السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجة النبي محمد عليه الصلاة والسلام
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصّي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، جدّها "خويلد" كان بطلاً مغواراً دافع عن حياض الكعبة المشرّفة في يوم لا ينسى.
والدتها "فاطمة" بنت زائدة بن أصمّ بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر، كانت سيّدة جليلة مشهود لها بالفضل والبرّ
إذن، فهذه السيّدة العظيمة خديجة الكبرى سلام الله عليها تنتسب إلى قبيلة قريش، ويلتقي نسبها بنسب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله عند جدّها الثالث من أبيها، وعند جدّها الثامن من أمّها
أسماؤها وألقابها عليها السلام:
للسيّدة خديجة عليها السلام ألقاب كثيرة تعكس عظيم نبلها وشديد قدسها، من هذه الألقاب: الصدّيقة، المباركة، أمّ المؤمنين، الطاهرة، الراضية، المرضية ...إلخ.
كانت تعطف على الجميع، وتحنو عليهم كأمّ رؤوم بأولادها، فكانت "أمّاً لليتامى"، و"أمّاً للصعاليك" و"أمّاً للمؤمنين"،وهي كوثر الخلق، وسمّيت أيضاً "أمّ الزهراء" أو ينبوع الكوثر.
ملامح السيدة خديجة في مرآة الوحي
بعد عامين من بعثة الرسول صلى الله عليه وآله التي بدأت من بيت خديجة، وفي طريق عودته من معراجه في شهر ربيع الأول، جاءه أمين الوحي جبريل وقال له: «حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومنّي السلام»، وعندما أبلغ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله زوجه خديجة عليها السلام سلامَ الله تعالى، قالت: إنّ الله هو السلام، منه السلام وإليه السلام
في إحدى الحملات الوحشية لقريش انتشرت إشاعة اغتيال النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، فهامت السيّدة خديجة عليها السلام على وجهها في الوديان والصحاري المحيطة بمكة بحثاً عن حبيبها، وكانت الدموع تنهمر على خديها، فما كان من جبريل إلا أن نزل على الرسول الأكرم وقال له: لقد ضجّت ملائكة السماء لبكاء خديجة عليها السلام، أُدعُها إليك وأبلغها سلامي وقل لها بأنّ ربّها يقرؤها السلام ويبشّرها بقصر في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب
خديجة الكبرى عليها السلام عند الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله رويت عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أحاديث كثيرة في مناقب السيّدة خديجة عليها السلام، نسلّط الضوء على بعضاً منها:
يا خديجة إنّ الله عزّوجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا . والله ما أبدلني الله خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدَّقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمنـي الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس
خير نساء العالمين: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله
خير نساء الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم (امرأة فرعون)
خديجة سبقت جميع نساء العالمين بالإيمان بالله وبرسوله أحببتها من أعماق فؤادي
أحبّ من يحبّ خديجة لم يرزقني الله زوجة أفضل من خديجة أبداً. لقد اصطفى الله عليّاً والحسن والحسين وحمزة وجعفر وفاطمة وخديجة على العالمين وقال صلى الله عليه وآله يخاطب عائشة: لا تتحدّثي عنها هكذا، لقد كانت أوّل من آمن بي، لقد أنجبت لي وحُرِمتِ
السيّدة خديجة في أقوال العظماء
ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعض أصحاب السير والتراجم:
يقول ابن هشام صاحب المصنَّف الشهير «السيرة النبوية»: خديجة صاحبة النسب الكريم، والشرف الرفيع، والثروة والمال، وأحرص نساء قريش على صون الأمانة والتمسّك بالأصول الأخلاقية والعفة والكرامة الإنسانية، فهي التي تربّعت على قمة الشرف والمجد.
