صدمة رأس السنة في عام 1971عشقنا الإسكندرية صغارا وكبارا، كانت بمثابة حسناءَ رأيناها فربط بيننا الحب من أول نظرة .كان جمالها لا يقارن بأي مدينة مصرية
انتقلنا من القرية إلى الإسكندرية في آخر صيف 1970، فعشقنا الإسكندرية صغارا وكبارا، كانت بمثابة حسناءَ رأيناها فربط بيننا الحب من أول نظرة .كان جمالها لا يقارن بأي مدينة مصرية، وهي مهوى أفئدة المصريين والعرب؛ بل
سكنها الأجانب "الاجريج"بعدما عشقوها، وظلوا فيها رغم أن لهم أملاكا وأراض ومزارع وضياع في
بلادهم، وأعني بهم اليونانيين، والإيطاليين، بل والفرنسيين، والإنجليز، ظلوا بمصر ولم يرحلوا
مع الراحلين .
فما بالك بمن عشقها، وكان يسعد بجمالها
ويشعر بشوق إليها لا يُحدّ، كنت آتيها مرّة
في العام أنعم بحسنها ثم أفارقها مُوجع القلب باكيا كما أنشأ أبي الطيب
خُلقت ألوفاً
ولو رُددتٌ إلى الصّبا فارقتُ شيبي موجعَ القلبِ باكياً
وتمنيت لو أني أبقي بها حتى آخر العمر،رأيت
كيف الناس من حولنا يغبطوننا ونحن نملك الراديو وما به من خيال واسع ، التلفزيون
كان لبعض الناس دون آخرين في القرية، وحين ذهبنا وجدنا أكثر السكندريين يملكون
التلفزيون.
كنت أرتاد السينما كل أسبوع سبورتنج،
وريفيرا، والهمبرا،لأشاهد أفلام فريد شوقي التي كانت تعدّ من أفلام الأكشن التي
يحبّها، الصغار والكبار، وفؤاد المهندس الذي كان يضحكنا بالكوميديا الهادفة
والهايفة في ذات الوقت.
كانعبد
المنعم مدبولي يحاول أن يرسي شيئا من القيم ولا يقدر، وظهرت في منتصف
السبعينات أفلام الأكشن الأمريكية، وأفلام بروسلي الذي ذاع صيته في أمريكا،و"زاتوشي
المنتقم" الأعمى الذي انتصر على المبصرين، وهي أفلام كان يهواها الصغار والكبار.
بدأت برودة الإسكندرية تأخذ طريقها إلينا،
فكان الحلّ هو النوم المبكر،على برامج الراديو، وإذاعة الشرق الأوسط بالتحديد،
وهنا القاهرة، ولم نكد نغفو حتى استيقظنا
في تمام الساعة الثانية عشرة على أصوات غريبة ومزعجة في آن واحد، كأن هناك معركة في منتصف الليل،وإطلاق نار، ازدادت دقات قلوبنا جميعا ونحن نسترق النظر من خلف الشيش الذي يتسرب منه الهواء البارد، فلم نر شيئا،
فالبيوت كلها كانت قد أطفأت الأنوار والحي كان في ظلمة حالكة ..
ولم يتوقف
إطلاق الألعاب النارية، ومقذوفات البنادق،وأصواتُ الأشياء التي تُلقى وترتطم في الشوارع، حتى مر منتصف الليل لم نتبين ما يحدث من الاحتفال بالكريسماس إلا بعد أن أضيأت
الأنوار وساد الصمت وتوقفت الجلبة التي كانت تحدث،وارتفعت أصوات الموسيقى،كأننا في صالة ديسكو كبيرة، تقريبا من كافة بيوت حي كليوباترا،
ولم أدر ما حدث في الشوارع إلا صبيحة اليوم التالي، فماذا يحدث في احتفال رأس السنة ؟؟..
حي كليوباترا كان مرتبطا باليونانيين والإيطاليين القدامى
في التقاليد، التي كان أهالي الإسكندرية يشاركونهم فيها من قبل ثورة 23 يوليو، وبقي بعضهم يسكنون الحي، الذي امتلأ بالسكان من أولاد البلد:العمال،والبوابين من المحافظات والصعيد،والبائعين الذين يخدمون"السكان الأصليين"، فكان الحي تقريبا ملكا
للأجانب،وأسماء الشوارع كانت لا تزال
بأسمائها اليونانية والجميع يقلدون عادات اليونانيين "الإجريج" ولكن
بطريقة مغلوطة شارع ديداتو مثلا.
اليونانيون كانوا يحتفلون بنهاية العام باقتناء
الجديد،ووضع القديم الذي يُستغنى عنه بجوار باب البيت، ليأخذه من يحتاجه، وبعضهم
بعد احتساء الخمرـ احتفالا بالكريسماس أو بميلاد السيد المسيح ـ كان يلقي الزجاجة الفارغة
في الشارع، وكذلك أصص الزرع القديمة، ومعها بعض النقود المعدنية !، ليقوم عمال
النظافة بالتقاط النقود حين ينظفون الشارع صبيحة العام الجديد.
أما الوافدون على الإسكندرية فيلقون قماماتهم كلها في الشوارع، حتى القلل القناوي المكسورة كانوا يدخرونها لتلقى من النوافذ في "الضلمة" ولا مين شاف ولا مين دري..
كنت أسمع أصوات أحد جيراننا المصريين"جرجس شيهات" الذي تزوج اليونانية" إلين"وهو من
الصعيد وقد صار ثملا من تأثير الخمر بعدما شرب كثيرا يحاول الخروج ويمنعه أبناؤه سعد وسمير وزوجته،وكان زوجته سيدة طيبة، وأخذ أولادها عادات أبيهم وسافروا إلى اليونان
جميعا وبين سنة وأخرى يعودون.
كان لنا جيران آخرون من اليونانيين غاية في
الأخلاق والاحترام، ترفض إحداهن أن ترسل ابنتها للتعليم في أثينا من أجل
"العفة" التي تعلموها من المصريين، وتزوجت الفتاة مصريا محترما، وجيران
آخرون رجل وزوجته كانا كبيرين في السن،
ومنتظمان في النوم واليقظة.
في الصيف كنا نستمع إلى الراديو بصوت مرتفع ، ونفاجأ أن
شيئا ما قد سقط على الأرض، وإذا بالسيدة اليونانية قد ألقت إلينا بعض "التوفي"و "البونبون" فأصبحنا نرفع صوت الراديوا عمدا مع سبق الإصرار
والترصد من أجل مقذوفاتها البنبونية .
في ليلة رأس السنة "الكريسماس"
يقصد سكان الإسكندرية من المسيحيين الكنيسة أو البارات !!، وكان بعض المسلمين يشاركونهم في الاحتفال بالكريسماس في البارات التي كانت
متواجدة على شاطئ الإسكندرية الممتد من
المنتزه حتى المكس والدخيلة متأثرين بعادات الأجانب الذين استوطنوا الثغر .
بدأت رحلة العشق السكندرية، بالبحر الجميل الذي يغريني ليل نهاء،وخاصة بعدما تعرفت على أصدقاء المدرسة، وأي الشواطيء يرتادونها، وأيها أمانا، بعدما سمعنا سيرة مآسي غرق الصغار حين أرادوا أن يجربوا ترويض موج البحر.وإذا به يغدر بهم لأنهم كانوا أغرارا لا يعرفون فن العوم.
حين أسافر إلى القرية أحكي الكثير من القصص إلى لداتي الذين لم لا يعرفون الإسكندرية بجمالها، ونزق شبابها، وما يفتعلون من قصص غرامية، كنت أرويها لهم، وإذا بهم تكلمون أيضا بقصص الحب المفتعلة،وكيف تعرفوا على البنات ومعاكساتهم، وكنت أخجل حين اسمع من شباب القرية ما يحدث بها ..
تعليقات