قصة محطة سيدي جابر من سيدي جابرالتي انتشرت وأصبحت علما على انتهاء المحطة الأخيرة التي ينزل فيها الركاب فيعرف أن رحلته قد أنتهت تقريبا
محطة سيدى جابر
المسافر من القاهرة إلى الأسكندرية بالقطارعندما يصل إلى محطة سيدى جابر يعرف أن رحلته قد أنتهت تقريبا وأن آخر الخط لم يبق فيه إلا محطة واحدة فقط هى محطة مصر والتى تقع فى محرم بك المسافرون فى القطار تتغير حالتهم تماما ما بين محطة سيدى جابر ومحطة مصر من الوضع (مسافر) إلى الوضع (وصلنا)
.
الذى كان مشغولا بقراءة الجريدة يطوى صفحاتها والذى كان قالع الجاكيت يبدأ فى لبسه خاصة لو كنا فى الشتاء والبعض يبدأ بتنزيل حقائبه من على الرف يعنى الخلاصة
نحن الآن فى الأسكندرية رغم أن القطار مازال يسير بنا ولما يتوقف بعد حالة محطة سيدى جابر هذه مرحلة عمرية يعيشها الكثير ويتصرفون فيها تصرف هؤلاء الركاب ما بين المحطتين .
ممكن نقول يتصرفون بوضع الإستعداد والتهيؤ للمرحلة التالية من الحياة (او من الرحلة) قرأت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر ذات يوم على ابن عمه عبد الله بن عباس فوجده يحاول ترميم جزء من جدار بيته وأمه إلى جواره تناوله الطين فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عما يفعل فقال .. لقد وهى الجدار يا رسول الله .. وهى يعنى ضعف فتساقط منه جزء وتهالك فقال الرسول صلى الله عليه وسلم وكأنه مستعبرا أمر الدنيا كلها (إن الأمر أوهى من ذلك )
زمان سألت أحد أعمامى الكبار عن أصل عائلتنا ومن أين كان المنشأ فقص على حكاية لا أدرى مدى حقيقتها نحن من بلدة تطل على فرع رشيد بالقرب من القناطر الخيرية.. من قرى الجيزة إسمها الإخصاص (البيوت والجدران من القصب أو أغصان الأشجار أو نحو ذلك)
وعائلة والدى تسمى عائلة صالح
فقال لى عمى أن أصل هذه العائلة ينتسب لرجل جاء من الحجاز وكان عبدا صالحاً فأطلقوا لقب صالح عليه وكان هذا الرجل يتعبد الله على شاطىء النيل فى موضع البلد وبنى له عشة من الخوص والأغصان يطلق عليها (الخُصّ)
وكان لهذا الشيخ تلاميذ وأتباع فجاءوا حيث يعيش وبدأ كل منهم يبنى له خصاً يتعبد الله فيه فأطلقوا على المكان إسم الإخصاص من أجل ذلك وكان هذا العبد الصالح يرفض بناء بيتا من الحجارة أو حتى من الطين لأنه كان يخرج كل عام إما للحج أو للجهاد فيقوم بنقض الخص تماما ثم يعيده عند عودته من رحلته .
ربما لأن الأمر كان عنده (أوهى من ذلك) وسواء صحت تلك الروايات التى يتناقلها عجائز القرية عن هذا الجد المجهول أو كذبت .فلا شك أننا نحب أن نجتر تلك الذكريات ونكررها فخرا بجد موهوم لم نره ولكن نفخر بما يتناقله الناس عنه صدقا كان أو تخيلا .
شاليه فى الساحل الشمالى
.
صاحبى إستشارى أمراض باطنية طول عمره فى غربة من بعد الثانوية حيث خرج من قريته بالمنصورة إلى المدينة الجامعية أثناء دراسته للطب وبعد الخدمة العسكرية سافر مباشرة للسعودية وأقام بها وأكمل التخصص وتزوج وأنجب وتخرج أولاده فى الجامعات وهو يتنقل من عمل إلى آخر ومن مدينة لغيرها.
