عثمان محرم باشا..رجل نادر من رجالات مصركانت لعثمان محرم باشا مكانة في وجدان المثقفين المصريين و قيمة كبيرة
كانت لعثمان محرم باشا مكانة في وجدان المثقفين المصريين و قيمة كبيرة ومهمة في تاريخنا الوطني ، ذلك أن هذا المهندس المصري الأصيل كان دونا عن أقرانه جميعا فلتة من فلتات الزمن أتيحت له عبقرية فذة كما أتيحت له في ذات الوقت قدرة هائلة علي التنفيذ، وقد رزقه الله بالإضافة إلي هاتين الميزتين الجبارتين شخصية جبارة قادرة علي التعبير الشجاع والصراحة والمواجهة والحسم والثواب والعقاب وتحمل المسئولية واستشراف المستقبل وتغيير الواقع، وقد جمع إلي هذه الصفات جرأة لا متناهية علي إبداء الرأي الفني وعلي النقد الصائب وعلي التوجيه السديد دون خوف أو وجل، بل ريما كان قدره أن يكون حادا بتارا قاطعا، وقد كونت له كل هذه الصفات أقدارا هائلة من العزة والمهابة والمصداقية.
وإذا أردنا أن نصف الفكر الذي سيطر على تصرفات عثمان محرم وقادها إلي ما قادها إليه من نجاح، فبوسعنا دون جهد جهيد أن نذكر أنه فكر حضاري كان يستهدف لوطنه رقيا حضاريا في كافة الميادين، وكان يدرك بذكاء نادر حدود المساهمة التي يمكن له هو شخصيا ولقطاعه الذي هو مسئول عنه أن يسهم بها في تحقيق النهضة الحضارية للوطن الكبير العظيم.
ولهذا فإن عثمان محرم لم يكن يقف بمشروعات وزارة الأشغال عند حدودها الانكماشية أو التقليدية، ولكنه كان يدرك أن طبيعة عمل وزارته أن تمهد السبيل لكل القطاعات الأخرى لأنها تخدم الوطن كله ولا تخدم أرضه الزراعية فحسب.. وقد كان في وسع عثمان محرم ـ علي سبيل المثال ـ أن يتعمد الابتعاد عن شق الطرق أو تعبيدها حين دخلت هذه الطرق في زمام المدن أو البلديات، لكنه كان واعيا للمعني الحقيقي لعمل وزارة الأشغال.. وهكذا فإن عثمان محرم حقق إنجازات كثيرة من التي تتعلق بعمل مجموعة من الوزارات الحديثة التي نشأت بعد الثورة، ومن ذلك أنه سبق إلي وضع أطر عامة لعمل وزارات حديثة كالنقل والتعمير والكهرباء والسياحة والإدارة المحلية، كما تفوق في كل ما كان يتصل ويتقاطع مع عمل وزارات الزراعة والمواصلات علي سبيل المثال.
وإذا أردنا أن نصف الفكر الذي سيطر على تصرفات عثمان محرم وقادها إلي ما قادها إليه من نجاح، فبوسعنا دون جهد جهيد أن نذكر أنه فكر حضاري كان يستهدف لوطنه رقيا حضاريا في كافة الميادين، وكان يدرك بذكاء نادر حدود المساهمة التي يمكن له هو شخصيا ولقطاعه الذي هو مسئول عنه أن يسهم بها في تحقيق النهضة الحضارية للوطن الكبير العظيم.
ولهذا فإن عثمان محرم لم يكن يقف بمشروعات وزارة الأشغال عند حدودها الانكماشية أو التقليدية، ولكنه كان يدرك أن طبيعة عمل وزارته أن تمهد السبيل لكل القطاعات الأخرى لأنها تخدم الوطن كله ولا تخدم أرضه الزراعية فحسب.. وقد كان في وسع عثمان محرم ـ علي سبيل المثال ـ أن يتعمد الابتعاد عن شق الطرق أو تعبيدها حين دخلت هذه الطرق في زمام المدن أو البلديات، لكنه كان واعيا للمعني الحقيقي لعمل وزارة الأشغال.. وهكذا فإن عثمان محرم حقق إنجازات كثيرة من التي تتعلق بعمل مجموعة من الوزارات الحديثة التي نشأت بعد الثورة، ومن ذلك أنه سبق إلي وضع أطر عامة لعمل وزارات حديثة كالنقل والتعمير والكهرباء والسياحة والإدارة المحلية، كما تفوق في كل ما كان يتصل ويتقاطع مع عمل وزارات الزراعة والمواصلات علي سبيل المثال.
ومع هذا كله فانه في أول عهد ١٩٥٢ قدم للمحاكمة كنموذج لكباش الفداء التي أراد العهد الجديد بها أن يمحي من الأذهان مهابة رموز العهد السابق عليه، وربما كان من حسن حظ عثمان محرم أنه قدم للمحاكمة فربما لم تكن الأضواء لتسلط علي إنجازاته المتعددة لولا أنه وقف هذا الموقف الذي اضطره إلي عصر ذاكرته ليقدم لنا تفصيلات كل هذه الأفكار التي تكونت بها سياساته وممارساته الوزارية وغير الوزارية علي مدي أكثر من ربع قرن كان موقعه فيها في الصدارة من المهندسين المصريين، ولولا محاكمة عثمان محرم ما أتيح لنا أن نفهم قيمة اختياراته في القرارات التي تمكن بها من خدمة وطنه وشعبه علي مدي الفترات التي تولي فيها المنصب الوزاري.
علي أن إنجازات عثمان محرم لم تكن حكومية فحسب، وإنما كانت إنجازاته العامة لا تقل أهمية عن إنجازاته الحكومية مع أنه نفذ هذه الإنجازات من خلال موقعه الحكومي، وإليه يرجع جزء كبير من الفضل في نشأة و تطور المؤسستين الهندسيتين: جمعية المهندسين المصرية، ونقابة المهندسين، كما يرجع إليه الفضل في كثير من إنجازات هاتين المؤسستين، وكانت آراؤه في التعليم الهندسي والوظائف الهندسية آراء مدروسة وطويلة النظر، وقد وجدت سبيلها إلي حيز التنفيذ مما كان له الفضل علي ممارسة المهنة الهندسية في بلادنا.
بل إن عثمان محرم باشا بشخصه وشموخه رفع من شأن المهندسين المصريين، ومن شأن الهندسة المصرية، وقد كان من أوائل الذين خلفوا الإنجليز في المناصب الفنية العليا في وزار الأشغال، ثم كان من الذين استطاعوا بدأب شديد تمصير كل شيء في القطاع الذي تولي أمره.
امتاز عثمان محرم باشا بروح وثابة وإقدام نادر وحماسة منقطعة النظير لكل ما يري فيه الخير لبلاده، وليست تلك الأمثلة التي نوهنا بها إلا أدلة قائمة ناطقة بما لهذا المهندس الكبير من غيرة وجد. وما لأعماله من آثار في حياة بلاده وأبنائها. وهل يري فيها أي منصف إلا أنها دعائم إصلاح شامل ونهضة وثابة باقتصاديات مصر ورخاء أهليها.
وكما سنرى فقد تفاعل دور عثمان محرم باشا الوزاري مع انتمائه للوفد و أسهم انتماؤه للوفد في تعظيم إنجازاته، و أسهمت إنجازاته في تعظيم مكانته بين وزراء الوفد.
ولد عثمان محرم في ١٢ يناير 1881 ، في القاهرة، قبل الاحتلال الإنجليزي لمصر بأكثر من عام، وتخرج في مدرسة المهندسخانة 1902، وهو في الحادية والعشرين من عمره، وكان ترتيبه الثاني علي دفعته، هكذا يمكن لنا تقريب صورته وتخرجه للقراء بأنه كان أصغر من مصطفي النحاس باشا بعامين ميلادا وتخرجا. و أتيح لعثمان محرم أن ينخرط في سلك العمل الوظيفي في وزارة الأشغال عقب تخرجه مباشرة في أغسطس 1902، وبدأ تدرجه الوظيفي معاونا لتفتيش ري، وبعد أقل من ثلاثة شهور نقل مهندسا لمركز المحلة نوفمبر 1902، ثم مهندسا لمركز السنبلاوين مارس 1904. وفي أغسطس 1909 نقل عثمان محرم رئيسا لقسم هندسة الري بوزارة الأوقاف، إذ كانت لهذه الوزارة كما نعلم أبعاديات كبيرة من الأراضي، وقبل أربع سنوات ترقي وكيلا للقسم الهندسي في وزارة الأوقاف يناير 1913، وفي بداية العام التالي يناير 1914 عاد إلي وزارته الأولي وأصبح واحدا من ثلاثة مهندسين مصريين نالوا درجة مساعد مدير أعمال، ولم يلبث أن رقي مديرا للأعمال في يونيو 1914 قبيل فرض الحماية الإنجليزية علي مصر ديسمبر 1914.
هكذا كان عثمان محرم في أثناء الحرب العالمية الأولي والفترة التالية لها حيث قامت ثورة 1919، يتمتع بمنصب هندسي رفيع في وزارة الأشغال يجعله من المتقدمين بين المهندسين المصريين والأجانب أيضا .
بعد ثورة 1919 رقي عثمان محرم مفشا لري الفيوم في أول أبريل 1922، وبعدها بعام أصبح مفتشا لري زفتي، وهكذا شغل هذا المنصب الرفيع في كلا الوجهين القبلي والبحري. وعند تشكيل وزارة سعد زغلول باشا في نهاية يناير 1924 أسندت وزارة الأشغال إلي أحد السياسيين المبرزين من غير المهندسين وهو مرقص حنا باشا، ولم تمض أيام حتي اختير عثمان محرم مديرا لمكتب وزير الأشغال الوفدي في 5 فبراير 1924، فكأنما كانت عين الوفد وزعامته علي عبقرية عثمان محرم وضرورة توظيفها لخدمة الحركة الوطنية في المواقع المتقدمة. ويبدو بوضوح أن عثمان محرم كان عند حسن الظن به، فلم يلبث أن عين وكيلا لوزارة الأشغال في 24 مايو 1924، أي بعد مائة وعشرة أيام من توليه منصب مدير مكتب الوزير. هكذا كان عثمان محرم صنوا للشبان الوفديين المبرزين الذين دفع بهم سعد باشا إلي الصفوف الأولي من العمل التنفيذي كأحمد ماهر، و الغرابلي ، والنقراشي، وعلي الشمسي.
