الكمبيوتر في بيتي ..جهاد ابني كان طفلا ذكيا؛ ونال مني كلّ حب، وإن كان لفترة طالت لزم الجدّية لأنه من الشباب العميق التفكير


الكمبيوتر في بيتي

 ­­ قصة طريفة كانت مثارَ التندّر كلما اجتمعت في مكان مع الأصدقاء لإثارة الضحك، والقفشات والسخرية أحيانا، بطلها ابني الأكبرـ حين كان طفلا ـ وأحبه حبّا خاصًا خالصًا، ويبادلني نفس الحب ـ وأنا على يقين من ذلك ـ ، تذكرت القصة بصورة وجدتها على الإنترنت جعلتني أسبح  في مفرداتها بعد مرور ما يقارب العشرين عاما على حدوثها.

جهاد ابني كان طفلا ذكيا؛ ونال مني كلّ حب، وإن كان لفترة طالت لزم الجدّية لأنه من الشباب العميق التفكيرـ بخلاف كثير من الشباب السطحيّ الذي يعيش بيننا الآن ـ  ويظن ابني ـ خطأً ـ أنّ الثقافة صنوُ الصمت، وإن سعيت أن أخرجه عن صمته، بالزيارات، والتعرّف على الأقارب،ونجحت ثورة 25 يناير في إخراجه من "برج المفكرين" المثقفين و"القوقعة" التي كان يعيش فيها إلى نصيرمن أنصار سقراط وأصحابه "المشائين" فقد كان يقف ويمشي متحدثا يبث الوعي وسط الشباب.

كنت متواجدا في الاغتراب لفترة طالت من الزمن، وكانت السعودية أسرع تحديثا من مصر بمراحل؛ أعني المعطيات التقنية التي كانت تُجلب بسرعة إليها نظرا للثراء المادي ولا يعني هذا "موازاة الثقافة لجلب التقنية"، فكان الكمبيوتر للعب،إلا في المؤسسات الحكومية والأمن والبنوك، وكان يعمل فيها الغرباء من كافة الجنسيات  عدا الأمن.

 جهاد حظي بحضور تدشين أول كمبيوتر في العائلة فأثار ذلك رغبته في دخول هذا العالم المدهش؛ فأحد أبنائها كان يعمل في مجال"الحاسوب"،وبالتالي كان من الطبيعي أن يجلب أحد الأجهزة إلى البيت ـ بيت جدّه ـ الذي حدثت فيه طفرة كبيرة حيث يستفيد منه البعض ويلعب به الغالب من العائلة.

 لم تكن وسائل الاتصالات مثلما هو موجود الآن من ثورة اتصالات،ولم تكن شبكة الإنترنت قد عُرفت في آواخر التسعينات باستثناء عدد قليل من كثيري الأسفار، وإن كانت مبشراتها قد ظهرت بكثافة في المؤسسات العاملة في حقل الصحافة والنشر.

عند وصول الكمبيوتر لأيدي العرب سارع "مجمع اللغة العربية" إلى تسمية عربية ـ وذلك مبلغهم من العلم ـ وقرروا أن يسموه"الحاسوب"وحشروه حشرا في ثقافتنا اللغوية وفشلوا وانتصرمصطلح "الكمبيوتر"،كما فشل مصطلح "دار الخيالة"وتعني السينما،و"شاطر ومشطور وبينما طازج" على الساندوتش.

جاءتني رسالة عبر البريد من"جهاد"ـ وكنت أعمل في"الغرفة التجارية الصناعية في جدة" ـ وكان جهاد في الصف الخامس الابتدائي، محتوياتها قصاصة من مجلة ملونة لـ" قبيلة من الشمبانزي"كلها "تحوسبت"وصارت تتعامل مع الكمبيوتر ما عدا الكائن البشري"جهاد بيك " وثارت جدلية كبرى عن الإنسان والقرد أيهما كان المستخدم الأول، بالطبع كانت الصورة مصنوعة لهدف دعائي ترويجي.

 مفاد الجدليّة الطفولية "أيهما أسبق في التعامل مع الكمبيوتر؟ في مخيّلة الصغير فكان الانتصارـ في نظر الطفل المشاغب ـ للقرد، الذي سبق جهاد، لقد استخدمت تقنيات برامج الصور لصنع هذه الدراما المعبرة، مجرد وجود صورة لـ"القرد المفكر" مع الكمبيوتر رجّحت لدى ابني أنّ النصر للقرد، وأرفق الطفل "المحروم مما يحب" رسالة  كتبها بخطّه الجميل جدًا الذي بالكاد يُقرأ من جماله، يقول لي:"كلّ أصحابي عندهم كمبيوتر، إلا ابنك جهاد يا بابا!! حتى القرود يا بابا؟

وبالطبع شُفعت الرسالة الجهادية برسالة من "أمّه العزيزة" المناصرة لحقوق الطفل؛ وتدعم طلبه العزيز برسالة بأن السيد جهاد كبُر،ولا يحتاج ألعاب الأطفال،من ترسانة مسدسات،وبنادق،وطائرات حربية ومدنية وسيارات بالريموت كونترول وجيب4×4، وكأنها أجهزة محاكاة "seminar " يا للهول إنها مكيدة أممية ضدي وقد تصل إلى الأمم المتحدة ومنظمة الطفل العالمية unicef.

