ذكرى إستشهـــاد الشيخ حسن البنـــا في نظري مزيج عجيب من التقوى والدهاء السياسي
الأربعاء 12 فبراير
ذكرى إستشهـــاد الشيخ حسن البنّا
14 ربيع ثان 1368 -12 فبراير 1949
غرة رجب الفرد 1442 – 12 فبراير 2021
البنا في ذكري إستشهاده حسن البنا
نسر يخفق بجناحيه في سماء الناس طاردوه حياً .. وقتلوه ليلاً .. ودفنوه سراً .. يحاصرون فكره ومحبيه وجماعته ظلماً وقهراً .. ومع كل هذا فقد عجزت قواهم مع ما يأتيهم من مدد عن ملاحقة فكره الذي حملته الرياح الطيبة إلي كل المعمورة جناحي النسر الخافق فى سماء الناس.
إنه حسن عبد الرحمن البنا الذي تتقارب سنوات عمله علي الأرض مع سنوات النسور .. إثنان وأربعون عاماً .. عاشها طفلاً رضيعاً وفتي يطلب المعرفة ثم مدرساً وداعيةً وزوجاً وأباً ومفكرًا وسياسيًا.. ومجتهدًا يطلب العلم من مظانه ومن تراث الأمة الصحيح ليصل إلي فكرينفع الناس يجمع ولا يفرق يحيي النفوس الطيبة بإذن الله ..
يجمع عليه كل فئات الناس بلا إستثناء.. ثم يأتيه القدر ليبقي الفكر، وتبقي جماعته بعده وفيةً لقناعاتها ولتلاقي بسببه ما لاقاه مرشدها الأول من مشقة التمسك بالعروة الوثقي، ولتصبح الضمير الحي للناس دون مساومة أو إنحراف قرابة قرن من الزمان مع تواصل الأجيال فيه .. وتأتي بعد هذا الزمان بشريات تمكين الفكر وجلائه .. فلم يعد غريباً أن يقال عن من يطلب العدالة للناس ويتحمل تبعات هذا الطلب أنه إخوان ..
ومن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أنه إخوان .. ومن يحسن في عمله مؤتمناً علي ما بيده أنه إخوان .. حتي كادت الفضائل ومن يتمسك بها علي ما في هذا التمسك من بلاءات أن تنسب للإخوان لما يلحق بأصحابها من دماء تهدر علي الأرض وأعواد المشانق أو غياهب السجون .
والأوضح من ذلك وخلال القرن الذي مضي أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تستدعيها بعض أزمات مجتمعاتها التي لا تجد من يتصدي لها غيرهم، ثم تعود بعد ذلك هذه المجتمعات إلي التعامل معها بمثل مع ما فعلته مع الإمام وما فعلته وتفعله مع جماعته وأفرادها حتي الآن .
لا ندّعي الفضيلة، ونعوذ بالله سبحانه وتعالي من التعالى على الناس ومن إنكارِ فضل أصحاب الفضل،ولكنها شهقات نفس فى ذكري إستشهاد المرشد الأول والذي يعيش بفكره وسيرته وعجز شانئُوه عن اللحاق به، نستعرض فيها سيرته بعاطفة المريد مع أستاذه الذي يتمثل عنده كنسر مازال يخفق بجناحيه في سماء الناس .
بروح النسر وعافيته وإقدامه وقدرته على التحليق عاليا في السماء التي ميزّه الله بها عن غيره من أمثاله، انطلق حسن بن عبد الرحمن البنا في حياته وما كان يدري ماذا يكسب غدا وبأي أرض ولا بأي وسيلة يأتيه قدر الله الذي قدره على العباد، ويشاء العلي القدير للفتى أن تكون فترة صباه هي فترة تكوينه، وفترة تفتح الزهرة الإنسانية فيه هي فترة تلقيه معاني الإيمان ..
كانت حية، بليغة مؤثرة، ليأتي المعنى والنفس جاهزة للتلقي، والفطرة صافية بلا كدر، والعقل يقظ منتبه،والقلب مشغول بتلقي الإشارات الإيمانية الحية مفسحا لها ما تستحقه من انتباه لتتشكل شخصية هذا الداعية إلى الله وهو في سني الصبى التي أراد سبحانه لها ألا تضيع هدرا وألا يقضيها صاحبها في غير ما خلقه الله له بعد أن جفت الأقلام طويت الصحف.
وجاء فيها أن عمره على هذه الأرض سيقف على أبواب الأربعين عاما، ليستمر بعد ذلك فكره وأداؤه ما شاء الله لهما أن يستمرا في نقاء ومثالية بشرية يلهبان خيال من يأتي بعده، وقبل أن يطغى عليهما ما يشوبهما من أدران الحياة لو طال به الأجل أو ناء كاهله بما يحمله من أثقال.
ما كان إمامُنا ومرشدنا الأول يدري أن حياته ستنتهي برصاصات يطلقها أعوان حاكم ظالم في شارع مظلم، وبموتة ليست كموتة كل الناس، ولكنها حالة عاشها الإمام في وجدانه وهو في عمر الزهور عندما ارتبطت حالة الموت مع قلبه بإشراقات حب الله سبحانه وتعالى والفناء في محبته، غرستها في نفسه وروحه مواقف عملية في فترات تزكية للنفس كان من أشدها تأثيرا ما اعتاده وهو صبي في صحبة مجموعة من العاملين الذين اعتادوا الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبإسلوب يعيش فيه الناس ومعهم فتانا سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كأحدى وسائل التربية وبما لا يعارض نهجا شرعيا ويكون الاحتفال إثنى عشر ليلة وليست ليلة واحدة يبدأ من غرة ربيع الأول وحتى الثاني عشر منه، عندما يتجمعون في بيت أحدهم بعد صلاة العشاء ثم يخرجون منه إلى شوارع القرية في موكب يهللون فيه ويكبرون ويرفعون من قلوبهم بحناجرهم، الصلاوة والسلام على رسول الله الكريم يسمعها القائلون ويسمعها معهم شياطين الإنس والجن فلا تبقى لهم في نفوس أولئك المحبين حبة من خردل.
وأفرد لهذا الأمر مساحة بقلمه في (مذكرات الدعوة والداعية): "وتصادف أننا في أحد الليالي، كان الدور على أخينا الشيخ شلبي الرجَّال، فذهبنا على العادة بعد العشاء فوجدنا البيت منيرا نظيفا مجهزا، وخرجنا بالموكب ونحن ننشد القصائد المعتادة في سرور كامل وفرح تام .
وبعد العودة جلسنا مع الشيخ شلبي قليلا، وأردنا الانصراف فإذا هو يقول في ابتسامة رقيقة لطيفة: "إن شاء الله غدا تزورونني مبكرين لندفن روحية".
وروحية هذه وحيدته وقد رزقها بعد إحدى عشرة سنة من زواجه تقريبا، وكان بها شغوفا مولعا ما كان يفارقها حتى في عمله،وقد شبت وترعرعت، وأسماها "روحية" لأنها كانت تحتل من نفسه منزلة الروح.
فاستغربنا وسألناه: ومتى توفيت؟ فقال: اليوم قبيل المغرب.. فقلنا: ولماذا لم تخبرنا فنخرج من منزل آخر بالموكب؟.
فقال: وما الذي حدث، لقد خفف عنا الحزن، وانقلب المأتم فرحا فهل تريدون نعمة من الله أكبر من هذه النعمة؟ .. وانقلب الحديث إلى درس تصوف يلقيه الشيخ شلبي، ويعلل وفاة كريمته بغيرة الله على قلبه، فإنّ الله يغار على قلوب عباده الصالحين أن تتعلق بغيره، أو تنصرف إلى سواه، واستشهد بإبراهيم عليه السلام: وقد تعلق قلبه بإسماعيل فأمره الله أن يذبحه، ويعقوب عليه السلام: إذ تعلق قلبه بيوسف فأضاعه الله منه عدة سنوات ..
ولهذا يجب ألا يتعلق قلب العبد بغير الله تبارك وتعالى، وإلا كان كذابا في دعوى المحبة، وساق قصة الفضيل بن عياض وقد أمسك بيد ابنته الصغرى فقبلها فقالت له: يا أبتاه أتحبني؟ ..فقال: نعم يا بنية .. فقالت والله ما كنت أظنك كذابا قبل اليوم .فقال: وكيف ذلك؟ وكم كذبت؟ ..
فقالت: لقد ظننت أنك بحالك هذه مع الله، لا تحب معه أحدا ..فبكى الرجل وقال: يا مولاي! حتى الصغار قد اكتشفوا رياء عبدك الفضيل؟.
ويجهد البعض نفسه في معرفة كيفية صياغة شعار جماعة الإخوان المسلمين" الله غايتنا، الرسول قدوتنا، الجهاد سبيلنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا" ..
وليت هذا البعض يفتح بصيرته ليرى أثر مجموعة الإشعاعات القوية التي تلقاها قلبه وتركزت فيه ، فانطلق بالشعار لسانه ليبقى .. النسر .. خافقا في سماء الناس .