كان عثمان محرم وزيرا للأشغال في ظل الائتلاف بين الوفد والاحرار والدستوريين الذي تشكلت بموجبه 3 وزارات هي وزارات: عدلي يكن الثانية، وعبد الخالق ثروت الثانية، والنحاس الثالثة فيما بين 1926 و1927 كان عثمان محرم من جهة الوفد في الائتلاف وزيرا للأشغال، علي حين كان محمد محمود وزيرا للمالية كأحد وزراء الأحرار الدستوريين، وقد تعنت محمد محمود في الاعتراض علي نظرية عثمان محرم وخطته الخاصة بالتعلية الثانية لخزان أسوان، ووصل محمد محمود في هذا التعنت إلي أن امتنع بحكم كونه وزيرا للمالية عن توفير الموازنة الخاصة بالمشروع. ثم تعنت تجاه قيام مصلحة المساحة بالمساعدة في المشروع، وفي كلا الموقفين استطاع عثمان محرم تدبير الموارد من موازنات و موارد وزارة الأشغال، ووصل الأمر بمحمد محمود أن اشترط ألا يستمر حزبه الأحرار الدستوريين في الائتلاف إذا ما اشترك عثمان محرم في الوزارة، وبناء عليه اختير وزير أخر للأشغال حسب علي الوفد، لكنه أصبح بعد هذا من وزراء صدقي باشا في 1930.
كانت نواة الخلاف التي خرج بسببها النقراشي وزملاؤه من وزارة النحاس باشا في 1937 هو النقاش الحاد الذي دار حول أحد المشروعات الهندسية الخاصة بوزارة الأشغال، وعلي حين انحازت أغلبية أعضاء الحكومة إلي رأي عثمان محرم فقد آثر محمود غالب والنقراشي الخروج حول هذا الإجماع.
كان انحياز النحاس باشا إلي تلبية الآراء الفنية لعثمان محرم أحد أسباب الجفاء التي أعلن عنها مكرم عبيد باشا لتغطية خروجه علي الوفد.
وعلي الرغم من مكانة مكرم عبيد وسراج الدين من بعده المتميزة في الوفد كسكرتيرين عامين، وكانا بمثابة الرجل الثاني في سياسة الوفد، إلا أن قامة عثمان محرم في العمل الوزاري والتنفيذي لم تكن تسمح لهذا ولا لذاك ولا لغيرهما فيما بينهما كأحمد نجيب الهلالي باشا بالتقدم عليه، وذلك بسبب احتفاظ عثمان محرم بمكانة سياسية متميزة وأداء تنفيذي رفيع المستوي.
والحاصل أن وجود شخصيات من طراز عثمان محرم كان يمثل من ناحية أخري أحد صمامات الأمن لخلق طبقات طبيعية غير مسيسة بالكامل فيمن بين رئيس الحزب الشعبي الكبير وبين السياسيين الذين يمثلون مقاعد الصف الثاني بعد الرئيس، وقد كان الوفد بحاجة ماسة إلي مثل شخصية عثمان محرم التي ملأت هذا الفراغ بقدرة واقتدار، وربما لو أننا تأملنا الأمور بصورة مقارنة بين الوزارات الفنية المختلفة لوجدنا أن وزارة الأشغال بالذات كانت أولي الوزارات بوجود التنفيذي الفني التكنوقراطي، فقد كان من السهل علي الوفد أن يتولى رئيسه أو غيره من السياسيين وزارة الداخلية، كما كان من اليسر أن يكون أحد هؤلاء السياسيين أيضا علي رأس وزارة الخارجية متوافقا مع سياسات الوفد والوطن الخارجية، وكان من الممكن بحكم انتماء هؤلاء الساسة إلي الثقافة القانونية أن يتولوا وزارة العدل، وينطبق هذا علي الوزارات التي هي إدارية ـ قانونية في الأساس كالأوقاف، والتجارة، والتموين، وكذلك كان يمكن قبول مثل هذا المنطق في الوزارات نصف الفنية كالمواصلات والزراعة ثم الصحة. وهكذا كان من حسن حظ الوفد أن كان التكنوقراطي البارز فيه وهو عثمان محرم مسئولا عن وزارة الأشغال، وربما يصدق القول مع تبديل المقدمات والنتائج، أي إذا قلنا إنه كان من حسن حظ وزارة الأشغال في عهد الوفد أن وجد عثمان محرم.
ونأتي الآن إلي أبرز الإنجازات التنفيذية في مجال الأشغال العامة التي تمكن عثمان محرم من إنجازها في الفقرات التي عمل فيها وزيرا للأشغال، سواء في الائتلاف الوفدي مع الأحرار الدستوريين، أو في فترات وزارات الوفد الست التي شارك فيها، وسنرتب هذه الإنجازات ترتيبا زمنيا بدءا بالأقدم:
مع أن عثمان محرم لم يكن مبتكر فكرة التعلية الثانية لخزان أسوان، إلا أنه هو الذي كافح في سبيلها حتي تمت وأفادت منها مصر فوائد جمة من ناحية اقتصادها القومي ورخاء أهلها وتوسيع الرقعة الزراعية بها خلال الأعوام منذ سنة 1933 وإلي ما شاء الله. ذلك انه عقب إنشاء خزان أسوان مباشرة بدت الحاجة ماسة إلي تعليته لزيادة المياه المخزونة في الصيف للتوسع الزراعي. وقد تمت تلك التعلية التي تسمي بالتعلية الأولي عام 1912 وكانت التعلية الثانية لخزان أسوان أحد الحلول المطلوبة لزيادة مخزون المياه، ولكن الإنجليز ـ وكان بيدهم الأمر ـ حولوا الاتجاه إلي إتمام مشروع خزان جبل الأولياء بالسودان. وكانت السياسة الوطنية إذ ذاك والحذر الواجب يقضيان بأن تكون خزاناتنا داخل الحدود المصرية، وذلك لمنع الإنجليز من التحكم في رقابنا واستغلال مصادر حياتنا في الضغط السياسي علينا. وكان بعض الفنيين المصريين يعارضون التعلية الثانية لخزان أسوان بحجة أن مبانيه الأصلية ومباني تعليته الأولي متصلتان بقضبان حديدية ولا يعلم إلا الله مقدار التفاعل الحاصل بينهما، وأن الخزان بهذا الوصف أعرج، فإذا عُلّي مرة ثانية فسيزداد عرجا. وقد ساعد البريطانيون على معارضة فكرة التعلية الثانية بلسان ممثلهم اللورد لويد أن خزان أسوان أثر من آثار الإنجليز في مصر، وأنهم لا يسمحون بالمخاطرة به.
وكان علي مَنْ يؤمن من المهندسين المصريين بفائدة هذه التعلية الثانية لبلاده، سياسيا واقتصاديا، أن يكافح كفاحا مريرا أمام هذه القوي، وقد تصدي عثمان محرم للأمر حين وكان وزيرا للأشغال في عام 1926 ، واستعان بخبراء من الإنجليز ليجابه الساسة الإنجليز بالمهندسين الإنجليز أنفسهم!! ووضع خطته علي أن يتعاقد مع كل من السير مردوخ ماكدونالد المهندس العالمي وعضو مجلس العموم البريطاني، وقد كان من قبل مستشارا لوزارة الأشغال المصرية وقد تم في عهده بناء الخزان الأول وتعليته الأولي، وكذلك المستر برثن بكلي الذي وصل إلي وظيفة مفتش عام بوزارة الأشغال، ولكن محمد محمود باشا وزير المالية في ذلك الحين رفض الموافقة علي هذا التعاقد، فلم يسع عثمان محرم وزير الأشغال في إيمانه بسلامة اتجاهه وتقديره للمصلحة الكبرى ، إلا أن يتعاقد فورا معهما خصما علي وفورات وزارة الأشغال متغلبا بهذا علي معارضة زميله وزير المالية في الائتلاف الوزاري، ثم طلب عثمان محرم من مصلحة المساحة وكانت تابعة لوزارة المالية إعداد خرائط لمنطقة أسوان لبدء الدراسة، وفوجئ بأن جاءه الرد من وزير المالية شخصيا أن هذا الإعداد يتكلف ثلاثين ألف جنيه ولا ينتهي قبل ثلاثة أعوام، وهكذا كان التعسف والتعنت يأتي من داخل الائتلاف الحزبي، وهكذا اضطر عثمان محرم إلي أن يخطط لإنجاز نفس المهمة بواسطة فريق من مهندسي وزارة الأشغال، وكان دائم الاتصال بهم بواسطة اللاسلكي الذي كان يصل بين أسوان والمناطق القبلية النائية التي كانوا يعملون فيها. وبهذا وبغيره انتهت البحوث المساحية في ستة شهور لا في ثلاثة أعوام، وقد أحنق ذلك وزير المالية حتى أنه عندما استقالت الوزارة وأريد إعادة تشكيلها ائتلافية رفض وزير المالية أن يدخل بحزبه في الائتلاف إذا دخل عثمان محرم الوزارة، وقد أجيب إلى طلبه، ولكن بعد أن كانت تلك البحوث والدراسات قد تمت.
ولم يزل عثمان محرم يتابع سعيه من أجل إتمام التعلية الثانية على الرغم من معارضة البريطانيين وبعض المصريين. وقد احتكمت مصر إلي خبراء عالميين، فأيدوا الدراسات التي أجراها وتمت التعلية الثانية لخزان أسوان في عام 1933 ونجحت نجاحا تاما وأصبح ما يخزن في خزان سوان بعد هذه التعلية خمسة مليارات من الأمتار المكعبة بعد أن كان أقصي المخزون في خزان أسوان وتعليته الأولي مليارين ونصف المليار، أي أن المياه الصيفية قد تضاعفت بالتعلية الثانية التي يعود الفضل الأكبر فيها إلي عثمان محرم.
وجه عثمان محرم عناية كبري إلي القناطر الكبرى التي تتحكم في المناسيب وترفع المياه أمامها لتغذية الرياحات والترع الرئيسية التي تأخذ من أمام تلك القناطر للتوزيع علي الأراضي التي تتوسع في زراعتها زراعات صيفية.
وفي عامي 1927 و1928 وكان عثمان محرم وزيرا للأشغال في الائتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين نجح في إقامة قناطر نجع حمادي علي النيل لتعين علي تحسين الري الحوضي بالصعيد بما يفيد حوالي مليون ومائة ألف فدان، ولتعديل نظام الري الحوضي إلي نظام الري المستديم لنحو 150 ألف فدان أخري.
وأسهم عثمان محرم وهو خارج الحكم في الرأي القائل بضرورة إقامة قناطر محمد علي الجديدة بدلا من القناطر الخيرية التي أصبحت عاجزة عن تأدية مأموريتها، ثم أتيح له وهو وزير في عام 1936 أن يبت في عطاءات عملية قناطر محمد علي وتم إنجاز مرحلة العمل الكبرى فيها في أثناء وجوده وزيرا في عام 1937، وبذلك تم تنفيذ هذا المشروع الذي تتوقف عليه حياة الثروة الزراعية بالوجه البحري جميعه.
في عام 1936 و1937 نجح عثمان محرم في تقوية قناطر أسيوط بهدف تحسين الري الصيفي في مديريات أسيوط والمنيا وبني سويف. وفي عام 1936 درس عثمان محرم إمكانية تقوية قناطر إسنا تمهيدا لتحويل حياض مديرية قنا وجانب كبير من أراضي مديرية جرجا إلي الري المستديم مع تدبير وسائل الري المزدوج الذي يمكن من زراعة هذه الأراضي زراعات صيفية ولا يحول دون غمرها بمياه النيل الحمراء في ذروة الفضيان، فتتجدد خصوبتها في كل عام وتؤدي في الوقت نفسه وظيفتها كحياض في تخفيف خطر الفيضان. وقد أعلن عثمان محرم عن تلك التقوية في خطاب العرش في مايو سنة 1936، وقرر مجلس الوزراء تعيين المهندسين الاستشاريين للقيام بالدراسات والبحوث اللازمة وإعداد مواصفات وشروط المناقصة لتقوية قناطر إسنا، ولم يترك عثمان محرم الوزارة في 31 ديسمبر 1937 إلا وقد تمت الدراسات وأعدت المواصفات وأدرج الاعتماد المالي في الميزانية وطرحت العملية في المناقصة العامة. ولكن العملية ما لبثت أن توقفت طيلة المدة التي كان فيها عثمان محرم بعيدا عن الوزارة حتي عاد إليها في أوائل عام 1942 فلم يثن من عزمه ولم يحد من إقدامه علي إنجاز هذا العمل النافع أن الحرب كانت علي أشدها، وأن استيراد المعدات والآلات ومواد الإنشاء كان محظورا، وكان دافعه المعلن أن تقوية قناطر إسنا تضمن الري الحوضي لمديرية قنا التي كثيرا ما تخلفت منها مساحات شاسعة دون ري في سنوات متعددة، فضلا عما تؤدي إليه هذه التقوية من تحويل الري الحوضي إلي ري مستديم لمساحة تبلغ نحو ثلاثمائة ألف فدان فيما بين إسنا والبلينا. وقد تم إدراج عملية تقوية قناطر إسنا في المناقصة العامة، ولم يترك عثمان محرم وزارة الأشغال قبل نهاية عام 1944 إلا وقد بدأت الأعمال، وقد تمت فعلا بعد خروجه من الوزارة.
وخلال عامي 1950 و1951 بذل عثمان محرم مجهودا مستميتا في الدراسة والإعداد لإقامة قناطر فارسكور علي فرع النيل بدمياط بدلا من السد الترابي الذي يقام هناك سنويا، وذلك علي نمط قناطر إدفينا التي أقيمت في عهد سابق له علي فرع رشيد، وكان الغرض من هذه القناطر التحكم في مياه الفضيان فلا تذهب كلها سدي إلي البحر الأبيض، فضلا عن تدبير نحو المليار من الأمتار المكعبة من الماء المكتسب في مدة الصيف للانتفاع به في المناوبات الصيفية. ولم يترك وزارة الأشغال في أوائل عام 1952 إلا وقد أصبح هذا المشروع تام الإعداد الدراسة، وقد نفذ بالفعل في فترة تالية.
وفي عامي 1950 و1951 دفع عثمان محرم العمل في إقامة محطة توليد الكهرباء بشمال القاهرة إلي الإنجاز، كما أرسي عطاءات مقاولة تقوية هذه المحطة بمثل قوتها الأصلية استعدادا لإمداد وتشغيل المصانع الحربية التي كان مزمعا إقامتها في أبي زعبل وغيرها، وشرع في إعلان مناقصة أعمال محطة أخري جديدة بجنوب القاهرة قرب حلوان لنفس الغرض. ومع تعدد هذه المحطات قرر أن يصلها وغيرها في النهاية بشبكة كهربائية تنتظم القطر كله ليحقق البرنامج الذي نادي به في يناير من عام 1935. ومن أجل هذا الغرض أيضا أنشأ عثمان محرم وظيفة جديدة في وزارة الأشغال أطلق عليها اسم وكيل وزارة الأشغال لكهربة عموم القطر.
وفي آخر عهد عثمان محرم في وزارة الأشغال عامي 1950 و1951 أقام خمس محطات كهربائية للصرف بمديريات الشرقية والدقهلية والغربية و كفر الشيخ، كما أولي محطة طلخا الكهربائية عناية من اجل تنفيذ برنامجه الشامل لمشروعات الصرف بالطلمبات الذي بدأه فعلا منذ عام 1926.
قلنا ان عثمان محرم كان يشجع الانتصار للعقيدة القائلة بأن تكون خزانات مصر المائية بقدر الإمكان داخل حدودها، حتي لا يكون للخزانات التي نضطر إلي إقامتها خارج تلك الحدود طبيعة أو صيغة ورقة الضغط التي يمكن استخدامها سياسيا لمدة طويلة تخلو البلاد فيها من المياه اللازمة لها فيموت زرعها وتضمحل ثروتها ويتلاشي رخاء أهلها، وقد كانت هذه الفلسفة ذاتها وراء مناداته بضرورة التخزين في وادي الريان الكائن بالجنوب الغربي لمديرية الفيوم، وقد ألقي محاضرة فنية مدروسة في كلية الهندسة بالجيزة بمناسبة رئاسته الشرفية لجمعية الهندسة المدنية بالكلية يوم 20 يناير 1936، وبعد أن عرض لكل مشاكل البلاد من ري وصرف وفيضان طالب بضرورة الشروع في دراسة خزان وادي الريان.
ولما تولي شئون وزارة الأشغال في وزارتي النحاس الثالثة والرابعة في الفترة من 10 مايو 1936 إلي أواخر ديسمبر سنة 1937، جعل أكبر همه الإعداد لهذا المشروع، واستقدم له مهندسا استشاريا، ومع الأسف فإن هذا المشروع لم يتقدم خطوة بعد خروجه من الوزارة وإلي أن عاد إلي الوزارة في أوائل عام 1942 بينما الحرب العالمية مندلعة، فلم يكف عن المضي فيما رآه خيرا لوطنه، ولم يستسلم لظروف الحرب التي تدعو دائما إلي تأجيل مثل هذه المشروعات، وشرع فعلا في التنفيذ بل بدئ في شق القناة التي توصل النيل بذلك المنخفض، ولما ترك الوزارة مرة أخري توقف العمل إلي أن اختير في عام 1947 واحدا من ثلاثة من كبار المهندسين المصريين كخبراء لإبداء الرأي في جميع مشروعات الري علي النيل من المناطق الاستوائية وبلاد الحبشة إلي البحر الأبيض، فدافع عن وجهة نظره في إقامة خزان وادي الريان
وفي عام 1943 طلب عثمان محرم وهو وزير للأشغال من مهندسي الوزارة لدراسة حوض النيل من أسوان إلي حلفا بحثا عن موقع صالح لإقامة خزان آخر لمياه النيل، تطبيقا لفلسفته المبدئية في أن يكون أكثر عدد من الخزانات المائية داخل حدود مصر، ومؤمنا كذلك بأن الخير لمصر أن تعدد خزانات مياهها لأسباب عدة، منها أن الخزان محدود الكفاءة يسهل تدبير اعتماداته المالية ويمكن في الوقت نفسه الانتفاع بمخزونه في أقرب وقت لقصر الزمن الذي تقام فيه الأعمال والإنشاءات التي يستفاد منها بالمياه المخزونة فيه، وهي الترع والمصارف والقناطر وإعداد الأراضي لاستقبال تلك المياه وغيرها، وسبب آخر لا يقل أهمية عما تقدمه وهو أن في تعدد الخزانات بعدا عن المجازفة بثروة البلاد وحياتها، فيما لو أصيب خزان واحد ـ لا قدر الله ـ تتجمع فيه كل موارد مياه الري في حرب أو في سلم. وقد أسفرت هذه البحوث عن اختيار موقع خزان جديد في مروي، وقد عرضت أبحاثه ودراساته علي لجنة الخبراء المصريين 1947، وكان أحد المشروعات التي أوصت بها.
لاحظ عثمان محرم في عام 1936 وهو يدرس عقد امتياز محطات ري شركة السكر بنجع حمادي، أن وزارة سابقة كانت قد تنازلت في عام 1934 عن حق الحكومة المطلق في شراء محطات الري لتلك الشركة التي تروي خمسين ألف فدان بمنطقة نجع حمادي بعد أن ينتهي ذلك الامتياز في ديسمبر سنة 1937. كما لاحظ أن وزارة الأشغال لم تتخذ ـ منذ ذلك الوقت حتي قيام الوزارة الوفدية في مايو سنة 1936 ـ أي إجراء لإقامة محطات جديدة للري تحل محل محطات تلك الشركة. وقد وجد أن الموعد الذي ينتهي فيه هذا الامتياز قد أوشك أن يقترب ولا يزال أمام الحكومة أن تجهز نفسها للحلول محل الشركة بمحطاتها الجديدة التي تستلزم إجراءات إقامتها عامين علي الأقل، ومعني ذلك أن موعد نهاية الامتياز قد يأتي وليس في قدرة الحكومة المصرية ـ بسبب التقصير السابق ـ أن تواجه الحالة بالاستعداد الواجب. لذلك بدأ وهو وزير في مفاوضة الشركة لكي تبيع للحكومة منشآتها، ولكنها كانت معتزة بمركزها الحصين وبالقوة التي استفادتها من تنازل الحكومة لها طائعة مختارة عن حقها في شراء المحطات بعد انتهاء الامتياز.
وأعلن عثمان محرم عن مناقصة فورية لإقامة محطات جديدة، لتري الشركة أنها أمام حكومة لا تعرف هوادة ولا لينا في سبيل قيامها بواجبها نحو الأمة. ولم يكد المقاولون يتقدمون بعطاءاتهم حتي عادت الشركة من تلقاء نفسها إلي مفاوضته، إذ أدركت بعد أن رأت هذا الموقف الحازم من جانبه ، أنها ستكون ملزمة في النهاية بإزالة ماكيناتها وطلمباتها وتعرضها للعطل،وبالتالي عدم الانتفاع بها ولا بالمقابل الذي كانت الحكومة ستدفعه كثمن لهذه المحطات. وبهذا تمكن عثمان محرم من أن يتفق معها علي شراء المحطات بالقيمة التي قدرها رجال وزارة الأشغال المختصون، ولم يسع الشركة عند ذاك إلا أن تتنازل عن كثير مما كانت تتمسك به.
وفي الوقت ذاته فقد أتاح هذا الاتفاق لعثمان محرم أن يستخدم الماكينات الجديدة التي تقدم المقاولون بعطاءاتهم عنها في ري 37500 فدانا أخري بالجانب الشرقي للنيل بمنطقة الخيام بمديرية جرجا، علاوة علي المساحة السابقة والبالغة خمسين ألف فدان والتي كانت تروي بالفعل من المحطات التي اشتريت من الشركة. وبهذا تحقق إنجازان لا إنجاز واحد، وأصبحت الأرض الزراعية علي كل من جانبي النهر تتمتع بالري الصيفي بعد أن كان مقصورا علي الجانب الغربي فقط.
اكتشف عثمان محرم أن زارعي القصب المعتمدين في ري أراضيهم علي محطة ري أرمنت التابعة لشركة السكر يلقون بعض الصعوبات ويتضررون من الأجور العالية، ففاوض الشركة كي تبيع هذه المحطة للحكومة حتي يمكن إمداد الأهالي بالمياه اللازمة لأراضيهم مقابل أجور معتدلة كما هو الحال في محطاتها الأخري، ولم يكتف عثمان محرم بهذا بل استولي أيضا علي ماكينات شركة السكر الجديدة التي استحضرتها لإدارة محطة جديدة بالفريزة لتديرها الحكومة بالطريقة نفسها، وقد استهدف بهذين الإجراءين راحة المزارعين وضمان كميات القصب اللازمة للشركة، وهكذا خدمت الحكومة الأهالي كما ضمنت تزويد الشركة في الوقت ذاته بحاجتها من قصب السكر. وقد كان من نتيجة هذا التأميم المبكر الذي مارسه عثمان محرم أن استطاعت الحكومة أن تخفف عن كاهل صغار الفلاحين البؤساء أجور الري.
كان عثمان محرم واعيا كل الوعي لأهمية الطرق، ومن حسن حظ مصر أن طرقها كانت منذ أيام الفراعنة مرتبطة بالموارد المائية، فكان جسر النيل وجسور الترع والمصارف بمثابة النواة الأولية لكل طرق مصر، وهكذا كان عثمان محرم يولي الطرق عناية وزارة الأشغال باعتبار وزارة الأشغال مسئولة عن جسور النيل والترع والمصارف، وكان إحساس عثمان محرم بالمسئولية عاليا فلم يكن يلقي بتبعة الطرق علي مصلحة الطرق التي أنشئت وتبعت لوزارة المواصلات الآن وبعد نشأة وزارة للنقل في 1964 أصبحت الطرق تابعة لوزارة النقل، لكنه كان واعيا كل الوعي لدور وزارته في الطرق من حيث إنها العامل المساعد علي مراقبة النيل والممرات المائية، وأنه بدونها تستحيل هذه المراقبة، هذا فضلا عن إحساسه العميق بالمسئولية عن كل النشاط الهندسي والحضاري في الوطن.
ولم يكتف عثمان محرم في نظرته إلي أهمية الطرق بأن ينشئها ويعددها ويوسعها ويسلمها إلي مصلحة الطرق لتقوم علي صيانتها بتمهيدها ورشها وتركها ترابية، بل إنه في مرحلة تالية رأي أن من واجبه أن يعمل علي رصفها بواسطة وزارة الأشغال، فبدأ في عام 1950 يشتري ماكينات لرصف جسور النيل والترع والمصارف. ولقد أقام عثمان محرم كوبريين علي النيل أحدهما عند شربين والثاني عند المنصورة فربط بهما بين مديريات الوجه البحري جميعها علي جانبي النيل.
وأقام عثمان محرم كباري عديدة علي الترع والمصارف الرئيسية، فضلا عن الترع والمصارف الفرعية، وحول كباري ثابتة إلي أخري متحركة لتسهيل الملاحة، ووضع قواعد ثابتة لعرض الطريق يلبي توسع حركة المرور في المستقبل، علي أن تكون بالخرسانة المسلحة حتي تدوم إلي طول وقت ولا تتكلف كثيرا في الصيانة.
يعود الفضل إلي عثمان محرم في كثير من الإنجازات الهندسية التي شهدتها مدينة القاهرة الكبري علي أكثر من مستوي حضاري وجمالي، ويكفي أن نلخص القول بأنه صاحب الفضل في خمسة شوارع كبري لا تزال لها مكانتها في القاهرة وهي:– شارع بورسعيد الخليج المصري سابقا وهو أكبر وأطول شوارع القاهرة.
– وشارع الهرم من الجيزة إلي الأهرام.– وشارع قصر العيني.– وشارع الأزهر الذي شق في عهده.– وشارع الجيش فاروق سابقا وهو الذي شق أيضا في عهده.
فإليه يرجع الفضل في توسيع أطول وأقدم شارع في القاهرة في عام 1927 وهو المعروف الآن بشارع بورسعيد الذي يخترق عددا كبيرا من الأحياء الوطنية ويربطها ببعضها، ولو أنه لا يزال في حاجة ماسة إلي خط من خطوط المترو يتيح لأبناء هذه المناطق ما يستحقونه من عناية الدولة والمجتمع. كذلك فقد تولي توسيع شارع الهرم وهو الموصل لأقدم أثر فرعوني، فأتيح للقاهرة منذ ذلك الحين أن تنشئ علي جانبيه أهم ضاحية من ضواحيها، ولتوسيع هذا الشارع قصة طويلة ترجع إلي بدء الحياة النيابية في البلاد، وكيف اجتمع أول وآخر مؤتمر من مجلس البرلمان المصري سنة 1937 لمناقشة هذا الموضوع، وفاز الرأي القائل بالتوسيع بصوت واحد فقط. وقد أنشأ شارع قصر العيني بنقل الترام إلي منتصفه ورصفه بالأسفلت بعد ذلك وعلي يده تقرر شق شارعي الأزهر للتخفيف عن شارع الموسكي بالنسبة للأول، وشارع الجيش لوصل العباسية بقلب المدينة من أقصر طريق بالنسبة للثاني. وقد قرر عثمان محرم التخلية حول مسجد أحمد بن طولون لإظهاره وإبرازه، والوصل بين الحوض المرصود وشارع مراسينا وإقامة حديقة الحوض المرصود لتكون متنفسا لأهالي تلك الأحياء الوطنية. وفي عهد عثمان محرم بدئ في رصف الأحياء الوطنية بالأسفلت، وكان من قبل مقصورا علي الأحياء الإفرنجية.
وقد سبب هذا الاهتمام بالطرق لعثمان محرم كثيرا من المشكلات السياسية التي خلقها قصر النظر الشديد عند كثيرين من التنفيذيين المصريين المعاصرين له فقد كان بعض هؤلاء يظن أن من المسلمات المطلقة أن الطرق من مسئولية المجالس البلدية مادامت قد وقعت في كردونات المدن التي لها مجالس بلدية، وعلي هذا تصبح وزارة الأشغال مسئولة عما هو خارج المدن فحسب. ومن ناحية أخري كان بعض قصار النظار من مهندسي وزارة الأشغال نفسها لا يمانعون في التصريح بأن مسئولية وزارة الأشغال تنتهي عند إعداد الطرق ترابيا فحسب، أما رصف الطرق أو سفلتتها فينبغي أن يكون علي حساب مصلحة الطرق. ولم يكن عثمان محرم من أنصار هذا الرأي ولا ذاك.. وربما نندم الآن علي خروج مثل هذا الاختصاص من نطاق وزارة الأشغال ووقوعه أو توزعه بين المحليات وزارة التنمية المحلية والمحافظات من ناحية ووزارة النقل من ناحية أخري، لكن الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن عثمان محرم بذل في هذا الجانب ما هو أكثر من جهد البشر ويكفيه ما لقيه في محكمة الغدر من هجوم بسبب جهده في كورنيش سمنود، وقد صور المشروع المتميز الذي أتمه في هذا الكورنيش وكأنه لم يعمل إلا لمنزل النحاس باشا، كما يكفيه ما لقيه أيضا بشأن طريق المرج مع أننا حتي اليوم لا نزال بحاجة إلي أن ينمي هذا الطريق الذي هو بمثابة مدخل استراتيجي للقاهرة الكبرى.
ويسجل التاريخ لعثمان محرم عنايته بمدينة حلوان كضاحية كمشتي، وهو الذي قرر إنشاء أنفاق تحت سكة حديد حلوان لضمان سير المرور بدون توقف في الطرق المتقاطعة مع القطارات، وأتم من تلك الأنفاق نفق الملك الصالح، وقرر في عام 1930 توسيع جسر النيل بين مصر وحلوان، ولم يمنعه من ذلك أن مصلحة التنظيم التي يتبعها هذا الطريق لم تكن لديها اعتمادات مالية، فقرر أن يتم العمل علي حساب مصلحة الري علي أساس أن الطريق المذكور إنما هو جسر النيل. ولم يكتف عثمان محرم بذلك، بل إنه جعل من بين مشروعاته العاجلة بالنسبة لإحياء مدينة حلوان، عمل طريق آخر أوتوستراد للمرور السريع يمر بتقاسيم الأراضي التي تستجد بين مصر والمعادي وحلوان، وكثير منها مملوك للحكومة.
وإلى عثمان محرم يعود الفضل في إعادة تنسيق المساحة الشاسعة التي كان يطل عليها مستشفيان من أكبر مستشفيات القاهرة هما مستشفي الدمرداش ومستشفي رعاية الطفل بالعباسية، وأضيف لهما الآن مستشفي ثالث هو دار الشفاء، كما استجدت قريبا منهما كلية الطب بجامعة إبراهيم، وتكون تلك المساحة الشاسعة مشغولة بمقابر مهجورة وأكواخ حقيرة مزرية كانت تعرف بعشش الترجمان يسكنها الخزي والعار، وتقع علي شارع من أهم شوارع المدينة بحالة اضطرت الحكومة في وقت زيارة ملك الأفغان لمصر سنة 1937 أن تحجبها عن النظر بأسوار مرتفعة. والآن يمكن لمن يستطيع أن يستحضر تلك الصورة المؤلمة، والتاريخ غير بعيد، أن ينظر فيري كيف أزيلت العشش والأكواخ، وكيف أقام عثمان محرم مكانها في عامي 1943 و1944 حديقة جميلة مزدهرة بعد أن وضع فيها شبكة من المصارف المغطاة ليقلل من نفقات إقامتها وليضمن لها دوام ازدهارها، بحيث أصبحت الآن المتنفس المفضل في الصيف لأهالي حي العباسية وما يجاوره.
وكان عثمان محرم معنيا بمداخل القاهرة، ففكر في عام 1926 في إنشاء نفق السبتية، وترك الوزارة وعاد إليها في عام 1930 فبعث الحياة في هذا المشروع من جديد، ثم تركها وعاد فدفعه دفعا، وعاد في عام 1942 فأتمه، وبهذا أوجد مخرجا للمدينة، وأزال خطوط الترام من فوق كوبري شبرا الذي يعلو خطوط السكك الحديدية فمنع أخطارا كانت كثيرة الوقوع، وقصر المسافات وخفف الزحام عن ميدان المحطة.
وإلي عثمان محرم يرجع الفضل في إقامة تمثال نهضة مصر بميدان المحطة، وتمثالي سعد بالقاهرة والإسكندرية، وأقام ضريح سعد وضريح مصطفي كامل، وأقام من بيت سعد في مصر متحفا عاما، وكذلك بيت زعيم الأمة في إبيانة، وأقام النصب التذكاري بجامعة القاهرة، كما وسع الشوارع الموصلة إلي الجامعة، وأقام أخيرا في بعض الميادين قواعد يمكن اليوم في العهد الجديد أن تعلي عليها تماثيل الحرية أو تخلد من فوقها ذكريات أبطال يراد تمجيد ذكرياتهم.
وإليه يرجع الفضل في إحياء مقياس الروضة الذي يعد من أقدم الآثار العربية بمصر، إذ أنه أنشئ في عهد المتوكل علي الله في القرن الثالث الهجري. هذا المقياس الذي زاده في القلب جلالا قيامه علي النيل السعيد شاهدا علي وفائه ناطقا بآلائه، غير الزمن معالمه ومحا رسومه وملأ الطمي والحجارة بئره، واستولي وقف المناسترلي علي ما يحيط به، وحجب عن العيون بسور مرتفع، فلم يكن يراه إلا من يركبون القوارب إليه، ولا يقصده الكثيرون للدراسة ولكن يقصدونه تسليا وتلهيا، فأعاد جدته ورونقه، وأرجع إليه ما كان حوله، ومهد السبيل إليه ليراه كل من يحب أن يراه بلا مشقة، وأقام في نطاقه متحفا يجمع ما كان قد تساقط من حجارته التي تحتفظ شيئا من تاريخه المجيد.
وكان عثمان محرم معنيا بتهذيب نهر النيل، وهو اصطلاح فني قديم يعني ما نطلق عليه اليوم العناية بواجهات المدن المطلة علي النيل وكرانيشها.
كان عثمان محرم باشا هو صاحب فكرة إنشاء المبنيين الضخمين الشاهقين المجمعين اللذين أقيما بجوار وزارة الصحة، وفي ميدان التحرير لتجميع المصالح الحكومية التي كانت مبعثرة، ولاقتصاد نحو ثمانين ألف جنيه كانت تدفع أجورا سنوية لها، إلا بعض دلائل جهود عثمان محرم الجبارة التي بذلها في عامي 1950 و1951. وهو صاحب فكرة إقامة مدينة سكنية علي تلال زينهم بهدف منع الغبار عن قلب المدينة وليخفف من أزمة المساكن، وقد وضع في هذا الشأن دراسة كاملة في كتب ومقايسات موجودة الآن بمصلحة تنظيم القاهرة، . وقرر عثمان محرم في عام 1944 إباحة الدخول لجماهير الشعب مجانا إلي حديقة الأزبكية، وقد حسب ذلك العمل في حساب سيئاته من ناحية القواعد المالية.
ولم تقف حدود إنجازاته المدنية عند القاهرة.. وكان عثمان محرم معنيا بتهذيب نهر النيل، وهو اصطلاح فني قديم يعني ما نطلق عليه اليوم العناية بواجهات المدن المطلة علي النيل وكرانيشها،، وإليه يعود الفضل حين كان مدير أعمال بالري في إنشاء واجهتي مدينتي بنها وميت غمر علي النيل، كما أسهم في تطويل وتوسيع شارع البحر علي النيل بالمنصورة، وأسهم في إنشاء واجهات شربين وطلخا وفارسكور وغيرها علي النيل.
كما كان يؤمن بأهمية مرور نهر النيل في مدينة القاهرة، وكان يقول في ذلك: إن قليلا من بلاد العالم يتمتع بمثل موقع مدينة القاهرة علي نهر النيل، وقليل من بلاد العالم يهمل الاستمتاع بهذا الجمال الطبيعي كما أهملت مصر، كما كان يقول: إنه لم ير ولم يسمع أن نهرا عظيما كالنيل تقع عليه مدينة عظيمة كالقاهرة ثم لا تكون شواطئه قطعا من الجنة.
ونظر عثمان محرم إلي قناطر أبي المنجا، فوجدها مطمورة في الأرض الزراعية بعد أن بطل استعمالها، كما لاحظ أن فتحاتها استعملت مقابر لدفن الموتي، وكان يعرف من تاريخها أنها أقيمت منذ أكثر من سبعة قرون،مسجلة مرحلة من أهم مراحل فن هندسة الري في مصر، مظهرة كمحاولة أجدادنا ضبط ماء النيل وتدبير توزيعه علي قدر الحاجة. فعمل علي إخلائها من الموتي ورسمها وجددها، وكان علي وشك أن يحيطها بمنتزه عام يجلب إليها أنظار المارة في طريقهم إلي القاهرة. وكذلك جدد عثمان محرم قناطر اللاهون علي بحر يوسف بالفيوم، وهي مقامة من عهد قديم لا يعرف مداه بالضبط، كما جدد قناطر الراهبين لنفس الغرض.
كتب عثمان محرم بتاريخ 12 يوليو سنة 1937 إلي وكيل الوزارة مجيبا علي مذكرة مرفوعة إليه: اطلعت علي مذكرة سعادتكم المؤرخة 2/7/1937 الخاصة بطلب بعض الأهالي أن تقوم لهم الحكومة بعمل المصارف الخصوصية وتطهيرها هي والمساقي وغير ذلك، وإنني شخصيا أعتقد أن من حق الأهالي أن يطمعوا في أن تقوم الحكومة الدستورية بعمل المشروعات التي تحقق لجميع الملاك المساواة من حيث الانتفاع وأنا لا أفهم أن نترك للمصادفة وحدها أن تجعل فريقا من الأهالي ينتفع بمصرف أو ترعة عمومية لمجرد أن الظروف والاعتبارات الفنية قضت باتباع تخطيط معين عند عمل مشروعات جهة من الجهات، في حين أن من تبعد أراضيهم عن تلك التخطيطات يظلون محرومين من الانتفاع إلي أن يتفقوا مع جيرانهم أو يلجؤوا إلي الطرق الإدارية الطويلة الإجراءات لنزع ملكية المجري اللازم لتوصيل أراضيهم بتلك الترع أو المصارف العمومية، مع أن الجميع يتساوون في الالتزامات العامة ويدفعون الضرائب نفسها. ولهذا قد أعطيت لمراعاة تمكين كل أرض من الري والصرف في دراسته لمشروعات تحويل الحياض، كذلك فإنني عندما تعرض علي مشروعات جديدة أتأكد دائما قبل اعتمادها من أن هذا المبدأ مطبق فيها. وإني أري فيما يتعلق بالمناطق التي ليس بها مشروعات جديدة أن تدرس حالة الأهالي بها علي أساس التسوية بينهم وبين من انتفع بمجاورته للترعة أو المصرف العمومي، علي أنه إذا رؤي أن يكون المصرف الفرعي، الذي يشق لتوصيل مساحات أقل من المقررة مصرفا خصوصيا، فإنني لا أري ما يمنع من أن يكون كذلك بعد إنشائه بمعرفة مصلحة الري، ويكون تطهيره فيما بعد علي حساب أصحابه.
وينتهي عثمان محرم ـ بعد هذا كله ـ إلي التنبيه علي الفوائد الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة لانتهاج ما يقترحه من سياسات فيقول:وبهذا تكون الحكومة قد قامت بواجبها نحو رعاية المزارعين رعاية فيها المساواة التامة، فضلا عما تفيده الأراضي من خصب تترتب عليه من غير شك زيادة الثروة العامة ورفع قيمة الأموال الأميرية، وبذلك تجني الحكومة زيادة في رخاء الأهالي وزيادة في أموالها.
وضع عثمان محرم منذ عام 1936 برامج لإقرار سياسة ملاحية، وذلك بتغيير الكباري الثابتة علي مجاري مياه الري والصرف الرئيسية وجعلها متحركة. ويبدو إيمان عثمان محرم بأهمية الملاحة فيما يقوله عنها في المذكرة التفسيرية المؤرخة 21 يناير سنة 1952 التي قدم بها مشروع ميزانية سنة 1952 ـ 1953 حيث جاء فيها ما يأتي نصه:
تعتبر الملاحة النهرية من أقدم وسائل النقل في مصر، ولقد ساعدت كثيرا علي قيام حضارة عريقة بها. ونظرا لأن تقدم الأمم يعتمد كثيرا علي درجة تقدم المواصلات وسهولتها، فقد بذلت هذه الوزارة الجهد لتحسين الملاحة في النيل وفي مجاري الري والصرف الكبرى خصوصا لقلة تكاليف إذا ما قورنت بأجور النقل بالسكك الحديدية أو بالسيارات.
وقد أشار عثمان محرم في مذكرته إلي الخطوط الملاحية التي قرر استكمالها في الميزانية الجديدة وأوضح فوائدها وهي:
أ الخط الملاحي الذي يربط النيل وبحر يوسف عن طريق ترعة الجيزة.
ب الخط الملاحي الذي يصل القاهرة بالإسكندرية عن طريق رياح البحيرة فترعة الخندق الشرقي فترعة المحمودية.
جـ الخط الملاحي بين بحر شبين وترعة الباجورية مارا ببندر طنطا لربط مديريتي المنوفية والغربية.
د الخط الملاحي بين بحر مويس ومصرف بحر حادوس لربط مديريتي الشرقية والدقهلية. وبتأمل هذه الخطوط الملاحية يمكن لنا إدراك أن عثمان محرم يربط بها أقاليم القطر كلها ببعضها البعض ، ولا يختص بها إقليما دون إقليم.
كان عثمان محرم أول مَنْ نبه إلي أهمية وضع سياسة وطنية للصرف مستندا في تنظيره لأهمية وضع سياسات للصرف إلي ما لاحظه وأدركه من خطورة ترك الحال علي ما هو عليه، ونحن لا نجد في أعمال عثمان محرم المبكرة اهتماما قويا بالصرف وسياسته علي نحو ما نجده في تصوراته وأفكاره بدءا من منتصف الثلاثينيات، وعندي أن لهذا أهمية كبري من حيث إنه لم يكن الرجل الجامد الذي بدأ حياته الوزارية وأنهاها بنفس الفكر القديم، لكنه كان يجدد أفكاره تبعا لما اكتسبه من خبرة في المواقع المتقدمة. وقد أعلن عثمان محرم عن توجهاته في هذا الجانب المهم في المؤتمر الوفدي العام في دورته الأولي يوم 8 يناير سنة 1935 فقال ضمن حديثه:
نظرا لما للصرف من أهمية عظمي وتأثير شديد في تفاوت درجات إنتاج الأراضي الزراعية، أري لزاما علي أن أبدأ الكلام عنه وأنبه الأمة إلي ضرورة العناية به أكبر عناية، فقد أصبح من البديهيات أن سوء الصرف في الأراضي الزراعية مع وفرة مياه الري وزيادتها يسبب ارتفاع مياه الرشح بباطن الأرض ويضعف خصوبتها أو يميتها أحيانا كثيرة، وقد ثبت من التحاليل الكيماوية التي عملت أخيرا علي أعماق مختلفة للأراضي الزراعية بجنوب الدلتا، أنه قد بدأت تتكون في الطبقات السفلي من التربة أملاح ضارة يخشي ـ إذا طال الوقت ولم تسارع إلي درء خطرها ـ أن تفقد أرض مصر الزراعية خصوبتها التي اشتهرت بها في العالم. وقد حفزني هذا في عام 1926 و1927 أن أطلب من البرلمان الاعتمادات المالية الكبيرة لإقامة محطات طلمبات الصرف بشمال الدلتا والسرو وبلقاس والمكس، فأقرها البرلمان، ثم سرنا في تنفيذها بأسرع الخطوات.
وبعد ثماني سنوات من حديث عثمان محرم المبكر عن أهمية الصرف، كان المجتمع قد بدأ بدون جدوي سياساته ويطلب المزيد منها، وها هو يبشر في المؤتمر الوفد العام يوم 15 نوفمبر سنة 1943 بإيجاد حل لصرف مديرية المنوفية فيقول:
يسرني أن أقرر أننا وصلنا إلي علاج حاسم لمشكلة سوء الصرف بمديرية المنوفية وما يشبهها من المديريات المكتظة بالملكيات الصغيرة، حيث كان يتعذر علي الأهالي أن يشقوا المصارف الفرعية في أراضيهم لأنها تشغل نسبة كبيرة من تلك الأراضي الصغيرة المساحة، وقد تقضي في حالات كثيرة علي بعض الملكيات، ولم يكن من العدل أن يترك هؤلاء الأهالي من غير هذا الإصلاح الضروري لتلك الأراضي التي اضمحلت خصوبتها وازدادت حالتها سوءا يوما عن يوم بعد أن كانت مضرب الأمثال في قوة الإنتاج ووفرة المحاصيل.
وفي هذا المعني يقول عثمان محرم بخطابه في المؤتمر الوفدي الأول يوم 8 يناير سنة 1935 ما يأتي نصه:
قد آن الأوان لوجوب مضاعفة الاهتمام بمشروعات الصرف علي أساس تمكين كل شبر من الأرض المزروعة من صرف مياهه من غير إبطاء.
لم تكن عناية عثمان محرم بتوليد الكهرباء من مساقط المياه وليدة توليه شئون وزارة الأشغال، وإنما ترجع إلي أبعد من ذلك، فإنه وهو مفتش للري بالفيوم قد أنجز في عام 1922 مشروع توليد الكهرباء من مساقط المياه علي بحر النزلة وذلك لتغذية مدينة الفيوم بالأنوار الكهربائية، بالرغم من أن ذلك المشروع كان قيد التفكير والبحث منذ عام 1906. وعندما أتيح لعثمان محرم أن يعلن برنامجه الشامل 8 يناير سنة 1935 في الدورة الأولي للمؤتمر الوفدي العام. وهو المؤتمر الذي ظل منعقدا خمسة أيام، أوضح المهندس العقبري فكرته المبكرة في توليد الكهرباء. “هنالك مشروع كبير قد آن الأوان للعمل بسرعة علي تنفيذه نظرا لفوائده العظيمة للزراعة ولمجموع أفراد الأمة، ألا وهو مشروع توليد الكهرباء من جميع مساقط المياه علي النيل وفروعه بخزان أسوان وقناطر إسنا ونجع حمادي وأسيوط وقناطر الدلتا وكل قنطرة أو هدار ينشأ علي النيل وفروعه وعلي الترع والمصارف العمومية بمديرية الفيوم. وهذه القوي الكبيرة الكامنة لا ينتفع بها الآن مع أن أمما متمدينة أخري سبقتنا في هذا المضمار وتوصلت الهندسة فيها إلي التغلب علي كل الصعوبات التي كانت كثيرا ما تجعل هذه المشروعات غير مربحة.
تطور اهتمام عثمان محرم بالطرق عاما بعد عام إلي أن جعل من برنامج الحكومة أن تقوم برصفها بطريقة مبكرة نفذت في أمريكا منذ 1935
في المؤتمر الوفدي العام يوم 15 نوفمبر سنة 1943 تحدث عثمان محرم عن أهمية توظيف الموارد الطبيعية واستغلالها فيقول: وكل شعب يريد أن يصون استقلاله أو يناله، لابد له من الاعتماد علي قوي ثلاث: الرجال والأقوات والأسلحة. ومصر ـ بحمد الله ـ يسكنها شعب وافر العدد، كثير الدأب والجد، صادق الوطنية، مشغوف بالرقي. ولكن ظهر أن في البلاد حديدا موفورا، وظهر لحسن الحظ أن هذا الحديد الموفور يجاور مساقط المياه بأسوان التي تغني عن الوقود في توليد القوي. ثم استطرد عثمان يقول في خطابه ما يأتي نصه: لقد تلاقي عند أسوان جناحا عمل صناعي ضخم، لا تحد فوائده ولا تعد مزاياه، تلاقي هناك الحديد والوقود الأبدي، فصار جديرا بمصر أن تحصل علي حديد يكفي أسلحتها ، وصناعاتها، وعلي سماد يكفي حقولها ومزارعها.
تطور اهتمام عثمان محرم بالطرق عاما بعد عام إلي أن جعل من برنامج الحكومة أن تقوم برصفها بطريقة مبكرة نفذت في أمريكا منذ 1935. وعن المذكرة التفسيرية التي أرسل بها مشروع ميزانية وزارة الأشغال عن السنة المالية 1952 ـ 1953 وهي المذكرة المؤرخة في 21 يناير سنة 1952 ننقل النص التالي: ” كثرت الشكوي من سوء حال جسور النيل والترع والمصارف للمرور، وقد كان السبب الرئيسي لذلك هو صعوبة صيانة هذه الطرق الترابية وعدم إمكان رصفها بالأسفلت لضخامة التكاليف، لذلك فقد رأينا إدخال نظام الرصف بخلط التربة بالأسفلت، وهي طريقة اقتصادية قليلة التكاليف ـ في الإنشاء والصيانة ـ لتثبيت وصقل أسطح الطرق المعرضة للحركة الخفيفة. وقد استعملت هذه الطريقة في أمريكا بنجاح منذ عام 1935.
قال عثمان في المؤتمر الوفدي في يوم 8 يناير سنة 1935 : يجب أن يعطي رجال الري أكبر قسط من العناية لجسور الترع والمصارف لجعلها طرقا صالحة للمرور علي الدوام مماثلة للسكك الزراعية فيسهل بواسطتها نقل المحاصيل إلي الأسواق وتخفيف تكاليف الإنتاج الزراعي. وقد أكد عثمان محرم علي هذا المعني في خطابه بالدورة الثانية للمؤتمر الوفدي في 15 نوفمبر سنة 1943 حيث قال: ومن واجبنا التوسع في إنشاء الطرق علي جسور الترع والمصارف لتسهيل مرور الأهالي عموما، ونقل محاصيلهم بأقل التكاليف وأيسر السبل. وانتهي به الأمر إلي أن وضع قواعد ثابتة في وزارة الأشغال موقت أن كان وزيرا في عام 1942 وما تلاه قرر فيها أن يكون لكل ترعة ومصرف جسران صالحان للمرور بدلا مما كان مصطلحا عليه قديما من أن يكون المرور علي جسر واحد، وحدد في الترع والمصارف الرئيسية أن يكون الجسر الأيمن بعرض لا يقل عن 12 مترا، والأيسر بعرض 8 أمتار.
يسأله مندوب المصري عن مشروعات وزارة الأشغال فيما بعد الحرب فيجيبه في جريدة المصري بتاريخ 22 يناير سنة 1944 بقوله: تسألني عن سياسة وزارة الأشغال ومشروعاتها فيما بعد الحرب، وأقول إن وزارة الأشغال لا يمكن أن تكون لها مهمة مفصلة ولا أعمال مؤجلة لأن أعمالها متصلة بشرايين الحياة في أرض مصر، فوظيفتها يومية ومسئوليتها متجددة، والزمن لا يدخل في حسابها، وكما أن الطبيب لا يستطيع ترك مداواة المريض وإسعاف المصاب حتي ينجلي الليل وينبلج الصباح.كذلك وزارة الأشغال لا تريد التنصل من أعبائها الحاضرة لتلقي أعباء التفكير فيها والقيام بها علي كاهل المستقبل، لذلك لايمكن أن يكون ذلك إلا كسلا أو عجزا أو إهمالا.
وهي في تقديرنا أهم ما نطلبه من وزير الأشغال العمومية، إذ أنه يمثل صانع الحضارة في الوطن، وقد كانت روح المبادرة في شخص عثمان محرم عالية جدا، ويكفي أن نقرأ في التحقيق الخاص بإنشاء مجاري سيدي بشر أنه أمر بإعارة الستائر الحديدة من وزارته للأشغال كي تتم مشروعات المجاري، ومن العجيب أن مبعث المؤاخذة في نظر لجان التطهير ثم محكمة الغدر هو محاولة إثبات أنه أعار هذه الستائر دون أن يكون هناك طلب رسمي كتابي من البلدية يلح في طلبها، ولا يعجبن القراء إذن لما يجدونه اليوم من روح التراخي والتواكل والبحث عن الشماعات في تصرفات كبار مسئولينا، فقد كانت محاكمة عثمان محرم خطوة مبكرة في وأد هذه الروح فيمن تعلم عليهم من أصبحوا مسئولين!
كان عثمان محرم باشا يقول: إن طريقتي في العمل ـ وقد لا يكون لي فضل فيها إذ هي ناتجة عن الطبع الذي نشأت عليه ـ إنما هي طريقة السرعة في البت، وكلمة غدا لا وجود لها في قاموس أعمالي.
من العجيب أننا نري بعد نظر عثمان محرم في حواره أمام محكمة الغد ر في الثالث من أغسطس 1953، حين نبه بكل وضوح إلي خطورة الأخذ بسياسة الصرف في البحر علي مستقبل الإسكندرية، وقال بكل وضوح: إن مستقبل الإسكندرية يتهدده الخطر بسبب هذه الزيادة، وإنه منع أولاده من نزول البحر، وأن الأولي أن تحول المجاري إلي الصحراء وتنظف وتعمل كسماد.. أي ما نسميه الصرف في البر. وعلي الرغم من هذا التوضيح الصريح الواضح المنطقي الذي تكرر من عثمان محرم قبل ٢٣ يوليو وبعدها، فإن ا٢٣ يوليو لم تعدم شاهدا هو المهندس أبو العلا لم يجد حرجا في أن يفخر بأنه انتصر في معركة الصرف في البحر، وأنه استطاع أن ينتصر لرأيه، وأن يقنع به المسئولين، وذلك علي الرغم من أنه اعترف أن أساتذة الطب ـ كانوا ضد الصرف في البحر، ومن سخرية الأقدار أن حكومات ٢٣ يوليو قد تورطت بناء علي هذا في قبول مبدأ الصرف في البحر، و نحن نري مما نشرته الأهرام عن مناسبة سير المحاكمة أن محكمة الغدر آثرت أن تترك هذا الموضوع معلقا علي الرغم من تنبيه عثمان محرم وتحذيره، ولم يجد رئيسها حرجا في أن يقول: الله أعلم بالصواب.. وظلت الأمور تتراكم حتى عهد الرئيس حسني مبارك حين عقد بنفسه الاجتماعات المطولة لبحث هذا الموضوع، ولست أدري هل كان عند أحد من المشاركين في هذا الاجتماع في ذلك الوقت في منتصف الثمانينيات الشجاعة لأن يقص القصة الحقيقية للتطور الذي قاد إلى النتيجة الخطيرة التي تفجرت في النهاية وعولجت أيضا لحسن الحظ في عهد الرئيس مبارك، أم أن حدا لم يكن يعلم حقيقة الموضوع.
بدأت مدارك عثمان محرم الفكرية في التفتح منذ مرحلة مبكرة، وظهر هذا بوضوح عندما عهد إليه سعد زغلول عام 1924 وهو مدير لمكتب وزير الأشغال ووكيل لوزارة الأشغال بأن يبحث له عن العلة في إحجام الموظفين المصريين عن العمل بالسودان في الوقت الذي كنا لا نفتأ ننادي فيه بأن مصر والسودان وطن واحد.. فسافر إلي السودان وطاف بكل أرجائه وعاد مقترحا عدة اقتراحات تيسر للمهندسين وسائل الراحة في السكن والانتقال والسفر، لهم ولعائلاتهم، ووضع برنامجا للحوافز الحقيقية المشجعة علي قبول العمل في السودان، ومن حسن الحظ أن الحكومات الليبرالية المتعاقبة قد أخذت باقتراحه مما أدي إلي تزايد إقبال رجال الري علي العمل في السودان، بل وتسابقهم إلي ذلك وتنافسهم بروح راضية مطمئنة. وقد نما هذا الاتجاه الحضاري في سياسات عثمان محرم تجاه الموظفين فكان أكثر وزرائنا حرصا علي تحبيب أصحاب الوظائف في الوظائف العامة، ويذكر له علي الدوام حرصه علي أن يكفل للموظفين أقصي سبل الراحة، وهو الذي أباح لموظفي وزارته ثمار الفواكه وزراعة الفضاء المحيط بمساكنهم بالخضر، وسهل لهم ولعائلاتهم الانتقال للتداوي والتعليم، كما حاول في فترة مبكرة إدخال نظام تكييف الهواء علي أن يعممه في كل الجهات التي لا يشجع مناخها علي العمل المنتج الدائم، وقد أوشك أن ينفذ ذلك في مستعمرة بمدينة قنا وغيرها. وكانت وجهة نظره في كل هذا أن المهندس يعمل بعقله وجسمه معا، وأن واجباته غير محدودة بزمن، فجهده مطلوب ليلا ونهارا، لذلك ينبغي أن تيسر له سبل الراحة حتي لا يري مكانا في القطر خيرا من مكان عمله.
و لاشك في أن عثمان محرم كان أبرز التكنوقراطيين الليبراليين إيمانا بضرورة الخروج من شرنقة التخصصات إلي فسحة وسعة روح الخدمات العامة، ولهذا فإن الصورة المنطبقة عنه أنه لم يكن وزير أشغال معنيا بمجال عمل وزارته فحسب، ولكنه كان بمثابة المهندس المسئول عن الوطن كما ذكرنا، ولهذا السبب فقد كان يربط بين الأعمال التابعة لوزارته وبين المرافق العامة للبلاد علي اختلاف تبعيتها، فوسع في أوائل عام 1944 الجسر الأيسر لترعة الساحل بطول عدة كيلومترات إلي عرض 16 مترا ليكون طريقا رئيسيا، أصبح الآن مرصوفا، وهو الطريق الذي يستعمله أغلب المصيفين الذاهبين إلي رأس البر، ثم أنشأ ترعة السنانية في الوقت نفسه لإحياء أراضي الحكومة البور، زيادة للإنتاج الزراعي، وخلق من ناتج أتربتها طريقا بريا يصل إلي مصيف رأس البر مباشرة، ووفر بذلك علي الناس أن يصلوا إلي ذلك المصيف بالنيل، أو باجتياز طريق غير معبد من دمياط إلي ما يقابل المصيف لمسافة طويلة جدا تنتهي بعبور النهر إلي المصيف. فهو ـ إلي جانب ما يسر لمواطنيه في انتقالهم وما عمل في زيادة الثروة الزراعية في البلاد ـ قد أعان مصلحة الطرق ومصلحة السياحة في وظيفتهما، شأنه في ذلك شأن الرجل العام الغيور الذي يربط بين مصالح بلاده من أقرب السبل، ولا يفصل بين الاختصاصات الوظيفية بما يعطل الخير ويصعب الأمور.
ظهر البعد الإنساني في تفكير عثمان محرم منذ مرحلة مبكرة من أدائه المهني، وقد دفعه تفكيره الصائب إلي اتخاذ قرارات شجاعة مكنته من تحقيق نجاح غير مسبوق علي مستوي الأداء الهندسي نفسه، وتبلور هذا قصة كان هو يسميها قصة التراب الذي حوله إلي طعام ذلك أنه وهو مدير للأعمال كان معهودا إليه في أثناء أحد الفيضانات بالإشراف علي إقامة جسور في مسافة معينة علي نحو ما كان متبعا من تقسيم النيل إلي مسافات علي المهندسين، وتصادف أن كانت المسافة المعهود إليه بها أطول وأخطر مسافة، وقد نجح في أن يحافظ عليها وجعلها في حالة من الأمان والاطمئنان أدهشت كلا من وزير الأشغال إذ ذاك وكان هو المغفور له إسماعيل باشا سري والمستشار الإنجليزي للوزارة، ولم يسعهما إلا أن يظهرا إعجابهما بما شاهدا بالقياس إلي ما لاحظاه في طوافهما علي مناطق أخري، وتساءلا عن سر هذا النجاح فأخبرهما عثمان محرم أنه حول جزءا من التراب الذي ترمم به الجسور إلي خبز وبصل وجبن، فاستوضحاه الأمر فقال إنه رأي أن الأنفار الذين يتولون هذا العمل بتكليف من الحكومة يساقون من القري غير مأجورين، وهم فقراء لا يملكون ما يقيمون به أودهم، وأنه أدرك أن العمل المضني من أمثالهم غير مرتجي، لذلك فإنه خاطر علي مسئوليته فعهد إلي المقاول المتعهد بنقل الأتربة لترميم جسور النيل، بأن يشتري القمح ويطحنه ويخبزه ويوزعه علي هؤلاء العمال بقدر معلوم يوميا وأن يشتري لهم أيضا البصل والجبن، علي أن يتحول ما يناظر ثمن هذا الطعام إلي ما يناظره من قيمة إنجاز مكعبات من الأتربة ويتقاضاها المقاول بفئاته المقررة له. أي أنه أضاف علي الحسابات الخاصة بالإنشاءات حسابات التغذية دون أن ينشئ لها إدارة وبيروقراطية مكتفيا بإضافتها علي الحساب العمومي. وبعد أن قارن الوزير والمستشار بين ما أنفق وبين ما كان محتملا وقوعه من خسائر فادحة لو قطعت الجسور نتيجة عجز العمال المسخرين الجائعين واكتشفا عبقرية عثمان محرم لم يكتفيا بإظهار إعجابهما بل طلبا منه تقريرا بما عمل واعتمدا هذا الأسلوب.
وبذلك يعود إلي عثمان محرم الفضل في رفع المعاناة عن ألوف مؤلفة من مواطنيه من الطبقة الكادحة منهيا بهذا مظهرا استبداديا كان ينبغي ألا يبقي في مصر في القرن العشرين.
كان عثمان محرم من الأعضاء الأربعين المؤسسين لجمعية المهندسين المصرية، وقد أصبح ثالث رؤسائها بعد كل من المهندس محمود سامي باشا الذي تولي رئاستها منذ تأسيسها وحتي 1931، ثم محمد شفيق باشا الذي تولي رئاستها منذ 1931 وحتي 1950، ثم جاء عثمان محرم من 21 مايو 1950 وحتي 11 ديسمبر 1952، حيث خلفه المهندس حامد سليمان باشا من 97 ديسمبر 1952 وحتي 1964، وقد أهدت أسرة عثمان محرم مكتبته لجمعية المهندسين المصرية. أما الاتجاه إلي التكافل الاجتماعي في سياسات عثمان محرم فحدث عنه ولا حرج.. وإلي عثمان محرم يعود جزء كبير من الفضل في إنشاء نقابة المهندسين، بل وفي تنمية الروح النقابية قبل إنشاء هذه النقابة، وقد تنبه مبكرا إلي الحقائق المعيشية للمهندسين حين عرض عليه ذات مرة أن خمسة منهم قد ماتوا علي التعاقب في فترة وجيزة وهم في ريعان شبابهم، ولم يكمل بعضهم المدة التي يتقاضي عنها معاشا، تاركين الزوج والولد بلا عائل أو معين، وقاد عثمان محرم حملة تبرعات استطاع من خلالها أن يجمع ثمانية آلاف جنيه اشتريت لورثة هؤلاء بها سندات القرض الوطني ووزعت عليهم حسب أعدادهم وطبقا للأنصبة الشرعية، ثم جعل عثمان محرم من ذلك النداء نواة لقانون أنشئت به نقابة المهندسين علي اختلاف طوائفهم، وظل هذا الرجل يواليها بالعناية والاهتمام حتي أقيم لها أفخم بناء، وحتي زخر صندوق معاشها بالمال فاستطاع أن يقرر المعاشات لأسر المتوفين من المهندسين، ولقد بلغ من ذلك ـ علي حد تعبير مذكرة الدفاع عنه أمام محكمة الغدر في أول عهد ٢٣ يوليو ـ أن تقرر للشهيد المهندس الضابط عبدالقادر طه أكبر معاش منح بالرغم مما كانت تتناقله الشائعات عن أسباب اغتياله!!.
تأكدت عبقرية عثمان محرم الاستراتيجية في أثناء اللحظات الحاسمة في أثناء الحرب العالمية الثانية، كما تجلت قدرته علي التفاوض مع البريطانيين، وهو ما يدلنا أيضا علي أن التفاوض في عصر الليبرالية لم يكن حكرا علي القانونيين، وإنما كان يقوم به التكنوقراطيين كل في مجاله. فعندما وقعت معركة العلمين فكر الإنجليز جديا ـ كما هو مسجل في كتب التاريخ جميعا ـ في إغراق الدلتا أو علي الأقل إغراق مديريتي البحيرة والجيزة بالمياه المالحة، وكانت السلطة في ذلك الحين للنار والمدفع، ومن المعروف أن الإنجليز كانوا في ذلك الوقت يحرقون أوراقهم علنا في دار السفارة البريطانية ويرحلون الأعزاء عليهم إلي السودان، كما أقاموا المتاريس في شارع الهرم وشوارع الجيزة وعند الكباري، ولم يكونوا يطيقون مَنْ يحول دون تنفيذ رغباتهم، ولكن عثمان محرم تصدي لهم وتشبث وراوغهم وأفهمهم خطورة غمر الأراضي بالمياه المالحة، وأوضح أن ذلك يقتضيهم دفع تعويضات ضخمة وأن الأراضي الزراعية تتأخر في خصبها لسنوات، فأظهر البريطانيين استعدادهم لدفع أي تعويض بعد وقوع الأضرار وحصرها، ولكن عثمان محرم طلب إليهم أن يدفعوا مقدما مائة وخمسين ألف جنيه تحت يد وزارة الأشغال ويتركوا له حرية العمل، وأنه عندما يري ضرورة للتغريق فقد يفعل ذلك بمياه النيل العذبة. وانتهت الحرب ولم تغرق أراضي البحيرة والجيزة بالمياه المالحة ولا بالمياه العذبة، واستردت السلطات البريطانية مبلغ المائة وخمسين ألف جنيه بشيك من وزارة الأشغال خلال النصف الثاني من عام 1944.
كان عثمان محرم واعيا تمام الوعي لأهمية تمتع السياسيين والتنفيذيين بأقصى درجة من القدرة علي استشراف مصلحة الوطن في كل استثمار أو تصرف اضطراري أجنبي يتم علي أرض الوطن، بل وفي كل استغلال مارسه المحتل وتشهد علي هذا سياسته في الفترة التي كانت مقادير الأمور تئول إليه، ومما يدل علي هذا موقفه المبكر من خط أنابيب البترول. فقد اتصل به عام 1943 مدير عام مصلحة المجاري ـ وكان قد أصدر تعليماته بألا يتم عمل للقوات المسلحة البريطانية إلا عن طريقه ـ لينبئه أن شركة شل تريد أن تمد باسم السلطات الحربية البريطانية خط مواسير في أرض محطة المجاري الأميرية، فما كان منه إلا أن أمر بمنعها من ذلك ولو بالقوة، وتحرج الموقف واحتج قادة القوات البريطانية، وهددوه واتهموه شخصيا بأنه يعمل علي مقاومة مجهود الحلفاء الحربي، وكانت المعاهدة القائمة 1936 تنص علي ضرورة التزام مصر بالمساعدة في مجهود الحلفاء الحربي، ولكن عثمان محرم لم يكترث للأمر مؤكدا حقه في مناقشة هذا العمل الذي يقع في دائرة مصلحة حكومية خاضعة لوزارة الأشغال، لأنه ليس مسئولا إلا أمام برلمان بلاده.
كان عثمان محرم واعيا بدور مصر العربي بما قام به من أعمال إصلاحية في رصف الطريق من جدة إلي مكة وعرفات، وتمهيد طريق جدة ـ المدينة، وتوسيع الحرم النبوي الشريف والتخلية حوله، فتلك أعمال خالدة لها سجلات ضخمة في محاضر أعمال لجنة إصلاح الحرمين الشريفين والمرافق التي بينهما، ويمكن لمن شاء أن يطلع عليها.
وهو الذي أمر ببناء أضخم بناء لمدرسة ثانوية أقيم في مدينة الخرطوم بالسودان عام 1944. ولم تهمل عناية عثمان محرم دراسة مشروعات قناة السدود بالسودان لتنظيم مياه النيل الواردة من المناطق الاستوائية وللإقلال من الفاقد منها بالتبخر. ونظرا لأن مياه النيل الأزرق التي خلقت لمصر دلتا النيل والتي تكسب أرضها الخصب والنماء، تجيء لنا من بحيرة تانا ببلاد الحبشة، ونظرا لأن أراضي الجزيرة بالسودان تعول في زراعتها علي هذا المصدر المائي، ولما كانت حكوماتنا تنادي بأن مصر والسودان شطران لوطن واحد، فقد كان لابد لمصر ـ من وجهة نظره ـ من أن تعني أشد العناية بإقامة خزان علي بحيرة تانا لتخزين مياهها وتنظيم توزيعها علي أن تكون مناصفة بين أراضي الشطرين، وتدلنا ملفات وزارة الأشغال العلنية والسرية علي مقدار ما بذل عثمان محرم في سبيل إنجاز هذا المشروع من جهود مضنية ومحاولات لم تهدأ في كل مرة ولي فيها وزارة الأشغال عبر مفاوضات شائكة مع بريطانيا وأثيوبيا. وقد استقدم لهذه المشروعات السير ماكدونالد مهندسا استشاريا مع غيرها من مشروعات وزارة الأشغال التي كانت قيد النظر في مراحلها الأخيرة كوادي الريان وخزان مروي وقناطر فارسكور علي فرع النيل بدمياط.
لم تخل ممارسات عثمان محرم الإدارية من جوهر سياسي ومغزي وطني،وعلي سبيل المثال فإنه استطاع في عامي 1942 و1943 أن يخرج البريطانيين من أول مكانين احتلوهما في القلعة منذ عام 1882 ومكثوا بهما ستين عاما كاملا، وهما قصر الجوهرة، وسراي العدل، وكان جلاء القوات المحتلة عن هذين المكانين سابقا لقرار جلائهم عن القاهرة والإسكندرية بنحو أربعة أعوام، وأكثر من هذا فقد عمل عثمان محرم وبسرعة وذكاء علي طمس معالم الاحتلال في هذين القصرين بإحياء أمجاد مصر المتصلة بذكرياتهما وجددهما علي هيئة متحفين لا يزالان يتحدثان عن مصر كدولة ذات تاريخ وماض تليد. وتعجيلا بإجلاء الإنجليز عن قصر الجوهرة وسراي العدل، جدد القصر الأول وأعاده إلي ما كان عليه يوم أقيم منذ أكثر من ألف سنة، كما شرع في تجديد سراي العدل.
روى المهندس حامد القداح أن كان نقباء المهندسين وكبار النقابيين حريصين علي البعد بالنقابة عن مجال السياسة، وبل وفرض رأيهم علي الحكومة الحزبية حتي لو كان هذا النقيب وزيرا في حكومة الحزب.. وللمرحوم عثمان محرم باشا حادثتان يؤصل فيهما هذا المبدأ: فقد حدث أن اختاره المهندسون نقيبا للمهندسين وكان الوفد خارج الحكم وخشي عثمان محرم أن يتخذ حزب الوفد من فوزه مادة للدعاية للحزب.. فما كان منه إلا ن يهدد الحزب بالاستقالة منه لو أشارت أي جريدة من صحف الحزب إلي أنباء فوزه بمنصب النقيب، ونزل الحزب علي رغبته ولم تشر الصحافة الوفدية إلي نتائج الانتخابات بكلمة واحدة، ووفقا للعرف المتبع توجه هو وأعضاء المجلس الأعلى للنقابة إلي الديوان الملكي حيث تقابل مع إبراهيم عبدالهادي باشا رئيس الديوان الملكي، وكان من عتاة أعدائه السياسيين وسجل كلمة المهندسين في سجل التشريفات. وحدث أن طالب مهندسو الري بما يسمي بدل التفتيش، وساندت النقابة مطالبهم، إلا أن الحكومة لم توافق علي إقرار هذا البدل، وكان عثمان محرم وزيرا للأشغال ونقيبا للمهندسين في نفس الوقت. فما كان من عثمان محرم إلا أن طلب من مهندسي الري الإضراب عن العمل حتي يستجاب إلي مطالبهم.. وهكذا كان اعتزازه بمنصبه كنقيب وانتصاره للمهندسين أكبر من انتمائه الحزبي ومركزه السياسي كوزير في الحكومة.وكان عثمان محرم داعيا منذ مرحلة مبكرة لجدوي دراسة ومقارنة التكاليف واختيار البديل الهندسي بناءعلي هذه الدراسات المحاسبية، ولم يكن من الذين ينخدعون بالأرقام المعلنة، وإنما كان يبحث بدقة في الجوانب المختلفة، واضعا كل العوامل الاستراتيجية في الحسبان، ولعل قصة اختيار مصدر الطاقة لمحطة صرف الغرق السلطاني بالفيوم تدلنا علي ثاقب فكرته حين صمم علي أن يكون مصدر الطاقة هو الكهرباء المتولدة من سقوط المياه وفضلها علي الحل التقليدي باللجوء إلي الوقود.
وعندما تسلم عثمان محرم مسئولية وزارة الأشغال في مايو سنة 1936 وجد أن عملية محطات صرف منطقة الغرق السلطاني بالفيوم كانت علي وشك أن تعرض في مناقصة عامة علي أساس إدارتها بالوقود، فأدرك الأمر قبل إنجازه، وناقش إمكان تعديلها بفكرة إدارتها بالكهرباء المتولدة من سقوط المياه، ولم يقنع بما قيل له في معارضة هذا الاتجاه بأنه سيكون كثير التكاليف وأعلن عن هذه العملية في عام 1937 علي أي الوضعين، فجاءت أرخص الأسعار علي أساس إدارتها بالكهرباء من مساقط المياه
ولعل الحل الذي اهتدي إليه عثمان محرم في شأن الشبة التي تستعمل في ترويق مياه الشرب ينبئنا عن إيمانه بقيمة الكشف والبحث العلمي خاصة فيما يتعلق بالخامات أو المواد الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها. فقد لاحظ في أثناء الحرب العالمية الثانية في عام 1943 أن الشبة قد ارتفعت أسعارها في السوق إلي حد جاوز المعقول، وهي مع هذا ضرورية غاية الضرورة للوفاء بالأغراض الصحية، كما لاحظ أن محتكريها، وكانوا من اليهود، يعرفون قدرها ويدركون أن الحاجة ماسة إليها، فأوفد في الحال بعثته من رجال مصلحة التنظيم ـ وكانت تابعة إذ ذاك لوزارة الأشغال ـ إلي الواحات، فبحثت ونقبت حتي عثرت علي ما هو فوق الكفاية من هذه المادة، فتعهد بإمداد جميع عمليات المياه بالقطر المصري بما يلزمها منها، ووفر في الطن الواحد أكثر من عشرة جنيهات
كان عثمان محرم سباقا إلي ارتياد الصحراء والواحات المصرية، ،قد استقدم من خبراء أمريكيين في عام 1937 قرروا إمكان حفر آبار عميقة بالواحات بماكينات خاصة بدئ فيها في أوائل عام 1938 بعشر آبار في الواحات الخارجة والداخلة. وكذلك ما قرره من دراسة تجميع السيول في صحراء سيناء حيث انتهي ذلك بإقامة سد الروافعة، وما أنشأه في عام 1944 من هندسات للري في أسيوط والعريش تخصص للدراسات الصحراوية، وكانت نواة لتفتيش عام ري الصحاري الذي أنشئ فيما بعد.
كان عثمان محرم واعيا لحدود بلاده، سواء في هذا الحدود السياسية أو الطبيعية، ولم يكن شأن كثير من سياسيينا المعاصرين يظن مصر مقتصرة علي القاهرة، لكنه كان ملما بأبعد المناطق من جميع الاتجاهات، وإليه يرجع الفضل الأكبر في الاهتمام بإقليم النوبة، وقد بدأ هذا الاهتمام بحكم معرفته الهندسية وعمله في مجال المياه. ومع الزمن نمت اهتمامات عثمان محرم ببلاد النوبة، مدركا أهمية أداء حقها علي الوطن، وقد قام هو وزير للأشغال برحلة إلي بلاد النوبة في مارس من عام 1937 مستصحبا فيها جمعا من الفنيين من رجال وزارته والمختصين في مصلحة المساحة وغيرها، وقد استغرقت هذه الرحلة أكثر من أسبوعين، طاف فيها عثمان محرم بكل بلاد تلك المنطقة، وعاين علي الطبيعة تربة الأراضي وأخذ عينات منها للتحليل، ودرس إمكانية إقامة محطات للري، ليعوض أهالي النوبة المنكوبين عما ضاع منهم من الأراضي والنخيل كنتيجة لإتمام التعلية الثانية لخزان أسوان، ولم يصل إلي أسوان في طريق عودته إلي القاهرة إلا وقد أعد مذكراته وأبحاثه وبلور خططه عما ينبغي إتمامه من مشروعات .
تعليقات