.
صاحبى كان يضع الريال على الريال ويدخل فى استثمارات وتجارة وكون ثروة لا بأس بها كانت أهم منجزاته التى دائما ما يفاخر بها شاليه فى الساحل الشمالى فى قرية للطبقة المترفة .
وكثيرا ما كان يحدثنى عن فلان الوزير السابق الذى يسكن بجواره ورجل الأعمال الذى يشاركه فى الحديقة وكيف أنه حجز شاليه فى أول نمرة على البحر مباشرة وأنه يعد هذا المكان ليكون استراحته بعد رحلة الشقاء والمعاناة فى بلاد الغربة كان يدقق فى كل التفاصيل والديكورات ولون الحمام وإضاءة المطبخ والأثاث الذى انتقاه من محلات الأثاث الأمريكى بجدة وشحنه على الشاليه ولكن عبر هذا الشاليه كانت رحلة معاناة أخرى.
.
صاحبى كان طبيب شاطر وطموح لم يكتف بتخصصه فى الأمراض الباطنية بل تدرب على مناظير الجهاز الهضمي وبرع فيها وقد عقد اتفاقا مع صاحب المستشفى على نسبة له من كل حالة يعمل لها منظار .. وكان هذا باب من أبواب الشر كما كنت أحدثه دائما
.كان المريض إذا جاء يشكى من أى أعراض مهما كانت يطلب له على الفور منظار للجهاز الهضمى وأصبح صاحبى محل تندر الأطباء والتمريض .
لدرجة أنهم كانوا يزعمون أن من يأتيه يشكو الصداع أو ألم فى ركبتيه يطلب له منظار على المعدة والغريب أنه كان يجد المبرر الطبى لهذا ..ولكن طبعا بشكل فيه تعسف وتكلف كنت أجادله واستحث فيه الأمانة الطبية والشفقة على المرضى بلا طائل ووصل الأمر أننى طرحت الموضوع على صاحب المستشفى وبحضور صاحبى وأثناء احتدام النقاش.. كانوا يقولون نحن قطاع خاص هدفنا الربح
.
وكنت أقول هذا من باب أكل أموال الناس بالباطل(صاحب المستشفى مطوع) والمطوع هو الشيخ المفروض انه ملتزم (لحية وسواك وخلافه) بل وقال صاحب المستشفى لى أن زميلى السابق بقسم الأشعة كانت تأتيه الأشعة العادية فيكتب تقريرا لها ويذيله بقوله الأشعة المقطعية مطلوبة لتشخيص أدق فإذا ما عملها المريض كتب الطبيب الرنين المغناطيسي ضرورى.. وهكذا
.
الزميل السابق للأسف كان يأخذ نسبة على كل فحص جديد يضيفه على فاتورة المريض ولكنى رفضت تلك الاتفاقية الآثمة وأذكر أنى قلت نصا للرجل الكلام ده dirtydeal يعنى اتفاقية آثمة مما جعل الرجل يحملها فى نفسه ولولا احتياجه لى لأنهى التعاقد معى فورا كنت أردد دائما "إن الأمر أوهى من ذلك"
.
على فكرة مش حاسس انى بطل ولا مثالى، بس مقتنع بأن الطبيب لابد يفكر بالطريقة دى مع المريض..(ليه تدفع كثير ما دام ممكن تدفع قليل)(ليه تعمل فحص طالما أمكن التشخيص)وكان صاحبى أستشارى الباطنية أحيانا يكرر كلمات السيسي الحمقاء الخرقاء.. يا عم انت حامل همهم ليه .. دول ناس فلوسهم زى الرز !
طبعا أنا لا أقل عن صاحبى رغبة فى الحياة الآمنة المطمئنة بعد سنوات طويلة من المعاناة والغربة والشقاء ولا أدعى أنى زاهد فى الدنيا وأحلم مثله بالضبط بترف التقاعد الوثيركان يحدثنى عن الشاليه وديكوراته وتجهيزاته فأقول له أنا لم أنس نصيبى من الدنيا أيضا أحلم بالأسكندرية .. وشاطىء البحر والأمواج المنعشة وكانت عندى عقدة وأنا صغير .
كان والدى رحمة الله ينظم لنا المصيف السنوى تبع عمله بشركة الغزل والنسيج وكان المصيف فى عمارة على شاطىء سان استيفانو وكنا كل سنة نركب الأتوبيس من حلوان للإسكندرية وإذا ما رأينا البحر بعد رحلة السفر الطويل كنا نهتف جميعا بالفرح ونحن نشم روائح الأمواج وعند العمارة كنا ننزل ونحن نتقافز فى فرح وسعادة وتعجل للتسكين بينما الفوج السابق يغادر مطاطيء الرأس حزينا والأولاد فى كآبة ولكن ألوان بشرتهم المحترقة والجلد الذى تقشر كان ينبيء عن ساعات طويلة أمضوها فى البحر طوال الإسبوع .
وبعد أسبوع كان الحال يتبدل كنا نحن المغادرين فى أسى واحباط.. وقد مرت أيامنا سريعة ومن هذه الأيام كنت أمنى نفسى بأنه ما إن أكبر واملك مالا فسوف أشترى شقة تكون ملكا خالصا لى بالأسكندرية أذهب إليها وقتما شئت ولا أغادرها الا حينما أريد ولا يقف على بابها الضيوف الجدد الذين يتعجلون خروجى منها ليدخلوا هم مكانى .
والحمد لله أمكننى الله من شراء شقة لا بأس بها فى سيدى بشر بالقرب من البحر وسط الناس مع أهل إسكندرية ليست مجرد مصيف مؤقت بل شقة سكنية متكاملة لتعطينى الاحساس بالأستقرار والبقاء والدوام ولكن الحقيقة إكتشفت أن الحكاية توهم فى توهم على مدار سبع سنوات مضت لم أقض بالشقة التى تكلفت الكثير إلا خمسة أيام متقطعة لأنه ليس عندى وقت.
.
وأصبحت أواسى نفسى بأن الأولاد يتمتعون فيها كمصيف وأمنى نفسى بأنه سيأتى اليوم الذى أتقاعد فيه وأخلد للراحة وأستقر فى تلك الشقة أسابيع وأشهر وبمرور الوقت تحولت الملكية المأمولة إلى قول الشاعرأمانى إن تكن حقا تكن أطيب المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا كان صاحبى أستشارى الباطنية يعيش أيضا تلك الأمنيات فى راحة الغد والسكون والطمأنينة .
.
وقد استكمل كل دقائق تجهيز الشاليه ولم يبق على شيء ديكورات أثاث .. أجهزة .. جيم صغير جاكوزى.. كل حاجة .. كل حاجة وعندما قابلته قال الآن استكملت كل حاجة الحمد لله باقى فى العقد بضعة أشهر ولن أجدد هذه المرة وسأنزل مصر نهائى أريد أن أتمتع بما بذلت فيه الجهد والعمر والوقت والمحايلات مع المرضى وأعوض تحملى وصبرى الطويل على سماجة الكفيل ورخامة المرضى وتربص تفتيش الصحة ..وسرقات المقاول لى بمصر .. وهو يشطب الشاليه.
.
وكنت أضحك مخففا عنه وأقول لا تثريب عليك يا دكتور هانت خلاص وعموما.. الأمر أوهى من ذلك فى الصباح قالوا لنا الدكتور إستشارى الباطنية توفاه الله بالأمس والصلاة عليه بالحرم والدفن سيكون بمكة الله يرحمه .. صحيح الشاليه إستكمل هيئته وأدواته ولكن منامه هنا فى شبرين من التراب لو انطقه الله لقال إن الأمر أوهى من ذلك.
.
تعليقات