البنا يقر النظام الملكي الذي عقد مؤتمرا خاصا للجماعه في 1937 للترحيب بتنصيب ملكه الجديد ؟ ام كان يخطط لأقامة نظام جمهوري كما إدعت اجهزة الامن في نهاية الاربعينات ؟

                               

 
البنا يقر النظام الملكي الذي عقد مؤتمرا خاصا للجماعه في 1937 للترحيب بتنصيب ملكه الجديد ؟ ام كان يخطط لأقامة نظام جمهوري كما إدعت اجهزة الامن في نهاية الاربعينات ؟ الاجابه في الحالتين انه ليس هناك اجابه .. ) ... ثم يسجل بعد ذلك قناعته بأن عدم وضوح التصورات السياسيه للجماعه كان عبئا عليها في المواجهات التي خاضتها ... ولعل تلك القناعه التي وصل اليها الدكتور بشير تمثل دافعا اساسيا للتعرض لهذه المسأله هنا فإذا تحدثنا بمعيار الموازنة بين المضار والمنافع الذي دعي الامام البنا لإعماله في مسائل استخدام القوه – وفق ما اثبتناه في صدر هذا البحث - فلا ريب ان عبئ هذا الغموض وآثاره السلبيه علي علاقه الجماعه بالمجتمع ، بل وعلي افراد الجماعه ذاتهم يمثل احد المضار التي ينبغي اخذها في الاعتبار... خاصة وان التجارب قد اكدت ان الخصوم يوظفونه في تشويه الجماعه ، ودمغها باسوأ الاحتمالات التي يمكن ان يتيحها هذا الغموض .
النظره التاسعه :- العمل السري المسلح يبدد ثمارالجهد الدعوي العلني
بذل الامام البنا جهد المستميت في محاولة تلافي الصدام بين الدوله والجماعه عام 1948 ، او محاولة تقليل آثاره السلبيه ما إستطاع ... ولفظ " جهد المستميت " هو التعبير الي اختاره الامام ذاته في تعقيبه علي مذكرة حل الجماعه ليوضح حجم المحاولات الذي قام بها ( تحملنا الصدمه العنيفه التي لم نكن نتصورها بصبر عجيب ، وتلقيناها بهدوء وثبات ، وحاولنا ان نمهد السبيل للحكومه لتراجع نفسها ،وتعيد الامور لنصابها ، وبذلنا جهد المستميت في سبيل تفادي الكارثه ، والعمل علي حصر نتائجها السيئه في اضيق نطاق..) ويشهد الاستاذ فهمي ابو غدير في تقديمه لهذا التعقيب ( ان الامام البنا وسط كل من يعرف ان له صله بالحكومه ) ... وبديهي ان الامام البنا لم يبذل هذا الجهد الا في ظل قراءه للواقع - كقائد مسئول – جعلته ينحاز لهذا الخيار ... وكان يجب علي جميع افراد الصف الالتزام بهذه القراءه وهذا الخيار احتراما لموقع القياده وتقديرا لمسئوليتها ... غير ان الازدواجيه المترتبه علي خصوصية وضع النظام الخاص كان لها تداعياتها السلبيه في هذا الموقف العصيب إذ بدا ان هناك من ينظر ويقرر هو الآخر بعيدا عن القياده الشرعيه للجماعه ...
يروي الاستاذ محمود الصباغ في " كتابه حقيقة النظام الخاص " وقد كان احد افراد المجموعه القياديه في ذلك النظام ( كان الشهيد سيد فايز هو مسئول النظام الخاص عن مدينة القاهره بعد اعتقال كل من يعلوه في القياده ... وقد نظر الي قرار حل الاخوان ، وفي الظروف التي تحيط بهذا القرار في الميدان اوداخل مصر ، فشعر انه محكوم بحكومه محاربه للاسلام والمسلمين ، وقرر الدخول معها في حرب عصابات ... وبدأ معاركه برأس الخيانه النقراشي ، فكون سريه لقتل النقراشي باشا غيله ، ونجح في ذلك .. ) ، وبالطبع فقد إنتهت هذه الازدواجيه ليس فقط الي إفشال جهود الامام البنا في تهدئة الحكومه .. بل لإغتياله هو نفسه في اكبر خساره حاقت بالجماعه ، وبالمشروع الاسلامي عامة في تلك المرحله ، ودون تحقق اي فائده ملموسه .
ولعل المآلات المأساويه لهذه الازدواجيه قد ظهرت بجلاء بعد حادث محاولة تفجير مكتب النائب العام بمبني المحكمه .. يروي اللواء صالح حرب رئيس جمعية الشبان المسلمين واحد الرفقاء القلائل للامام البنا في تلك الايام العصيبه انه كان في حالة تأثر شديد بعد حادث محاولة تفجير المحكمه وقال له كيف اصدر بيانا بالأمس استنكر فيه هذه الاعمال فيجئ الولد المتهم – شفيق انس – ويعمل ذلك .. ماذا يقولون ؟ .. ويستمر اللواء حرب في وساطته لعقد إجتماع بين الامام البنا ومصطفي مرعي ممثلا للحكومه حيث يكرر الامام طلبه بالافراج عن المعتقلين ، فيرد مصطفي مرعي بحده :- معتقلين ايه .. بقي بعد الحادثه دي حد يقدر يتكلم في حاجه ؟ ويرد الامام :- المعتقلين ذنبهم ايه ما دام واحد مجنون عمل كده ؟ ويتعهد انه بعد الافراج سيكون مسئولا عما يحدث ... ولكن هيهات ... وتتوقف الاتصالات ويضطر الامام البنا ليكتب ما يشبه الإستعطاف للمجرم ابراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء الذي اعقب النقراشي ، وذلك لإستئناف الاتصالات ... جاء فيه – وكل ذلك وفق رواية الاستاذ محسن محمد – ما يلي ( تفضلتم دولتكم فسمحتم لمصطفي مرعي ان يتقبل اتصالي بمعاليه ، ولا زلت ارجو ان تتفضلوا دولتكم بإقناع معالي مصطفي مرعي بمعاودة السير في الطريق الموفق الذي بدأه حتي نصل بإذن الله الي غايتنا ) ... ولا نظن ان الامريحتاج الي تعليق من جانبنا .
ومن المفيد ان نثبت هنا نظرات ثاقبه للدكتور حسان حتحوت – احد مجاهدي الجماعه في حرب فلسطين – توضح كيف عملت هذه الازدواجيه علي افشال حركة الجماعه امام الازمات التي واجهتها ، وذلك حين " تستهين العضلات بالمخ ، بل وتتقمص دوره فترتكب الحماقات " وفق تعبيره المبدع ( إن آفة هذه التنظيمات السريه انها عرضه عادة – من جراء الشعور بقوة السلاح – لأن تعتبر نفسها هي العنصر المهم في الحركه .. وتشير الدلائل الي انهم فعلا في مرحلة من المراحل نظروا الي حسن البنا علي انه مجرد رجل يحسن الخطابه ، وان الهيكل العام للحركه ما هو الا واجهه ، وفي هذه الظروف كانوا يبيحون لانفسهم التصرف دون الرجوع للقياده ... وتكون الطامه حين يحال بين القياده الشرعيه ، وبين هذا الجهاز السري ، فإذا بالعضله تتقمص دور المخ فترتكب حماقات يدرك كل ذي بصيره ان وراءها الشر كله وليس وراءها من الخير شيئ ) .
لقد حاول الامام البنا – ما إستطاع – في رده علي مذكرة حل الجماعه عام 1948 ان يفند اتهامها باللجوء الي العنف ، وبالعمل علي قلب نظام الحكم ..محتجا بأن مثل هذا العمل - إن حدث – فهو مسؤولية من قام به ( اذا كان الكيد والالم ... وصل ببعض الشبان من الاخوان او غير الاخوان الي ان يتخيلوا او يفكروا او يظنوا ان في مقدورهم ان يغيروا هذا الوضع الفاسد بوسائل من العنف كاستخدام القوه فهم مسئولون عن نتائج تفكيرهم ، وليست هيئة الاخوان مسئوله عنهم او عن غيرهم ما دام طريقها واضحا ووسيلتها معروفه معلنه علي الخاص والعام مقررة في قوانينها ونظمها ورسائلها..) ...وكما هو معلوم فقد اضعف من هذا التفنيد ظهور صلة تنظيميه بين بعض انشطة العنف وبين الجماعه.
ويبرز الاستاذ راشد الغنوشي التداعيات الوخيمه لممارسة انشطه عنيفه من خلال تكوينات تابعه لجماعه دعويه اجتماعيه ، وذلك في صورة تخيليه موحيه ( كمركبه جمعت جنبا الي جنب كل ما جمعناه من ثروه ومكسب مع مواد شديدة الحساسيه والتفجر ، وحري باي انفجار يحدث بالعمد او بالخطأ ان يأتي علي كل ما جمعناه من كسب وثروه ...وهو عين ما حصل ، فبمجرد وقوع حوادث قليله تورط فيها بعض المشتغلين بنواحي القوه في هذا التنظيم كانت الدوله كفيله ليس فقط بتدمير الجهاز والقائمين عليه ، وإنما جرت هذه القاطره المحترقه كل القاطرات الاخري الي الاحتراق والدمار ... إذ حوسب بتلك الاعمال الطائشه الوعاظ في المساجد ، والعاملون في القطاع النقابي والتربوي والرياضي ، وصودرت الشركات الاقتصاديه والصحف والجرائد والجمعيات الخيريه والمدارس ، ونشاط المرأه والطفل ... فضلا عن النشاط السياسي ، والنشاط الحركي القيادي الذي يقود المركبه كلها ، وينظم الاوركسترا ... لم يجد قيادة تلك الحركات نفعا التبرؤ من الجزء المتفجر علي امل إنقاذ الاجزاء الاخري بسبب وجود إرتباط تنظيمي حقيقي بين كل الاجزاء بما يعطي للخصم المبيت للعدوان مبررا لوضع الجميع في كيس واحد ، ويعلق عليه لافتة الارهاب ، ويشهد التاس علي ذلك لتبرير إتلاف الكيس جملة ) .
ويعرج الاستاذ الغنوشي علي تجربة الامام البنا والنظام الخاص في مصر ( كان إستخدام القوه من طرف هذه الحركات من قبيل الاستدراج والتفلت ، ولم يكن ثمره إستراتيجيات تثقفت وتأطرت الحركه منذ البدايه في إطاراتها ، واعدت لها عدتها علي ضوء قراءه علميه في موازين القوي الداخليه والخارجيه ... كلا لم يحصل شيئ من ذلك ، وإنما الذي حصل نوع من الانزلاق ، والاستدراج ... ولما وجدت القياده نفسها وقد ورطها جناحها الخاص في اعمال عنيفه تصرفت إما بالتبرؤ منه " ليسوا اخوانا ..وليسوا مسلمين " او هي قد اسلمته قيادها ومصيرها ، فهلك واهلك ) ولعله يقصد بتعبير " اسلمته قيادها ومصيرها فهلك واهلك " التجربه المأساويه للاخوان المسلمين السوريين في مطلع الثمانينات .
و يثبت الاستاذ الغنوشي رفضه الحاسم لفكرة الجمع بين الحركات الدعويه وانشطة العنف في إطار تنظيمي واحد ( قد يذهب الي خلد الغشوم ان الجمع بين الحركه الدعوية وانشطة العنف ممكن اذا اسررنا بهذا الجمع حتي لا تحرم الحركه من الشوكه التي تؤمنها ايام الشدائد ، وهو وهم ... لانه تأمين معكوس اي هو تعريض الجماعه لاشد الاخطار بما يجعل لخصومها المتربصين سبيلا عليها بما تؤول اليه من حال بئيس يحرمها حتي من امكانية التظلم..) .
علي ان هناك ملاحظتين جديرتين بالإعتبار فيما يتعلق بمعالجة موضوع الازدواجيه في التنظيم
الملاحظه الاولي :- وهي تتعلق بأن المخاطر المترتبه علي هذه الازدواجيه لا تقتصر فقط علي المآلات ، ولكنها ترتبط ايضا بالتباين في الاحتياجات بين العمل الدعوي وانشطة العنف ليس فقط علي مستوي التباين في التكوينات التنظيميه التي تتطلبها كل نوعيه بل حتي علي طبيعة الافراد التي تتناسب مع كلا المسارين ، ومن المفيد ان نثبت هنا تقييم المستشار طارق البشري لتأثير هذا التباين علي التماسك الداخلي لجماعة الاخوان المسلمين في الاربعينات من القرن الماضي ( لقد نشأت جماعة الاخوان المسلمين كتنظيم يعتمد علي الشعب ، وعلي الانتشار العلني ، ثم ما لبث ان ظهر بداخلها ما عرف باسم " النظام الخاص " وهو تنظيم يمثل في النهايه " كتيبة الصدام " عندما تظهر الحاجه لكتائب الصدام ، ولكن وجود التنظيمين في بردة واحده لم يكتب له ان يبقي طويلا لان لكل من التنظيمين تكوينه المتميز ، والوسط المتميز الذي يحيا فيه ، من حيث اختيار الرجال ، ومن حيث العلاقات التنظيميه ، ومن حيث ادوات العمل ، ومن حيث وجوه العطاء المطلوب والمبذول ، ولكل منهما فكراو فقه يلائم وظيفته : الانتشاراو الصدام ... والفكر هو ماء الحياه ، وماء الحياه الذي يلزم لجماعه مفتوحه تعمل لنشر دعوتها بين العامه ليس كماء الحياه الذي يلزم جماعه اعدت نفسها لتكون كتيبة صدام وامتناع ومقاومه ، وليس بناء المجلس النيابي كبناء الجيش من حيث الرجال المختارون ، وعلاقات العمل ومستوياته والنظم ، وهما ليسا متماثلين من حيث الفكر الذي يقومان به ويسقيهما . لذلك فقد حدث ما عرفناه من وقائع الحركه الاسلاميه من مشكلات بين التنظيمين في نهاية الاربعينات وبداية الخمسينات ) ...
