صحفية بدرجة إنسان.. عن رحيل شيرين أبو عاقلة؟ حين غطت أصعب الأحداث، رافقنا صوتها في أشد مراحل القضية حساسية منذ الانتفاضة الثانية

 

حين عرفت أن شيرين أبو عاقلة عمرها 51 عاماً صُدمت؛ ففي عقلي شيرين على الدوام صغيرة، شابة، لا تكبر، جميلة، مشرقة، هادئة مهما حدث حولها، وكأنها ملاك لا تتبدل ملامحه، لكني حين عرفت عمرها شعرت أن ما ينطبق علينا ينطبق على شيرين أيضاً؛ فهي ليست ذلك الكائن الأسطوري كما اعتقدنا دوماً.

حين غطت أصعب الأحداث، رافقنا صوتها ورباطة جأشها في أشد مراحل القضية حساسية منذ الانتفاضة الثانية، واجتياح جنين الأول، ومحاصرة كنيسة المهد، إلى محاصرة المقاطعة، وموت ياسر عرفات، والحروب المتتالية، والاشتباكات الدائمة مع الاحتلال، وإرهاصات الانتفاضة الثالثة، وطرد عائلات الشيخ جراح.

نحن الزبائن أنانيون؛ نعتقد أن النجوم الذين نحب لا يكبرون، الذين يقدمون لنا الحقيقة، دوماً أقوياء، هذا الاعتقاد في داخلنا عن القوة الخالدة داخل شيرين، جعل موتها صدمة وكأنها لا تموت، تعودنا وجودها في المواقع الخطرة، ولم نعتقد أنها ستلفظ أنفاسها يوماً هناك.. الجموع لا تصدق، لم تنم الليلة.

الشهداء أنفسهم جميعاً حين يقامرون الموت في تلك اللحظات الخطرة يصعب علينا تصديق موتهم، وهنا تأتي بلاغة الآية من القرآن: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).

شيرين لم تتزوج ولم تجلس مع أهلها الوقت الذي يجب، لم تودع أخاها المسافر كما يجب، كانت دائماً في العمل وتطل على المنزل، ثم تعود إلى الميدان، وهو ما قدمته بحب، فلا أذكر أن شيرين أبدت يوماً ندمها؛ لأن لديها عائلة كبيرة جداً، وأبناءً وبنات كثيرين، يسألون عنها وتسأل عنهم، لا يتركون لها فرصة كي تشعر بالوحدة، إنهم عائلات الشهداء والبيوت التي هدمها الاحتلال، وأمهات وأشقاء الشهيدات، فمحظوظ الصحفي الذي ينجح في مهنته ولا يخسر أبطال قصصه على مر السنين.

 أذكر مقابلتي لها بعد حصار كنيسة المهد ومخيم جنين عام 2002، قالت لي: "يا دوب لحقت أقعد مع أخوي اللي إجى زيارة من أمريكا بعد سنين، والآن يجب أن أرجع للمكتب، أمني نفسي أني سأسهر معه الليلة".

كانت دوماً تشعر أنه سيأتي يوم تجلس معهم الوقت الكافي، لكن لم يأت هذا اليوم، ولن يأتي، إنسانة أحبت عملها، أخلصت له وللقضية ببساطة دون شعارات، كما ماتت دون شعارات، بل تحت شجرة خروب تنتظر حكاية أخرى لتغطيتها، فأعادت الاهتمام إلى القضية كما تفعل دوماً، لكن هذه المرة بدمها، وجذبت انتباه العالم إلى بقعة التراب التي اغتيلت عليها كما لم تفعل الحروب، ولم تفعل المفاوضات.

لم تستطع تغطية الحدث هذه المرة، ولم تكن تعرف أنها بعدما صرخت "علي تصاوب" عن زميلها علي السمودي الذي رافقها في الصباح وأصيب برصاصة في ظهره، سيوجه الاحتلال الإسرائيلي رصاصته إليها، بل تحديداً إلى الجزء الذي لا تغطيه خوذة أو واقي الرصاص، تحت أذنها تماماً.

