أبو حفص عمر بن الخطاب العدوي القرشي، المُلقب بالفاروق، هو ثاني الخلفاء الراشدين أصحاب الرسول محمد، ومن أكثرهم تأثيرًا ونفوذًا.

                                                                  
                                              
                                                                                              

في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين وفاروق الإسلام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م
أولاً: كيف قُتل أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)؟
قال عمرو بن ميمون: إِنِّي لقائم ما بيني وبينه إِلا عبد الله بن عبَّاس غداة أصيب، وكان إِذا مرَّ بين الصَّفَّين، قال: استووا؛ تقدَّم، فكبَّر، وربَّما قرأ سورة يوسف، أو النَّحل، أو نحو ذلك في الرَّكعة الأولى، حتَّى يجتمع النَّاس فما هو إِلا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني ـ أو أكلني ـ الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمرُّ على أحدٍ يميناً، ولا شمالاً إِلا طعنه، حتَّى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعةٌ،

فلمَّا رأى ذلك رجلٌ من المسلمين طرح عليه بُرْنساً، فلمَّا ظنَّ العلج: أنَّه مأخوذٌ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرَّحمن بن عوف فقدَّمه للصَّلاة بالنَّاس، فَمَنْ يلي عمر فقد رأى الَّذي أرى، وأمَّا نواحي المسجد فإِنَّهم لا يدرُون، غير أنَّهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، فصلَّى بهم عبد الرَّحمن صلاةً خفيفةً، فلمَّا انصرفوا؛ قال عمر: يا بن عبَّاس! انظر من قتلني. فجال ساعةً، ثمَّ جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله! لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الَّذي لم يجعل منيَّتي بيد رجلٍ يدَّعي الإِسلام، قد كنت أنت، وأبوك ـ يريد العبَّاس، وابنه عبد الله ـ تحبَّان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العبَّاس أكثرهم رقيقاً، فقال عبد الله:

إِن شئت فعلت، أي: إِن شئت قَتَلنا. قال: كذبت ـ أي: أخطأت ـ بعدما تكلَّموا بلسانكم، وصلَّوا قبلتكم، وحجُّوا حجَّكم. فاحتُمل إِلى بيته، فانطلقنا معه، وكأنَّ النَّاس لم تصبهم مصيبةٌ قبل يومئذٍ، فأتي بنبيذٍ فشربه، فخرج من جوفه، ثُمَّ أُتي بلبنٍ، فشربه فخرج من جُرْحه، فعلموا: أنَّه ميِّتٌ، فدخلنا عليه، وجاء النَّاس، فجعلوا يثنون عليه.. وقال: يا عبد الله بن عمر ! انظر ما عليَّ من الدَّين، فحسبوه؛ فوجدوه ستَّة وثمانين ألفاً، أو نحوه، قال: إِنْ وفَّى له مال ال عمر؛ فأدِّه من أموالهم، وإِلا فسل في بني عدي بن كعب، فإِنْ لم تفِ أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إِلى غيرهم، فأدِّ عنِّي هذا المال، وانطلق إِلى عائشة أمِّ المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السَّلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإِنِّي لستُ اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطَّاب أن يبقى مع صاحبيه.. فسلَّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثمَّ دخل عليها، فوجدها قاعدةً تبكي،

فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطَّاب السَّلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنَّه به اليوم على نفسي ! فلمَّا أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجلٌ إِليه، فقال: ما لديك ؟ قال: الَّذي تحبُّ يا أمير المؤمنين ! أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيءٍ أهمَّ إِليَّ من ذلك.. فإِذا أنا قضيت فاحملني، ثمَّ سلِّم، فقل: يستأذن عمر بن الخطَّاب، فإِنْ أذنت لي، فأدخلوني، وإِن ردَّتني؛ ردُّوني إِلى مقابر المسلمين، قال: فلمَّا قبض؛ خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلَّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطَّاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأُدخل، فوُضع هنالك مع صاحبيه.

وجاءت رواياتٌ أخرى فصَّلت بعض الأحداث الَّتي لم تذكرها رواية عمرو بن ميمون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ طعن في السَّحر، طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسيَّاً.
وقال أبو رافع ـ رضي الله عنه ـ: كان أبو لؤلؤة عبداً للمغيرة بن شعبة، وكان يصنع الأرحاء، وكان المغيرة يستغلُّه كلَّ يومٍ أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر، فقال: يا أمير المؤمنين ! إِنَّ المغيرة قد أثقل عليَّ غلَّتي، فكلِّمْه أن يخفِّف عنِّي ! فقال عمر: اتَّقِ الله، وأحسنْ إِلى مولاك، ومن نيَّة عمر أن يلقى المغيرة، فيكلِّمه يخفِّف عنه، فغضب العبد، وقال: وسع كلَّهم عدلُه غيري ؟ ! فأضمر على قتله، فاصطنع خنجراً له رأسان، وشحذه، وسمَّه، ثمَّ أتى به الهرمزان، فقال: كيف ترى هذا ؟ قال: أرى أنَّك لا تضرب به أحداً إِلا قتلته. قال: فتحيَّن أبو لؤلؤة عمر، فجاءه في صلاة الغداة حتَّى قام وراء عمر، وكان عمر إِذا أقيمت الصَّلاة يتكلَّم يقول: أقيموا صفوفكم، فقال كما كان يقول: فلمَّا كبَّر؛ وجأه أبو لؤلؤة وجأةً في كتفه، ووجأةً في خاصرته، فسقط عمر، قال عمرو بن ميمون ـ رحمه الله ـ: سمعته لمَّا طُعن يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا *} [الأحزاب: 38].
ثانياً: أمير المؤمنين وابتكاره طريقةً جديدةً في اختيار الخليفة من بعده:
استمرَّ اهتمام الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ بوحدة الأمَّة، ومستقبلها، حتَّى اللَّحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من الام جراحاته البالغة، وهي بلا شكٍّ لحظاتٌ خالدةٌ، تجلَّى فيها إِيمان الفاروق العميق، وإِخلاصه، وإِيثاره، وقد استطاع الفاروق في تلك اللَّحظات الحرجة أن يبتكر طريقةً جديدةً لم يُسْبَقْ إِليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدَّولة الإِسلاميَّة، لقد مضى قبله الرَّسول (ص)، ولم يستخلف بعده أحداً بنصٍّ صريحٍ.
ولقد مضى أبو بكر الصِّدِّيق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصَّحابة، ولمَّا طُلِبَ من الفاروق أن يستخلف، وهو على فراش الموت؛ فكَّر في الأمر مليَّاً، وقرَّر أن يسلك مسلكاً اخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله (ص) ترك النَّاس، وكلُّهم مقرٌّ بأفضليَّة أبي بكرٍ، وأسبقيَّته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادراً، وخصوصاً: أنَّ النَّبيَّ (ص) وجَّه الأمَّة قولاً، وفعلاً إِلى أنَّ أبا بكرٍ أولى بالأمر من بعده، والصِّدِّيق لمَّا استخلف عمر كان يعلم أنَّ عند الصَّحابة أجمعين قناعةً بأنَّ عمر أقوى، وأفضل من يحمل المسؤوليَّة بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصَّحابة، ولم يخالف رأيه أحدٌ منهم، وحصل الإِجماع على بيعة عمر.
وأمَّا طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشُّورى في عددٍ محصورٍ، فقد حصر ستَّةً من صحابة رسول الله (ص)، كلُّهم بدريُّون، وكلُّهم توفِّي رسول الله (ص) وهو عنهم راضٍ، وكلُّهم يصلحون لتولِّي الأمر، ولو أنَّهم يتفاوتون، وحدَّد لهم طريقة الانتخاب، ومدَّته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة، وحدَّد الحكم في المجلس، والمرجِّح إِن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحدٍ أن يدخل، أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحلِّ، والعقد.
وهذا بيانُ ما أجمل في الفقرات السَّابقة:
أ ـ العدد الَّذي حدَّده للشُّورى، وأسماؤهم:
أمَّا العدد؛ فهو ستَّةٌ، وهم: عليُّ بن أبي طالبٍ، وعثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً. وترك سعيد بن زيد بن نفيل، وهو من العشرة المبشَّرين بالجنَّة؛ لأنَّه من قبيلته بني عديٍّ.
ب ـ طريقة انتخاب الخليفة:
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم، ويتشاوروا، وفيهم عبد الله بن عمر، يحضرهم مشيراً فقط، وليس له من الأمر شيء، ويصلِّي بالنَّاس أثناء التَّشاور صهيب الرُّومي، وأمر المقداد بن الأسود، وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات.
جـ. مدَّة الانتخابات، أو المشاورة:
حدَّدها الفاروق ـ رضي الله عنه ـ بثلاثة أيَّامٍ وهي فترةٌ كافيةٌ، وإِن زادوا عليها؛ فمعنى ذلك: أنَّ شقَّة الخلاف ستتَّسع، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرَّابع إِلا وعليكم أميرٌ.
د ـ عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:
لقد أمرهم بالاجتماع، والتَّشاور وحدَّد لهم: أنَّه إِذا اجتمع خمسةٌ منهم على رجلٍ، وأبى أحدهم؛ فليضرب رأسه بالسَّيف، وإِن اجتمع أربعةٌ، فرضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما.
وهذه من الرِّوايات الَّتي لا تصحُّ سنداً فهي من الغرائب الَّتي ساقها أبو مخنف مخالفاً فيها النُّصوص الصَّحيحة، وما عرف من سير الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ فما ذكره أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم ـ أي: أهل الشُّورى ـ فإِن اجتمع خمسةٌ، ورضوا رجلاً، وأبى واحدٌ؛ فاشدخ رأسه بالسَّيف، وإِن اتَّفق أربعةٌ، فرضَوا رجلاً منهم، وأبى اثنان؛ فاضرب رؤوسهما: فهذا قولٌ منكرٌ، وكيف يقول عمر ـ رضي الله عنه ـ هذا وهو يعلم أنَّهم هم الصَّفوة من أصحاب رسول الله (ص)، وهو الَّذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم، وقدرهم.
وقد ورد عن ابن سعدٍ: أنَّ عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيَّامٍ فإِن استقاموا؛ وإِلا فادخلوا عليهم، فاضربوا أعناقهم، وهذه الرِّواية منقطعةٌ، وفي إِسنادها (سماك بن حرب) وهو ضعيفٌ، وقد تغيَّر باخرةٍ.
والصَّحيح في هذا ما أخرجه ابن سعدٍ بإِسنادٍ رجاله ثقاتٌ: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قال لصهيبٍ: صلِّ بالنَّاس ثلاثاً، وليخل هؤلاء الرَّهط في بيتٍ، فإِذا اجتمعوا على رجلٍ فمن خالفهم فاضربوا رأسه.
فعمر ـ رضي الله عنه ـ أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرَّهط، ويشقَّ عصا المسلمين، ويفرِّق بينهم، عملاً بقوله (ص): «من أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ، يريد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرِّق جماعتكم، فاقتلوه».
هـ. الحكم في حال الاختلاف:
أوصى عمر بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس، وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإِن رضي ثلاثةٌ رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم؛ فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأيُّ الفريقين حكم له؛ فليختاروا رجلاً منهم، فإِن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الَّذين فيهم عبد الرَّحمن بن عوف، ووصف عبد الرَّحمن بن عوف بأنَّه مسدَّدٌ رشيدٌ، فقال عنه ـ ونعم ذو الرَّأي ـ: عبد الرَّحمن بن عوف مسدَّدٌ رشيدٌ، له من الله حافظٌ، فاسمعوا منه!
و ـ جماعة من جنود الله تراقب الانتخابات، وتمنع الفوضى:
طلب عمر أبا طلحة الأنصاري، وقال له: يا أبا طلحة! إِنَّ الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ أعزَّ الإِسلام بكم، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار، فاستحثَّ هؤلاء الرَّهط حتَّى يختاروا رجلاً منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إِذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرَّهط في بيتٍ حتَّى يختاروا رجلاً منهم.
هكذا ختم حياته ـ رضي الله عنه ـ ولم يشغله ما نزل به من البلاء، ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاماً صالحاً للشُّورى لم يسبقه إِليه أحدٌ، ولا يشكُّ أن أصل الشُّورى مقرر في القران والسُّنَّة القوليَّة والفعليَّة، وقد عمل بها رسول الله (ص)، وأبو بكر، ولم يكن عمر مبتدعاً بالنِّسبة للأصل، ولكنَّ الَّذي عمله عمر هو تعيين الطَّريقة الَّتي يختار بها الخليفة، وحَصْر عددٍ معيَّنٍ جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرَّسول (ص) ولا الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بل أوَّل من فعل ذلك عمر، ونعم ما فعل! فقد كانت أفضل الطُّرق المناسبة لحال الصَّحابة في ذلك الوقت.
ثالثاً. وصيَّة عمر ـ رضي الله عنه ـ للخليفة الَّذي بعده:
أوصى الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ الخليفة الَّذي سيخلفه في قيادة الأمَّة بوصيَّةٍ مهمَّةٍ، قال فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأوَّلين خيراً؛ أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإِنَّهم ردء العدوِّ، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إِلا عن فضلٍ منهم، وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإِنَّهم أصل العرب، ومادَّة الإِسلام، وأن يؤخذ من حواشي أموالهم فَيُردَّ على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذِّمَّة خيراً، أن تقاتل مَنْ وراءهم ولا تكلِّفهم فوق طاقتهم إِذا أدَّوا ما عليهم للمؤمنين طوعاً، أو عن يدٍ وهم صاغرون، وأوصيك بتقوى الله، والحذر منه، ومخافة مقته أن يطَّلع منك على ريبةٍ، وأوصيك أن تخشى الله في النَّاس، ولا تخشى النَّاس في الله، وأوصيك بالعدل في الرَّعيَّة، والتَّفرُّغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم، فإِنَّ في ذلك بإِذن الله سلامة قلبك، وحطَّاً لوزرك، وخيراً في عاقبة أمرك حتَّى تفضي في ذلك إِلى من يعرف سريرتك، ويحول بينك وبين قلبك، وامرك أن تشتدَّ في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه على قريب النَّاس، وبعيدهم، ثمَّ لا تأخذك في أحدٍ الرَّأفة، حتَّى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل النَّاس عندك سواءً، لا تبال على من وجب الحقُّ، ولا تأخذك في الله لومة لائمٍ.

