كنت مولعا إلى مرحلة متقدمة من حياتي المهنية بفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله، وكنت أحث طلبتي على قراءة كتبه للاستفادة منها في مجال والصهيونية، وكنت في نفس الوقت غارقا في
كنت مولعا إلى مرحلة متقدمة من حياتي المهنية بفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله، وكنت أحث طلبتي على قراءة كتبه للاستفادة منها في مجال الدراسات اليهودية والصهيونية، وكنت في نفس الوقت غارقا في تفكير عميق أستقرأ كتب عبد الوهاب المسيري وأوازن وأقارن بينها وبين كتب أخرى في مجال الفكر الديني والصهيوني، إلى أن وقفت على بعض الحقائق التي فرضت عليّ مراجعة موقفي من المسيري المفكِّر وليس الشخص كما رماني بذلك بعضهم؛ فنحن نناقش الأفكار ولا نناقش الأشخاص، والاختلافُ كما يقال لا يفسد للود قضية. وأنا إذ أقدم هذه الحقائق أرجو من منتقديَّ أن يتحلوا بالموضوعية العلمية فلا يسفّوا ولا يسفِّهوا، فالقضية قضية اختلاف في الرأي وليس تصفية حسابات كما يؤولها بعضهم، فليس لي مع المسيري ولا مع غيره أي شيىء من هذا القبيل.
الحقيقة الأولى: ليس في الخريطة الهيكلية لمراحل حياة عبد الوهاب المسيري رحمه الله التي أوردها في مقدمة كتابه “رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية وغير موضوعية” ما يشير إلى أنه تلقى تكوينا متخصصا في الدراسات الدينية اليهودية والصهيونية على وجه الخصوص، فكل ما في هذه السيرة أنه خريج كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الإسكندرية، وأنه انضم لاحقا إلى جامعة كولومبيا في نيويورك حيث حصل على درجة الماجستير، ثم جامعة رتجرز في مدينة في مدينة نيو برونزويك في ولاية نيوجرسي في نفس التخصص، وأنه عاد بعد ذلك إلى مصر للتدريس في قسم اللغة الإنجليزية كلية البنات بجامعة عين شمس، ثم عين خبيرا للشؤون الصهيونية بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بجريدة “الأهرام” المصرية، وقد لقي رعاية وعناية شخصية من الإعلامي الكبير محمد حسنين هيكل الذي يبدو أنه كان القوة الدافعة التي أوصلت المسيري إلى العالمية، وقد ساعده على ذلك الظرف السياسي والإقليمي الحساس الذي بلغ فيه الصراع بين الأمة العربية وبين الكيان الصهيوني ذروته، ولا يخفي هيكل دعمه للمسيري، ويتجلى ذلك من تقريظه للعمل الفكري المتميز الذي ظهر به المسيري، وفي إشادته بمنهجه المتفرد في تناول المسألة اليهودية والصهيونية، ومما كتبه هيكل بهذا الخصوص في تقديمه لكتاب المسيري “الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ”: (والشاهد أن المعرفة التي يقدمها المسيري في هذا الكتاب وفي غيره مما كتب تجربة مختلفة بالكامل؛ فمنذ الستينيات أخذ المسيري على نفسه مهمة أعطاها عقله وقلبه وأحلى سنوات عمره وهي مهمة دراسة الدين اليهودي والتواريخ والهويات اليهودية، حتى وقع ذاك الانحراف الخطير الذي أحدثته الحركة الصهيونية على الدين والتاريخ والهوية كلها معا).
لا نعارض محمد حسنين هيكل فيما شهد به للمسيري، ولكننا نسجل ملحوظة مهمة وهي أن المسيري لم يتخلص -وهو عاكف على دراسة الفكر اليهودي وتفكيك الفكر الصهيوني- من طريقته الأدبية والصحفية؛ فهو يقدم في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية وفي كتبه مادة تراكمية على طريقة جامعي الأخبار ثم يعجز بعد ذلك عن التركيب بينها وفي أن يُخرج لنا “من بين فرث ودم لبنا خالصا للشاربين”. لقد طغى الأسلوب الأدبي المشوب ببعض العلمية والفكرية على كتب المسيري، ولذلك يلمح منها قارئها لأول وهلة فراغا كبيرا لكمٍّ هائل من التساؤلات المعرفية التي لا نهاية لها، إنه يدع قارئه في حيرة من أمره لأنه يرسم له المنهج في البداية ثم يسلمه ويتركه كالمتخبط في ليل أدلج.
الحقيقة الثانية: هناك فرضية قوية يمكن من خلالها تفسير الإنتاج العلمي الغزير لعبد الوهاب المسيري، وهي أنه قد يكون قد استفاد من ضلوعه في اللغة الإنجليزية ولغات أخرى لترجمة أهم المصادر التي كتبت عن الفكر اليهودي والفكر الصهيوني وعن الحداثة والعلمانية ثم قدمها للقراء العرب لتشكل -كما قال المتيمون بفكره- إنجازا علميا ضخما وغير مسبوق. إننا نلمح في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية وكتب أخرى للمسيري توظيفا فكريا لبعض الأفكار التي أخذها من بعض المصادر ثم صاغها وساقها كأنها من بنات أفكاره كما فعل في كتابه “اليد الخفية: دراسة في الحركات اليهودية الهدامة والسرية” الذي نقف فيه على مادة متراكمة ليس فيه شيئٌ من الإحالات، والذي يعدّ تلخيصا ذكيا لكتاب “بروتوكولات حكماء صهيون” أو اقتباسا اختزاليا لما كتبه آدم سميث عن اليد الخفية اليهودية ودورها في إذكاء الصراعات بين أتباع الديانات والثقافات والحضارات. إن الترجمة حيلة يلجأ إليها بعض الباحثين للتعمية على القراء وإرباكهم ودفع شبهة الانتحال، وقد يتطلب كشفها مدة طويلة، ولكنها حينما تتأكد فإنها ستكون أمرا مروِّعا وصادما.
سجل بعض نقاد موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية على المسيري أخطاء كثيرة في الاستشهاد بنصوص العهد القديم والعهد الجديد ومن ذلك ما كتبه “زاهر بشير” في كتابه: “كشف الحُجب الإعلامية عن حقيقة فكر المسيري في المسألة اليهودية”. إن هذا النقد يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن المسيري لم يكن متحكما في جانب الاستشهاد وتوظيف النصوص المقَدَّسة بالقدر الكافي على الأقل.
الحقيقة الثالثة: للمسيري قراءةٌ مزدوجة للعلمانية في نظره؛ علمانية شاملة وعلمانية جزئية، وإذ يصرح المسيري برفض الإسلام للعلمانية الشاملة، إلا أنه يبدي في المقابل موقفا متلكئا مما سماه “العلمانية الجزئية”، وقد جلب هذا التقسيم العجيب للعلمانية متاعبَ فكرية للمسيري الذي وُجِّهت إليه اتهامات شديدة من التيارات الإسلامية المحافظة التي ترفض فكرة تقسيم العلمانية إلى علمانية شاملة وعلمانية جزئية، التي تعد في نظرهم تبريرا للعلمانية، فالعلمانية وغيرها مما يخالف الإسلام يجب رفضُها كلها لأنه لا يجوز تجزئة الشر بدعوى “المرونة الفكرية”، فيما تفهّمت التيارات الإسلامية الأخرى الحركية منها على وجه الخصوص وتقبّلت هذا التقسيم، وهو ما اتكأ عليه المسيري في تبرير تقسيم العلمانية إلى علمانية شاملة وعلمانية جزئية. ويعدّ المسيري مبدعا في استحداث ونحت بعض التسميات مثل “اليهودية الوظيفية” التي يعهد إلى المنتمين إليها -علاوة على الدور الديني- القيام بوظائف أخرى كشكل من أشكال النضال وفق ما تمليه واجبات المواطنة في الدول والمجتمعات التي يعيشون فيها.
الحقيقة الرابعة: فكرة انتقال المسيري من المادية إلى الإسلامية الإنسانية ليست فكرة صحيحة بالمطلق، وفي حالة افتراض صحّتها ينبغي التمييز بين تخلي المسيري عن الإيديولوجيا المادية وبين تمسُّكه بالمنهج الجدلي التاريخي في تحليل الظاهرة اليهودية والصهيونية، وقد اطلعتُ في هذا الصدد على كتاب ممدوح الشيخ بعنوان: “عبد الوهاب المسيري من المادية إلى الإنسانية الإسلامية”. إن الإنسانية الإسلامية تقتضي الانتصار للعقيدة الإسلامية في القضايا الدينية المثارة من خلال حشد النصوص القرآنية والحديثية التي ترسِّخها في النفوس وهذا ما لم يفعله المسيري الذي رغم أنه يشير في كتابه “رحلتي الفكرية” أنه كان كأقرانه في الابتدائية في المراحل الأولى من حياته يرصِّع بعض مكتوباته ببعض الآيات القرآنية، إلا أننا لا نجد لهذه النصوص توظيفا قليلا أو كثيرا في الموسوعة وفي كتبه، حتى في الموضوعات الدينية المقارنة التي تستلزم الرأي والرأي الآخر، هذه في اعتقادي من أكبر السلبيات المسجلة على المسيري المتّهم بإقصاء النص الإسلامي –إن صح التعبير- من أن تكون له مساحة في الاستشهاد تضاهي مساحة النص الكتابي والفلسفي.
الحقيقة الخامسة: إن أهمَّ ما يسترعي انتباه المتخصصين في الدراسات الدينية المقارنة في موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” على سبيل المثال توظيف باهت للنصوص الكتابية، وهذا يؤكد مرة أخرى أن المسيري -الذي نفخ مادحوه في فكره مدحا زائدا عن اللزوم وجعلوا منه فكرا خارقا- ليس له مكانة وملَكة في تحليل النصوص الكتابية. لقد سجل بعض نقاد موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية على المسيري أخطاء كثيرة في الاستشهاد بنصوص العهد القديم والعهد الجديد ومن ذلك ما كتبه “زاهر بشير” في كتابه: “كشف الحُجب الإعلامية عن حقيقة فكر المسيري في المسألة اليهودية”. إن هذا النقد يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن المسيري لم يكن متحكما في جانب الاستشهاد وتوظيف النصوص المقَدَّسة بالقدر الكافي على الأقل.
الحقيقة السادسة: المسيري -والاعتراف سيد الأدلة- بأنه قد استعان في جمع المادة العلمية لموسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” التي استنفدت سنواتٍ كثيرة من عمره بفريق عمل من باحثين وغيرهم، وتعني الاستعانة بطبيعة الحال وجود جهد قلّ أو كثُر، مما ينفي فكرة الجهد الشخصي، فطبيعة العمل الموسوعي تقتضي عملا جماعيا، وهو ما اعترف به فريد وجدي الذي تُنسب إليه “دائرة المعارف الإسلامية”. إن تفرد عبد الوهاب المسيري بوضع اسمه على الموسوعة وإظهار أسماء بعض المشاركين وبخاصة من لهم علاقة مباشرة به وإخفاء أسماء كثيرين، ليس لهذا التفرُّد تفسيرٌ إلا كونه شكلا من أشكال إبخاس الناس أشياءهم.
تعليقات