الذهبي وهو رائد علم الرجال عند العامة يقول:
خديجة، سيّدة نساء الجنة، حكيمة قريش، من قبيلة أسد، عظيمة القدر، ذات دين ومروءة وعزّة، من نساء الجنة وإحدى النساء اللائي تربّعن على قمة الكمال
ويقول ابن حجر العسقلاني فيها:
لقد صدّقت خديجة بالرسالة في اللحظات الأولى لبعثة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، وكان رسوخ إيمانها وثبات قدمها نابعين من يقين تام، وعقل راجح، وعزم راسخ يقول السهيلي الذي له تصانيف كثيرة في السير والمغازي: خديجة سيدة نساء قريش، لقبّت بـ الطاهرة في الجاهلية والإسلام
السيّدة خديجة عليها السلام عبر التاريخ
لقد كان التاريخ مجرّد قلم بيد المتملّقين يخطّونه خدمة لأغراض المستبدين، فاستبيحت الكثير من الحقائق وزوّرت الكثير غيرها حتى اشتبه الأمر وأصبحت الأكاذيب كأنّها وقائع تاريخية، وبلغت حدّاً من السوء بحيث إذا ما أماط الباحث اللثام عن الوقائع بالاستناد إلى الحقائق العلمية، أثار عمله دهشة الجميع واستغرابهم.
ومن ذلك ما قام به أحد الباحثين الذي قدّم أدلة دامغة على أنّ صاحب النبي الكريم صلى الله عليه وآله في الغار هو عبد الله بن أريقط بن بكر، حيث أنّ قصة الغار المعروفة تمّ تلفيقها في زمن معاوية وذلك بالمال، ليتمّ استبداله بشخص آخر
وقد أثبت هذا الباحث على أنّ عبارة «الأنزع البطين» مختلقة وهي من اختلاق أصحاب معاوية لقد صرّح الكثير من الرواة بأنّ السيّدة خديجة عليها السلام كانت باكراً قبل الزواج، وأنّه لم يدخل عليها أحد قبل النبي قطّ، ومن هؤلاء:
الشريف المرتضى علم الهدى، في كتابه "الشافي في الإمامة".
الشيخ الطوسي، في كتاب «تلخيص الشافي".
البلاذري، في كتاب «أنساب الأشراف»
أبو القاسم الكوفي، في كتاب «الاستغاثة في بدع الثلاثة».
هذا، وقد أيّد الكثير من الرواة والمؤرخين هذا الرأي، حيث يؤكدون أنّ السيدة خديجة عليها السلام في ذلك الوقت لمّا تتجاوز الـ25 أو الـ28 عاماً، وأنّها لم تختر زوجاً آخر غير النبي قطّ، لأنّها كانت تكفل زينب ورقية وأم كلثوم بنات أختها «هالة».
ولكن الأمر الذي اتّفق عليه جميع المؤرخين هو أنّها كانت من أجمل بنات الحجاز. والإمام الحسن المجتبى عليه السلام الذي كان آية في الجمال كان يعتبر نفسه أشبه أهل البيت بأمّه خديجة الكبرى عليها السلام.
سئل عبد الله المحض والد ذي النفس الزكية: من أين لأسنان الإمام الصادق عليه السلام هذا الجمال والنصاعة والتألق بحيث أنّها تجذب كل من رآها؟فأجاب قائلاً: لا علم لي، ولكن أعلم بأنّ خديجة عليها السلام كانت كذلك، وأنّ الزهراء عليها السلام ورثت عن أمّها ذلك الجمال والتألّق
أول سيّدة في الإسلام
لقد كانت السيّدة خديجة عليها السلام على دين أبيها إبراهيم عليه السلام وذلك قبل أن يُبعث الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، وكانوا يُعرفون بالحنفاء، وقد آمنت في اليوم الأول من بعثة المصطفى صلى الله عليه وآله، كما جاء في الحديث الشريف: أوّل من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله من الرجال علي عليه السلام ومن النساء خديجة عليها السلام(28)