شيرين أبو عاقلة التي ظهرت في كل الأحداث التي مرت بها فلسطين، على مدار عمر قناة الجزيرة 25 عاماً، إذا سمعت صوتها، فاعرف أن هناك حدثاً جللاً، استرعى انتباه جيل بكامله، بل جزءاً من ذاكرته الحية قبل أن يخسر أيقوناته عاماً بعد عام.

شيرين أبو عاقلة المرأة

اليوم هناك شعور عام مع فقدانها بيتم القضية، لن تكون تغطية الأحداث كما كانت يوماً، سينقصها دوماً اتزان ورؤية شيرين الموضوعية، وصوتها الذي يحول أعتى المصائب إلى قابلة للاحتمال عبر عقلنة الحقائق، ورؤيتها حقوقياً، فشيرين لم تحول يوماً أحداثنا إلى شأن عاطفي وشخصي رغم أن هذا لا ينقصها في بعض مواضع كما حدث في تغطيتها حي الشيخ جراح.

 إلا أنها علمتنا الدقة كما يليق بأي صحفية عالمية؛ فهي ليست ذاك النموذج الصارخ الذي يركض وراء الأحداث ليغطي "سكووب" واحد في حياته، أو الذي يهول الأمور ويشخصنها كي يظهر بطلاً، بل كان ظهورها وحده يحول كل حدث إلى "سكووب" لا تستطيع مع صوتها ألا تنظر إلى الشاشة، سواء كنتَ في مقهى، أم في الشارع، أم في المنزل.

وبعد كل هذا، لن يفكر احتلال كإسرائيل إلا بأن تكون هدفه الأول في الضفة الغربية، التي نخرها التنسيق الأمني وتسليم المقاومين، فلم يبقَ شهود على الانتهاكات سوى الصحافيين، خاصة أولئك الذين لا يتعبون، ولا يملون من نقل جرائم الاحتلال، لقد أصبحوا هم المقاومين الحقيقيين على الأرض، ومع ذلك لم يحيدوا يوماً عن المهنية، ولم يتبنوا رواية واحدة دون تبيان الصورة كلها، إنه كما المشي على الحبل، كيف تكون مهنياً ووطنياً، هذا ما ستبقى تعلمه شيرين أبو عاقلة لجميع الأجيال الصحفية القادمة.

واليوم قطع الاحتلال هذا الحبل، وقنصها في مقتل، ليقول: إن كل من في المشهد عدو، سواء صحفي أم حقوقي أم ناشط أم مدني أم مقاوم، دون حتى أن تكون هناك حرب، يكفي أن تقف مع الضحية؛ لذلك لم يكن مقتل شيرين سوى عار كبير وجديد يتلبس جيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي تخبط ونشر أكثر من رواية عن حقيقة ما حدث، فبعد أن اتهم الجيش مسلحين فلسطينيين اشتبكوا مع جنود الاحتلال في أزقة جنين، وبث على حسابات قادته ومتحدثيه مقطع فيديو من هذا الاشتباك، تحت ادعاءات كون المسلحين هم من أصابوا شيرين، سرعان ما غير روايته، وتراجع عنها ليقول رئيس أركان هيئة الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي: "في الوقت الحالي لا يمكن تحديد النيران التي أصيبت بسببها مراسلة الجزيرة". وأعلن فتح تحقيق في الحادث.

ووفق تحقيقات كل من الجزيرة ومنصة مسبار لفحص الحقائق وصحيفة هاآرتس؛ فإن المسلحين كانوا يبعدون عن شيرين نحو 260 متراً في منطقة مغلقة داخل أزقة وبين المنازل، بينما استشهدت أبو عاقلة في منطقة مفتوحة على امتدادها، وعلى بعد 150 متراً منها تقف وحدة للجيش الإسرائيلي مطلقة النيران.

وهو الأمر الذي أكدته شهادات الصحفيين الموجودين لحظة قتلها، سواء زميلها علي السمودي الذي أصيب قبلها بدقائق، أم مراسلة ألترا صوت شذا حنايشة، التي كانت بجانبها عند استشهادها، ولم تستطع حتى أن تمد يدها إلى زميلتها من هول إطلاق النار المكثف، الذي استمر حتى بعد أن لفظت أبو عاقلة أنفاسها الأخيرة.

لم يعد الأمر يحتاج إلى شرح ملابسات الحادث لنستطلع مصدر الرصاص، لكننا تعلمنا من أبو عاقلة الرد على كل حجج الاحتلال بالمنطق والبراهين، هذه كانت مدرستها الصحفية، فلا يكفي أن ندين ونستنكر، بل أن نبرز جميع الحقائق بموضوعية، حتى لو كنا جثثاً نقاد إلى مذبح الحقيقة.

لا تتغير ملامح شيرين في رأسي، كما لا يتغير صوتها، ثابتة في الميدان، ثابتة في الأداء، لم تسقط سوى بعد رصاصة "مش طايشة"، اغتيلت شابة، وستبقى في ذاكرتنا نضرة، لن نتذكر يوماً أنها ماتت في الـ51 من عمرها، بل تلك الشابة المبتسمة وسط شعرها المتطاير.قمع جنازة شيرين يستفز رواد التواصل الاجتماعي.. هكذا علَّق المشاهير على مشهد سقوط نعشها

إنتقد إعلاميون وصحفيون ورياضيون، عبر منصات التواصل الاجتماعي، هجوم الاحتلال الإسرائيلي على جنازة الصحفية شيرين أبو عاقلة، الجمعة 13 مايو/أيار 2022، خلال تشييع جثمانها في مسقط رأسها بمدينة القدس.

فقد منعت قوات الاحتلال الإسرائيلي حمل نعش الصحفية على الأكتاف؛ مشترطة عدم حمل أي من الأعلام الفلسطينية، وقامت بالاعتداء على المشيعين ما تسبب بسقوط النعش من أيديهم، قبل أن يتم نقله بسيارة نقل الموتى وإخراجها من المستشفى، فيما هاجمت قوات الاحتلال المشيِّعين الذين حاولوا مرافقة نعش الصحفية الراحلة.

اللاعب المصري السابق محمد أبو تريكة، أدان الواقعة، مؤكداً أن الاحتلال الإسرائيلي ينفذ جرائمه دون خشية أحد، فقد قتل شيرين على الهواء ويضرب أيضاً من يقوم بتشييع جثمانها على الهواء.

قال الجيش الإسرائيلي: إن النتائج الأولية للتحقيق في مقتل مراسلة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، غير قاطعة؛ حيث لا يمكن تحديد جهة إطلاق النار، وفق ما ذكره موقع واي نت الإخباري الإسرائيلي، اليوم الجمعة 13 مايو/أيار 2022.

ونقل الموقع عن الجيش أن التحقيق أثار احتمالين: أحدهما أن "أبو عاقلة"، التي قتلت في الضفة الغربية يوم الأربعاء 11 مايو/أيار، أصيبت خلال إطلاق نار كثيف من جانب فلسطينيين باتجاه مركبات عسكرية إسرائيلية، والثاني أن جندياً إسرائيلياً كان يرد بإطلاق النار من سيارة جيب باتجاه مسلح أصابها بالخطأ.ولم يرد الجيش على الفور على طلب من رويترز بالتعليق."كانت على بعد 150 متراً منهم"

فيما نشرت صحيفة Haartez الإسرائيلية، مساء الأربعاء 11 مايو 2022، تفاصيل جديدة عن اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة، نقلاً عن تحقيق أوَّلي للجيش الإسرائيلي، الذي لم يعترف حتى اللحظة بمسؤوليته عن مقتل الصحفية، فيما تراجع عن روايته الأولى أن الفلسطينيين هم من يتحمّلون مسؤولية ذلك، مدَّعياً تشكيل لجنة تحقيق حول الحادثة. وبحسب التحقيق الأوَّلي لجيش الاحتلال، فإن الصحفية الشهيدة "أبو عاقلة" قُتلت برصاصة يبلغ قطرها 5.56 ملم وأطلقت من بندقية إم 16.

كما أكد تقرير الصحيفة الإسرائيلية أن الصحفية "أبو عاقلة" كانت على بُعد 150 متراً من القوات الإسرائيلية عندما أُطلقت عليها النار وقُتلت، وأن التحقيق أظهر أن جنود وحدة دوفدفان الخاصة الإسرائيلية أطلقوا بضع عشرات من الرصاصات باتجاه المكان الذي كانت تقف فيه الصحفية شيرين أبو عاقلة ومن معها، ولكن من غير المعروف لديها ما إذا كانت واحدة من هذه الرصاصات أصابت الشهيدة.

وبعد ساعات من مقتل شيرين، أعلن مدير دائرة الطب العدلي في جامعة النجاح، انتهاء المرحلة الأولى من تشريح جثمان الصحفية شيرين أبو عاقلة، وهي للجزء الأهم، الرأس، والتي استشهدت أثناء تغطيتها لاقتحام قوات الاحتلال في مخيم جنين.

حيث أكد في مؤتمر صحفي عقد أمام مقر الطب العدلي في جامعة النجاح في نابلس، أنه سيستكمل تشريح جثمان شيرين أبو عاقلة لمحاولة إيجاد أية أدلة يمكن ربطها بالجهة المسؤولة عن استشهادها.

كما أضاف المسؤول الفلسطيني: "لا يوجد دليل على أن إطلاق النار كان من مسافة قريبة.. لا نستطيع حتى الآن كشف تفاصيل الرصاص المستخدم.. وطلبنا الخوذة لمزيد من التحليل والتدقيق".

مركز حقوقي إسرائيلي يدحض رواية الاحتلال 

يأتي تقرير الجيش الإسرائيلي، بعد ساعات من قيام مركز "بتسيلم" الحقوقي الإسرائيلي بنشر تحقيق أجراه حول مقتل الصحفية أبو عاقلة، أظهر تناقضاً بين رواية الجيش الإسرائيلي، وما حدث بالفعل في حادثة مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة، في مخيم جنين للاجئين، شمالي الضفة الغربية.

إذ نشرت "بتسيلم" في سلسلة تغريدات على تويتر، مواد تكشف "زيف مزاعم الحكومة الإسرائيلية حول القتل". وأضاف: "نُظهر أنه كان من المستحيل أن يقتل المسلح الفلسطيني الذي شوهد في الفيديو شيرين (أبو عاقلة)".



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

الكلمات:القدسُ وعكّا نحنُ إلى يافا في غزّةَ نحنُ وقلبِ جِنين الواحدُ منّا يُزهرُ آلافا لن تَذبُل فينا ورقةُ تين ما هان الحقُّ عليكِ ولا خافَ عودتُنا إيمانٌ ويقين لن نسكتَ لن نستسلمَ لا لا لا لا نفديكِ لنحيا يا فلسطين فلسطين بلادي نحملُها جُرحاً أو أملا لا لا لا ورح نبقى فيها ليوم الدين فلسطين بلادي كي تُشرقَ شمسُكِ فوقَ أمانينا وينامَ صغارُكِ مُبتسمين ونراكِ بخيرٍ حين تُنادينا لعمارِ بُيوتٍ وبساتين سنعيدُكِ وطناً رغم مآسينا أحراراً نشدو متّحدين لن نسكتَ لن نستسلمَ لا نفديكِ لنحيا يا فلسطين فلسطين بلادي نحملُها جُرحاً أو أملا لا ورح نبقى فيها ليوم الدين فلسطين بلادي#palestine #فلسطين

العالم روبرت غيلهم زعيم اليهود في معهد ألبرت أينشتاين، والمختص في علم الأجنة أعلن إسلامه بمجرد معرفته للحقيقة العلمية ولإعجاز القرآن