وإِيَّاك والمحاباة فيما ولاك الله ممَّا أفاء على المؤمنين، فتجور، وتظلم، وتحرك نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلةٍ من منازل الدُّنيا والاخرة، فإِن اقترفت لدنياك عدلاً، وعفَّةً عمَّا بسط لك؛ اقترفت به إِيماناً، ورضواناً، وإِن غلبك الهوى؛ اقترفت به غضب الله، وأوصيك ألا ترخِّص لنفسك، ولا لغيرك في ظلم أهل الذِّمَّة، وقد أوصيتك، وخصصتك، ونصحتك فابتغِ بذلك وجه الله، والدَّار الاخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالاًّ عليه نفسي، وولدي، فإِن عملت بالَّذي وعظتك، وانتهيت إِلى الَّذي أمرتك؛ أخذت منه نصيباً وافراً، وحظَّاً وافياً، وإِن لم تقبل ذلك، ولم يهمَّك، ولم تترك معاظم الأمور عند الَّذي يرضى به الله عنك؛ يكن ذلك انتقاصاً، ورأيك فيه مدخولاً؛ لأنَّ الأهواء مشتركةٌ، ورأس الخطيئة إِبليس داعٍ إِلى كلِّ مهلكة، وقد أضلَّ القرون السَّالفة قبلك، فأوردهم النَّار، وبئس الورد المورود ! وبئس الثَّمن أن يكون حظُّ امرأىٍ موالاةً لعدوِّ الله، الدَّاعي إِلى معاصيه.

ثمَّ اركب الحقَّ، وخُضْ إِليه الغمرات، وكن واعظاً لنفسك، وأناشدك الله إِلا ترحَّمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقَّرت عالمهم، ولا تضربهم؛ فيذلُّوا، ولا تستأثر عليهم بالفيء، فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلِّها، فتفقرهم، ولا تجمِّرهم في البعوث، فينقطع نسلهم، ولا يجعل المال دُولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويُّهم ضعيفهم، هذه وصيَّتي إِليك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السَّلام.