وفي ذات السياق يلاحظ الاستاذ الغنوشي التمايز بين الاحتياجات التنظيميه والفرديه لكلا النشاطين ( ان الطبيعه التنظيميه والثقافيه للوحدات المسلحه تختلف بالضروره عن مثيلاتها في الحزب السياسي ، فمقابل الطبيعه الصفويه والسريه والانضباطيه المطلقه هناك تجد الانفتاح علي عامة التاس وإتساع دوائر الشوري هنا ...فأيما خلط بين هاتين الاستراتيجيتين حري بأن يذهب بخير ما فيهما ) .
الملاحظه الثانيه :- ان رعونة انظمة الحكم وإستهانتها بالحقوق القانونيه – بل والانسانيه -لابناء الحركات الاسلاميه تدفع في إتجاه تغافل هذه الحركات عن الحرص علي سلامة مواقفها ومواقف ابناءها امام القانون والدستور ، وربما امام الاعراف الاجتماعيه كذلك ، إذ يبدو ان النتيجه لن تختلف في كل الاحوال ... والحقيقه ان هذه نقطه خلافيه غير مسلم بها ، ومن المفيد ان نثبت هنا رؤيه مغايره للاستاذ الغنوشي يدافع فيها عن فكرة وجوب حرص الحركات الاسلاميه - ما إستطاعت – عن سلامة هذه المواقف ( لا يستوي ابتلاؤنا مسالمين او ابتلاؤنا محاربين ، صحيح ان الطاغيه عندما يقرر ضرب الجماعه يفتعل لذلك الاسباب ، ويتهم الدعاه بأسوأ الاتهامات ، ويوقع عليهم من العقاب ما يشاء ،
ولكن تبقي هناك عدة فوارق اساسيه :-
الاول :- أن علي المسرح عنصرا ثالثا هاما جدا هو الشاهد ، فكم هو مفيد جدا ، واستراتيجي ايضا ، أن اضمن ان يكون هذا الشاهد – ممثلا في الرأي العام المحلي والخارجي وكل المتابعين لهذه المعركه – معنا ، وينبغي الحرص كل الحرص ان يكون الناس معنا في معركتنا مع اعداء الدين والوطن ، وان يكونوا في الحد الادني متعاطفين معنا ، وعلي اقتناع بأن ما رمتنا به السلطه من اتهامات باطل في باطل حتي نربح المعركه الاعلاميه ، وهي هامه جدا ... وذلك ما لا يكون ميسورا ، اوهوصعب المنال جدا اذا كان قد خالط عملنا قدر ولو يسير من العنف .
الثاني :- إن فشل الخصم في تجريم الحركه ... من شأنه ان يفرض عليه – وهو مصمم علي ضربها – نوعا معينا من التعامل معها يضطره الي إستبعاد الحرب الشامله ، وهناك فروق نوعيه بين حجم وعمق الضربه التي وجهت لاخواننا بمصر زمن عبد الناصر ، وبين ما يلاقونه اليوم – يقصد في عهد مبارك - والسبب واضح ان السلطه – علي بغضها لهم ، وخوفها منهم – فشلت في إقناع الشاهد بمصداقية ما ترميهم به، فما إستطاعت ان تتجاوز في عدوانها حدود المحاصره ، والتضييق ، ومنع التوسع ، دون الوصول الي مرحلة كسر العظام)
ولعله من المفيد في ختام هذه المعالجه لخطورة الجمع بين العمل الدعوي وانشطة العنف في تنظيم واحد ان نثبت اثنتين من الرؤي ذات الصله بالمساله من زاويتي التحليل النظري و التجربه العمليه :-
- من زاوية التحليل النظري:-
فقد انتهي الدكتور إبراهيم البيومي غانم بعد دراسته لتجربة الامام البنا ( إن خلاصة تجربة الامام البنا في مجال التغيير الاجتماعي تؤكد علي ان الجمع بين منهجيات متناقضه للتغيير في إطار تنظيمي واحد هو امر محفوف بالمكاره ، وضرره اكبر من نفعه ، وتذهب سيئاته بحسناته في معظم الاحوال )
- من زاوية التجربه العمليه :-
فقد إنتهي الاستاذ فريد عبد الخالق الي انه ( من خلال تجربتي ما من حركه ذات شق عسكري ، إلا واصبح الشق العسكري مؤسسه مستقله ، واصبحت الحركه حصانا برأسين )
النظره العاشره :- كيف نظر الامام البنا الي شرعية الحكم في عصره ؟
من المعلوم ان هناك إرتباط وثيق بين شرعية الحكم ، ومسألة استخدام العنف التي نحن بصدد دراستها ... فغياب هذه الشرعيه يفتح الباب امام استخدام العنف في مواجهة الحكام .. فتري كيف نظر الامام البنا الي شرعية الحكم في عصره ؟ .. بداية فقد كان الامام البنا واضحا في رسائله من ان الجماعه ( لا تعترف بأي نظام حكومي لا يرتكز علي اساس الاسلام ولا يستمد منه .. وسنعمل علي إحياء نظام الحكم الاسلامي بكل مظاهره ، وتكوين الحكومه الاسلاميه علي اساس هذا النظام ) .. وقد صارح الامام البنا بذلك في رسالة الي الشباب في مطلع الاربعينيات ، وظلت تلك الفكره مستقره لديه طيلة ذلك العقد حتي عبر عنها مرة اخري - قبل إستشهاده بشهور قليله - في مقالته الشهيره بعنوان " معركة المصحف " حيث اعلن ( ان الاسلام شريعه ربانيه جاءت بتعاليم انسانيه ، واحكام اجتماعيه ، وكلت حمايتها ونشرها ، والاشراف علي تنفيذها بين المؤمنين بها ، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها الي الدوله اي الي الحاكم الذي يرأس جماعة المسلمين ويحكم امتهم .. وإذا قصر الحاكم في حماية هذه الاحكام لم يعد حاكما اسلاميا ، وإذا اهملت شرائع الدوله هذه المهمه لم تعد دوله إسلاميه ... اين نحن من هذا كله ؟ .. يا دولة رئيس الحكومه انت المسئول بالأصاله .. يا معالي وزير العدل انت المسئول بالإختصاص .. ويا أيتها الأمه انت المسئوله عن الرضا بهذا الخروج عن حكم الله لأنك مصدر السلطات .. ففاصلي حكامك .. ) .
ولعل التساؤل الذي يطرح نفسه هنا .. هل القدح في الشرعيه – في هذه الحاله - يقتصر علي الحكومه المقصره فقط ام انه يمتد للنظام الحاكم بأكمله وعلي رأسه ملك البلاد ؟ .. للامام البنا عبارات قديمه في ان ( جلالة الملك هو حاكم البلاد الشرعي ، وهو والحمد لله – ومن جميل توفيقه يؤدي الفرائض ، ويعمل علي ما فيه إعزاز الاسلام والمسلمين ، فموقف الاخوان من السراي موقف الولاء والحب ..ولا يمنع ذلك من توجيه النصيحه الواجبه .. ) .. وتتكرر الفكره في رسالة المؤتمر السادس ( نحن مخلصون للعرش وللجالس عليه ، ونسأل الله ان يمده بعنايته وتوفيقه ، وان يصلح به البلاد والعباد ، ذلك لأنه رئيس الدوله الاعلي ، ومظهر النظام الحكومي .. ) .. والرسالة بعد ذلك تحمل نقدا قاسيا ليس فقط للحكومه القائمه وقتها ، ولكن ( للحكومات المصريه علي مختلف الوانها ) ...
وعندما يتكلم الامام عن المسئوليه عن تحريم المنكرات – في قضية تحطيم الحانات السابق تعرض لها – فهو يذكر الحكومه ويتحدث عن سحب الثقه منها إن قصرت في ذلك ... بل انه عندما يتحدث عن قيام الزعامه الشعبيه ومن خلفها الامه بسحب الثقه والعزل نجده يحدد مبررات ذلك نصا بأنه يتم ( عند إنحراف القياده – الحكومه – عن الصراط المستقيم ) .. ويترك المعني " حمال اوجه " فهل هو يقصد بكلمة الحكومه المعني اللغوي اي من يحكم البلد اين كان مسماه ؟ ، ام هويقصد بالحكومه المعني الاصطلاحي المنصوص عليه في الدساتير ؟ .
ولا حرج ان نلفت الانظار ان هذا كان ديدن الامام البنا في رسائله وخطبه ومقالاته .. توجيه النقد للحكومات وتحميلها بالمسئوليه ، وفي ذات الوقت التلطف في مخاطبة الملك والتأكيد علي وضعه كحاكم شرعي للبلاد ، بالطبع مع الحرص علي عدم الوقوع في مزالق شرعيه في العبارات المستخدمه ... والحقيقه ان مسئولية الملك تمثل نقطه قابله للجدل دستوريا ، وقد اشار الي ذلك الامام البنا ذاته في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الاسلامي حيث لاحظ ان ( الاصل في المسئوليه في النظام النيابي ، ان المسئول هو الوزاره ولا مسئوليه علي رئيس الدوله ، وقد جري علي هذا الوضع الدستور الانجليزي والدستور المصري ، فصرح كل منهما بمسئولية الوزاره ، وإخلاء رئيس الدوله من كل مسئوليه وإعتباره لا يخطئ ، وإعتباره ذات مصونه لاتمس ) ..
إلا ان الامام البنا إعتبر ان تحديد مسئولية الملك من النقاط الغامضه في الدستور والتي تتطلب ايضاحا اكبر ... علي اننا هنا لسنا معنيين بدقائق الناحيه الدستوريه قدر عنايتنا بالحقائق علي ارض الواقع .. وقد اكدت هذه الحقائق طيلة العقود الثلاث للحكم الملكي منذ دستور 1923 – والتي عايش أغلبها الامام البنا - علي الوزن الكبير والدور الواسع للملك في توجيه الحياة السياسيه بما يفوق بكثير وزن ودور الوزارات المتعاقبه ، ويكفي – كإشاره ذات دلاله – ان الملك كان يتحكم في نتائج الانتخابات النيابيه – بالتأثيروالتزوير - بما ادي الي إستبعاد حزب الوفد صاحب الاغلبيه الشعبيه الكبيره من تشكيل الوزاره وذلك لصالح احزاب الاقليات التي يدعمها الملك – ويتحكم فيها - وذلك خلال الجانب الاكبر من المرحله الملكيه ... فإذا كان الامر كذلك فمثل هذه الحقائق لم تكن لتخفي علي الامام البنا ، ومن ثم فنحن في حاجة للتروي لدي سعينا لتفهم المنهجيه التي كان يسير عليها والتي عرضنا اليها هنا ...
والذي يغلب علي الظن ان الامام كان متفائلا في بدايه عهد فاروق انه يمكن بشيئ من المسانده من بعض الشخصيات الوطنيه القريبه منه ان يسلك الطريق المأمول .. ثم تحولت سياسة الامام البنا – مع إنحدار اوضاع فاروق – الي نوع من المداراه والمناوره لتحقيق قدر من الموازنات ، ولتقليص حجم العداوات التي واجهتها الجماعه مع تنامي وزنها السياسي ... ولعل هذا يفسر إستمرار الامام البنا علي ذات المنهجيه في خطابه تجاه الملك طيلة وجوده علي رأس الجماعه وحتي في صياغته للشكوي التي رفعها الي الملك من قرار النقراشي بحل الجماعه .
ولعله من المفيد هنا ان نثبت هذه الروايه التي دارت عام 1945 عندما تم لقاء بين الامام البنا ويوسف رشاد – احد رجال الملك المقربين – عن طريق انور السادات ... وبعدها حكي رشاد للسادات انه حاول - إثر هذا اللقاء - إقناع الملك بإخلاص البنا له فضحك الملك قائلا له " لقدسخر منك البنا ".. وعبر السادات عن دهشته من هذا الموقف ... ويعقب اللواء صلاح شادي في مذكراته علي دهشة السادات ( الحقيقه التي ربما غاب عن السادات إدراكها ، ولم تغب عن الملك، هي ان حسن البنا لم يحمل له ولاء ، ولا للنظم القائمه ) .. وبالطبع فإنه من غير المتوقع ان نجد تأكيدا لشهادة الاستاذ صلاح شادي هذه في كلام الامام البنا المنشور إلا اننا نجد تعزيزا لها في بعض ما قام به الامام البنا من انشطه توحي بعدم قناعته بشرعية النظام القائم .. مثل إنشاء النظام الخاص ، وترتيب تكوينات تابعه للجماعه في الجيش ، وايضا تأكيده الدائم علي ضرورة الاستعداد للجهاد دون الاعلان عن هدف محدد لهذا الجهاد ...
ومن الواجب هنا المسارعه بالتحفظ بأن قناعة الامام البنا بعدم شرعية النظام القائم لم تكن تعني بالضروره إقراره لوجوب إستخدام العنف تجاه الحكام فلم ينسب اليه هذا الاقرار مباشرة اوضمنا ، ولكنها تعني ان إستخدام القوه امر وارد إن كان ذلك ضروريا ومجديا وفق ما سبق وان عرض اليه في الرسائل ... ولعله من المفيد ان نلاحظ هنا ان هناك إشاره قويه لقناعة الامام البنا بعدم شرعية النظام الحاكم تتمثل في ذلك الفهم الذي اورثه لمن بعده ، والذي سمح لقيادة الجماعه وعلي رأسها مرشدها المستشار الهضيبي بالمشاركه في حركة الجيش في 23 يوليو دون أي إعتبار لشرعية النظام الذي يجري إسقاطه .. علما بأن مشيئة الله فقط هي التي قدرت ان تكون هذه الحركه سلميه ، وكانت الاحتمالات القائمه عند اتخاذ قرار المشاركه لا تخلوا من الاضطرار لاستخدام القوه بصوره او اخري .
القسم الثاني :- مرحلة ما بعد الامام البنا
اولا :- المستشار حسن الهضيبي يسعي لمعالجة معضلة النظام الخاص
عندما تولي المستشار حسن الهضيبي مسؤولية قيادة الجماعه كان من اول المسائل التي سعي لمواجهتها معضلة النظام الخاص ... وحتي نأتي بالمسأله من جذورها التي نشأت في عهد الامام البنا نثبت هنا رواية الاستاذ محمود عبد الحليم حول ان الامام البنا كان بصدد مواجهة هذه المعضله لولا ان المنيه عاجلته ( في اواخرايام الاستاذ الامام حسن البنا رحمه الله كان النظام قد خرج عن الخط المرسوم له ، واتي افعالا لا تتواءم مع وسائل الدعوه، ولا مع اهدافها دون الرجوع في شأنها الي الاستاذ الامام مما جعل الدعوه والاستاذ الامام في احرج المواقف ...
واشرنا الي عزم الاستاذ الامام علي إعادة النظر في هذاالنظام لولا ان تفاقمت الظروف وعاجلته المنيه ، ولقي – رحمه الله – ربه والاخوان في السجون والمعتقلات ) .. وقد إعتبر الدكتور عبد الله النفيسي ان وضع هذاالنظام مثل المشكله الداخليه الاساسيه التي واجهت جماعة الاخوان خلال السنوات الاخيره من عهد الامام البنا ، واستمرت في عهد المستشار الهضيبي حيث بات النظام الخاص ( يسبب إزدواجيه في القياده ، فقد كان ينافس البنا في قيادته للاخوان - وقد شعر البنا بذلك وكان بصدد معالجة هذا الوضع المعوج غير ان المنية عاجلته – اما الهضيبي فقد كان النظام الخاص لا يتعامل معه بنديه فقط بل بشيئ من الفوقيه والاستقلال التام عنه ... لقد ولد هذا الوضع تنظيما اخر له رؤيته الخاصه ومشروعه الخاص في الحركه والفعل وعلاقاته المستتره التي تجهلها حتي الهيئات العليا للجماعه سواء كان مكتب الارشاد اوالهيئه التأسيسيه ) .
وكما هو معلوم فقد بدأت شواهد إضطراب وضع النظام الخاص ظاهرة للعيان مع مطلع عام 1948عندما قام رئيس هذا النظام بتكليف بعض شبابه بإغتيال المستشار الخازندر دون الرجوع لقيادة الجماعه ، ولأسباب لا تبرر قتله بحال من الأحوال وفق ما افضي به الامام البنا لقادة الجماعه لاحقا .. وقد كان لذلك دلالة لاتخفي علي الازمات التي يمكن لهذا النظام ان يورط فيها الجماعه ... يروي الاستاذ فريد عبد الخالق كيف بدا الامام البنا عندما علم بمقتل المستشار الخازندار علي يد افراد من النظام الخاص ( لقد شاهدت البنا يوم مقتل الخازندار في حاله لم اره فيها من قبل لدرجة انه شد شعره ، وقال الذي ابنيه هم يهدمونه ، انا ابني وهم يخربون ... لماذا يقتل قاضي مهما كان حكمه ؟ ) ، ومع ادانة الامام البنا – داخل اطر الجماعه - للحادث فقد سعي وقتها لمعالجة آثاره بهدوء ما استطاع .. غير انه مع قيام افراد من النظام بإغتيال النقراشي بعد اصداره لقرار حل جماعة الاخوان المسلمين ، وكان ذلك الاغتيال – بداهة - بالمخالفه لنهج الجماعه ، ودون الرجوع لقيادتها ...
فقد قام الامام البنا باصدار بيان إستنكرفيه عملية الاغتيال واكد فيه انه ( لاالجريمه ولا الارهاب ولا العنف كانت من وسائل الجماعه لانها تأخذ من الاسلام .. ولقد حدث ان وقعت احداث نسبت الي بعض من دخلوا هذه الجماعه دون ان يتشربوا روحها ... ولما كانت طبيعة دعوة الاسلام تتنافي مع العنف بل تنكره ، وتمقت الجريمه مهما كان نوعها ، وتسخط علي من يرتكبها ، فنحن نبرأالي الله من الجرائم ومرتكبيها...) ... ورغم هذا الإستنكار القوي والمعلن قام البعض من اعضاء النظام الخاص – بعدها بايام - بمحاولة لتفجير مكتب النائب العام .. فأصدر الامام البنا بيانه الشهير " ليسوا اخوانا وليسوا مسلمين " اكد فيه ( ان من الواجب علي ان اعلن ان مرتكب هذا الجرم الفظيع وامثاله من الجرائم لايمكن ان يكون من الاخوان ولا من المسلمين لان الاسلام يحرمها والاخوه تأباها وترفضها ... واني لاعلن انني من اليوم سأعتبر اي حادث من هذه الحوادث يقع من اي فرد سبق له اتصال بجماعة الاخوان موجها الي شخصي ، ولا يسعني ازاء ذلك الا ان اقدم نفسي للقصاص..) .. ولقد آثرنا ان نثبت كلمات الامام البنا المؤلمه هذه لانها تعبر عن جسامة المصائب التي جرها تفلت النظام الخاص علي الجماعه ...
ولعله من تمام الفائده – وإن كان مما يثير الحزن ايضا - ان نذكر ان إطلاع مرتكب حادث النقراشي – رحمهما الله - علي بيان الامام البنا بخصوصه قد ادي به للإعلان هو بدوره – كاشفا احدي سوءات السريه والعمل في الظلام - عن انه ( عجب لبيان الاستاذ حسن البنا الذي نفي فيه علمه بالجريمه ، وانه يبرأ من مرتكبها مستندا في ذلك لآيات واحاديث ... وانه يعلن لجميع افراد النظام الخاص انه قد غرر بهم جميعا وليس هو وحده ، وانه كان يعتقد – بحسب تعاليم هذا النظام الخاص - ان كل امر يكلف بإرتكابه افراد نظامنا يوافق عليه حسن البنا شخصيا بصفته القائد لهذ النظام ..) وكان من الطبيعي بعد هذه الصدمه ان يبادر بالاعتراف علي شركائه في ترتيب عملية الاغتيال بعد طول صمود وكتمان ...
ولعله من تمام الفائدة ايضا ان نثبت هنا ايضا ما أورده الدكتور عبد العزيز كامل في مذكراته إستهجانا لمن يظن ان الامام البنا قد ذكرما ذكرفي هذين البيانين تمويها اوتقية دون قناعة بما ورد علي لسانه بهما ، وهي شهادة من خبير إذ كان لصيقا بالامام البنا إبان حادث قتل الخازندار وشهد كم الغضب والالم الذي اصابه من جراء ذلك الحادث ... يقول الدكتورعبد العزيز كامل ( ورب قائل يقول : إن هذا كله تم عن تراض وتشاور بين الاستاذ وبين الذين قاموا بهذا الامر ... ولكنه دفاع أهون منه الإدانه ، والوقوف الي جانب المسئوليه ، اوعلي الاقل عدم إدانة من قام بالامر بانه ليس أخا وهذه تهون ... وليس مسلما !؟... والاسلام واضح في هذا الموقف ، وحديث رسول الله بين ايدينا " من قال لاخيه يا كافر فقد باء بها احدهما " )
ولا نستغرب والحال هكذا ما اورده الاستاذ حسن عشماوي في مذكراته - وهو احد من سعوا لدي المستشار الهضيبي لقبول تولي قيادة الجماعه – من إشتراط المستشار عدم وجود جهاز سري بالجماعه لتولي موقع الارشاد ( وافق الهضيبي علي تولي الارشاد ، ولكن بشروطه ، ومنها الا جهاز سري في الجماعه ... فالدعوه عامه ، والجهاد ليس مفروضا علي البعض دون الاخر ... فيجب ان يتهيأ الجميع لتحمل اعباؤه ... ووافق الاخوان علي شروطه ..) ..علي ان الامر لم يخل من عوائق عند التنفيذ ( كانت مشكلة النظام الخاص كبري المشاكل ، فالمرشد لا يري محلا لوجوده ... وإقتنع اغلب الاخوان – داخل النظام الخاص وخارجه – برأي المرشد ، وبانه ليس هناك تلازم حتمي بين وجود تنظيم سري وبين فريضة الجهاد في الاسلام .. ولكن بقيت الاقليه الرافضه لهذا الراي – عن إعتقاد اومصلحه – تواصل متاعبها ، وكان لها ضحاياها ، وعاني منها المرشد عناء كبيرا .. ) ولم يتوان المرشد الجديد علي ان ينشر توجيهاته بين صفوف الجماعه ( ان الارهاب ضار بالجماعه ، وضار بالاسلام ، وضار بمصر ..) .. ويروي الاستاذ حسن دوح قائد طلاب الاخوان في الجامعه واحد مجاهدي فلسطين والقناه شهادته عن نظرة المرشد العام الجديد للنظام الخاص ( حدثني الهضيبي كثيرا عن ان الجهاز السري يشكل خطرا علي الاخوان ) ... وهو ما يتسق مع ما ورد كذلك علي لسان الشهيد الشيخ محمد فرغلي ( كان الهضيبي لا يريد ان يكون النظام موجودا )
ووفقا لرواية المستشار حسن الهضيبي ذاته فإنه كان في طريقه لتصفية النظام الخاص فقد ذكر انه حين عين يوسف طلعت رئيسا للجهاز ( جبناه علي إتفاق انه يسير بالنظام نحو التصفيه ، ولكن التصفيه ليس معناها إننا نيجي نقول حلينا النظام ، فهذا لايؤدي بينا لأي حاجه ، ولكننا قلنا إننا نوجه الاخوان الوجهه الصحيحه من جهه ، ومن جهه نكثر من عدد الذين يدخلون النظام ، حتي نذهب عنه صفة السريه ) .. وبالفعل فقد إنتهي الرأي الي إدماج الاسر التي تنتمي الي التنظيم العام – والذي كان يضم الالاف المؤلفه - والتنظيم الخاص – والذي كان يضم آحاد الآلاف علي اقصي تقدير - في قسم واحد يخضع لتوجيه واحد وأوامر واحده تصدر من مكتب الارشاد ..
وشهدت حرب العصابات التي شنتها الجماعه علي الجيش البريطاني في منطقة قناة السويس في مطلع الخمسينات تطبيقا عمليا لتوجه المستشار الهضيبي إذ كانت المشاركه فيها مفتوحه لافراد الصف العام للجماعه كما هي مفتوحه لاعضاء النظام الخاص سواء بسواء ، بل شارك فيها افراد الشباب المسلم الذين كانوا قد تركوا النظام الخاص بعد احداث 1948 إعتراضا منهم علي منهجيته ... علي ان تأزم العلاقه بين الجماعه والعسكرالحاكمين ، وإحتدام المواجهه بينهما .. اوجدت وضعا إستثنائيا ادي الي تجميد فكرة التصفيه ، وإرتباك الترتيبات الجديده للنظام الخاص التي كانت في مهدها ، ووفق عبارة الدكتور ميتشيل ( في يناير – عام 1954 –
وعقب حل الجماعه ظهر ان فكرة القضاء علي الجهاز السري كانت – علي اقل تقدير – في غير موعدها إن لم تكن فكره متهوره ، وذلك بصرف النظر عن نية يوسف طلعت ومن هم اعلي منه مرتبه بالجماعه ، إذ لم يكن الرأي القديم القائل بأن الجهاز السري اداة دفاع أكثر اصاله منه عندما كانت الجماعه في طريقها الي عهد حديد من الاضطهاد ) .. ومن الضروري التنويه هنا ان الاستاذ صالح ابو رقيق قد عقب علي الفقره السابقه نافيا ان تكون مهمة يوسف طلعت ان يعمل علي حل الجهاز السري او اخراجه عن طبيعته الي العلانيه بدليل بقائه سريا حتي عام 1955 .. والطبع فمن الصعب الان تغليب أين من الروايتين .. علي انه اين ما كان مسار الاحداث في هذه الشهور العصيبه ذات الطبيعه الاستثنائيه فإن ذلك لايقدح في الحكم بأن الاتجاه العام لدي قيادة الجماعه في عهد المستشار الهضيبي كان مع إعادة النظر الجذريه في وضع النظام الخاص داخلها .
ثانيا :- هل كان المستشار الهضيبي ميالا للدعة والراحه؟
من المعلوم انه كان هناك تباينا ملحوظا بين الامام البنا والمستشار الهضيبي في الطبائع الشخصيه ، وفي التكوين الاجتماعي .. وقد يتوهم متوهم – علي خلفية هذا التباين - ان المستشار الهضيبي كان ميالا للدعة والراحه وربما للرخاوة والترخص ..غير ان الرجل كان في اعماق شخصيته - علي خلاف ذلك تماما ، وكان يفقه بوضوح ماذا يعني قبوله قيادة جماعة الاخوان في تلك المرحله .. يروي الاستاذ حمزه الجميعي – وكان علي صله بأصهار المستشار الهضيبي – انه ( بعد موافقته علي إختيار الاخوان له مرشدا للجماعه دار حديث بينه وبين زوجته رحمها الله قائلا لها : هل تعلمين ثمن هذا الاختيار ؟.. ثم أشار الي رقبته ) .. والمستشار الهضيبي هو نفسه الذي حرص علي ان يذكر الاخوان المسلمين بتبعات دعوتهم في رسالة عممها عليهم في سبتمبر 1954 بعد ان بلغت حالة الاحتقان بين الجماعه وحكام يوليو مداها ( ايها الاخوان ان من شأن الدعوات الا تترخص في شيئ من اصولها ، فكونوا مستعدين للموت في سبيل دعوتكم فإن من مبادئنا " الموت في سبيل الله اسمي امانينا " ، والله غالب علي امره ، ولكن اكثر الناس لا يعلمون ) ..
ومن الواجب ان نثبت هنا – ايضا – رده علي سؤال عن الاخذ بالرخصه ورد اليه من بعض المعتقلين بعد قراءتهم بحثه " دعاه لاقضاه " يقول المستشار الهضيبي في رده ( نحن نؤمن بان الاخذ بالرخصه لا يصلح ان يجتمع عليه صف يريد ان يتحمل عبئ الدعوه ، وقد اوفي الامام الشهيد رضي الله عنه هذا الموضوع حقه في رسائله الي الاخوان " راجع رسالة بين الامس واليوم " ... ولقد قلنا في بحثنا " دعاه لاقضاه " إن الله تعالي قد ندبنا للصبر والثبات والعمل علي إعلاء كلمة الحق والجهر بها والتمكين لها ودفع المظالم ورد البغي والعدوان ، وجعل للعاملين في سبيل ذلك اعظم الاجر واعلي درجات الرفعه عنده في جنات النعيم " وقلنا " الحق ان سنن الحياه تؤكد لنا ان الدعوات والامم انما تنتصر ويعلو شأنها بمن يسخرهم الله عز وجل بفضله ورحمته من الصادقين الصابرين الثابتين الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخره ، والذين يبغون في كل قول وعمل وجه الله تعالي ، ولايخافون في الحق لومة لائم ، او ذهاب دنيا ، اوضياع جاه – إن الله إشتري..." .. وإنما اجتمع صفنا علي العزيمه ، وبها بعون الله نأخذ، ونأمر إخوتنا ان يستعينوا بالله وبلزومها ) .
ويروي الاستاذ جمال فوزي – وقد صحب المستشار الهضيبي في رحلته وراء الاسوار – انه عندما كان في السجن الحربي في محنة 1954 ( رأيت حمزه البسيوني مدير السجن يطلب من الاستاذ الهضيبي الا يجري مع الاخوان ، ولكن الاستاذ الهضيبي لم يطعه ، وأصر علي ان يجري امام الاخوان لتشجيعهم ورفع روحهم المعنويه ، وإعطائهم من نفسه القدوه والمثل في الصبر والثبات والتحمل ... وذهبت مره الي مستشفي السجن ، وعن طريق جندي من بلدي إستطعت ان ادخل علي الاستاذ الهضيبي فلما صافحته سألني " هل إقتنع الاخوان اني حريص علي إستمرار الجهاد ام لا ؟... ثم سألت عن إبنه إسماعيل ، فبعد ان كان يحدثني هاشا باشا إذا به يثور علي قائلا : لماذا إسماعيل ؟ كلكم عندي إسماعيل ... وأذكر يوم ترحيله من السجن الحربي لمنزله ، وكانت زنزانتي بجوار زنزانته .. واحسسنا بوجود شخص كبير فإذا به حمزه البسيوني ومعه بعض الضباط فتحوا الباب علي الاستاذ الهضيبي فسمعته يقول لهم " من قال لكم إني اريد ان اخرج من السجن ؟ انا آخر واحد يخرج .. فليخرج كل الاخوان قبلي ..) .. وما ان يتنسم المستشار الهضيبي أريج العافيه ( حتي سارع بالكتابه للسلطات يبلغها انه قد عوفي بحمد الله من عارض المرض الذي اوجب الافراج عنه ، وانه بإستطاعته العوده للسجن لقضاء باقي المده المحكوم بها عليه )
ويروي الدكتور احمد الملط واقعة اصابت المستشار الهضيبي بذبحه صدريه وقت ان كان بالحبس الانفرادي بالسجن الحربي حيث نصح الاطباء بنقله لمستشفي السجن ( وإذا به يبكي - وهذا اول مره اراه يبكي فيها – ويقول " إنني ارفض ان انقل الي المستشفي ..إنني اريد ان اموت هنا بين الرجال ، ولا اريد ان اموت بين اهلي في البيت .. انا اعرف ان هذه خطوه للافراج الصحي عني .. انا لااريد ان اخرج من هنا حتي يخرج آخر واحد من الاخوان ، وإن اردتم ان تخرجوني بالقوه فسوف اقاوم بكل ما في من قوه ..) ... وبالطبع فلا يعني صلابة المستشار الهضيبي وثباته قبوله للإندفاع في غير محله ... ومازلنا مع الدكتور احمد الملط ليروي لنا موقفا اخر ذات دلاله في هذا الشأن فعندما يبلغ المستشار الهضيبي ان بعض الشباب المعتقلين يفكرون في الهجوم علي حراس السجن الحربي – وليكن بعد ذلك ما يكون – يكون رده الحاسم ( الذي يقوم بمثل هذا العمل لا يكون من الاخوان .. إن ظفر اي واحد من هؤلاء الالاف اغلي من رقبة عبد الناصر نفسه ، حذاري أن يعطي واحد منكم هذه الفرصه لهؤلاء الكلاب ... احرصوا علي انفسكم .. واصبروا وصابروا واثبتوا حتي يأتي الله بأمره ..) .
والحقيقه فقد توسعنا في الحديث عن صلابة المستشار حسن الهضيبي واستعلائه بالايمان حتي يعرف القارئ ان موقفه من النظام الخاص - وموضوع العنف علي وجه العموم – والذي اثبتناه هنا ، او موقفه من قضية التكفير – والتي سنعرض له لاحقا - لا يقوم علي ميل للرخاوة اوالترخص .. بل هو الحق كما يراه ، ولعل افضل ما نختم به هنا تلك الكلمات التي كتبها الشيخ محمد الغزالي وهو يسجل أسفه و إعتذاره علي ما سبق وان بدر منه من نقد للمستشار الهضيبي في بداية ولايته لامر الجماعه ( من حقه ان يعرف الناس عنه انه تحمل بصلابه وبأس كل ما نزل به ، فلم يجزع ولم يتراجع ، وبقي في شيخوخته المثقله عميق الايمان ، واسع الامل ، حتي خرج من السجن .. والحق يقال ان صبره الذي أعز الايمان رفعه في نفسي ، وإن المآسي التي نزلت به وبأسرته لم تفقده صدق الحكم علي الامور ، ولم تبعده عن منهج الجماعه .. وقد ذهبت اليه بعد ذهاب محنته ، وأصلحت ما بيني وبينه ، ويغفر الله لنا اجمعين )
ثالثا :- الصدام بين عسكر يوليو وجماعة الاخوان المسلمين
ونعود الي المواجهه بين جماعة الاخوان المسلمين والعسكر في عهد المستشار الهضيبي فقد يتبادر الي الذهن ان الجماعه قد خاضت معارك حامية الوطيس مع عسكر يوليو انتهت بإنكسارها وهزيمتها ... غير ان الحقيقه مخالفه لذلك تماما فلم تكن هناك مثل هذه المعارك رغم حالة الاحتقان الممتده بين الجماعه والعسكر ... وحالة العنف الوحيده التي وقعت كانت حادث المنشيه وهو مالم يكن - وهو الغالب - دسيسه مرتبه من العسكر للعصف بالجماعه فلن يخرج عن ان يكون عمل ارتجالي فردي، بل ان الترتيب الذي اعتمدته قيادة الجماعه بطريقه مؤسسيه وفق مارواه قادتها هو عمل سلمي لا علاقة له بالعنف .. فوفق رواية الاستاذ حسن عشماوي كانت الموافقه علي ( ان تقود الهيئه التأسيسيه افراد الجماعه في مظاهره سلميه ، يحميها بعض الافراد المسلحين ، ويسير في المظاهره بعض كبار الساسه من الامه كنا علي اتفاق معهم علي ذلك ، وكان المفروض ان تكون هذه المظاهره نقطة انطلاق في السعي لاسقاط الديكتاتوريه العسكريه ، وتسليم مقاليد الحكم لحكومه مؤقته.. ) ....
ويضيف الشهيد سيد قطب في روايته ان هذه المظاهرات ستمثل دعما شعبيا لحركه عسكريه ( وفهمت ان اللواء محمد نجيب سيكون علي راس قوات الاغلبيه التي ستقوم بالضغط علي بقية الجيش لتحقيق فكرة الرجوع للثكنات واعادة الحكم للمدنيين ) ..وحتي الدور المحدود لاداة القوه في الجماعه – اي النظام الخاص - وهو حماية المظاهرات نفاه المستشار الهضيبي بقوه لدي محاكمته حيث سأله جمال سالم عما افاد به الشهيد يوسف طلعت من سماح المرشد بتوفير حمايه مسلحه لمظاهرات التأييد الشعبي فأجاب ( لا هو غلطان .. هاته وشوف جسمه لعل عقله مش تمام ) .. في إشاره للتعذيب القاسي الذي تعرض له الشهيد رحمه الله .
رابعا :- الشهيد سيد قطب والحركه وفق رؤيه جديده
ربما يغفل البعض عن تجربة تنظيم 1965 او تنظيم الشهيد سيد قطب كأحد تجارب الجماعه في مرحلة ما بعد الامام البنا ... صحيح ان للتجربه خصوصيتها من عدة وجوه ، ولكنها تبقي احد التجارب الثريه للجماعه ... وبالطبع فإن احد المصادر الرئيسيه لثرائها – وخصوصيتها في ذات الوقت - هو شخصية الشهيد سيد قطب بعطائه الفكري والاخلاقي المتميز والذي يشمل – فيما يشمل – صدق التوجه ووضوح المنهج وجلاء الفكره ... ووفق قناعة المستشار البشري ( سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا ، رحمهما الله .. فكر حسن البنا هو فكر تجميع وتوثيق للعري ، وفكر سيد قطب فكر مجانبه ومفاصله ..) ..
علي اننا الان لسنا بصدد تمحيص مكامن التوافق والتباين بين الفكرين ، ولكننا نقتصرعلي تناول مسألة العنف التي نسعي لدراستها هنا ، فقد كان للشهيد طرحه الواضح والذي لخصه هو – في اقواله المكتوبه بعد اعتقاله – في مبدأين حاكمين :-
المبدأ الاول :- إتفقنا علي مبدأ عدم إستخدام القوه لقلب نظام الحكم ، وفرض النظام الاسلامي من أعلي .... لأن الحركات الاسلاميه لابد ان تبدأ من القاعده ، وبإحياء مدلول العقيده الاسلاميه في القلوب والعقول ، وتربية من يقبل هذه الدعوه وهذه المفهومات الصحيحه تربية إسلاميه صحيحه
المبدأ الثاني :- إتفقنا في الوقت ذاته علي مبدأ رد الإعتداء علي الحركه الاسلاميه..وكان امامنا المبدأ الذي قرره الله سبحانه " فمن إعتدي عليكم فإعتدوا عليه بمثل ما إعتدي عليكم .)
وعليه فقد إقتصرت دواعي إستخدام التنظيم للقوه علي الدفاع ورد اعتداء الدوله وذلك في ظل الخبره المؤلمه التي تراكمت لدي قياداته من تجربة القمع والبطش التي تعرضت لها الحركه الاسلاميه عام 1954 ، وهو ما يزيده الشهيد سيد قطب وضوحا في اقواله التاليه :-
( - ما الغرض من تسليح التنظيم وتدريب افراده علي الامور العسكريه ؟
- رد الاعتداء إذا وقع عليه
- وما هو الاعتداء المقصود وقوعه من وجهة نظركم ، وممن سيقع ؟
- صورة الاعتداء في تصوري هي الإعتقال والتعذيب والقتل وإحداث العاهات المختلفه قبل المحاكمه والحكم ، وهي الصوره التي وقعت بالفعل سنة 1954
- وهل تري ان إستعمال الحاكم لمقرراته الشرعيه والقانونيه إعتداء يستباح معه القتل والتخريب ؟
- بهذه القيود – قيود إستعماله لمقرراته الشرعيه والقانونيه – لا يجوز ، ولكن في إعتدائه خارج كل القوانين لا يكون في حدود مقرراته الشرعيه والقانونيه )


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع الشيخ : عثمان حاج مصطفى

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

موسى ابن نصير قائد عسكري عربي في عصر الدولة الأموية. شارك موسى في فتح قبرص في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان