كانت الأساتذة يتحاورن مع الطلاب المشاغبين، منهم من يستمع الطالب باحترام ، وآخرون يغضبون "مَن أنت كي تَستدرك على الإمام الرازي، وأنَّى لكَ أن تُطَاوِلَ أولئك العمالقة !
يحيى جاد
1- وإنْ أَنْسَ، لا أَنْسَ ما حدث لي عند مناقشتى للدكتوراه، حين وَجَّهْتُ نقداً يسيراً للإمام الفخر الرازي، فإذا بالشيخ إبراهيم الشهاوي (رئيس قسم الفقه آنذاك) يَنْبَرِي لي بعصبية بالغة قائلاً : "مَن أنت كي تَستدرك على الإمام الرازي، وأنَّى لكَ أن تُطَاوِلَ أولئك العمالقة ؟!"
فقلت له : - إنَّ الله سبحانه وتعالى أَنْصَفَ خَلْقَهُ مِن نفسه وقال : "رسلاً مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حُجةٌ بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيماً" [النساء 165]،- وأنا طالب علم قد أكتشف للرازي شيئاً فأناقشه فيه، فماذا فى هذا الأمر ؟!
فسَكَتَ على مضض !
2- وقد انتهينا من مرحلة الدكتوراه دون أن نَعْلَمَ أو نتعلم كيف ننتقد أقوالَ مَن سبقنا أو نراجعها !
وكنا لا نجد متنفساً يعطينا الفرصة لإبراز مواهبنا، إلا فى "الفقه المقارن" و"اختبارات التعيين"، ففي إطارهما كنا نمارس (بحذر، وبعد ذِكْرِ جميع الألقاب !) عمليةَ نقدٍ حَذِرَةٍ خَجْلَى،
ولذلك توارثنا "آبائيةً علميةً" لا تَعْرِفُ إلا قال الإمام فلان رحمه الله، أو المُصَنِّفُ أو الشارحُ أو المُحَشِّي رحمه الله !
3- وحين عملتُ فى التدريس فى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فى الرياض، وأَبْدَتْ الجامعةُ رغبتها فى طباعة رسالتي للدكتوراه، وكان فيها شيء من النقد للإمام ابن تيمية،
وكَلَّفَتْ الجامعةُ أحد الأساتذة بفحص الرسالة، وكان مِن إخواننا "النجديين"، فثارت ثائرته حين رأى قولي بأن : "ابن تيمية :
- إذا أراد الردَّ على المعتزلة، رد عليهم بأقوال الفخر الرازي وزيادات طفيفة من عنده،- فإذا أراد الرد على الأشاعرة، وَظَّفَ كثيراً من مقولات المعتزلة فى الرد عليهم"،
كما رَمَى هذا الثائرُ النجديُّ الرازيَ بكثير من الأوصاف التى لا ينبغي أن يُرْمَى بها، وكتب تقريراً شديدَ اللهجة لا علاقة له بالعلم، وانصب تقريره على ضرورة "إنهاء عقدي" مع الجامعة و"طردي من البلاد" !وكتب : "إن هذه البلاد لا مكان فيها لِمَن ينتقد شيخ الإسلام" !
علما بأن ابن تيمية نفسه "سُجن حتى الموت"، وشُيِّعَ مِن سجنه حتى قبره؛ لأنه خالَفَ جمهورَ العلماء في مسائل فرعية ثلاثة (هي : عدم إيقاع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وتحريم التوسل بغير الله (جل شأنه)، وتحريم شد الرحال لزيارة قبر رسول الله (ص) لأنَّ شد الرحال لا يكون للقبر وإنما للمسجد).
4- [ونعود فنقول]، إن مراجعات آراء المتقدمين وما تركوه لم تكن من الأمور المقبولة في معاهد التعليم الديني، وأَعْطَوْا للمراجعات والاستدراكات معاني أخرى سيئة مثل "الخروج عن الإجماع"؛ لكي لا يؤثر ذلك على "مكانة مرجعية المتقدمين" فيما أصابوا وما أخطأوا !
5- وحين أَعْرِضُ اليومَ كتبي القديمة على قاعدة "مراجعة التراث في نور القرآن" أجد أنها قد صدرت في وقتٍ كنتُ فيه "محافظاً" و"تقليدياً" لا أختلف عن أي أزهري تخرج في الأزهر في مرحلة تَخَرُّجِي فيه :- فالسلف سلف، كأن الأصل فيهم أنهم لا يخطئون !- والمتأخرون خَلَف، كأن الأصل فيهم الخطأ !
ولهذا فإن كتبي القديمة أصبحت تحتاج إلى مراجعة فكرية ومنهجية تتناسب مع "قاعدة تحكيم القرآن في كل ما أنتجناه وننتجه".
6- ولإظهار بعض النقاط التي سَقَطتُّ فيها قديماً، أستطيع أن أذكر الأمثلة التالية :
أ- اعتبرتُ أن "المسائل الكلامية" لا مجال للاجتهاد فيها، وتبنيتُ في ذلك موقف جمهور العلماء [الذي يميز، في جواز الاجتهاد من عدمه، بين "المسائل الكلامية" و"المسائل الفقهية"] !
في حين إن الرأي الآخَر يحمي الناسَ من التكفير والرمي بالفسق والابتداع ! كما إننا نمر بظروفٍ وتحولاتٍ تجعل كلَّ شيءٍ موضعاً للنقاش، وهذا رأي مناسب لهذا المناخ.
كما إن الناس قد توسعوا فى [الكلاميات]، ولم يقفوا عند حدود القرآن الكريم فى حصر أركان الإيمان في خمسة، كما هي في كتاب الله المجيد، حيث أضافوا إليها الكثير، حتى بلغت ما يجاوز الـ "200" أصل كلامي/ اعتقادي، وصار يكفر بعضهم بعضاً بها !
ب- اعتمدتُّ "القاموس العَقَدي" في لغة كتبي القديمة، بدلاً من "القاموس الحضاري" الذي أتبناه الآن، حيث كانت تكثُر عندي أوصاف "الكفر" و"أهل البدع" و"أهل الأهواء" إلخ !
ج- اعتمدتُّ على أحاديث ثبت عندي الآن، بعد الدراسة الحديثية الناقدة، أنها تُعَارِضُ القرآنَ الكريم.
كما إن كتابَ اللهِ شافٍ كافٍ وَحْدَه، لكنَّ بعضَ الناس لم يَكْفِهم كتابُ الله (جل شأنه) وأساؤوا الظن به، حتى بَلَغَ بعضهم بأدلة الفقه خمسين دليلاً أو أصلاً ! ولو اكتفوا بكتاب الله لأدركوا حكمته، ولاهتدوا واستقاموا على الطريقة، ولَبَلَغُوا به ما يريدون ، ولكنَّ الشيطان وسوس للبعض بحاجة القرآن للأخبار والآثار ، ففتحوا البابَ واسعاً أمام أخبار الآحاد والمُرْسِلِين والمنقطعين والمجاهيل !
د- كنتُ، كأي أزهري آخَر، أقول بـ "النسخ" و"الإجماع"، وهو أمرٌ تجاوزتُهُ الآن :
- حيثُ المرجعيةُ لكتابِ اللهِ وَحْدَه،- وأن الأمة يمكن أن تتبنى بعض الآراء التراثية على أن تستند إلى كتاب الله في الاستدلال لها، وليس لها أن تدعي الإجماع على شيء لم يأت الكتاب به .
هـ - تبنيتُ قديماً وجهة نظر "تعديل الصحابة"، وذهبتُ إلى تبني مفهوم الصحبة كما جاء عند الأشاعرة والشافعية، والتأكيد أنهم كانوا جميعاً على حق !
ولي في هذا الآن مواقف أخرى تعلمتها من القرآن الكريم تقتضي ضرورة "تعديل مفهوم الصحبة"، الذي يميز بين مستويات الصحبة ولا يُطْلِقها إلا على ما يشتمل على "الديمومة وطول الملازمة" لا على "مجرد الرؤية أو اللقاء لبرهة" (كما شاع لدى المُحَدثين) ، [وهذا يقتضي، ضمن ما يقتضي]، إعادة النظر في "عدالة الصحابة" في الرواية وغيرها.
و- الاستشهاد السردي بأخبار تاريخية، وردت عند المؤرخين، في مواضيع تاريخية شديدة الحساسية، [في حين تقتضي حساسيتها الشديدة هذه] تحقيق أمرها ودراستها وغربلتها وفق مناهج المُحَدِّثين
7- وقد رأيتُ أن أتقدمَ بهذا إلى طلابي وإخواني :- ليعلموا أن المراجعات ضرورية ،
- [ولئلا] يَسْتَنْكِفَ أحدٌ منهم إذا ما بَدَا له أنه أخطأ في شيء، أن يُنَبِّهَ إلى ذلك الخطأ ويدعو إلى تصحيحه ، خاصةً أنه لم يَأْلَفْ المنتمون إلى المدارس الكلامية والفقهية، وحملة درجة الأستاذية، وحملة لقب الدكتوراه، توجيهَ نقدٍ لأنفسهم ولِمَا كَتَبوه !
[طه العلواني - بتصرفات وزيادات طفيفة للغاية]
#إضاءات_ومراجعات_يحيى_جاد
تعليقات