هذه الوصيَّة تدلُّ على بعد نظر عمر في مسائل الحكم، والإِدارة، وتفصح عن نهج ونظام حكمٍ، وإِدارةٍ متكاملٍ، فقد تضمَّنت الوصيَّة أموراً غايةً في الأهمِّيَّة، فحقَّ أن تكون وثيقةً نفيسةً؛ لما احتوته من قواعد، ومبادئ أساسيَّةً للحكم متكاملة الجوانب الدِّينيَّة، والسِّياسيَّة، والعسكريَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، يأتي في مقدِّمتها:
1 ـ النَّاحية الدِّينيَّة: وتضمَّنت:
أ ـ الوصيَّة بالحرص الشَّديد على تقوى الله، والخشية منه في السِّرِّ والعلن، في القول والعمل؛ لأنَّ من اتَّقى الله؛ وقاه، ومن خشيه؛ صانه، وحماه (أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له) (وأوصيك بتقوى الله والحذر منه.. وأوصيك أن تخشى الله).
ب ـ إِقامة حدود الله على القريب، والبعيد (لا تبال على من وجب الحقُّ) (ولا تأخذك في الله لومة لائمٍ) لأنَّ حدود الله نصَّت عليها الشَّريعة فهي من الدِّين، ولأنَّ الشَّريعة حجَّةٌ على النَّاس، وأعمالهم وأفعالهم تقاس بمقتضاها، وأنَّ التَّغافل عنها إِفسادٌ للدِّين، والمجتمع.
ج ـ الاستقامة {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشُّورى: 42] وهي من الضَّرورات الدِّينيَّة، والدُّنيويَّة الَّتي يجب على الحاكم التَّحلِّي بها قولاً، وعملاً أوَّلاً، ثمَّ الرَّعيَّة (كن واعظاً لنفسك) (وابتغِ بذلك وجه الله والدَّار الآخرة).
2 ـ النَّاحية السِّياسيَّة: وتضمَّنت:
أ ـ الالتزام بالعدل؛ لأنَّه أساس الحكم، وإِنَّ إِقامته بين الرَّعيَّة تُحقِّق للحكم قوَّةً، وهيبةً، ومتانةً سياسيَّةً، واجتماعيَّةً، وتزيد من هيبة، واحترام الحاكم في نفوس النَّاس (وأوصيك بالعدل) (واجعل النَّاس عندك سواء).
ب ـ العناية بالمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لسابقتهم في الإسلام، ولأنَّ العقيدة، وما أفرزته من نظامٍ سياسيٍّ قام على أكتافهم، فهم أهله، وحملته، وحماته (وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم).
3 ـ النَّاحية العسكريَّة: وتضمَّنت:
أ ـ الاهتمام بالجيش، وإِعداده إِعداداً يتناسب وعظم المسؤوليَّة الملقاة على عاتقه لضمان أمن الدَّولة، وسلامتها، والعناية بسدِّ حاجات المقاتلين (التَّفرُّغ لحوائجهم، وثغورهم).
ب ـ تجنُّب إِبقاء المقاتلين لمدَّة طويلةٍ في الثُّغور بعيداً عن عوائلهم، وتلافياً لما قد يسبِّب ذلك من مللٍ، وقلقٍ، وهبوطٍ في المعنويَّات، فمن الضَّروري منحهم إِجازاتٍ معلومةً في أوقاتٍ معلومةٍ، يستريحون فيها، ويجدِّدون نشاطهم خلالها من جهةٍ، ويعودون إِلى عوائلهم لكي لا ينقطع نسلهم من جهة ثانيةٍ (ولا تجمِّرهم في الثُّغور، فينقطع نسلهم) (وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإِنَّهم درء العدوِّ).
ج ـ إِعطاء كلِّ مقاتلٍ ما يستحقُّه من فيءٍ، وعطاءٍ، وذلك لضمان موردٍ ثابتٍ له، ولعائلته يدفعه إِلى الجهاد، ويصرف عنه التَّفكير في شؤونه الماليَّة (ولا تستأثر عليهم بالفيء؛ فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلِّها؛ فتفقرهم).
4 ـ النَّاحية الاقتصاديَّة والماليَّة: وتضمَّنت:
أ ـ العناية بتوزيع الأموال بين النَّاس بالعدل، والقسطاس المستقيم، وتلافي كل ما من شأنه تجميع الأموال عند طبقةٍ منهم دون أخرى (ولا تجعل الأموالَ دُولةً بين الأغنياء منهم).
ب ـ عدم تكليف أهل الذِّمَّة فوق طاقتهم؛ إِن هم أدَّوا ما عليهم من التزاماتٍ ماليَّةٍ للدَّولة (ولا تكلِّفهم فوق طاقتهم إِذا أدَّوا ما عليهم للمؤمنين).
ج ـ ضمان الحقوق الماليَّة للنَّاس، وعدم التَّفريط بها، وتجنُّب فرض ما لا طاقة لهم به (ولا تحمل منهم إِلا عن فضلٍ منهم) (أن يؤخذ من حواشي أموالهم فيُردَّ على فقرائهم.
5 ـ النَّاحية الاجتماعيَّة: وتضمَّنت:
أ ـ الاهتمام بالرَّعيَّة، والعمل على تفقُّد أمورهم، وسدِّ احتياجاتهم، وإِعطائهم حقوقهم من فيءٍ وعطاءٍ (ولا تحرمهم عطاياهم عند محلِّها).
ب ـ اجتناب الأثرة، والمحاباة، واتِّباع الهوى، لما فيها من مخاطر تقود إِلى انحراف الرَّاعي، وتؤدِّي إِلى فساد المجتمع، واضطراب علاقاته الإِنسانيَّة (وإِيَّاك والأثرة، والمحاباة فيما ولاَّك الله) (ولا تؤثر غنيَّهم على فقيرهم).
ج ـ احترام الرَّعيَّة، وتوقيرها، والتَّواضع لها، صغيرها، وكبيرها؛ لما في ذلك من سموٍّ في العلاقات الاجتماعيَّة، تؤدِّي إِلى زيادة تلاحم الرَّعيَّة بقائدها، وحبِّها له (وأناشدك الله إِلا ترحَّمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقَّرت عالمهم).
د ـ الانفتاح على الرَّعيَّة، وذلك بسماع شكواهم، وإِنصاف بعضهم من بعضٍ، وبعكسه تضطرب العلاقات بينهم، ويعمُّ الارتباك في المجتمع (ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويُّهم ضعيفهم).
هـ اتِّباع الحقِّ، والحرص على تحقيقه في المجتمع، وفي كلِّ الظُّروف والأحوال، لكونه ضرورةً اجتماعيَّةً لا بدَّ من تحقيقها بين النَّاس، (ثمَّ اركب الحقَّ، وخُضْ إِليه الغمرات) (واجعل النَّاس عندك سواءً، لا تبالِ على من وجب الحقُّ).
و ـ اجتناب الظُّلم بكلِّ صُوره، وأشكاله خاصَّةً مع أهل الذِّمَّة؛ لأنَّ العدل مطلوبٌ إِقامته بين جميع رعايا الدَّولة مسلمين، وذمِّيِّين، لينعم الجميع بعدل الإِسلام (وأوصيك ألا ترخِّص لنفسك، ولا لغيرك في ظلم أهل الذِّمَّة).
ز ـ الاهتمام بأهل البادية، ورعايتهم والعناية بهم (وأوصيك بأهل البادية خيراً فإِنَّهم أصل العرب، ومادَّة الإِسلام.
ح ـ وكان من ضمن وصيَّة عمر لمن بعده: ألا يقرَّ لي عاملٌ أكثر من سنةٍ، وأقرُّوا الأشعريَّ أربع سنين.
رابعاً: اللَّحظات الأخيرة من حياة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:
هذا ابن عبَّاسٍ ـ رضي الله عنه ـ يصف لنا اللَّحظات الأخيرة في حياة الفاروق، حيث يقول: دخلت على عمر حين طُعن، فقلت: أبشر بالجنَّة يا أمير المؤمنين! أسلمت حين كفر النَّاس، وجاهدت مع رسول الله (ص) حين خذله النَّاس، وقبض رسول الله (ص) وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقتلت شهيداً. فقال عمر: أعد عليَّ. فأعدت عليه، فقال: والله الَّذي لا إِله إِلا هو! لو أنَّ لي ما في الأرض من صفراء، وبيضاء؛ لافتديت به من هول المطلع.
وجاء في رواية البخاريِّ، أمَّا ما ذكرت من صحبة رسول الله (ص) ورضاه؛ فإِنَّ ذلك من الله ـ جلَّ ذكره ـ منَّ به عليَّ، وأمَّا ما ترى من جزعي؛ فهو من أجلك، وأجل أصحابك، والله! لو أنَّ طلاع الأرض ذهباً؛ لافتديت به من عذاب الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ قبل أن أراه.
لقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يخاف هذا الخوف العظيم من عذاب الله تعالى مع أنَّ النَّبيَّ (ص) شهد له بالجنَّة، ومع ما كان يبذل من جهدٍ كبيرٍ في إقامة حكم الله، والعدل، والزُّهد، والجهاد، وغير ذلك من الأعمال الصَّالحة، وإِنَّ في هذا لدرساً بليغاً للمسلمين عامَّةً في تذكُّر عذاب الله الشَّديد، وأهوال يوم القيامة.
وهذا عثمان ـ رضي الله عنه ـ يحدِّثنا عن اللَّحظات الأخيرة في حياة الفاروق، فيقول: أنا اخركم عهداً بعمر، دخلت عليه، ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر، فقال له: ضع خدِّي بالأرض، قال: فهل فخذي والأرض إِلا سواء ؟ قال: ضع: خدِّي بالأرض لا أمَّ لك ! ـ في الثَّانية، أو في الثَّالثة ـ ثمَّ شبَّك بين رجليه، فسمعته يقول: ويلي، وويل أمِّي إِن لم يغفر الله لي ! حتَّى فاضت روحه.
فهذا مثلٌ ممَّا كان يتَّصف به أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ من خشية الله تعالى، حتَّى كان اخر كلامه الدُّعاء على نفسه بالويل؛ إِن لم يغفر الله جلَّ، وعلا له، مع أنَّه أحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، ولكن مَنْ كان بالله أعرف؛ كان من الله أخوف، وإِصراره على أن يضع ابنه خدَّه على الأرض من باب إِذلال النَّفس في سبيل تعظيم الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ ليكون ذلك أقرب لاستجابة دعائه، وهذه صورةٌ تبيِّن لنا قوَّة حضور قلبه مع الله جلَّ، وعلا.
1 ـ تاريخ موته، ومبلغ سنِّه:
قال الذَّهبي: استشهد يوم الأربعاء لأربعٍ أو ثلاث بقين من ذي الحجَّة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاثٍ وستِّين سنةَّ على الصَّحيح، وكانت خلافته عشر سنين، ونصفاً وأيَّاماً، وجاء في تاريخ أبي زرعة عن جرير البجلي، قال: كنت عند معاوية، فقال: توفِّي رسول الله (ص) وهو ابن ثلاثٍ وستِّين، وتوفِّي أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وهو ابن ثلاثٍ وستِّين، وقتل عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو ابن ثلاثٍ وستِّين.
2 ـ غسله، والصَّلاة عليه، ودفنه:
عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنَّه غُسِّل، وكُفِّن، وصلِّي عليه، وكان شهيداً. وقد اختلف العلماء فيمن قتل مظلوماً: هل هو كالشَّهيد لا يغسَّل، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنَّه يغسَّل، وهذا حجَّةٌ لأصحاب هذا القول.
والثَّاني: لا يُغسَّل، ويُصلَّى عليه. والجواب من قصَّة عمر: أنَّ عمر عاش بعد أن ضُرب وأقام مدَّةً، والشَّهيد ـ حتَّى شهيد المعركة ـ لو عاش بعد أن ضرب حتَّى أكل، وشرب، أو طال مقامه؛ فإِنَّه يُغسَّل، ويصلَّى عليه، وعمر طال مقامه حتَّى شرب الماء، وما أعطاه الطَّبيب، فلهذا غُسِّل، وصُلِّي عليه، رضي الله عنه.
3 ـ مَن صلَّى عليه؟
قال الذَّهبيُّ: صلَّى عليه صهيب بن سنان. وقال ابن سعد: وسأل عليُّ بن الحسين سعيد بن المسيب: من صلَّى على عمر؟ قال: صهيب، قال: كم كبَّر عليه؟ قال: أربعاً، وقال: أين صُلِّي عليه؟ قال: بين القبر، والمنبر.
وقال ابن المسيِّب: نظر المسلمون فإِذا صهيبٌ يُصلِّي لهم المكتوبات بأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ فقدَّموه، فصلَّى على عمر، ولم يقدِّم عمر ـ رضي الله عنه ـ أحداً من السِّتَّة المرشَّحين للخلافة حتَّى لا يظنَّ تقديمه للصَّلاة ترشيحاً له من عمر، كما أنَّ صهيباً كانت له مكانته الكبيرة عند عمر، والصَّحابة رضي الله عنهم، وقد قال في حقِّه الفاروق: نعم العبد صهيبٌ، لو لم يخف الله؛ لم يعصه.
4 ـ دفنه رضي الله عنه:
قال الذَّهبيُّ: دُفن في الحجرة النَّبويَّة. وذكر ابن الجوزي عن جابرٍ قال: نزل في قبر عمر عثمان، وسعيدُ بن زيدٍ، وصهيبٌ، وعبد الله بن عمر. وعن هشام بن عروة، قال: لمَّا سقط عنهم ـ يعني: قبر النَّبيِّ (ص) وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما ـ في زمن الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدمٌ، ففزعوا، وظنُّوا: أنَّها قدم النَّبيِّ (ص) فما وجدوا أحداً يعلم ذلك، حتَّى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النَّبي (ص) ! ما هي إِلا قدم عمر ـ رضي الله عنه ـ وقد مرَّ معنا: أنَّ عمر أرسل إِلى عائشة ـ رضي الله عنهما ـ ائذني لي أن أُدفن مع صاحبيَّ، فقالت: (أي والله !) وقال هشام بن عروة بن الزُّبير: وكان الرَّجل إِذا أرسل إِليها ـ أي: عائشة ـ من الصَّحابة؛ قالت: لا والله لا أوثرهم بأحدٍ أبداً.
ولا خلاف بين أهل العلم: أنَّ النَّبيَّ (ص)، وأبا بكرٍ وعمر ـ رضي الله عنهما ـ في هذا المكان من المسجد النَّبويِّ على صاحبه أفضل الصَّلاة والسَّلام.
5 ـ ما قاله عليُّ بن أبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ في الفاروق:
قال ابن عبَّاسٍ: وُضع عمر على سريره، فتكنَّفه النَّاس يدعون، ويصلُّون قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعني إِلا رجلٌ اخذٌ منكبي، فإِذا عليُّ بن أبي طالبٍ، فترحَّم على عمر، وقال: ما خَلَّفتُ أحداً أحبَّ إِليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله! إِن كنت لأظنُّ أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أنِّي كنت كثيراً أسمع النَّبيَّ (ص) يقول: «ذهبت أنا، وأبو بكرٍ، وعمر، ودخلت أنا، وأبو بكرٍ، وعمر، وخرجت أنا، وأبو بكرٍ، وعمر».
6 ـ أثر مقتله على المسلمين:
كان هول الفاجعة عظيماً على المسلمين، فلم تكن الحادثة بعد مرضٍ ألمَّ بعمر، كما كان يزيد من هولها كونها في المسجد، وعمر يؤمُّ النَّاس لصلاة الصُّبح. ومعرفة حال المسلمين بعد وقوع الحدث يطلعنا على أثر الحادث في نفوسهم، يقول عمرو بن ميمون:.. وكأنَّ النَّاس لم تصبهم مصيبةٌ قبل يومئذٍ. ويذهب ابن عبَّاسٍ ليستطلع الخبر بعد مقتل عمر ليقول له: إِنَّه ما مرَّ بملأً إِلا وهم يبكون، وكأنَّهم فقدوا أبكار أولادهم.
لقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ مَعْلَماً من معالم الهُدى، وفارقاً بين الحقِّ والباطل، فكان من الطَّبيعي أن يتأثَّر النَّاس لفقده، وهذا الأثر يوضِّح شدَّة تأثُّر النَّاس عليه، فعن الأحنف بن قيس: قال: فلمَّا طُعن عمر أمر صُهيباً أن يصلِّي بالنَّاس، ويطعمهم ثلاثة أيَّامٍ حتَّى يجتمعوا على رجلٍ، فلمَّا وضعت الموائد كفَّ النَّاس عن الطَّعام، فقال العبَّاس: يا أيُّها النَّاس! إِنَّ رسول الله (ص) قد مات، فأكلنا بعده، وشربنا، ومات أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فأكلنا، وإِنَّه لا بدَّ للنَّاس من الأكل، والشُّرب، فمدَّ يده، فأكل النَّاس.
وكان عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عندما يُذكر له عمر؛ يبكي حتَّى تبتلَّ الحصى من دموعه، ثمَّ يقول: إِنَّ عمر كان حصناً للإِسلام، يدخلون فيه، ولا يخرجون منه، فلمَّا مات انثلم الحصن، فالنَّاس يخرجون من الإِسلام.
وأمَّا أبو عبيدة بن الجرَّاح، فقد كان يقول قبل أن يُقتل عمر: إِن مات عمر؛ رقَّ الإِسلام، ما أحبُّ أنَّ لي ما تطلع عليه الشَّمس، أو تغرب وأن أبقى بعد عمر، فقيل له: لِم؟ قال: سترون ما أقول إِن بقيتم، وأمَّا هو فإِن وُلِّي والٍ بعدُ، فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به؛ لم يطع له النَّاس بذلك، ولم يحملوه، وإِن ضعف عنهم؛ قتلوه.
المصادر والمراجع:
1. الإِدارة الإِسلاميَّة في عصر عمر بن الخطَّاب، ص (381)
2. أشهر مشاهير الإِسلام في الحرب والسِّياسة، ص (648).
3. أوَّليَّات الفاروق، ص (122).
4. البخاريُّ، كتاب المناقب، رقم (3700).
5. البداية والنِّهاية (7/142).
6. تاريخ الطَّبري (5/226).
7. الخليفة الفاروق عمر بن الخطَّاب للعاني، ص (161).
8. سير السَّلف لأبي القاسم الأصفهاني (1/160).
9. صحيح التَّوثيق في سيرة وحياة الفاروق، ص (370).
10. الطَّبقات لابن سعد (3/339)، البيان والتبيين للجاحظ (3/46)، جمهرة خطب العرب (1/263 ـ 265)، الكامل في التَّاريخ (2/210)، الخليفة الفاروق عمر بن الخطَّاب للعاني، ص (171، 172).
11. الطَّبقات لابن سعد (3/364).
12. العشرة المبشَّرون بالجنَّة، محمَّد صالح عوض، ص (44).
13. مرويات أبي مخنف في تاريخ الطَّبري د. يحيى اليحيى، ص (175).
14. مرويات أبي مخنف من تاريخ الطَّبري، ص (176).
15. مسلم، فضائل الصَّحابة، رقم (2352)، محض الصَّواب (3/843).
ويمكنكم تحميل كتاب "فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب" من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا رابط الكتاب:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/04_omarbnkhatab.pdf
قد تكون صورة ‏شخص واحد‏