عندما رجع الرسول الكريم صلى الله عليه وآله من غار حراء وهو ينوء بثقل الرسالة العظيمة، كانت السيّدة خديجة عليها السلام في استقباله حيث قالت له: أيّ نور أرى في جبينك؟ فأجابها: إنّه نور النبوّة، ومن ثمّ شرح لها أركان الإسلام، فقالت له: "آمنت وصدّقت ورضيت وسلّمت"
أول سيّدة مصلّية
كانت السيّدة خديجة أول سيّدة في الإسلام تصلّي، إذ أنّه لسنوات طويلة انحصر الإيمان بالدين الإسلامي بخديجة عليها السلام والإمام علي عليه السلام، وكان الرسول الأعظم يذهب إلى المسجد الحرام ويستقبل الكعبة وعلي عليه السلام إلى يمينه وخديجة خلفه، وكان هؤلاء الثلاثة هم النواة الأولى لأمّة الإسلام، وكانوا يعبدون معبودهم الواحد إلى جانب كعبة التوحيد
أول سيّدة تأكل من فاكهة الجنّة
نعم، إنّها أول سيّدة مسلمة تأكل من فاكهة الجنّة حيث ناولها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بيده الشريفة عنقوداً من عنب الجنّة
الزوجة الوحيدة
السيّدة خديجة عليها السلام هي الزوجة الوحيدة من بين أزواج النبي الكريم صلى الله عليه وآله التي أنسلها واستمرّ نسلها الطاهر حتى يومنا هذا. لقد ارتأت المشيئة الإلهية أن تكون السيّدة خديجة وعاءً لأنوار الإمامة وضيائها. والرسول الكريم صلى الله عليه وآله في معرض بيان عظم منزلة هذه السيّدة الجليلة، نجده يخاطب ابنته الأثيرة على قلبه الزهراء البتول عليها السلام بقوله: يا ابنتي، إنّ الله تعالى جعل خديجة وعاء لنور الإمامة"
إنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله لم يتزوّج على السيّدة خديجة في حياتها أبداً حتى ماتت، لقد كانت كوثر النبوة الصافي أفاضت على العالمين بما يقرب من 80 مليون سيّداً علوياً جميعهم ينتمي إلى الدوحة المحمدية الوارفة، وهم مظاهر الخير العميم ومصاديق الكوثر الوفير، عطايا الرحمن لحبيبه خير الأنام وسيّد البشر النبي المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله. في اللحظات الختامية من عمر هذه السيّدة الجليلة، بشّرها زوجها الحاني بأنّها ستكون زوجه في الجنّة أيضاً
حكيمة قريش والزواج
اشتهرت السيّدة خديجة عليها السلام بالجمال والكمال والثروة والشرف الرفيع والعلم والحلم وصلابة في اتّخاذ القرار، ودقة في الرأي، ورأي سديد، وعقل راجح وفكر صائب، ومن الطبيعي أنّ من تجتمع لها صفات الكمال والفضل يتسابق الرجال إلى خطبتها والزواج بها، وهذا ما كان مع السيّدة خديجة حيث سارع رؤوس بني هاشم وأقطابها، لا بل وصل الأمر إلى ملوك اليمن وأشراف الطائف، الذين سعوا عبر إغداق الأموال والهدايا للفوز بقلبها، والتربّع على قمّة الشرف والمجد، لكنّها خذلتهم جميعاً، ووقع اختيارها على أمين قريش ومؤتمنها لكي يفوز بقلبها.
وتشرح السيّدة خديجة عليها السلام سبب هذا الاختيار بالقول:
«يا بن عمّ إنّي رغبت فيك لقرابتك منّي وشرفك من قومك وأمانتك عندهم وصدق حديثك وحسن خلقك»
كما أفشت بسرّ هذا الاختيار إلى صفيّة بقولها: «إنّي قد علمت أنّه مؤيّد من ربّ العالمين»
لقد استشارت السيّدة خديجة عليها السلام سيّدة أخرى جليلة في هذا الأمر حتى ذهبت بمعيّتها إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وعرضت عليه الزواج قائلة: لقد اخترت لك امرأة من قريش، فأجاب الرسول العظيم: ومن تكون؟ فقالت السيّدة خديجة: هي مملوكتك خديجة
الخطبة والزواج
حضر هذه المراسيم أبو طالب عليه السلام وكان أول المتكلمين إذ ألقى خطبة ذكر فيها عظمة منزلة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وشرفه وفضله، ثمّ خطب خديجة للنبي من والدها خويلد، الذي خيّرها، بعدها استأذنت خديجة عمّها «عمرو بن أسد» كبير قومه، فأعلنت موافقتها وقالت بأنّ مهرها سيكون من مالها. ثم قام عمّها فخطب في الحاضرين خطبة بليغة ختمها بقوله: زوّجناها ورضينا به بعد ذلك أعلنها على الملأ بكل صراحة: من ذا الذي في الناس مثل محمد
وقال خويلد في مراسيم الخطبة: يا معشر العرب، لم تظلّ السماء ولم تقلّ الأرض رجلاً أفضل من محمد، فاشهدوا أنّي أنكحته ابنتي وأنّي لأفخر بهذا الارتباط المقدّس
بعد ذلك أرسلت السيّدة خديجة عليها السلام إلى أبي طالب أموالاً وأغناماً وقوارير العطور وأنواع اللباس ليعدّ لوليمة العرس. ولم يأل أبو طالب عليه السلام جهداً في التحضير لأعظم مأدبة، حيث أطعم أهالي مكة وأطرافها لثلاثة أيام متتالية وكانت أول وليمة يعدّها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله
ثروة السيّدة خديجة
لسنوات طويلة كانت القوافل التجارية للسيّدة خديجة عليها السلام من أكبر قوافل قريش، وقد ربحت من تجارتها ثروات طائلة، وضعتها جميعها تحت تصرّف الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، لينفقها فيما يراه مناسباً.
يقول العلامة المامقاني: لقد وصلنا بالتواتر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أنّه قال: ما قام الدين إلاّ باثنتين: سيف عليّ وأموال خديجة..
حكمة السيّدة خديجة
يكفي في رجاحة رأيها وصلابة فكرها ما رواه المؤرّخون من أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يشاورها في جميع أموره
كان عليه الصلاة والسلام يتطلّع إلى أن تُسلم قريش لتنجو من عذاب الله وسخطه، فكان يجابه بعنادهم ورفضهم وإصرارهم على باطلهم، فيعتصر قلبه الشريف ألماً وحزناً، في تلك اللحظات العصيبة كان يلجأ إلى بيت العطف والرسالة فيشكو بثّه ومعاناته إلى زوجه وشريكة همّه السيّدة خديجة عليها السلام، فكانت تواسيه وتشدّ من أزره بكلماتها الحكيمة ونظرات العطف والحنان، فتسكن من آلامه وأحزانه
في مراحل الشدّة والمشقة والحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب، كان لأموال السيّدة خديجة عليها السلام الدور الكبير والحاسم في التخفيف من آثار الحصار الجائر الذي فرض على آل أبي طالب، فكانت هذه السيدة الجليلة تشيع الأمل والفرح في قلوب القوم وترفع الحزن والشقاء عن كاهلهم. وعلى الرغم من أنّ الله تعالى كان سنداً وظهيراً لنبيه الكريم ولم يقطع عنه حبل كرمه ولطفه طيلة تلك الفترة العصيبة، إلاّ أنّ وجه السيّدة خديجة عليها السلام المضيء والمشرق، ونظراتها المتفائلة كانت تجعله أكثر إصراراً وعزماً على مواجهة قدره والاستعداد لأيّام أصعب وأقسى.
أصداف الكوثر
رزقت السيّدة خديجة عليها السلام من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ولدين هما «القاسم وعبد الله)، وبنت واحدة، فاختطف الموت ولديه وهما صغيران وأبقى على بضعته كوثر الخلق ووالدة أئمة النور والهدى الأحد عشر، سيدة النساء الزهراء البتول عليها السلام.
يتّفق أهل السير والمؤرخين على أنّ الرسول الكريم صلى الله عليه وآله أنجب من السيّدة خديجة عليها السلام ومارية القبطية فقط، حيث أنجبت الأخيرة له ابنه «إبراهيم» الذي فارق والده المكرّم وهو في الثالثة من عمره.
نظرة إلى سيرة السيّدة خديجة عليها السلام
لقد كانت هذه السيّدة الكريمة إلى جانب شريك حياتها في جميع الأحداث المريرة والمسرّة، تتقاسم معه حلوها ومرّها، وكانت دوماً تحرص على سلامته فتبعث غلمانها ليطمئنوها عليه ويتفقّدوا أحواله، وفي بعض الأحيان تفعل ذلك بنفسها، فقد رافقته مراراً إلى غار حراء
وذات مرّة صعدت إلى جبل النور قاطعة مسالكه الوعرة وحاملة صرّة طعام تريد إيصالها إلى النبي الكريم صلى الله عليه وآله في غار حراء، فأنهكها التعب، فوقعت عيناها على زوجها المشفق، فنزل الوحي ليشكر لها جهودها المخلصة.
كان أبو لهب وزوجته أمّ جميل يجمعان الأشواك من الصحاري والقفار ليضعاها في طريق الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، وكانت السيّدة خديجة عليها السلام تبعث بغلمانها ليرفعوا تلك الأشواك عن طريقه(48)
لقد حاصرت قريش النبي وآل بيته في شعب أبي طالب لثلاث سنوات متتالية فمنعت عنهم الطعام والشراب والبيع والشراء، وكاد القوم أن يهلكوا لولا أنّ السيّدة خديجة عليها السلام سارعت بأموالها لنجدتهم، حيث كانت تهيّئ الطعام من السوق بأضعاف قيمته وترسله إليهم عن طريق ابن أخيها حكيم بن حزام ليسدّوا رمقهم به(49)
النبي الكريم: غروب حزين ووحدة موحشة
لقد كانت السيّدة خديجة عليها السلام طيلة ربع قرن نجماً ساطعاً يشعّ بنوره على بيت النبوة والرسالة، تجلي بنظراتها الحانية الهمّ والشجن عن نبي الرحمة صلى الله عليه وآله، حتى حان موعدها مع القدر في العاشر من رمضان في السنة العاشرة من البعثة عندما أسلمت الروح لبارئها وألقت برحيلها المفجع ظلالاً من الكروب والأحزان على قلب النبي، وكان ذلك في السنة الثالثة قبل الهجرة، ودفنت في الحجون، حيث دخل النبي صلى الله عليه وآله قبرها ووضعها في لحدها بيديه الشريفتين، في ذلك الوقت لم تكن صلاة الميّت قد شرّعت بعد، وكانت وفاتها بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أشهر، وقيل بأنّ الفترة بين الوفاتين هي من ثلاثة أيام إلى ثلاثة أشهر، وعلى أيّ حال، كان وقع ذلك شديداً على النبي الكريم الذي فقد نصيرين له، وقد سمّي ذلك العام بعام الحزن، وأعلن الحداد فيه
ما فتئ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله يقول: لم يسيطر عليّ الحزن والهمّ طيلة حياة أبي طالب وخديجة(53) لقد ظلّت ذكرى خديجة والسنوات المشتركة خالدة وماثلة في ذاكرة النبي لم يمحها الزمان. لم يكن يخرج من البيت إلا ويذكر خديجة بخير، فكان بذلك يثير عاصفة من الحسد والضغينة في نفوس زوجاته الصغيرات، وكنّ يعترضن عليه أحياناً لكنّه كان يدافع عن خديجة بحزم فيقول: نعم، كانت خديجة هكذا، وقد رزقني الله أولادها(54)، وكلما كان يذبح أضحية في بيته يبعث بجزء منها إلى صديقات خديجة(55)
وصايا السيدة خديجة عليها السلام
لقد أوصت السيّدة خديجة عليها السلام النبي الكريم عدّة وصايا وهي على فراش الموت هي:أن يدعو لها بالخير يلحدها بيده أن يدخل قبرها قبل دفنهاأن يضع مرطه الذي ادّثر به عند نزول الوحي، على كفنها
قامت أمّ أيمن وأم الفضل(زوجة العباس) بغسل جسد السيّدة خديجة عليها السلام ثم ألقتا عليها نظرة الوداع الأخيرة
في البداية قام الرسول الأكرم بوضع مرطه على الكفن، ثمّ وضع كفن الجنة عليها. كانت السيّدة خديجة عليها السلام في الرمق الأخير من عمرها تنظر بقلق إلى ابنتها الزهراء عليها السلام، فما كان من أسماء بنت عميس إلا أن تعهّدت لها بأن تكون أمّاً لها ليلة زفافها(59)
المزار الطاهر للسيدة خديجة
يقع المزار الطاهر للسيّدة خديجة عليها السلام في بطن جبل حجون حيث كان على مدى أربعة عشر قرناً مزاراً يحجّ إليه ملايين المسلمين في موسم الحجّ والعمرة، لينهلوا من فيض نوره.
لقرون عديدة كانت تعلو القبر ضريح وقبة شامخة، حتى جاء العام 1344 هـ، فسوّي الضريح بالأرض من قبل الزمر الوهابية الضالة. بعد رحيل السيّدة خديجة عليها السلام، كانت السيّدة الزهراء تحيط بالرسول الكريم كفراشة تحوم حول الشمعة، وتسأله: أبتاه، أين أمي؟(61) فكان الرسول الأعظم يواسيه بأن يذّكرها بمنزلة والدتها الرفيعة في الجنّة(62)
لقد أنشد أمير البيان وإمام المتقين الإمام علي عليه السلام قصيدة في رثاء السيّدة خديجة عليها السلام، يستعرض فيها مناقبها وجميل خصالها(63)
خديجة يوم الحشر
يصف الرسول الكريم صلى الله عليه وآله ورود خديجة يوم الحشر بهذه العبارات البليغة: يأتي لاستقبالها سبعون ألف ملك يحملون رايات زيّنت بعبارة «الله أكبر»(64)
نهاية الحسد والضغائن كانت السيّدة خديجة عليها السلام طيلة حياتها محسودة، وحتى بعد أن رحلت إلى جوار ربّها، لم ينته حسد الحاسدين.تقول الصديقة الطاهرة الزهراء البتول عليها السلام عن إحدى نساء النبي: كلما رأتني تحدّثت عن والدتي بسوء.
وقد ورد في أحاديث كثيرة أنّه حين ظهور القائم بالأمر أرواحنا له الفداء، سيبعث الله تلك المرأة وسيقيم الإمام عليها حدّ القذف، وهي التي افترت على السيدة مارية والدة إبراهيم من افتراءات قبيحة تمسّ عرضها، كما أنّه سينتقم لجدّته الزهراء عليها السلام(65)
ورد في صحيح البخاري عن لسان إحدى زوجات الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله قولها:
لم أكن أضمر حسداً لزوجات النبي بقدر حسدي لخديجة، مع أنّني لم أرها في حياتي، وذلك لكثرة ما كان النبي يذكرها عندي. أحياناً كنت أقول في نفسي: وي كأنّه لم تكن هناك إمرأة في العالم غير خديجة؟
وتضيف قائلة: ذات يوم خامرني شعور شديد بالحسد تجاه خديجة، فقلت للنبي: إلى متى تتحدّث عنها، ألم يبدلك الله بخير منها؟
فقال: والله ما أبدلني الله خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدَّقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمنـي الناس ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس(66)
بيت السيّدة خديجة عليها السلام
بعد وفاة السيّدة خديجة عليها السلام، أصبح منزلها أحد الأماكن المقدسة التي يؤمّها آلاف الحجاج سنوياً، يقول الرحالة المسلم المشهور ابن بطوطة: من المشاهد المشرّفة التي تقع على مقربة من المسجد «قبة الوحي» وهو منزل أم المؤمنين خديجة(67)
يقول الشيخ الأنصاري في كتابه مناسك الحج: إذا نزلت مكة المكرمة، يستحبّ للحاج أن يزور بيت خديجة عليها السلام
ولكن للأسف الشديد لم تترك الفرقة الوهابية الضالة قبة الوحي فقد امتدّت إليها بالتخريب والتدمير كما هو شأن باقي الآثار الإسلامية، وسوّتها بالأرض.
على أمل أن يأتي ذلك اليوم الذي يظهر فيه المنجي الموعود ليسترجع ما ضاع من حقوق آل النبي، وأن يعيد شأن العترة الطاهرة أمام أعين العالمين قاطبة، إن شاء الله.
المصدر: ينبوع الكوثر، أمّ المؤمنين خديجة الكبرى عليها السلام. بقلم: الأستاذ علي أكبر مهدي بور
ترجمه إلى العربية: مؤسسة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله الثقافية
تعليقات