ونسألك يارب الصبر والثبات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عملَ الإخوان المسلمون على إرجاع الأمة إلى منهج الكتاب والسنة الصافي، الذي هدى الضال، ويشفي العلة في يسر وحب وأمل وشمول، ولهذا وضع الشيخ البنا-رحمه الله -معالم ذلك المنهج القويم، فقال:
المنهج الذي ينهض بأمة من الأمم يجب أن تتوافر فيه شروط عدة حتى يؤدي مهمته، ليكون أقرب الطرق للوصول إلى الغاية: لابد أن يكون واضحا سهلا، محدود الغايات والمرامي، ولابد أن يكون عمليا لا يعتمد على الخيال، ولابد أن يكون شاملا يعبر عن أماني الأمة وعواطفها وخلجات نفسها، ويصور آمالها ومطالبها، ولابد أن يكون محاطا بصفة من القداسة تدفع إلى المحافظة عليه والتضحية في سبيله، ولابد أن يكون بعد ذلك معينا على جمع كلمتها ومساعدا على ضم صفوفها وتوحيد وجهتها، إذا تمكنت أمة من وضع منهج تتوافر فيه هذه الشروط فهي واصلة لا محالة إلى ما تبتغي من أقرب الوسائل وأقصر السبل.
ومن فضل الله تبارك وتعالى على هذه الأمة المحبوبة أن من عليها بهذا المنهج تاما كاملا، موفور الشروط، مكتمل الوسائل والغايات، ذلك المنهج الإلهي هو”القرآن الكريم” لو كشف غشاوة الأهواء والأغراض، وانزاح كابوس التقليد والضعف عن صدر هذه الأمة قادتها وجمهورها، لتأكدت تمام التأكد أن المنهج الوحيد الذي يحقق آمالها وأمانيها إنما هو القرآن، بل أقول وأنا ممتلئ عقيدة، لا سبيل بغيره أبدا، فقد أحكمت الحوادث غلق كل باب يقوي معنوية هذه الأمة إلا القرآن الكريم الذي جعله الله ميزان العدالة في الأرض، وكتب له الخلود إلى يوم الدين.
القرآن الكريم منهج سهل واضح المرامي والغايات، مستفيض في الأمة يحفظه الصغير والكبير وبخاصة الشيخ والشاب، وهو عملي لا يعتمد على الخيال ولا يهتم بتنسيق النظريات الوهمية، ولكنه ينادي الناس جهارا:” وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" (التوبة: 105 )، ويعالج النفوس والمشاكل بالعمل لا بالقول وبالتكاليف لا بالأحلام.
وهو شامل لكل أماني الأمة، فهو يشعرها بعزتها وكرامتها في قوله تعالى:
" ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون” (المنافقون 8)، ولا يقف منها عند هذا الحد بل يتسامى بها إلى أبعد في ذلك مكانة وأعز رفعة، وأعلي مقاما، فيقول:” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء عنى الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (البقرة: 143)، وأية أمة تطمع في أعلى من هذه المنزلة منزلة الأستاذية العامة في العالم كله تعلم أهله، وتقيم ميزان العدالة فيه، وتحطم صروح الظلم والمنكرات، وهو يحفظ عليها مقوماتها وخواصها ومميزاتها كاملة غير منقوصة، ويحذرها أن تنتقص منها المقومات:” يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون" (آل عمران: 118)، ثم يضع لها القواعد في العبادات والمعاملات والقوانين والأخلاق والصحة والاجتماع والعلم والتعليم والمطعم والمشرب، بل في كل شؤون الحياة، ثم هو يوحد بين عناصرها، ويؤلف بين طوائفها، فيضع لهم هذا الميزان المضبوط الدقيق:” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا عنى إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون” (الممتحنة: 8-9).
وهو بعد ذلك كله محوط بجلال القداسة، محفوف بالعناية الربانية. مفدى عند الجميع بالأموال والأنفس والثمرات. ذلك منهج أهداه الله إلينا والناس يحارون في وضع المناهج، وتعرف الخطط، ويقاسون من مرارة التجارب ونتائجها ما يقاسون من عناء وبلاء وفشل وتضخيات.
فيا قومنا هلموا إلى منهج الحق وطريق الهداية، ولسان الصدق، والصراط السوي المستقيم إن اتبعتموه لن تضلوا بعده أبدا، فإن أبيتم إلا أن تتخبطوا في دياجير الحيرة، وتضيعوا الوقت في التجارب الفاشلة، والمناهج الفاتلة، فإن الله سيقتصر منكم وسيأتي بمن ينفذ منهجه ويسير على كتابه غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم، وما أقول لكم إلا قول النبي الصالح من قبل:” يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني (طه: 90)، فإن أبيتم إلا البعد عن كتاب الله والتجافي عن منهجه.
" فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم” ( المائد ة: 54)
تعليقات