أبو حفص عمر بن الخطاب العدوي القرشي، المُلقب بالفاروق، هو ثاني الخلفاء الراشدين ومن كبار أصحاب الرسول محمد، وأحد أشهر الأشخاص والقادة في التاريخ الإسلامي ومن أكثرهم تأثيرًا ونفوذًا.هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن علماء الصحابة وزهّادهم. تولّى الخلافة الإسلامية بعد وفاة أبي بكر الصديق في 23 أغسطس سنة 634م، الموافق للثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 13 هـ. 


كان ابن الخطّاب قاضيًا خبيرًا وقد اشتهر بعدله وإنصافه الناس من المظالم، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين،وكان ذلك أحد أسباب تسميته بالفاروق، لتفريقه بين الحق والباطل.هو مؤسس التقويم الهجري،وفي عهده بلغ الإسلام مبلغًا عظيمًا، وتوسع نطاق الدولة.

الإسلامية تىشمل كامل العراق ومصر وليبيا والشام وفارس وخراسان وشرق الأناضول وجنوب أرمينية وسجستان، وهو الذي أدخل القدس تحت حكم المسلمين لأول مرة وهي ثالث أقدس المدن في الإسلام، وبهذا استوعبت الدولة الإسلامية كامل أراضي الإمبراطورية الفارسية الساسانية وحوالي ثلثيّ أراضي الامبراطورية البيزنطية.  


تجلّت عبقرية عمر بن الخطاب العسكرية في حملاته المنظمة المتعددة التي وجهها لإخضاع الفرس الذين فاقوا المسلمين قوة، فتمكن من فتح كامل إمبراطوريتهم خلال أقل من سنتين، كما تجلّت قدرته وحنكته السياسية والإدارية عبر حفاظه على تماسك ووحدة دولة كان حجمها يتنامى يومًا بعد يوم ويزداد عدد سكانها وتتنوع أعراقها.هو: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر وهو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، العدوي القرشي.


وهو ابن عمّ زيد بن عمرو بن نفيل الموحد على دين إبراهيم. وأخوه الصحابي زيد بن الخطاب والذي كان قد سبق عمر إلى الإسلام. ويجتمع نسبه مع الرسول محمد في كعب بن لؤي بن غالب.

  • أمه:حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر وهو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

وهي ابنة عمّ كلٍ من أم المؤمنين أم سلمة والصحابي خالد بن الوليد وعمرو بن هشام المعروف بلقب أبي جهل. ويجتمع نسبها مع النبي محمد في كلاب بن مرة.

نشأته

ولد بعد عام الفيل، وبعد مولد الرسول محمد بثلاث عشرة سنة.وكان منزل عمر في الجاهلية في أصل الجبل الذي يقال له اليوم جبل عمر، وكان اسم الجبل في الجاهلية العاقر وبه منازل بني عدي بن كعب، نشأ في قريش وامتاز عن معظمهم بتعلم القراءة. وعمل راعيًا للإبل وهو صغير، وكان والده غليظًا في معاملته.

 وكان يرعى لوالده ولخالات له من بني مخزوم. وتعلم المصارعة وركوب الخيل والفروسية، والشعر. 

وكان يحضر أسواق العرب وسوق عكاظ وسوق مجنة وسوق ذي المجاز، فتعلم بها التجارة، التي ربح منها وأصبح من أغنياء مكة، رحل صيفًا إلى بلاد الشام وإلى اليمن في الشتاء، وكان عمر من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة فهو سفير قريش، فإن وقعت حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيراً، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به، بعثوه منافرًا ومفاخرًا.

نشأ عمر في البيئة العربية الجاهلية الوثنية على دين قومه، كغيره من أبناء قريش، وكان مغرمًا بالخمر والنساء.


معاداة عمر للمسلمين

يتفق المؤرخون وعلماء الشريعة على أن النبي محمدًا بُعث سنة 610م وهو في الأربعين من عمره، وكانت الدعوة الإسلامية في بداية عهدها دعوة سريّة، وبعد مضيّ ثلاث سنين من بعثته، أُمِرَ النبي بالجهر في دعوة الناس إلى الإسلام، فعاداه القرشيون لا سيما بعد أن بدأ يُحقّر من شأن آلهتهم؛ هُبل واللات والعزى ومن شأن الأصنام جميعها. وهبّ سادة قريش إلى الدفاع عن معتقداتهم، وأخذوا يعتدون على المسلمين ويؤذونهم. وكان عمر بن الخطاب من ألد أعداء الإسلام وأكثر أهل قريش أذى للمسلمين، وكان غليظ القلب تجاههم فقد كان يعذِّب جارية له علم بإسلامها من أول النهار حتى آخره، ثم يتركها نهاية الأمر ويقول: "والله ما تركتك إلا ملالةً"، ومن شدة قسوته جنّد نفسه يتبع محمدا أينما ذهب، فكلما دعا أحدًا إلى الإسلام أخافه عمر وجعله يفر من تلك الدعوة.


بعد أن أمر النبي محمد المسلمين في مكة بالهجرة إلى الحبشة جعل عمر يتخوف من تشتت أبناء قريش وانهيار أسس القبيلة العريقة عندهم، فقرر الحيلولة دون ذلك بقتل النبي مقابل أن يقدم نفسه لبني هاشم ليقتلوه فتكون قريش قد تخلصت مما يهددها به هذا الدين الجديد.

إسلامه

كان عمر يخفي وراء تلك القسوة والشدة رقة نادرة، تحكي هذا زوجة عامر بن ربيعة حليف بني عدي، وذلك حينما رآها عمر وهي تعد نفسها للهجرة إلى الحبشة، فقال لها كلمة شعرت من خلالها برقة عذبة في داخله، وأحست بقلبها أنه من الممكن أن يسلم عمر، وذلك أنه قال لها: "صحبكم الله".

 لم تتوان زوجة عامر بن ربيعة في أن تخبر زوجها بما رأت من عمر، فرد عليها بقوله: "أطمعت في إسلامه؟" قالت: "نعم". ولأن الانطباعات الأولى ما زالت محفورة في نفسه، رد عليها زوجها بقوله: "فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب".


في هذه الفترة كان عمر بن الخطاب يعيش صراعًا نفسيًا حادًا، فقد حدثه قلبه بأن هؤلاء الناس قد يكونون على صواب، ورأى أن ثباتهم عجيب جدًّا فيما يتعرضون له، وهم يقرؤون كلامًا غريبًا لم تسمع قريش بمثله من قبل، هذا إضافةً إلى أن رئيسهم محمدًا ليس عليه من الشبهات شيء، فهو الصادق الأمين باعتراف أعدائه من القرشيين.

 وفي الوقت نفسه حدثه عقله بأنه سفير قريش، وقائد من قادتها، والإسلام سيضيّع كل هذا، فذلك الدين قسم مكة إلى نصفين، نصف يؤمن به ونصف يحاربه، فمنذ ست سنوات والقرشيون يعانون المتاعب والمشاكل بسببه، ويدخلون في مناظرات ومحاورات. وفي غمار هذا الصراع الداخلي ولأن من طبعه الحسم وعدم التردد، فقد قرر أن ينتهي من كل ما يؤرقه، وأراد أن يخلص نفسه ويخلص مكة كلها ممن أحدث فيها هذه البدع وتلك المشاكل، فقرر أن يقوم بما فكر فيه كثير من مشركي قريش قبل ذلك، لكنهم لم يفلحوا فيه، ألا وهو قتل محمد.


وكان قد دفعه إلى أخذ هذا القرار -أيضًا- ما حدث قبل يومين من إهانة شديدة لأبي جهل في مكة على يد عم النبي محمد حمزة بن عبد المطلب، والذي أصبح على الإسلام، وكان الدافع لذلك نابعاً من أن أبا جهل كان خال عمر بن الخطاب، فرأى عمر أنه قد أصيب في كرامته تمامًا كما أصيب أبو جهل، ورد الاعتبار في حالة كهذه عند العرب يكون عادة بالسيف. 


فسن سيفه وخرج من داره قاصدًا النبي محمدًا، وفي الطريق لقيه نُعَيم بن عبد الله العدوي القرشي وكان من المسلمين الذين أخفوا إسلامهم، فقال له: «أين تريد يا عمر؟»، فرد عليه قائلا: «أريد محمدا هذا الصابي الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله.»، فلمّا عرف أنه يتجه لقتل النبي قال له: «والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا ؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ فإن ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب قد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه؛ فعليك بهما. 

فانطلق مسرعًا غاضبًا إليهما، فوجد الصحابي خباب بن الأرت يجلس معهما يعلمهما القرآن، فضرب سعيدًا، ثم ضرب فاطمة ضربة قوية شقت وجهها، فسقطت منها صحيفة كانت تحملها، وحين أراد عمر قراءة ما فيها أبت أخته أن يحملها إلا أن يتوضأ، فتوضأ عمر وقرأ الصحيفة وإذ فيها: Ra bracket.png طه Aya-1.png مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى Aya-2.png إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى Aya-3.png تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا Aya-4.png الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى Aya-5.png لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى Aya-6.png La bracket.png،


 فاهتز عمر وقال: "ما هذا بكلام البشر" وأسلم من ساعته، في ذلك اليوم من شهر ذي الحجة من السنة الخامسة من البعثة، وذلك بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب بثلاثة أيام، وقد كان يبلغ من العمر ما يقارب الثلاثين سنة، أو بضعًا وعشرين سنة، على اختلاف الروايات. خرج عمر بعد ذلك إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كان يجتمع النبي محمد بأصحابه وأعلن إسلامه هناك. وفق المصادر الإسلامية فقد استجاب الله لدعوة النبي محمد، إذ قال: 


«اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين، عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام. قال: "وكان أحبهما إليه عمر".» وكان قد سبق عمر إلى الإسلام تسعة وثلاثون صحابيًا فكان هو متممًا للأربعين، فعن ابن عباس أنه قال: «أسلم مع رسول الله  تسعة وثلاثون رجلاً، ثم إن عمر أسلم، فصاروا أربعين، فنزل جبريل  بقوله كلمة تعالى.png: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.»

وفي رواية أخرى أن عمر أسلم بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة -في السنة الخامسة للبعثة– أي أنه أسلم في السنة السادسة للبعثة. كما روي أن عمر قد أسلم قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بقليل في السنة الثالثة عشرة من البعثة. حيث ذكر بعض المؤرخين أن عمر أسلم بعد 40 أو 45 رجلاً، بينما كان كل المهاجرين من المسلمين الذين آخا النبي بينهم وبين الأنصار في المدينة المنورة لا يتجاوزون هذا العدد إلا بقليل، وعليه تُرجّح بعض الروايات أن عمر كان من أواخر من أسلموا من المهاجرين حيث ذكر بعض المؤرخين أن عمر دنا من محمد في مكة وهو يصلي ويجهر بالقراءة فسمعه يقرأ في صلاته الجهرية بالمسجد الحرام آيتين من سورة العنكبوت: 

Ra bracket.png وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ Aya-48.png بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ Aya-49.png La bracket.png، فتأثر عمر وأسلم. وقد كانت سورة العنكبوت آخر سورة نزلت في مكة قبل الهجرة إلى يثرب.


كان المسلمون قبل إسلام عمر وحمزة يخفون إيمانهم خوفًا من تعرضهم للأذى، لقلة حيلتهم وعدم وجود من يدافع عنهم، أما بعد إسلامهما فأصبح للمسلمين من يدافع عنهم ويحميهم، لا سيما أنهما كانا من أشد الرجال في قريش وأمنعهم، وكان عمر يجاهر بالإسلام ولا يخشى أحدًا، فلم يرضَ مثلًا عن أداء المسلمين للصلاة في شعاب مكة بعيدين عن أذى قريش، بل فضل مواجهة القوم بكل عزم، فقام وقال للنبي:


"يا رسول الله ألسنا على الحق؟"، فأجابه: "نعم"، قال عمر:"أليسوا على الباطل؟"، فأجابه: "نعم"، فقال عمر بن الخطاب: "ففيمَ الخفية؟"، قال النبي: "فما ترى يا عمر؟"، قال عمر: "نخرج فنطوف بالكعبة"، فقال له النبي: "نعم يا عمر"، فخرج المسلمون لأول مرة يكبرون ويهللون في صفين، صف على رأسه عمر بن الخطاب وصف على رأسه حمزة بن عبد المطلب وبينهما النبي محمد، حتى دخلوا وصلّوا عند الكعبة. ومن بعيدٍ نظرت قريش إلى عمر وإلى حمزة وهما يتقدمان المسلمين، فَعَلتْ وجوهَهُم كآبة شديدة، يقول عمر: «فسماني رسول الله  الفاروق يومئذٍ».


كان إسلام عمر حدثًا بارزًا في التاريخ الإسلامي، فقد قوّى وجوده في صف المسلمين شوكتهم، وأصبح لهم من يُدافع عنهم ويحميهم من أذى من بقي على الوثنية، ويُلاحظ فرحة المسلمين بإسلام عمر في عدّة أقوال منسوبة إلى عدد من الصحابة، منها ما قاله صهيب الرومي: «لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودُعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به»، وما قاله عبد الله بن مسعود: «ما كنا نقدر أن نصلّي عند الكعبة حتى أسلم عمر»، و:«ما زلنا أعِزَّة منذ أسلم عمر».

هجرته إلى المدينة وحياته فيها

كان عمر يخفي وراء تلك القسوة والشدة رقة نادرة. تحكي هذا زوجة عامر بن ربيعة حليف بني عدي، وذلك حينما رآها عمر وهي تعد نفسها للهجرة إلى الحبشة، فقال لها كلمة شعرت من خلالها برقة عذبة في داخله، وأحست بقلبها أنه من الممكن أن يسلم عمر، وذلك أنه قال لها: "صحبكم الله". لم تتوان زوجة عامر بن ربيعة في أن تخبر زوجها بما رأت من عمر، فرد عليها بقوله: "أطمعت في إسلامه؟" قالت: "نعم". ولأن الانطباعات الأولى ما زالت محفورة في نفسه، رد عليها زوجها بقوله: "فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب".

في هذه الفترة كان عمر بن الخطاب يعيش صراعًا نفسيًا حادًا، فقد حدثه قلبه بأن هؤلاء الناس قد يكونون على صواب، ورأى أن ثباتهم عجيب جدًّا فيما يتعرضون له، وهم يقرؤون كلامًا غريبًا لم تسمع قريش بمثله من قبل، هذا إضافةً إلى أن رئيسهم محمدًا ليس عليه من الشبهات شيء، فهو الصادق الأمين باعتراف أعدائه من القرشيين. 

وفي الوقت نفسه حدثه عقله بأنه سفير قريش، وقائد من قادتها، والإسلام سيضيّع كل هذا، فذلك الدين قسم مكة إلى نصفين، نصف يؤمن به ونصف يحاربه، فمنذ ست سنوات والقرشيون يعانون المتاعب والمشاكل بسببه، ويدخلون في مناظرات ومحاورات. وفي غمار هذا الصراع الداخلي ولأن من طبعه الحسم وعدم التردد، فقد قرر أن ينتهي من كل ما يؤرقه، وأراد أن يخلص نفسه ويخلص مكة كلها ممن أحدث فيها هذه البدع وتلك المشاكل، فقرر أن يقوم بما فكر فيه كثير من مشركي قريش قبل ذلك، لكنهم لم يفلحوا فيه، ألا وهو قتل محمد.

وكان قد دفعه إلى أخذ هذا القرار -أيضًا- ما حدث قبل يومين من إهانة شديدة لأبي جهل في مكة على يد عم النبي محمد حمزة بن عبد المطلب، والذي أصبح على الإسلام، وكان الدافع لذلك نابعاً من أن أبا جهل كان خال عمر بن الخطاب، فرأى عمر أنه قد أصيب في كرامته تمامًا كما أصيب أبو جهل، ورد الاعتبار في حالة كهذه عند العرب يكون عادة بالسيف. 

