قانوني سويسري: مصر قد لا تسترد أموالها أبدا
حوار- د. ثابت عيد ـ خاص ببوابة الوفد:
بعد اندلاع الثّورة المصريّة المجيدة في الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١م، كتبتُ عدّة رسائل إلى وزيرة الخارجيّة السّويسريّة كالمي راي، والبرلمانيّ الفيدراليّ دانيل فيشر، أطالبهما فيها بمساندة ثورة مصر من خلال تجميد أموال المخلوع حسني مبارك وحاشيته، واستصدار أمر بالقبض على أيّ فرد من عائلة المخلوع بمجرّد دخوله الأراضي السّويسريّة.
لكن ردّ فعل الحكومة السّويسريّة عمومًا كان في غايةِ البُطءِ، حيث انتظر المسؤولون السّويسريّون طويلًا، قبل الإعلان عن تجميد جزء بسيط من الأموال المسروقة.
وكان هذا الحوار لـ" بوابة الوفد" مع القانوني والبرلماني السّويسريّ "زيفرين بفلويجر"
*ما هو تقييمك لما حدث حتّى الآن؟
- المشكلة الرّئيسيّة تكمنُ في القيادة السّياسيّة في مصر. فقد ظَلّ موقفُ المجلس العسكريّ من مبارك غير واضحٍ وقتًا طويلًا. فلو كان العسكريون في مصر تحدّثوا مع مبارك بعد تنحيه، أو خلعه، مباشرة، ووضّحوا معه كلّ شيء، واستفسروا منه عن هذه الأموال، لكانوا سهّلوا كثيرًا من مهمّة الحكومة السّويسريّة فيما بعدُ.
لقدِ افتقدنا إشارات واضحة من مصر، وهو للأسف ما زلنا نفتقده حتّى الآن جزئيًّا. فنحن نتساءل بالفعل عن مدى جدّيّة القيادة الجديدة في مصر في مسألة الإصلاحات، وإلى أين تتّجه الثّورة المصريّة الآنَ.
* هل تستطيعُ باعتبارك برلمانيًّا وقانونيا سويسريًّا مساعدة مصرَ في استرداد أموال عصابة مبارك؟
- بالطّبع، أنا متخصّص في مثل هذه القضايا، خَاصَّةً إذا كان الأمرُ يتعلّقُ بالكشف عن عمليّات بنكيّة معقّدة، وتحويلات ماليّة غامضة. فالحكومة المصريّة إن اكتفت بمجرّد تقديم طلبات لاسترداد هذه الأموال، فلن تستردها أبدًا. الأمر يتطلّب مجهودًا كبيرا من قانونيّين ومحامين متخصّصين في مثل هذه القضايا.
* ما الّذي ينبغي أن يفعله المصريّونَ الآن، لكي يستطيعوا استرداد هذه الأموال؟
- ينبغي أوّلًا إبلاغ السّلطات السّويسريّة بوضوح وبلا لبس برغبة الحكومة المصريّة في استرداد هذه الأموال المهرّبة من البنوك السّويسريّة. ثُمّ ينبغي البدء فورًا في محاكمة مبارك ومساعديه.
*باعتبارك لست فقط محاميًا، بل أيضًا برلمانيًّا تُمثّل الشّعب السّويسريّ، ألا تعتقدُ أنّه قد آن الأوان لسويسرا الآن أن تتعاون مع الشُّعُوبِ، بدلًا من الأنظمة الدّيكتاتوريّة القمعيّة؟
- نظريًّا أتّفق معك في هذا القول. لكن عمليًّا تبدو الأمور أكثر صعوبة. فالدّيكتاتور ليس لديه إلّا عنوان واحد، ورقم تليفون واحد، وبريد ألكتروني واحد، وسلطة مطلقة. أمّا الشّعب، فهو في مقابل هذا يتكوّن من طوائف غير متجانسة بدون ممثّلين واضحين معروفين يمكن التّحدّث معهم. فإذا انتفض الشّعبُ ضدّ الدّيكتاتور، واستردّ منه حقوقه المسلوبة، فينبغي حينئذٍ التّعاون مَعَ هذا الشّعبِ. كانت مصر حالة مستعصية بالنّسبة للدّول الأخرى. فصوريًّا كان الخارج ينظر إلى مبارك باعتباره رئيسًا منتخبًا من الشّعب سنة ٢٠٠٥م، وبالتّالي فهو كان أيضًا يمثّل الشّعب المصريّ.
أَمَّا حقيقة أنّ تلك الانتخابات كانت مزوّرةً، وأَنَّ منافسي مبارك قد انسحبوا طواعية من هذه الانتخابات أو قد تمّ التّضييق عليهم واضطهادهم، فهذه قضيّة أخرى. وأيضًا كون مبارك لم يحكم مصرَ بأساليب ديمقراطيّة، بل بالاستبداد، والقمع، والنّار والحديد فهي قضيّة أخرى. من الخارج كانتِ الأمور تبدو لنا وكأَنّ الشّعبَ المصريَ كان يُدعّم مبارك، وكما لو كان المصريّون يخشون من الوقوع في حالة يغيب فيها حاكم قويّ للبلاد.
شعبيًا من الواضح غياب البنى والمؤسّسات الّتي يمكن للمرء العودة إليها: فالمعارضة منقسمة على نفسها، كما أنّ المنظّمات الّتي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من النّظامِ الدّيمقراطيّ، مثل الأحزاب، والنّقابات، وجماعات المصالح، الّتي يمكن للمرء أن يتعاون معها، غير موجودة أَصْلًا. المنظّمات القليلة الموجودة على السّاحة في مصر، والّتي كنّا نتابع نشاطها قبل الثّورة، هي منظّمات دينيّة تجعل النّاس يخافون منها. لم تتحسّن الأمورُ بعد الحادي عشر من فبراير ٢٠١١م، بل ازدادت سوءًا. فالمجلس العسكري تنقصه الشّرعيّة الدّيمقراطيّة. الوعود بعمل انتخابات برلمانيّة ورئاسيّة لا تكفي لجعله ممثّلا شرعيًّا للشّعب المصريّ. ضرورة أن تتعاون سويسرا مع مصر هي حقيقة لا جدال فيها. والسُّؤَالُ هُنَا هُو: مَعَ من ينبغي لسويسرا أن تتعاون الآن، إن لم يكن مع الحكومة الحالية؟
الحكومة الحالية لا تمثّل الشّعبَ، بل هي وعدته فقط، بإقامة انتخابات ديمقراطيّة لاختيار حكومة تمثّل الشّعب. والآن ينبغي أن ينتفض الشّعب المصريّ، ويتمسّك بحقّه هذا في عقد انتخابات ديمقراطيّة نزيهة غير مزوّرة. حينئذٍ يمكن لسويسرا أن تتعاونَ مَعَ الشّعبِ المصريّ.
* إذا أعادت سويسرا هذه الأموال المسروقة إلى الشّعب المصري، ألا يعدّ هذا إسهامًا من سويسرا لتطوير مصر وتنميتها؟ أم تعتقدُ أنّه ليس لسويسرا مصلحة أن تتطوّر مصر إيجابيًّا، وأن تنعم هذه المنطقة بالاستقرار؟
- اسمح لي أن أُصَحِّحَ شيئًا هُنَا: فسويسرا، دولةً وشعبًا، لم تأخذ أموالًا مسروقة من مصر، يمكن أن تردّها الآن إلى المصريّين أو لا تردّها. فالبنوك السّويسريّة هِيَ الّتي قَامَتْ بذلك، أو هى بنوك تتّخذ من سويسرا مقرًّا لها. قامت هذه البنوك بتشغيل أموال مبارك وحاشيته، والإشراف على الشّركات الّتي يمتلكها. فإذَا ثبت بعد ذلك أنّ هذه الأموال قد تَمَّ الحصول عليها وكسبها بأساليب إجراميّة، وَهُوَ ما أَفترضُهُ، يكون من واجب الدّولة السّويسريّة مساعدة المتضرّرين، وهم في هذه الحالة المصريّون، لاسترداد هذه الأموال.
وأضرب لك مثالًا: إذا سرق شخص مائة فرنك سويسريّ من آخر، ثُمّ أودعها أحد البنوك، ثُمّ أدانه القاضي بعد ذلك بالسّرقة - عندئذٍ يقوم القاضي باسترداد المبلغ المسروق من البنك، وردّه إلى المتضرّر. الشّيء نفسه ينطبق على موضوعنا هذا، مع الفارق أنّ السّارقَ هنا ليس شخصا ما، بل الدّيكتاتور، وأنّ الضّحيّة ليس شخصا ، بل شعب مصر بأكلمه.يقينًا ردّ هذه الأموال المنهوبة إلى مصر سيكون إسهامًا مهمًّا لترميم ميزانية مصر.
لكنّ الأَهَمَّ هنا بالنّسبة لتنمية مصر واستقرارها، هُوَ وضع أسس متينة لاقتصاد قويّ، اقتصاد يتجاوز الاعتماد على مجرّد الزّراعة والسّياحة. مصر تحتاج إلى رجال أعمال شرفاء مبدعين لديهم الشّجاعة والجرأة للاستثمار في المجالات الاقتصاديّة المختلفة، لخلق فرص عمل للشّباب، ورفع مستويات الإنتاج والدّخل القوميّ للبلاد.
مصر بحاجة إلى رجال أعمال مبدعين، يصّممون منتجات جديدة، ويُنتجونها، وَيُسَوّقونها. هذا يتطلّب وضع نظامٍ اقتصاديّ يسمح بهذه الاستثمارات ويشجّعها. فالدّول الغنية لم تُصبح غنيّة لأنّها تنفق أموالًا كثيرًا، بل لأنّ لديها أنظمة اقتصاديّة قويّة تجلب لها عائدات قوميّة هائلة، وليس مجرّد مرّة واحدة، مثل استرداد الأموال المنهوبة من البنوك السّويسريّة، بل بانتظام، سنويًّا، من خلال الضّرائب الّتي تدفعها الشّركات والموظّفون، الّتي توفّر للدّولة السّيولة اللازمة.
*يقاتل المصريّون الآن من أجل استرداد حرّيّتهم المسلوبة. ألا تستطيع سويسرا تقديم مساعدات فنّيّة علميّة إلى شعب مصر الآن، من أجل الاستفادة من تجربة سويسرا الدّيمقراطيّة، ولكي يستطيع المصريّون وضع دستور جديد محكم يضمن لهم العيش بحرّيّة وأمان في المستقبل؟
- بالتّأكيد. فسويسرا تُعتبر نموذجًا لكثير من دول العالم، وقد استفادت دول كثيرة أثناء تحوّلها إلى الدّيمقراطيّة من تجربة سويسرا الدّيمقراطيّة، والعلم المتراكم لديها في هذا الحقل. لكنّ الأمر هنا متوقّف على مصر الّتي ينبغي عليها السّعي إلى الاستفادة من التّجربة السّويسريّة. فلم تجرِ العادة أن تقوم سويسرا بعمل دعاية لنظامها السّياسيّ في الخارج، أو السّعي إلى فرضه على الدّول الأخرى.
*يحكم العسكرُ مصرَ منذ ستّة عقود. لا يوجد مكان آخر في العالم تقريبًا ارتكبت فيه جرائم تعذيب، وقتل، وقهر، وقمع، وترويع المدنيّين بالمحاكمات العسكريّة، من قبل العسكر تجاه الشّعب، مثلما اقترفه العسكر في حقّ شعب مصر خلال الأعوام السّتّين الماضيّة. كيف يمكن لسويسرا مساعدة الشّعب المصريّ، وإنقاذه من الحكم الدّيكتاتوريّ المستبد؟
- هذا سؤال تصعب الإجابة عنه. فسويسرا، والشّعب السّويسريّ، يعتبران نفسيهما دولة صغيرة جدًّا. فنحن في سويسرا نتصدّى لأي محاولات خارجيّة للتّدخل في شؤوننا الدّاخليّة. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نحن لا نشعر بأي مسؤوليّة تُجاهَ مصيرِ الدّول الأخرى. سويسرا تعتقد أنّها تستطيع القيامَ بدور فعّال فقط عندما تقوم بالوساطة بين طرفين متناحرينِ، أَوْ عندما تقدّم مساعدات إنسانيّة لأشخاص متضرّرين من صراعات أو حروب إقليميّة.لَكِنَّ الشّعب السّويسريّ يؤيّد بقوّة سعي الشّعوب المقهورة إلى استرداد حقوقها المسلوبة، ويساند حقّها في الاستمتاع بحياة ديمقراطيّة نزيهة، ويدعّم هذه المطالب المشروعة أدبيًّا. لكنّ كل ما يتجاوز هذا يتعارض مع فهم السّويسريّين لأنفسهم.
*ألا توجد قوانين دوليّة نستطيع بها محاكمة هؤلاء العسكر؟
- نحن لدينا في المقام الأوّل "قوانين روما" الخاصّة بمحكمة العدل الدّوليّة المتّفق عليها سنة ١٩٩٨م، ثُمّ لدينا "اتّفاقية نيويورك لمكافحة الفساد" الموقّعة سنة ٢٠٠٣م. بالنّسبة لـ "قوانين روما"، فقد وقّعت مصر عليها، لكنّ البرلمان المصريّ لم يُصدّق عليها حتّى الآن. ولذلك سيكون من الصّعب تطبيق هذه القوانين على مصر. في مقابل هذا فإنّ "اتّفاقية نيويورك لمكافحة الفساد" أصبحت سارية المفعول في مصر منذ سنة ٢٠٠٥م، وهي صالحة للتّطبيق منذ ذلك الوقتِ. وهذا يمنح المحاكم المصريّة حقّ استخدامها لمكافحة الفساد.
* إذا نجحت في استرداد أموال المصريّين المسروقة لهم، فكم تعتقد ستبلغ أتعابك؟
- أتعابي يمكن أن تصل إلى حوالي مليون فرنك سويسريّ. لكنّ إذا تطلّب الأمر القيام بعمليّات بحث واسعة لتتبع هذه الأموال المهربّة، والكشف عن أماكن وجودها، فيمكن أن تتجاوز أتعابي مليونَ فرنك سويسريّ.
تعليقات