هل يمكن أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء؟ تخبرنا قصة الصومال أن الإجابة يمكن أن تكون بنعم، فالبلد الأفريقي ذو الموقع الإستراتيجي والتاريخ الطويل، كان قبل عقود قليلة ديمقراطية
هل يمكن أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء؟ تخبرنا قصة الصومال أن الإجابة يمكن أن تكون بنعم، فالبلد الأفريقي ذو الموقع الإستراتيجي والتاريخ الطويل، كان قبل عقود قليلة ديمقراطية رائدة في القارة السمراء، وصاحب أحد أقوى الجيوش الأفريقية، قبل أن تعصف به الاضطرابات السياسية، وينتهي الحال بالصومال إلى «دولة فاشلة» تصارع البقاء.محمد سياد بري.. الصعود إلى الهاوية
في منتصف عام 1960 حصل الجزء الشمالي من الصومال على الاستقلال من بريطانيا، فيما حصل جنوب الصومال على الاستقلال من إيطاليا، وتم الإعلان عن توحيد الجزئين وتأسيس ما سمّي بـ«جمهورية الصومال» الموحدة، وأصبح آدم عبد الله عثمان أول رئيس لها. مكث عثمان في الحكم مدة سبع سنوات قبل أن يخسر الانتخابات أمام رئيس وزرائه عبد الرشيد علي شارماركي، ليتقبل عثمان نتائج الانتخابات، ويصبح أول رئيس في أفريقيا يقوم بتسليم السلطة ديمقراطيًا.
لم يطل بقاء شارماركي في الحكم أكثر من عامين، تعرضت فيها الصومال لاضطرابات سياسية، قبل أن يتعرض شارماركي للاغتيال على يد أحد حراسه في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1969، وبعد ذلك بيوم واحد فقط تحرك قائد الجيش الصومالي الجنرال محمد سياد بري للاستيلاء على الحكم في انقلاب أبيض عصف بالحياة السياسية الوليدة في البلاد. ترأس بري «المجلس الأعلى للثورة» الذي تكون من 25 عضوًا كلهم من ضباط الجيش والشرطة.
طوال أكثر من عقدين من الزمان، حكم سياد بري الصومال بقبضة حديدية، فتم حل البرلمان، والمحكمة العليا، وتعليق العمل بالدستور، وحظر نظام الحكم الحياة الحزبية وحرية الإعلام، وقبض على رموز الحياة السياسية في البلاد وأودعهم السجون. اعتنق بري الفكر الشيوعي، وتحالف في البداية مع المعسكر السوفيتي، وحاول تطبيق ما سمي بـ«الاشتراكية العلمية» على البلاد. لم يبدِ بري أي قدر من التسامح تجاه خصومه أو معارضيه، الذين تعرضوا للقتل والتشريد، وفي عام 1975، وحين نشبت حركة اعتراضية بقيادة علماء الدين على قانون الأحوال الشخصية، قبض سياد بري على 10 من كبار علماء الصومال وأعدمهم بلا تردد.
لكن برغم ذلك، تمتع نظام سياد بري في بدايته بشعبية كبيرة، فقد وُصف بأنه «باني الصومال الحديث»، إذ قاد حملات كبرى لنشر التعليم ومحو الأمية في القرى والمدن، وكتب اللغة الصومالية بالحروف اللاتينية ودشن استعمالها وتعليمها وجعلها اللغة الرسمية في البلاد، وتمتعت سنوات حكمه الأولى بالاستقرار السياسي، كما حظت الجمهورية في عهده بالاحترام الدولي، فنجح في ضم الصومال إلى الجامعة العربية، وتولى رئاسة الاتحاد الأفريقي، وأضحى مرحبًا به في المحافل الدولية، وتعاظمت قدرات الجيش الصومالي، ليصبح الجيش الصومالي في عهده من أقوى جيوش المنطقة.
في عام 1977 أمر بري قوات جيشه بالهجوم على إقليم الأوجادين، المتنازع عليه مع إثيوبيا، والذي تقطنه الغالبية الصومالية، بهدف تحرير الإقليم من القبضة الإثيوبية. حققت القوات الصومالية في البداية انتصارات كبيرة، وسيطرت على غالبية أراضي الإقليم، لكن التدخل السوفيتي في الحرب لصالح إثيوبيا (التي كان يحكمها نظام شيوعي هي الأخرى) قلب المعادلة ضد قوات سياد بري التي منيت بهزائم شنيعة، لتنتهي الحرب بخسارة صومالية، ومعها خسارة سياد بري لصورته كرجل قوي عصي على الهزيمة، وفقدانه جزء كبير من شعبيته.
خلال عقده الثاني في الحكم، كان نظام بري قد استنفذ فرصه، لتبدأ بعدها رحلة الانهيار. تعرض بري لمحاولة انقلاب فاشلة فتك على إثرها بآلاف من عناصر قبيلة ماجيرتين التي اتهمها بالمسؤولية عن الانقلاب، وبدأ بالاعتماد أكثر فأكثر على أبناء قبيلته، وكلما انخفضت شعبية نظامه وزادت قوة حركات المعارضة، كلما زاد بري ومن حوله الاعتماد على القمع والقبضة الأمنية، وبين عامي 1987 و1988، تعرضت قبيلة إسحاق الصومالية لعملية إبادة جماعية من قبل الدولة راح ضحيتها نحو 100 ألف من أبناء القبيلة، فيما وصف بأنه «هولوكوست» جديد نفذته قوات سياد بري بلا رحمة.
تراخت قبضة بري على السلطة، سيما مع تقدمه في العمر، وتعرضه لحادث سيارة عام 1986 أدي إلى إصابات تسببت بعدها في اعتلال صحته. في المقابل، قويت شوكة حركات المعارضة القبلية المدعومة من قبل إثيوبيا، وفي عام 1991، فقد بري السيطرة تمامًا على مقاليد الأمور في مواجهة التشكيلات المسلحة الممثلة للقبائل المعارضة، ليضطر للهرب إلى كينيا ومنها إلى نيجيريا حيث وافته المنية عام 1995، في الوقت الذي كانت الصومال التي حكمها لعقود قد دخلت في النفق المجهول.
الأزمة الصومالية تبتلع الجميع.. حتى الجيش الأمريكي
انهار نظام سياد بري بعد هروبه، وتفكك الجيش الصومالي، وفي المقابل كانت الفصائل المسلحة قد فقدت قضيتها المشتركة، وصارت تتقاتل فيما بينها، وفي مايو (آيار) 1991، أعلنت المناطق الشمالية من البلاد انفصالها وتأسيس دولتها المستقلة الي عرفت باسم «جمهورية أرض الصومال»، التي لم تزل تفتقر إلى إلى الاعتراف الرسمي والدولي حتى اليوم.
وفي يوليو (تموز) 1991 انعقد أول مؤتمر مصالحة صومالي في جيبوتي، حيث تم الاتفاق على تعيين علي مهدي محمد رئيسًا للبلاد، لكن هذا الاختيار لم يحظ بموافقة الجنرال محمد فرح عيديد. كان عيديد أحد المقربين من نظام سياد بري قبل أن ينشق عنه، ويتولى زعامة «المؤتمر الصومالي الموحد» الذي لعب دورًا رئيسًا في الإطاحة بنظام بري. عُرف عيديد بتشدده، ورفضه المصالحة بين الفصائل الصومالية المتقاتلة، وقد اندلعت المواجهات المسلحة بين أنصار الرئيس علي مهدي وأنصار فرح عيديد الذي صار أهم أمراء الحرب في البلاد؛ مما ولد أزمة إنسانية كبيرة في البلاد.
استدعت الاضطرابات السياسية تدخل الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة، واتخذت تلك القوات من مطار مقديشو الدولي مقرًا لها، كانت التدخل العسكري في البداية تحت غطاء توفير الحماية للجهود الإغاثية التي تقوم بها الأمم المتحدة في ظل الأوضاع المعيشية الكارثية التي ولدها الصراع، لكن رأى أمراء الحرب وفي مقدمتهم الجنرال محمد فرح عيديد أن هذا التدخل الدولي قد يمثل تهديدًا لنفوذهم، وفي يونيو (حزيران) 1993، قُتل 25 جنديًا باكستانيًا تابعين للأمم المتحدة في العاصمة الصومالية، لتضع الولايات المتحدة هدف القضاء على الجنرال عيديد نصب أعينها.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1993، اندلعت معركة مقديشو بين قوات الأمم المتحدة وفي مقدمتها القوات الأمريكية، وقوات الجنرال عيديد. مُنى الأمريكيون بخسائر فادحة وغير متوقعة، إذ تمكن الصوماليون التابعين لعيديد من إسقاط مروحيتين أمريكيتين من طراز «الصقر الأسود»، كما قُتل 18 جندي أمريكي من قوات النخبة «دلتا»، وأصيب العشرات، وتم سحل جثث الجنود الأمريكيين في شوارع العاصمة الصومالية أمام كاميرات التلفاز العالمية.
خُلّدت أحداث تلك المعركة في فيلم أمريكي أنتج عام 2001، وحظي بشهرة واسعة حمل اسم «سقوط الصقر الأسود Black Hawk Down»، وبرغم سقوط مئات الضحايا من الصوماليين، إلا أن الأمريكيين فشلوا في اعتقال الجنرال عيديد أو قتله، وهو ما حدا بإدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون إلى سحب قواتها من الصومال، وفي أبريل (نيسان) 1995 غادر آخر جندي من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة البلاد التي دخلت في مسار مجهول، وبعدها بعام واحد فقط قتل محمد فرح عيديد علي يد خصومه في معارك قبلية في مقديشو.
تعاقبت بعد ذلك محاولات لم شمل البلاد، والتقريب بين الفصائل، وتكررت مؤتمرات المصالحة الوطنية داخل الصومال وخارجه، فاختير عبد القاسم صلاد حسن رئيسًا للبلاد بعد مؤتمر مصالحة في جيبوتي عام 2000، لكن اختياره لم يرق لأمراء الحرب.
تم عقد مؤتمر مصالحة آخر في كينيا تمخض عنه انتخاب العقيد عبد الله يوسف أحمد رئيسًا للبلاد عام 2004، وهو عسكري صومالي عتيد شارك في محاولة الانقلاب الفاشلة ضد سياد بري عام 1978، قبل أن يؤسس أول فصيل مسلح معارض ضد نظامه، كما قاتلت قواته «حركة الاتحاد الإسلامي» في شمال البلاد في بدايات الحرب الأهلية.
إثيوبيا تغزو الصومال لإقصاء «المحاكم الإسلامية»
أربع سنوات قضاها العقيد عبد الله يوسف أحمد على رأس الحكم في الصومال، كان عنوانها الأبرز هو صراعه مع «اتحاد المحاكم الإسلامية». نشأت المحاكم الإسلامية بداية كحركات محلية منفصلة في مناطق مختلفة، هدفها ضبط الأمن والنظام ومكافحة الجريمة، وكان قوامها طلاب العلوم الدينية، قبل أن يتوسع نشاطها وتتوحد في مواجهة أمراء الحرب، وفي عام 2004 اختار «اتحاد المحاكم الإسلامية» شيخ شريف شيخ أحمد رئيسًا له.
اكتسبت المحاكم شعبية واسعة بسبب توفيرها للخدمات الأمنية والمعيشية التي افتقرت إليها الكثير من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة وأمراء الحرب. تعاظمت قوة المحاكم بشكل سريع ونجحت في فرض سيطرتها على معظم أجزاء وسط وجنوب الصومال، قبل أن تتمكن في منتصف عام 2006 من دخول العاصمة مقديشيو، حيث حكمتها لعدة شهور، أعادت خلالها فتح المطار والميناء البحري اللذين ظلا مغلقين طيلة 10 سنوات.
بدأت الحكومة الانتقالية الصومالية و«اتحاد المحاكم الإسلامية» جلسات مفاوضات، ما لبثت أن فشلت، لتقرر حكومة عبد الله يوسف أحمد الاستعانة بالجيش الإثيوبي من أجل هزيمة المحاكم، وفي نهاية عام 2006، غزت القوات الإثيوبية الصومال، ونجحت في هزيمة المحاكم الإسلامية وطردها من مقديشو ومعظم المدن الصومالية، إذ هرب أغلب قادتها إلى خارج البلاد وعاد الرئيس الصومالي وأعضاء حكومته إلى بلاده على ظهر الدبابات الإثيوبية.
انهيار المحاكم الإسلامية لم يترك الساحة خاوية لعبد الله يوسف أحمد، إذ أفسح ذلك المجال لصعود «حركة الشباب المجاهدين»، الجناح العسكري الأكثر تشددًا داخل الحركة. تبنت حركة الشباب المجاهدين التوجه «السلفي الجهادي» الصرف، واتهمتها الولايات المتحدة بالارتباط بتنظيم القاعدة وشبكات «الجهاد العالمي» .
استطاعت حركة الشباب تحقيق مكاسب على الأرض، وتوالت هجماتها ضد القوات الصومالية والإثيوبية، في الوقت الذي دخلت فيه الولايات المتحدة إلى الميدان الصومالي مجددًا بعد غياب أكثر من 10 سنوات، فدأبت الطائرات بدون طيار الأمريكية على قصف مسلحي الحركة وقادتها في هجمات راح ضحيتها الكثير من المدنيين وأثار بعضها استياء الرأي العام محليًا وعالميًا.
في المقابل فإن التيار الأكثر «اعتدالًا» داخل المحاكم قد تم احتواؤه في العملية السياسية، وهو ما تكلل بانتخاب شيخ شريف شيخ أحمد الزعيم السابق للحركة الإسلامية رئيسًا للصومال من قبل البرلمان في يناير (كانون الثاني) 2009، في انتخابات شارك فيها 14 مرشحًا (جاء ذلك بعد استقالة الرئيس عبد الله يوسف إثر خلافات مع رئيس وزرائه حول ضم الإسلاميين «المعتدلين» للحكومة)، وبالرغم من أن شريف شيخ أحمد قد أعلن حل «اتحاد المحاكم الإسلامية»، غير أن ذلك لم ينجح في وقف الهجمات المسلحة والاضطرابات الأمنية في البلاد.
هل تعود الصومال إلى «زمن الاستقرار الجميل»؟
قضى شيخ شريف أحمد في سدة الرئاسة فترة واحدة، إذ خسر انتخابات عام 2012 أمام حسن شيخ محمود، الذي صار الرئيس الثامن للصومال، ولم يفلح حسن شيخ محمود بدوره في نيل ثقة البرلمان لولاية رئاسية جديدة، إذ خسر انتخابات العام 2017 لصالح الرئيس الصومالي الحالي محمد عبد الله فرماجو.
وفرماجو سياسي صومالي حصل على اللجوء السياسي في الولايات المتحدة، قبل أن يعود في عام 2010 ليصبح رئيسًا للوزراء بتكليف من الرئيس شيخ شريف شيخ أحمد، قبل أن يستقيل بعدها بعدة أشهر، يترشح لانتخابات الرئاسة عام 2012، ثم انتخابات العام 2017 التي تغلب فيها على الرئيسين السابقين حسن شيخ محمد وشيخ شريف شيخ أحمد، ليصبح فرماجو الرئيس التاسع للبلاد منذ الاستقلال.
كان من المقرر أن تنتهي ولاية الرئيس عبد الله فرماجو في فبراير (شباط) هذا العام، لكن قبل أيام أقر البرلمان الصومالي تشريعًا وافق عليه فرماجو، يمدد مهلة الرئيس والبرلمان عامين إضافيين، مع التحضير لانتخابات مباشرة، وهي الخطوة التي أثارت احتجاجات داخلية وتحذيرات دولية، واعتبرها البعض عودة بالبلاد إلى الوراء، وتأتي هذه الخطوة وسط خلافات بين الحكومة من جهة، ورؤساء الأقاليم والمعارضة من جهة أخرى، حول تفاصيل متعلقة بآلية إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
تعليقات