فسن سيفه وخرج من داره قاصدًا النبي محمدًا، وفي الطريق لقيه نُعَيم بن عبد الله العدوي القرشي وكان من المسلمين الذين أخفوا إسلامهم، فقال له: «أين تريد يا عمر؟»، فرد عليه قائلا: «أريد محمدا هذا الصابي الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله.»، فلمّا عرف أنه يتجه لقتل النبي قال له: «والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا ؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ فإن ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب قد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه؛ فعليك بهما.» فانطلق مسرعًا غاضبًا إليهما، فوجد الصحابي خباب بن الأرت يجلس معهما يعلمهما القرآن، فضرب سعيدًا، ثم ضرب فاطمة ضربة قوية شقت وجهها، فسقطت منها صحيفة كانت تحملها، وحين أراد عمر قراءة ما فيها أبت أخته أن يحملها إلا أن يتوضأ، فتوضأ عمر وقرأ الصحيفة وإذ فيها: Ra bracket.png طه Aya-1.png مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى Aya-2.png إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى Aya-3.png تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا Aya-4.png الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى Aya-5.png لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى Aya-6.png La bracket.png 

فاهتز عمر وقال: "ما هذا بكلام البشر" وأسلم من ساعته، في ذلك اليوم من شهر ذي الحجة من السنة الخامسة من البعثة، وذلك بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب بثلاثة أيام، وقد كان يبلغ من العمر ما يقارب الثلاثين سنة، أو بضعًا وعشرين سنة، على اختلاف الروايات.

 خرج عمر بعد ذلك إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كان يجتمع النبي محمد بأصحابه وأعلن إسلامه هناك. وفق المصادر الإسلامية فقد استجاب الله لدعوة النبي محمد، إذ قال: «اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين، عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام. قال: "وكان أحبهما إليه عمر".» وكان قد سبق عمر إلى الإسلام تسعة وثلاثون صحابيًا فكان هو متممًا للأربعين، فعن ابن عباس أنه قال: «أسلم مع رسول الله  تسعة وثلاثون رجلاً، ثم إن عمر أسلم، فصاروا أربعين، فنزل جبريل عليه السلام بقوله كلمة تعالى.png: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.»

وفي رواية أخرى أن عمر أسلم بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة -في السنة الخامسة للبعثة– أي أنه أسلم في السنة السادسة للبعثة. كما روي أن عمر قد أسلم قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بقليل في السنة الثالثة عشرة من البعثة. حيث ذكر بعض المؤرخين أن عمر أسلم بعد 40 أو 45 رجلاً، بينما كان كل المهاجرين من المسلمين الذين آخا النبي بينهم وبين الأنصار في المدينة المنورة لا يتجاوزون هذا العدد إلا بقليل، وعليه تُرجّح بعض الروايات أن عمر كان من أواخر من أسلموا من المهاجرين حيث ذكر بعض المؤرخين أن عمر دنا من محمد في مكة وهو يصلي ويجهر بالقراءة فسمعه يقرأ في صلاته الجهرية بالمسجد الحرام آيتين من سورة العنكبوت: Ra bracket.png وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ Aya-48.png بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ Aya-49.png La bracket.png، فتأثر عمر وأسلم. وقد كانت سورة العنكبوت آخر سورة نزلت في مكة قبل الهجرة إلى يثرب.

كان المسلمون قبل إسلام عمر وحمزة يخفون إيمانهم خوفًا من تعرضهم للأذى، لقلة حيلتهم وعدم وجود من يدافع عنهم، أما بعد إسلامهما فأصبح للمسلمين من يدافع عنهم ويحميهم، لا سيما أنهما كانا من أشد الرجال في قريش وأمنعهم، وكان عمر يجاهر بالإسلام ولا يخشى أحدًا، فلم يرضَ مثلًا عن أداء المسلمين للصلاة في شعاب مكة بعيدين عن أذى قريش، بل فضل مواجهة القوم بكل عزم، فقام وقال للنبي: "يا رسول الله ألسنا على الحق؟"، فأجابه: "نعم"، قال عمر: "أليسوا على الباطل؟"، فأجابه: "نعم"، فقال عمر بن الخطاب: "ففيمَ الخفية؟"، قال النبي: "فما ترى يا عمر؟"، قال عمر: "نخرج فنطوف بالكعبة"، فقال له النبي: "نعم يا عمر"، فخرج المسلمون لأول مرة يكبرون ويهللون في صفين، صف على رأسه عمر بن الخطاب وصف على رأسه حمزة بن عبد المطلب وبينهما النبي محمد، حتى دخلوا وصلّوا عند الكعبة. ومن بعيدٍ نظرت قريش إلى عمر وإلى حمزة وهما يتقدمان المسلمين، فَعَلتْ وجوهَهُم كآبة شديدة، يقول عمر: «فسماني رسول الله  الفاروق يومئذٍ».

كان إسلام عمر حدثًا بارزًا في التاريخ الإسلامي، فقد قوّى وجوده في صف المسلمين شوكتهم، وأصبح لهم من يُدافع عنهم ويحميهم من أذى من بقي على الوثنية، ويُلاحظ فرحة المسلمين بإسلام عمر في عدّة أقوال منسوبة إلى عدد من الصحابة، منها ما قاله صهيب الرومي: «لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودُعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به»، وما قاله عبد الله بن مسعود: «ما كنا نقدر أن نصلّي عند الكعبة حتى أسلم عمر»، و:«ما زلنا أعِزَّة منذ أسلم عمر".

هجرته إلى المدينة وحياته فيها

وفي المدينة المنورة آخى النبي محمد بينه وبين أبي بكر، وقيل عويم بن ساعدة الأوسي، وقيل عتبان بن مالك الخزرجي، وقيل معاذ بن عفراء الخزرجي، وقال بعض العلماء أنه لا تناقض في ذلك لاحتمال أن يكون الرسول قد آخى بينه وبينهم في أوقات متعددة. بقي المسلمون في المدينة بأمان طيلة سنة تقريبًا، إذ ما لبثت قريش أن حشدت جيشًا لقتالهم، ووقعت بينها وبين المسلمين عدّة معارك، وقد شهد عمر بن الخطاب كل الغزوات مع الرسول محمد وفقًا لابن الجوزي، ففي غزوة بدر كان عمر ثاني من تكلم ردًا على الرسول محمد عندما استشارهم قبل غزوة بدر بعد أبي بكر، فأحسن الكلام ودعا إلى قتال المشركين. 


وقد قتل عمر خاله العاص بن هشام في تلك الغزوة. وفي غزوة أحد رد عمر على نداء أبي سفيان حين سأل عمن قتل، وكان عمر من الأشخاص الذين اعتقدوا أن محمدًا قد قتل في تلك المعركة، ولمّا عرف أنه ما زال على قيد الحياة وقد احتمى بالجبل، أسرع إليه ووقف يدافع عن المسلمين ضد من يحاول الوصول إليهم من القرشيين. في شهر ربيع الأول سنة 4 هـ، شارك عمر في غزوة بني النضير بعد أن همّ يهود بني النضير بالغدر وقتل النبي محمد، فنقضوا بذلك الصحيفة، فأمهلهم النبي محمد 10 أيام ليغادروا المدينة، فرفضوا وتحصنوا بحصن لهم، فحاصرهم النبي 15 يومًا، وقيل 6 ليال، ثم أجلاهم عن المدينة فحملوا النساء والصبيان وتحملوا على 600 بعير، فلحقوا بخيبر، وغنم المسلمون من أموالهم وما تركوه وراءهم.


 في عام 625 تزوجت حفصة بنت عمر بالرسول محمد،وبعد ذلك بعامين تقريبًا، شارك عمر في غزوة الخندق كما قاتل في غزوة بني قريظة، وشارك في صلح الحديبية سنة 628 بصفته شاهدًا، ويحكي عمر بن الخطاب مجيئه إلى النبي محمد غاضبًا عند كتابة ذلك الصلح حيث تضمن شروطاً مجحفة بحق المسلمين، فقال: «فأتيت نبي الله، فقلت: "ألست نبي الله حقاً؟"، قال: "بلى".

 قلت: "ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟" قال: "بلى"، قلت: "فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟"، قال: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري". قلت: "أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟" قال: "بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟" قلت : "لا". قال: "فإنك آتيه ومطوف به"». وأتى عمر أبا بكر وقال له مثل ما قال لمحمد، فقال له أبو بكر: «إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق»، وقال عمر: «ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرًا»، ولم تطب نفس عمر إلا عندما نزل القرآن مبشراً بفتح مكة. 


وفي نفس السنة شارك عمر في غزوة خيبر، ثم انضم هو وأبو بكر يصحبهم مائتا صحابي تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، إلى الصحابي عمرو بن العاص الذي كان يُقاتل القبائل العربيّة الموالية للروم في شمال شبه الجزيرة العربية، وذلك بعد أن طلب المدد من الرسول، فأنزلوا هزيمة قاسية بالأعداء.

عاد عمر إلى مكة مع باقي المسلمين بعد 8 سنوات من الهجرة، فدخلوها فاتحين سنة 630، وخلال العام نفسه شارك في غزوة حنين وحصار الطائف وغزوة تبوك، ويُقال أنه منح نصف ثروته لتسليح الجيش وإعداد العدّة لتلك الغزوة الأخيرة. وفي عام 631 أدى عمر الحج مع النبي محمد، في حجة الوداع.

وفاة النبي محمد

توفي النبي محمد يوم 7 يونيو سنة 632م، الموافق ليوم 12 ربيع الأول سنة 11 هـ. ولمّا شاع خبر انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى، اضطرب المسلمون اضطرابًا شديدًا، وذهل بعضهم فلم يصدق الخبر وكان عمر منهم، فقام يقول: "والله ما مات رسول الله "، فقد كان يعتقد بعدم موته تمام الاعتقاد، حتى إنه قال في رواية أخرى: "والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك"، أي لا أعتقد إلا أنه لم يمت فعلاً، ثم قال عمر: "وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات". وفي رواية ثانية يقول: «إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله تُوُفِّي، إن رسول الله ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات»


ظل المسلمون على هذه الحالة يتمنون صدق كلام عمر، حتى جاء أبو بكر من السنح على دابته ونزل بباب المسجد ودخل بيت عائشة، وكشف عن جثمان النبي محمد وجثى عليه يُقبله ويبكي، ثم خرج إلى المسجد حتى أتى المنبر فوجد عمر يقول ما يقول، ويقسم على أن النبي لم يمت، فقال: «أيها الحالف على رِسْلِك»، وفي رواية أخرى قال له: "اجلس يا عمر" فجلس عمر وجلس الناس، فتشهد أبو بكر وحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ آية من آيات سورة آل عمران: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾.


 وعندما تلا أبو بكر الصديق هذه الآية سمعها عمر والمسلمون كانهم لم يسمعوها من قبل، ثم تابع يقول: «ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت». وفي رواية أهل السنّة، فإن عمر لما سمع كلام أبي بكر وأيقن حق اليقين أن الرسول قد مات، هوى على ركبتيه يبكي،وفي هذه النقطة قال عمر: «والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعُقِرْت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي قد مات».

في عهد أبي بكر الصديق

كان عمر بن الخطاب المساعد الأول لأبي بكر الصدِّيق وساعده الأيمن ومستشاره الأساسي طوال خلافته، وكان مستشاره العسكري الأبرز الذي ساعده في حروبه، لا سيّما حروب الردة. وقد قال أبو بكر الصديق مرة: "ما على ظهر الأرض رجل أحبّ إليَّ من عمر". وقد كان أبو بكر يستشير عمر في تعيين القادة العسكريين وعزلهم. فقد ولَّى أبو بكر مثلاً خلال فتح الشام الصحابيَّ سعيد بن العاص الأموي على الجيش الفاتح، غير أنه عزله بعدها قبل أن يبدأ السير، نظراً لاعتراض عمر الشديد عليه. كما كان عمر عوناً كبيراً له في وضع خططه العسكرية والاستراتيجية.


وعندما اجتمعَ الأنصار في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول ليبايعوا سعد بن عبادة خليفة من بعده، سمع عمر بن الخطاب بذلك، فذهبَ على الفور إلى أبي بكر الصديق وهو في منزل الرَّسول، وبلغه الخبر، وانضمَّ إليهما أبو عبيدة بن الجراح فساروا معاً إلى السقيفة. وقال أبو بكر عندما دخل: "ما هذا؟"، فأجابوه "منّا أمير ومنكم أمير"، فقال: "منّا الأمراء ومنكم الوزراء". ثم عرض عليهم أحد مرافقيه ليُصبَح الخليفة فقال: "لقد رضيتُ لكم أحد هذين الرجلين - عُمَر وأبي عبيدة أمين هذه الأمة-". غير أن أحد الأنصار قال بصوتٍ عال: "أنا جُذَيلها المحنك وعُذَيْقُها المرجَّب، منّا أمير ومنكم أمير"، فتعالت الأصوات واللغط، واختلف الناس فيمن سيكون الخليفة، حتى قام عمر وقال: "أيّكم يطيب نفساً أن يخلُف قَدَمَين قدّمهما النبي ؟"، ثمَّ قال لأبي بكر "ابسط يدك لأبايعك"، فبايعه عمر بن الخطاب، وتبعه الناس فبايعوه.


لم يكن الجميع راضين عن القرار، إذ لم يرضَ بعضهم بمبايعة غير علي بن أبي طالب، فقال الزبير: "لا أغمد سيفاً حتى يُبايَع علي"، فقال عمر: "خذوا سيفه واضربوا به الحجر". وقد تمكَّن عمر من دفع الكثير من الأنصار إلى مبايعة أبي بكر. وقد خطبَ الجمعة بأهل المدينة مرة فقال: "إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: لو مات أمير المؤمنين بايعتُ فلانًا، فلا يغرَّنَّ امرأً أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فتنة، فقد كان كذلك ولكنّ الله وقى شرَّها، وليس منكم من تُقطَع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان خيرنا حين توفيَّ رسول الله". وقد كان لعمر بن الخطاب دورٌ كبير في معونة أبي بكر ببداية خلافته في تنظيم أمور الدولة، وأخذ البيعة، وتثبيت الحكم.


كان من أولى وأكبر التحديَّات التي واجهت أبا بكر في خلافته حروب الردة، التي بدأت بامتناع بعض قبائل العرب عن أداء الزكاة إلى الخليفة الجديد، وكانت البداية بقبائل قليلة مثل عبس وذبيان وغطفان، غير أن العدد ازداد لاحقًا، فانتشرت حركة الردة في أنحاء شبه الجزيرة العربية. كما كثر مدَّعو النبوة، فكان منهم مالك ووكيع وسجاح، أما أقواهم وأكثرهم نفوذًا فكان مسيلمة الكذاب. 


وقد انقسم الصحابة في الرأي حول كيفيَّة التعامل مع الوضع، فأشار عمر بن الخطاب -وطائفة كبيرة من الصحابة- على أبي بكر بعدم دخول الحرب معهم، والتنازل عن امتناعهم عن الزكاة، خصوصاً مع عدم وجود قوة عسكرية تحمي المدينة من الهجمات. غير أن أبا بكر أصرَّ على موقفه بشدة، وقال: "والله لو منعوني عقالاً (الحبل الذي يجرُّ به البعير) لجاهدتهم عليه".

انتهت حروب الردة بمعركة اليمامة، التي قتل فيها الكثير من الصحَّابة، من بينهم مئات من حفظة القرآن، وقد اختلفَ المؤرخون حول عددهم، فقال بعضهم أنه قتلَ 500 من حفظة القرآن في المعركة، وقال آخرون 700. وقد فزعَ عمر بن الخطاب عندما سمعَ بهذه الأعداد، وخشيَ أن يُقتَل المزيد منهم في المعارك والحروب، فيضيع شيء من القرآن. فأخبر أبا بكرٍ بمخاوفه، إذ جاءه وقال له: "إنّ القتل استمرّ بقُرّاء القرآن، وإنّي أخشى أن يستمرّ القتل بالقُرّاء في المواطن، فيذهب كثيرٌ من القرآن، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن"، غير أن أبا بكر تخوَّف من الأمر وقال: "كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ؟". 


فردّ عمر قائلًا: "أرى والله أنه خير"، وظلّ يصرّ ويحاور أبا بكر حتى اقتنع، فاستدعى زيد بن ثابت الأنصاريّ وأمره بتولّي المهمَّة وقد قال أبو بكر لزيد: "إنّك شابّ عاقل، لا نتّهمك، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله، فتتبَّع القرآن فاجمعه"، غير أن زيداً تخوَّف من المهمة، وقال في وصف الحادثة: "فو الله لو كلّفوني نقل جبلٍ من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمرني به من جمع القرآن - قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله؟"، فكرَّر أبو بكر: "هو والله خير"، ولم يزل فيه حتى اقتنعَ هو الآخر، فذهبَ وجمع القرآن في مصحف واحد. وقد بقيَ المصحف عند عمر بعد وفاة أبي بكر، ثم انتقلَ إلى ابنته حفصة.


وكان من بين من قتلوا في معركة اليمامة أخوه زيد بن الخطاب، وعندما جاءه ابنه عبد الله بعد المعركة - وكان يقاتل فيها مع زيد - قال له عمر زاجراً إياه: "ألا هلكتَ قبل زيد؟ هلك زيد وأنت حيّ! ألا واريتَ وجهك عني؟"، فأجابه: "سألَ اللهَ الشهادة فأعطُيهَا، وجَهِدتُ أن تُسَاق إليَّ فلم أعطها".


وبعد أن أصبح أبو بكر خليفة، قال مرَّة لعمر وأبي عبيدة بن الجراح: "إنه لابدَّ لي من أعوان"، فقال عمر: "أنا أكفيك القضاء"، والثاني قال: "أنا أكفيك بيت المال" وظلَّ عمر في سدة القضاء بالمدينة مدة سنة كاملة، لم يختصم إليه أحد خلالها، حتى جاء في يوم إلى أبي بكر طالباً منه إعفاءه من القضاء، فسأله أبو بكر مستغرباً: "أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟"، فأجابه عمر:


مبايعته بالخلافة


ندما اشتدَّ على أبي بكر مرض موته، جمع كبار الصحابة وقال لهم: "إنَّه قد نزل بي ما قد ترون، ولا أظنني إلا ميِّتًا، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحلّ َعنكم عقدي، وردَّ عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمَّرتم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي". فأخذ الصحابة الذين جمعهم يتعفَّفون، فيرى كل منهم في الآخر قدرة أكبر على تولي مسؤولية الخلافة، فعادوا إلى أبي بكر وقالوا له طالبين مساعدته باختيار الخليفة: "أرنا يا خليفة رسول الله رأيك"، قال: "فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده".


وبعد فترة من التفكير استدعى أبو بكر الصحابي عبد الرحمن بن عوف وقال له: "أخبرني عن عمر؟"، فأجابه: "إنه أفضل من رأيك إلا أنّ فيه غلظة"، فقال أبو بكر: "ذلك لأنه يراني رفيقًا، ولو أفضي الأمر إليه لتركَ كثيرًا ممَّا هو عليه، وقد رمَّقتُهُ فكنتُ إذا غضبتُ على رجل أراني الرضا عنه، وإذا لنتُ له أراني الشدّة عليه". ثم دعا عثمان بن عفّان، وقاله له كذاك: "أخبرني عن عمر"، فقال: "سريرته خير من علانيّته، وليس فينا مثله"، فقال أبو بكر للإثنين: "لا تذكرا ممَّا قلتُ لكما شيئاً، ولو تركته ما عدوتُ عثمان، والخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئًا، ولوددتُ أنّي كنتُ من أموركم خلواً وكنتُ فيمن مضى من سلفكم".


ثم جاء طلحة بن عبيد الله إلى أبي بكر وقال له غاضبًا: "استخلفتَ على النّاس عمر وقد رأيتَ ما يلقى الناس منه وأنتَ معه، وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاقٍ ربّك فسائلك عن رعيّتك!"، فقال أبو بكر: "أجلسوني" فأجلسوه، ثم أجابه: "أبالله تخوّفني! إذا لقيتُ ربي فسألني قلتُ: استخلفت على أهلك خير أهلك".


وبعد ذلك استدعى أبو بكر عثمان بن عفان مجددًا، فقال له: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهِدَ أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أمّا بعد..." لكن أغميَ عليه في تلك اللحظة قبل أن يكمل كلامه، فكتب عثمان: "أمَّا بعد فإني قد استخلفتُ عليكم عمر بن الخطّاب ولم آلكم خيراً". وعندما استيقظ أبو بكر من إغماءته قال لعثمان: "اقرأ عليّ"، فقرأ عثمان، وعندما انتهى كبَّر أبو بكر وقال: "أراك خِفتَ أن يختلف الناس إن مُتُّ في غشيتي؟"، قال: "نعم"، فقال: "جزاك الله خيرًا عن الإسلام وأهله".