 حقيقة كان الذي يدور في خَلدي، أن أقتني هذا الجهاز الذي كان مدعوما بحزمة برامج تعليمية ودينية وثقافية وقصص للأطفال، وألعاب، وكل البرامج لم تستخدم إلا الالعاب "إنها الخديعة يا قوم" . وكنت كلما ادخرت مبلغا "طار من القفص" لاحتياج البيت لكذا وكذا؛ "أسقط في يدي" كما يقول المثل العربي القح، أو شعرت بذهول مشوبٍ بالإعجاب، في كيفية التفاوض، و"الإعلان عن انتهاء زمن الألعاب التقليدية في بيتي"، ودقت ساعة التحديث والانقلاب المعرفي.

 كان الإعجاب سببه أنه معزز بالدليل القاطع الجامع المانع متمثلا في صورة "الشمبانزي في مجتمعه القبلي" والذي سبق أفراده أفراد مجتمعي الصغير، بقبيلة استطاع كبيرها "الزعيم" التفاوض للحصول على "كمبيوتر لكل مواطن في القبيلة الشمبانزية"، لينافس قبائل البشر؛ وبشاشة عرض" LCD "إنها الكارثة.

ومن ذكاء جهاد الاجتماعي" وكيفية الضغط،وحشد"رأي عام"واستعانته باللوبي الذي يستطيع الوصول إلى التفاوض، وإيجاد حوار مجتمعي دون حدوث انفجار يؤجل الحلم إلى أجل غير مسمى، وتكوين أكثرية في الحوار بانضمام عبد الرحمن أيضا لأنه سيستخدم الكمبيوتر مستعينا بأمه وأخيه، والأم ربما كانت تحب ـ فضولا ـ أن تتعرف على هذا العالم بحذر، وإن كنتُ ـ يوما ـ تقدميا في هذا المجال ولست رجعياً.

لقد اشتريت "ونحن عروسان"أتاري 2600" في العام 1987أي بعد 10 سنوات كاملة من إطلاقه، وحاولت دعوة زوجتي إلى اللعب به ورفضت رفضا باتا قاطعا أن تخوض المغامرة لأنها مغامرة فاشلة، وهي لا تريد أن تجرب الفشل ـ وعلى إيدي أنا بالذات ـ والآن أسعد بها وهي جالسة على أجهزة الكمبيوتر المتعددة، حيث كلّ شاب من شباب الأسرة له جهاز يخصه وهي ـ أطال الله عمرها ـ سيدة الموقف تدخل على أي جهاز في أي وقت تشاء؛ فهي ست البيت، فاضل بس تقول كما قالت زوجة صديق شاعر:"هاتلي لابتوب يا جوزي".

نواصل قصة الاشتباك فحين وصلتني"الرسالة الصادمة"شكوت لصديقي الشاعر السوداني المتصوف "عبد المنعم الأمين" ـ قدس الله لسانه ـ بالورطة التي وقعت فيها فانفجر ضاحكا من مكر الصغير،قال لي بلهجة سودانية فصيحة :" يازول العرّي رشّك بالتجيلة في وجهك وزنجك في حارة ضيقة" والترجمة :"ابنك عملك لمس أكتاف وغلبك وما خلكشي تفلفص" وحلف بثقة أنّ الله سيقدرك وتشتري له كمبيوتر، وأراد مواساتي في الورطة التي فاجأتني، فكتب لي قصيدة لا زالت كما هي أحتفظ بها وأحفظها حتى آخر العمر أرسلتها لابني، وضحتُ له الفارق بين الإنسان والقرد وقدرات الاثنين.
***
قـال الصغـير معــبّرا ببـــراءة عـــمّا يحــــبْ

أنا قد كــبُرت يا أبي ما عــاد ينفعـُـني اللــعبْ

كل الرفــاق تعلّمــوا لــغة الــزمان الملتـهــبْ

إلا أنا مـن دونــهـم ممـا أصابـــوا لـم أصــب

حتى القرودُ تحوسبت صارت تقولُ ما يجــب

وكأنـها من دهشــة تأســــى لإبن المــغــترب

أبُنىّ إنك في الفــؤاد وعــن عيــوني لم تغــب

لولاك ما غادرت مصـــرَ للحظةٍ  لمْ أغــترب

لمَ لا تكـــون غضنفــرا  وللأكــــابر تنتســب

فمن الغضـنفـر ـ في الحقيقة ـ كل قَِرد يرتعب

واعلم بأنك إن صبرت حتما ستلقى ما تحـب






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع الشيخ : عثمان حاج مصطفى

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

موسى ابن نصير قائد عسكري عربي في عصر الدولة الأموية. شارك موسى في فتح قبرص في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان