر د.عمارة من المطبات الخطيرة التي ما كان على د.الجابري الوقوع فيها لو أنه بحث بشكل متأن في مظان الفقه الإسلامي وتريت قبل الحكم على قضايا جد خطيرة، كإنكار العصمة للرسول (ص)، أو في نفيه الحفظ الإلهي للقرآن الكريم، وغيرها من الخطايا التي سنعرض لواحدة منها وهي أكبرها، إذ أنكر الجابري عصمة الأنبياء والمرسلين، مع أن هذه العصمة هي عقيدة من كبريات الإيمان الديني، النابعة من الحكمة الإلهية في اصطفاء الأنبياء والمرسلين.
يقول الجابري:" ما نريد تأكيده هنا هو ضرورة التفكير في آي الذكر الحكيم بعيدا عن الأفكار المسبقة، مثل فكرة العصمة التي اكتسبت طابعا مذهبيا سياسيا في الفكر الإسلامي"
بل الخطير في الأمر هو ادعاء الجابري أن الفرق الإسلامية ، مختلفة في مسألة إثبات أو نفي العصمة.
وقد استدعى د.عمارة كل الحجج والبراهين قديمها وحديثها في تفنيد ودحض هذه الدعاوى، حيث يقول : "فالعصمة للمرسلين عقيدة من أمهات العقائد الإيمانية، لأنها تمثل ضمانة الصدق والكمال والتمام للوحي الذي بلغه الرسول، وفي هذا الوحي جماع عقائد الدين..فما جاء به الوحي الإلهي عن الألوهية، وصفات الذات الإلهية، وعن النبوات والرسالات، وعن الكتب السماوية، وعن الملائكة، وعن عالم الغيب، والحساب والجزاء..تتوقف الثقة في معالم هذه العقائد الأمهات على صدق البلاغ والتبليغ..وشرط هذه الثقة العصمة لصاحب البلاغ والتبليغ".
وفي معرضه ردّه أحال د.عمارة على علم من أعلام فقه السيرة، وهو القاضي عياض الذي ألف كتابه ( الشفا بتعريف حقوق المصطفى) والذي يعد من معالم تراث الإسلام. أو من خلال الإحالة على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية. وفي العصر الحديث، يحيل على ما ذكره إمام مدرسة الإحياء والتجديد، الشيخ محمد عبده، الذي قال :" إن من لوازم الإيمان الإسلامي: وجوب الاعتقاد بعلو فطرة الأنبياء والمرسلين، وصحة عقولهم، وصدقهم في أقوالهم، وأمانتهم في تبليغ ما عهد إليهم أن يبلغوه، وعصمتهم من كل ما يشوه المسيرة البشرية، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة، وأنهم منزهون عما يضاد شيئا من هذه الصفات المتقدمة".
هكذا أجمعت الأمة- على اختلاف فرقها ومذاهبها وعلى امتداد تاريخيها- على أن العصمة للأنبياء والمرسلين هي عقيدة إيمانية، تقتضيها الحكمة الإلهية، المنزهة عن العبث، ويتوقف عليها قبول بلاغتهم عن الله سبحانه وتعالى، كما اتفقت الأمة على أن هذه العقيدة "قد ثبتت بالشرع والعقل والإجماع"...بل رأينا المعتزلة-فرسان العقلانية الإسلامية- هم أيضا فرسان الانتصار لعصمة الأنبياء والمرسلين، عليهم الصلاة والسلام.
ولهذا يعتبر د.عمارة أن الجابري شذ عن إجماع الأمة، وسقط في الخطيئة، عندما زعم أن العصمة ليست سوى" فكرة مذهبية مسبقة" اكتسبت طابعا سياسيا ومذهبيا في الفكر الإسلامي..ولقد قادته هذه الخطيئة وهذا السقوط إلى هذه الصورة الزائفة والبائسة التي صور بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فشذ بذلك عن المنصفين من غير المسلمين، الذين جعلوا إمام أولي العزم من الرسل، إمام المصلحين، الذين جسدوا رسالتهم السامية في أرض الواقع والممارسة والتطبيق".
ختاما، يمكن القول أن كتاب محمد عابد الجابري، "مدخل للقرآن الكريم" بأجزائه الثلاثة، يشكل تجنيا على ثوابت الأمة الإسلامية، وذلك لمحاولة صاحبه أن يسقط المناهج الغربية المتجاوزة في قراءة النص القرآني، وقد بين د. عمارة في هذا كتابه هذا تهافت هذه الدعاوى،وتوفق بشكل كبير في دحض كل هذه الدعاوى، مستندا إلى منهج علمي وموضوعي في الإحالة على أمهات الكتب الإسلامية وعلى الثرات الإسلامي الذي خلفه لنا خير سلف هذه الأمة، وأيضا حتى على ما تركه المعاصرون من أفكار ومناهج في التعامل مع القرآن الكريم، ومع مصادر الوحي، ولهذا نعتقد أن مشروع الجابري هذا خالف الصواب، واقتحم مجالا لم يكن لهذا المفكر العظيم، أن يلجه، لأنه يحتاج إلى أدوات علمية ومنهجية من داخل النسق الفكري الإسلامي، وليس من خارجه، وأكثر من ذلك الاعتماد على ما تركه المستشرقون المنصفون الذين تعاملوا مع الثرات بموضوعية عالية، وليس بمنطلقات فكرية ومنهجية متقادمة.
قصة النهاية
رفعت مجلة «الأزهر»،في عددها الأخير،اسم الدكتور محمد عمارة، من رئاسة التحرير، واكتفت بوضع مجلس التحرير المُكون من 3 أشخاص، بينهم "عمارة"، وذلك بعد الضغوط الإعلامية الكبيرة التي تعرضت لها "المشيخة".
في يونيو 2011، كلف الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، المفكر الإسلامي محمد عمارة، برئاسة تحرير مجلة "الأزهر".
«شرفت بتولي رئاسة تحرير هذه المجلة في هذا الوقت العصيب من تاريخ الأمة، وسأسعى لاستكتاب كُتّاب جدد وفتح آفاق جديدة، وسأعمل جاهدًا لأن تكون مجلة الأزهر منبرًا للفكر الوسطي المعتدل"، هكذا قال "عمارة" في أول تصريح له عقب توليه رئاسة تحرير المجلة.
خبر تولي «عمارة» رئاسة تحرير المجلة الناطقة باسم الأزهر، لم يقف عنده أحد، سواء في الصحف أو الفضائيات، فقط كان الخبر مقلقًا للأقباط، حيث إن «عمارة» هو أكثر الشخصيات الإسلامية هجومًا عليهم، بل أصدر كتاب «تقرير علمي» جرى توزيعه مع مجلة «الأزهر» في 2009، اعتبرته الكنيسة المصرية «إساءة للمسيحية»، إذ وصف «عمارة» الكتاب المُقدس بأنه«محرف»،وأن المسيحيين «مشركون»، ما دفع «الأزهر» إلى سحب الكتاب.
الرجل الذي انتقل من«الماركسية» إلى صفوف الحركة الإسلامية، حوّل مجلة «الأزهر» إلى منبر خاص بأفكاره، وليس أفكار «الأزهر»، وواصل هجومه على الأقباط من خلال مقالاته، أبرزها المقال الافتتاحي للمجلة في عددها الأخير من أغسطس 2014، بعنوان «مستقبلنا: تضامن وتكامل أم تشرذم وتفتيت؟»، قال فيه إن قطاعات من الأقباط المصريين ساعدوا الحملة الفرنسية، وحاربوا مع الجيش الفرنسي ضد المصريين، تحت قيادة القائد الفرنسي ديزيه، وأثار المقال غضبًا في الأوساط القبطية.
كما كان للشيعة نصيبًا أيضًا من هجوم "عمارة"، ففي أكتوبر 2012 أعادت «الأزهر» نشر كتاب «الخطوط العريضة لدين الشيعة"،من تأليف الكاتب الراحل محب الدين الخطيب، وفي مقدمة الكتاب يقول "عمارة"، إن «الشيعة ليست مذهبًا أو طائفة وإنما دين، تحالف أصحابه مع الصليبيين وهولاكو والإمبريالية الأمريكية والمسيحية الصهيونية ضد المسلمين".
"عمارة" خالف بذلك منهج"الأزهر"الذي سمح بتدريس «المذهب الجعفري» لطلاب جامعة الأزهر، باعتباره منهجًا إسلاميًا، ومذهبًا من المذاهب الإسلامية الصحيحة.
ثار المصريون في 30 يونيو ضد الرئيس الإخواني محمد مرسي، ونجحوا في عزله، بينما ظل «عمارة» قابعًا على رأس مجلة «الأزهر»، ليصف ما حدث بأنه «انقلاب عسكري»، وهو بذلك يُخالف الموقف الرسمي للأزهر.
قال «عمارة» في بيان يوم 13 يوليو 2013: «بيان القوات المسلحة في 3 يوليو هو انقلاب عسكري على التحول الديمقراطي، الذي فتحت أبوابه ثورة 25 يناير»، مشيرًا إلى أن عزل محمد مرسي، باطل شرعًا وقانونًا، على حد قوله.
وأضاف «عمارة»: «الانقلاب العسكري يعيد عقارب الساعة في مصر إلى ما قبل ستين عامًا، ويضر بالقوات المسلحة؛ لأنه سيشغلها عن مهامها الأساسية في الدفاع عن حماية الوطن».
تعرض محمد عمارة لهجوم كبير من قبل وسائل الإعلام، وكتب الدكتور خالد منتصر، أكثر من مقال في صحيفة «الوطن»، يطالب شيخ الأزهر، بإقالته، أبرزهم مقال تحت عنوان «لماذا تُصر يا شيخ الأزهر على د. محمد عمارة؟».
الإعلامي إبراهيم عيسى كان هو الآخر أحد أبرز المهاجمين لـ«عمارة»، إذ اتهمه بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.
وأضاف: "المفروض رئيس تحرير مجلة الأزهر هو المعبر عن أفكار الأزهر، والمُنظر، المجلة المفروض اللي تكون الجسر للثقافة الإسلامية الوسطية، لكن اللي اختاره شيخ الأزهر، واحد بيقول إن 30 يونيو انقلاب، رأيه زي رأي الإخوان الإرهابيين".
ضغوط كبيرة تعرض لها «الطيب» بسبب بقاء «عمارة» على رأس مجلة «الأزهر»، ويبدو أنه استجاب لها، حيث فوجئ قراء المجلة الأسبوع الماضي، برفع اسم محمد عمارة من رئاسة التحرير، وكتابة مجلس تحرير مكون من الدكتور محمود حمدي زقزوق، ومحمد عمارة، وعبدالفتاح العواري، وهو ما يُعني تحجيم دور «عمارة» في المجلة التي وصفت في نفس العدد جماعة الإخوان، وتنظيم «داعش»، وكتائب عز الدين القسام بـ«الفجرة الخارجين عن الإسلام».
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُحاصر فيها «عمارة»، فمنذ 30 يونيو، مُنع من كتابة عموده الأسبوعي«في ظلال الإسلام»بمجلة «أكتوبر»، ومقاله الأسبوعي في «الأهرام»، كما امتنعت صحيفة «الأخبار» عن نشر«يوميات الجمعة» التي كان يكتبها، ومقاله «هذا إسلامنا» في صحيفة «القاهرة».
تعليقات