وبعد أن كتبَ العهد أمر أبو بكر أن يُقرَأ على الناس، فجمعهم وأرسله مع أحد مواليه إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر للناس: "أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنّه لم يألكم نصحًا"، فهدأ الناس وتوقَّفوا عن الكلام، ولم يعترضوا بعد سماع العهد. ثم جاءهم أبو بكر وقال: "أترضون بما استخلفتُ عليكم؟ فإني ما استخلفتُ عليكم ذا قرابة، وإنّي قد استخلفتُ عليكم عمرَ فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما آلوت من جهد الرأي"، فردَّ الناس: "سمعنا وأطعنا". ثم أحضر أبو بكر عمر وقال له: "إنّي قد استخلفتك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم"، ثم أوصاه بتقوى الله، وخطبَ فيه خطبة قدَّمَ له فيها الكثير من الوصايا والنصائح.

توفّي أبو بكر بعد ذلك بأيام، وعندما دفن وقف عمر وخطب في الناس قائلًا: "إنَّما مَثَل العرب مثل جمل آنف اتَّبعَ قائده فلينظر حيث يقوده، وأمَّا أنا فوربِّ الكعبة لأحملنَّكم على الطريق!".

فتح الشام

بدأ الفتح الإسلامي للشام في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، الذي قرَّر مقاتلة الروم بعد أن هاجموا جيش خالد بن سعيد بن العاص المُعسكر في أرض تيماء، فوزَّع المسلمين على أربعة جيوش مختلفة، ووجَّه كلاً منها إلى جزء مختلف من بلاد الشام، قوام كلٍّ منها حوالي 8,000 مقاتل. فكان الجيش الأول بقيادة شرحبيل بن حسنة ووجهته وادي الأردن في جنوبيّ الشام، والجيش الثاني بقيادة يزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق، والجيش الثالث بقيادة أبي عبيدة بن الجراح ووجهته حمص، والجيش الرابع بقيادة عمرو بن العاص ووجهته فلسطين. وقال لهم أبو بكر أنهم سيكونون مستقلّين إن لم تكن هناك حاجة للاجتماع، فكل واحد يقود جيشه بنفسه ويكون أميراً على المناطق التي يفتحها، أما إن اقتضت الضرورة الاجتماع فإن القائد سيكون أبا عبيدة بن الجراح. 


لكن عندما بلغت الجيوش الإسلامية الشام وجدت جيوشاً ضخمة جداً للروم حشدت لمقابلتها في كل وجهاتها، فلمَّا سمع المسلمون بذلك قرَّروا الاتحاد، فاجتمعت جيوشهم باليرموك، وطلبوا المزيد من المدد، فأمر أبو بكر خالداً بن الوليد بالسير إليهم بنصف جنوده من العراق. فسار خالد إليهم عبر بادية الشام، وفي طريقه هزم الغساسنة في معركة مرج راهط، وفتح مدينة بصرى. 


وبعد أن فتح خالد بصرى، توجَّه مع أبي عبيدة بن الجراح إلى دمشق، فحاصرها، لكن هنا وصلته أنباء حشد الروم في أجنادين، فانسحب وجمع جيوشه كلها هناك، فبلغ عدد المسلمين 33.000 مقاتل وبلغ عدد الروم 100.000، فدارت معركة أجنادين التي هزم فيها الروم وقتل قائدهم وردان.

توفي أبو بكر خلال هذه المرحلة، وأعقبه عزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد عن قيادة الجيوش الفاتحة. فقد كان أبو بكر قد عيَّن خالداً قائداً عاماً لجيوش المسلمين في الشام، غير أن عمر لم يرضَ بذلك لئلا يفتتن به المسلمون لانتصاراته المتوالية على الأعداء، فكان من أول ما فعله عمر بعد توليه أمور الخلافة أن كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح يعلمه بوفاة أبي بكر (ولم يُعلِم خالداً بذلك)، وكان يريد عزل خالد على الفور، حتى أنه رويَ عنه أنه قال في خالد: "لا يلي لي عملًا أبدًا". 


وبعدها أرسل عمر كتاباً آخر إلى أبي عبيدة يُعلِمه فيه بعزل خالد عن قيادة الجيوش وتعيينه مكانه، لكنَّ المؤرخين اختلفوا حول متى بالضبط وصل إلى أبي عبيدة الأمر بعزل خالد. فيقول ابن إسحاق أن ذلك كان خلال حصار دمشق في شهر رجب من سنة 14 هـ، إلا أن أبا عبيدة استحى فلم يُعلم خالداً حتى انتهى الحصار وتم الفتح، فيما يذهب سيف بن عمر إلى أن ذلك كان خلال معركة اليرموك عندما كان القتال لا يزال محتدماً بين الروم والمسلمين، بينما قال المدائني، أن أمر العزل جاء حين كان المسلمون يقاتلون الروم بالياقوصة في شهر رجب.

بعد ذلك توجَّه أبو عبيدة مع خالد لحصار دمشق، وتمكّنا من فتحها. في هذه الأثناء وصلتهما أنباء تجمُّع جيش كبير من الروم في مدينة بعلبك، وأنه يسير جنوباً إلى فلسطين للقاء جيشي عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة المؤلفين من 5.300 جندي. فقرر أبو عبيدة وخالد السير إليهما بسرعة بجيشهما المؤلف من 27,000 مقاتل، وسبق خالد أبا عبيدة على رأس 1,500 فارس لضرورة السرعة. اجتمعت جيوش المسلمين وجيوش الروم قرب موقع فحل جنوبي الشام، فدارت بعض المفاوضات قبل المعركة، غير أنها لم تؤدّ إلى شيء. والتقى الجيشان في 28 من ذي القعدة سنة 13 هـ (23 يناير 653 م)، حوالي 32,000 من المسلمين ضد ما بين 50,000 و80,000 من الروم، وانتصر المسلمون نصراً كبيراً، وقال ابن الأثير عن المعركة "فكانت الهزيمة بفحل والقتل بالرداغ، فأصيب الروم وهم ثمانون ألفاً لم يفلت منهم إلا الشريد". وبعد ذلك ولَّى أبو عبيدة بعض قادته على دمشق وفلسطين والأردن، وسار مع خالد نحو حمص ففتحاها، ثم إلى سهل البقاع، وفتحا خلال ذلك مدينة بعلبك صلحاً.

عاد الروم إلى حشد جيش ضخم من 240,000 مقاتل، هذه المرة في منطقة اليرموك بالأردن، وكان ذلك في سنة 13 هـ، وأما المسلمون فقد كان عددهم 27,000، ومع التسعة آلاف جندي الذين جاء بهم خالد ليصبحوا 36,000 جندي. 


ودارت هناك معركة اليرموك الشهيرة، التي بدأت في الخامس من رجب سنة 15 هـ، واستمرَّت مدة 6 أيام كاملة، انتهت أخيراً بهزيمة الروم ومقتل قائدهم باهان وقيل أن عدد قتلى الروم في اليرموك والياقوصة بعد طلوع الشمس عقب نهاية آخر أيام المعركة كان 120.000 قتيل، وأما المسلمون فحوالي 3.000 قتيل.

بعد المعركة انقسمت جيوش المسلمين إلى أربعة ألوية مجدداً، فتولى كل لواء فتح منطقة من الشام. فخرج يزيد بن أبي سفيان من دمشق، لفتح صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وخرج عمرو بن العاص من فلسطين ففتح نابلس وعمواس وبيت جبرين ورفح وعسقلان، وفتح شرحبيل ما تبقّى من الأردن. وأما أبو عبيدة وخالد فقد سارا إلى مدينة حمص، فحاصراها وفتحاها مجدداً (حيث كانا قد تركاها وأعادا لأهلها الجزية خلال انسحابهما من تقدُّم جيوش الروم قبل اليرموك)، ثم أتبعاه بفتح حماة واللاذقية.


وبعدها خاضوا مع الروم معركة قنسرين، وبعد أن انتصروا بها سارا إلى حلب وفتحاها،وأخيراً فتحا أنطاكية في أقصى شمال الشام.بعد فتح رفح، توجَّه عمرو بن العاص بجيشه أخيراً إلى القدس، ومكث يحاصرها طويلاً، ثم كاد ييأس من فتحها نظراً لحصانتها الشديدة، فاستدعى أبا عبيدة، فجاءه ومعه المدد، ثم انضمَّ إليهما شرحبيل من الأردن، وأخيراً جاء خالد من قنسرين لينضمَّ إلى الحصار وطال الحصار شهوراً كثيرة دون جدوى، حتى قرَّر واليها الاستسلام أخيراً، لكنه طلب شرطاً أخيراً، وهو أن يأتي الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه إلى المدينة ويفتحها، فقال لأبي عبيدة: "نحن نصالِحُك... فأرسل إلى خليفتكم فيكون هو الذي يعطينا العهد، وهو يسامحنا ويكتب لنا الأمان".


 فكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره بذلك الشرط، فاستشار عمر كبار الصحابة، غير أنهم اختلفوا، وانقسموا إلى فريقين أساسيَّين، واحد على رأسه عثمان بن عفان يرى عدم الاستجابة وحصار المدينة حتى استسلامها، والثاني وعلى رأسه علي بن أبي طالب يرى أنه ما من ضير في القبول، وقد قرَّر عمر الانحياز إلى رأي عليٍّ والقبول بالعرض.


 وتختلف الروايات التاريخية حول الهيئة التي جاء عمر بها إلى القدس، فتقول بعضها أنه جاء على رأس جيش كبير، وتقول أخرى أنه كان يرتدي ملابس مرقعة ويركب جملاً واحداً يتناوب عليه مع غلام، فلمَّا اقترب من المدينة كان دوره في المشي على الأرض ومرَّ على مخاضة، وعندما رآه والي الروم دهش من منظره، كما تذكر روايات أخرى أنه جاء بمظهر عاديٍّ ليس متفاخراً ولا متواضعاً أكثر من اللازم. وعقبَ وصول عمر إلى المدينة تسلَّم مفاتيحها، ودخلها فاتحاً، فعقد مع أهلها الصلح وأعطاهم الأمان، وكان ذلك في سنة 15 هـ. 

وقد دخل عمر القدس في المساء، فلمَّا دخل المسجد الأقصى قال "لبيك اللهمَّ لبيك، بما هو أحب إليك"، ثم ذهب إلى محراب داود وصلَّى فيه، ولم يلبث أن طلع الفجر، فأمر المؤذن بإقامة الصلاة ثم تقدَّم وأمَّ بالفاتحين.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع الشيخ : عثمان حاج مصطفى

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

موسى ابن نصير قائد عسكري عربي في عصر الدولة الأموية. شارك موسى في فتح قبرص في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان