ابن الفارض والاختلاف فيه

زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّراً | سلطان العاشقين ابن الفارض‎ - YouTube

                            سلطان العاشقين عمر بن عليّ الملقب ابن الفارض

1  سـيرة سلطان العاشقين ابن الفارض

 ما قرأ احد او سمع ديوان ابن الفارض إلا أحس بروعة شعره، وأناقـة لغته ، وجودة أسلوبه، ولكن هذا الإحساس قد يزايله بسبب ما يشتمل عليه من مصطلحات وأفكـار صوفية      
هو عمر بن عليّ ، وكنيته أبو حفص، ويعرف أيضا بابن الفارض، ويلقب بسلطان العاشقين. ولد في القاهرة سنة 576 هـ ، وتوفي فيها سنة 632 هـ  ،  فهو إذا  من رجال القرنين
   السادس والسابع. (1)
 دُفن ابن الفارض بـ " القرافة " بسفح المقطم " عند مجرى السيل، تحت المسجد المعروف باسم " العارض " . وحدّث الجعبري فيما حدث أنه حضر غسل ابن الفارض وجنازته، وأنه لم ير جنازة أعظم منها، وأنّ الناس كانوا يتهافتون على حمل نعشه. وقد أشار بعض الشعراء إلى مكان قبره تحت المسجد المعروف بـ " العارض "، ومنهم أبو الحسين الجزار:
         لم يبـق صيّب مزنة إلا وقد              وجبت عليه زيـارة ابن الفارض
        لا غرو أن يُسقى ثراه، وقبره            باق ليوم العرض تحت العارض
 أما والده فهو شامي من مدينة حماة، يقال إنه هجرها بعد أن ضربها زلزال عنيف سنة 565 هـ ، وسبب تلقيبه بـ" الفارض " أنه كان يثبت الفروض للنساء على الرجال أمام الحكام.  عاش ابن الفارض في كنف أبيه، وأخذ عنه حبه للعبادة والتقوى والزهد.

تحدث ابن العماد عن زهده في متاع الدنيا، فقال: " نشأ ابن الفارض تحت كنف أبيه في عفاف وصيانة، وعبادة وديانة، بل زهد وقناعة و ورع أسدل عليه لباسه وقناعه، فلما شبّ وترعرع اشتغل بفقه الشافعية، وأخذ الحديث عن ابن عساكر والحافظ المنذري، ثم حبب إليه الخلاء وسلوك طريق الصوفية، فتزهّد وتجرّد" وكان يستأذن أباه، فيسيح في وادي المستضعفين  بالمقطم.
 أما أبرز أساتذته فهو الشيخ البقال، وهو زاهد متصوف، كان سببا مباشرا في رحلة ابن الفارض إلى الحجاز. ففي إحدى المرات حضر ابن الفارض،  بعد رجوعه من السياحة في وادي المستضعفين، إلى القاهرة، ودخل المدرسة السيوفية، فوجد شيخا بقّالا على بابها يتوضأ وضوءا غير مرتب، فاعترض عليه بأن هذا الوضوء لا يتفق وقواعد الشرع، فنظر الشيخ البقال إلى ابن الفارض، وقال له: " يا عمر! أنت ما يفتح الله عليك في مصر، وإنما يفتح عليك بالحجاز، في مكة شرّفها الله؛ فاقصدها؛ فقد آن لك وقت الفتح ".
 رحل بعد ذلك ابن الفارض إلى مكة، فأقام فيها خمس عشرة سنة، وكان فيها لا يصلي إلا بالحرم الشريف،على أنه رجع بعد ذلك إلى القاهرة، وبقي فيها مدة أربع سنوات، ثم توفي.
 كان ابن الفارض جميل الطلعة، معتدل القوام، أبيض اللون، وصفه ابن العماد، فقال: " كان جميلا نبيلا، حسن الهيئة والملبس، حسن الصحبة والعشرة، رقيق الطبع، عذب المنهل والنبع، فصيح العبارة، دقيق الإشارة، سلس القياد، بديع الإصدار والإيراد، سخيا جوادا
  كان ابن الفارض، في معظم الأوقات، يعيش في حالة ذهول شديد عن الدنيا، وغيبة تامة عن الواقع؛ حتى إنه لم يكن يسمع من يكلمه ولا يراه. وقد روى سبطه ، أنه كان يقضي معظم أوقاته دهشا، شاخص البصر، لا يسمع ولا يرى من يكلمه، فهو تارة واقف، وتارة قاعد، وحينا مضطجع أو مستلق على ظهره مسجى كالميت، وربما أتى عليه ،وهو على هذه الحال، أيام قد تبلغ العشرة، وهو فيما بين هذا كله لا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام ، ولا يتحرك، ولا يتكلم، فإذا أفاق عمد إلى أصحابه فأملى عليهم ما فتح الله عليه به من قصيدته " نظم السلوك ". وقد أكد أصحابه أنه لم ينظم هذه القصيدة على حد نظم الشعراء لأشعارهم، بل كانت تحصل له جذبات، ثم ينتبه بعد ذلك ويصحو، فيملي قرابة أربعين أو خمسين بيتا، لا يلبث بعدها أن يدع الإملاء، ليرجع إلى ما كان عليه من الذهول والشرود والغيبة.
راض ابن الفارض نفسه على خشونة الحياة وشظف العيش، وكلفها احتمال المشقات، وأسرف في الزهد، يقال كانت له أربعينيات متواصلة، لا يأكل ولا يشرب ولا ينام فيها. وقد وصف لنا ذلك في شعر له:

        فنفسي كانت قبلُ لوامّـةَ، متى                أُطعها عصتْ أو أعْـص كانت مطيعتي
    فأوردتها ما الموت أيسر بعضه               وأتعبتــــــها كيما تكــون مُريِحـَـــتي
  وأذهبت في تهذيبــها كل لـــــذة                بإبعـــــــادها عــن عادها فاطمأنتِ
    وصمت نهاري رغبة في مثوبة               وأحييت ليلـي خشـية من عــــقوبة
     وبنت عن الأوطان هجران قاطع                مواصلة الإخـوان واخترت عُزلتـي
  حار الناس في أمره، فبعضهم أجلّه وأكبره، وبعضهم اتهمه بالزندقة، و رماه بالإلحاد، وممن دافعوا عنه السيوطي، في كتيّب له اسمه" قمع المعارض بنصرة ابن الفارض" وفيه  يعدّ ابن الفارض من أولياء الله الصالحين، بخلاف ابن حَجَر العسقلاني في كتابه" لسان الميزان "إذ يرميه بالإباحة،ويتهمه في دينه.
  ومما ينبغي لنا أن نذكره ههنا أن ابن الفارض كان صاحب كرامات، ومن هذه الكرامات ما رواه سبطه:
(أ‌)    أوفد "الملك الكامل" يوما "القاضي شرف الدين" إلى ابن الفارض، وأعطاه مبلغ ألف دينار مكافأة له على قصيدة "سائق الأظعان "،لكن  القاضي شرف الدين تردد في الذهاب، وطلب من الملك أن يعفيه من القيام بهذه المهمة محتجا بأن ابن الفارض لا يقبل الذهب، ولا يأخذ من أحد شيئا. 

غير أن الملك ألح وأصر، فلم يجد شرف الدين مناصا من الذهاب إلى الأزهر حيث يقيم ابن الفارض، فذهب بعد أن  ترك الذهب عند شخص من أصحابه، وما كاد يصل حتى وجد ابن الفارض واقفا له بالباب ينتظره، وهناك ابتدره بقوله: يا شرف الدين! ما لك ولذكري في مجلس السلطان ؟ ردّ الذهب إليه، ولا تجئني إلى سنة.
( ب ) كان المتصوف الكبير السهروردي في الطواف، فلما رأى كثرة ازدحام الناس عليه بكى، وقال في نفسه : يا ترى هل أنا  عند الله   كما يظن هؤلاء الناس فيّ ؟ ويا ترى هل ذكرتُ في حضرة المحبوب هذا اليوم؟ وهنا برز ابن الفارض، وقال له:
          لك البشارة فاخلع ما عليك فقد          ذُكِرت ثَمّ على ما فيكَ من عِوَجِِ
( ج ) كان خلال وجوده في الحجـاز يقيـم في واد يبعد عن الحرم الشريف مقدار عشرة  
 أيام للفارس المجدّ ،و كان يأتي الحرم كل يوم؛ ليصلي فيه خمس مرات يصحبه  فيها عند ذهابه وإيابه أسد ضخم الجثة، ينيخ له كما ينيخ الجمل، ويقول له : يا سيدي اركبْ. لكن ابن الفارض ما ركبه قط.
( د ) روى الجعبري، وكان ممن حضروا وفاته، أن الجنة تمثلت لابن الفارض أمام عينيه عند احتضاره، لكنه مع ذلك تأوه وبكى حين رآها، وصرخ:
               إن كان منزلتي في الحب عندكم     ما قد رأيت فقد ضيعتُ أيامـي
               أمنية ظفرت روحي بها زمنا        واليوم أحسبها أضغاث أحـلام
       قلت له: إن هذا مقام عظيم. فقال ابن الفارض: ليس هذا المقام ما كنت أطلب وأروم خلال سنوات عمري. قال الجعبري: فسمعت هاتفا بين السماء والأرض يقول: فما تروم يا عمر؟ فقال:
              أروم وقد طال المدى منك نظرة        وكم من دماء دون مرماي طلّتِ !
      ثم  بعد ذلك  تهلل وجهه، وتبسم، وقضى نحبه فرحا مسرورا، فعلمت أنه أعطي مرامه.
2 ـ عقيدتـه
  ( أ ) الحب الإلهي سر الخلق :
 اعتقد ابن الفارض أن مظاهر الكون كلها ليست سـوى تجليات للذات الإلهية، كأنه بهذا ينطلق من الآية الكريمة: " وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (115)

 فهو يرى عظمة الله ماثلة حاضرة في كل شيء: في مناظر الطبيعة، في تقويم الإنسان، في الأدب الرفيع، في الموسيقى البديعة ،في الخمائل والرياض، في غروب الشمس وشروقها ،في هطول الغيث، وهبوب الريح، وفي ألوان الزهر:

               قل للذي لامني فيه وعنفـني دعني وشأني وعد عن نصحك السمج
               تراه إن غـاب عني كل جارحة في كل معنى لطيف رائق بهج
               في نغمة العود والناي الرخيم إذا   تألفا بيـن ألحـان من الهـزج
               وفي مسارح غزلان الخمائـل، في   برد الأصائل والإصباح، في البلج
               وفي مسـاقط أنـداء الغمـام على    بساط نَور من الأزهار منتسج
              وفي مساحب أذيال النسـيم إذا    أهدى إلي سُـحيرا أطيب الأرج
 ولكن عظمة الله تتجلى أكثر ما تتجلى في الجمال الإنساني، ولا سيما جمال المرأة:
           بها قيس لبنى هام بل كل عاشق           كمجنون ليلى أو كثيّـر عزة
           وما برحت تبدو وتخفى لعلّة            على حسب الأوقـات في كل حقبة
           وتظهر للعشاق في كل مظهر           من اللبس في أشكال حسـن بديعـة
           ولسن سواها، لا ولا كُنّ غيرها           وما إن لها في حسنها من شـريكة

ويترتب على هذا أن الحب المتجه إلى المظاهر الكونية ما هو  في الحقيقة   إلا حب موجه إلى الذات الإلهية، لأن هذه المظاهر كلها تصدر عنها ، وتفيض منها. فقيس بني عامر مثلا رأى الذات الإلهية في صورة ليلى، وكثيّر رآها في صورة عزة، وكذلك رأت ليلـى الذات الإلهية في صورة قيس العامري، وهكذا دواليك.
اعتقد ابن الفارض أن المحبة سر الخلق وسبب الوجود، فلولا محبة الله لنا ما ظهرنا في صفحة الوجود، وهو في هذا ينطلق من الحديث القدسيّ " كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبه عرفوني". وفسر بعضهم قوله في الخمرية:
              شـربنا على ذكر الحبيب مدامة       سكرنا بها من قبل أن يُخلـق الكرمُ
              لها البدر كأس، وهي شمس يديرها      هلال، وكم يبدو إذا مُزجـت نجمُ !
فقال: الشمس هي شمس المحبة الإلهية ، وأما النجوم التي تبدو منها فهي كناية عن المخلوقات.
وربما كان موضوع الحب عند ابن الفارض من الأمور التي اختلف فيها الباحثون والدارسون فنحن حين نقرأ شعره لا ندري أهو حب حقيقي أم حب صوفي للذات الإلهية ، و لئن كان هذا ينطبق على شعره كله فإنه لا ينطبق  على التائية والميمية ( الخمرية )؛ فهما قطعا من الغزل الصوفي.

والسؤال المهم الآن هو: هل خاض ابن الفارض تجربة حب حقيقية قبل أن يتصوف؟ والجواب أننا لا نعرف شيئا عن هذه المسألة سوى ما رواه بعضهم ( زكي مبارك في كتابه " التصوف الإسلامي 1/ 293)  من أن ابن الفارض صعد مرة منارة مسجد، فرأى امرأة جميلة فوق سطح أحد البيوت، فاشتعل قلبه، وهام مع الهائمين، ويقال إن تلك المرأة كانت زوجـة أحد القضاة. ولا عجب فقد يمر الإنسان بتجربة حب، فإذا صادف أن أخفق، عمد إلى عواطفه فصعّدها، وحولها إلى حب من نوع سام، هو حب الله. 

وقد رأينا كثيرا من العشاق يتحولـون عند الإخفاق في الحب، إلى عبادة الله.
(ب ) نظريته في أصل الكائنات:
 يرى ابن الفارض أن "الذات الإلهية" أصل الوجود، ثم انبثقت عنها  "الحقيقة المحمدية"، وعن الحقيقة المحمدية صدرت الكائنات علوا وانحدارا، فالحقيقة المحمدية إذا هي حلقة متوسطة بين الحق والخلق، وهو بهذا يقترب من الفيلسوف أفلوطين في نظريته عن الفيض.
ولكن الغريب أن ابن الفارض لم ينظم قصيدة في مدح الرسول الأعظم، وهذا يمكن أن يعلل بأن حب الله شغله عن كل حب، شأنه شأن أبي سعيد الخراز ( م 277 هـ ) الذي رأى محمدا (ص) في منامه، فقال له: " يا رسول الله اعذرني، فإن محبة الله تعالى شغلتني عن محبتك، فقال له النبي: يا مبارك! من أحب الله فقد أحبني ". وذكر بعضهم أنه رأى ابن الفارض في نومه، فقال له معاتبا: " لم تمدح المصطفى (ص) في ديوانك! " فقال:
              أرى كل مـدح في النبي مقصـرا          وإن بالـغ المثني عليه وأكثرا
              إذا الله أثنى بالذي هو أهله                عليه، فما مقدار ما يمدح الورى ؟
(ج) القول بالجبر / الإنسان مسير:
 يؤمن ابن الفارض  على غرار سائر المتصوفة ـ بمبدأ الجبر، و يرى أن كل ما يجري في الكون من صنع الله وبإرادته ، وأن تصرفات البشر ليست تتم باختيارهم ولا تكون بإرادتهم ، ولئن بدا لنا أحيانا أنها تجنح إلى النقص أو الشر؛ فذلك لحكمة تخفى علينا:
         وما عقد الزنار حكما سـوى يدي   .......  وإن حُلّ بالإقـرار بي فهـي حلت
           يصرفهم في القبضتين ولا .. ولا   ....    فقبضة تنعيم وقبضة شـقوة                            
           فلا عبث والخلق لم يخلقوا سدى   ....    وإن لم تكـن أفعالـهم بالسديدة
وهو يستعين على إثبات رأيه بما ورد في القرآن الكريم من آيات تعضد هذا الرأي، فقد اشتمل على كثير من الآيات...                
(د ) القول بوحدة الوجود
  آمن ابن الفارض  على غرار معظم المتصوفين  أنه ليس في الوجـود إلا الله، وأن كـل ما  في الكون الفسيح الشاسع من كائنات ما هي إلا تجليات للذات الإلهية، ولكن أبصـارنا وعقولنـا  عاجزة عن فهم تلك الحقيقة. ولو أننا تجردنا من غرائزنا ومصالحنا، وتحررنا من العادات السائدة والعقائد الخاطئة، وزهدنا في متـاع الدنيا، وانصرفنا إلى حب الله،  لوقفـنا على ذلك السر الخفي ، و اظهرت لنا الحقيقة ، ولكن هيهات هيهات؛ فدون ذلك أهـوال تشبه ما يعانيه العاشق من تباريح الشوق وعذاب الحب، وهذه لا يقوى على احتمالها والصبر عليهـا إلا من تمتع بالإخلاص:
         فلو وقف العواد بـي وتحققوا       ....     من اللوح ما مني الصبابة أبقت
         لما شاهدت مني بصائرهم سوى     .....       تخلّلِ روح بين أثواب ميت
         وأين الصفا؟ هيهات من عيش عاشق    ....        وجنةُ عدْن بالمكاره حُفّـت

أما الذات الإلهية فلا تتجلى إلا لمن هام بها حبا، وانقطع إليها كليا، وضحى في سبيلها بالدنيا والأهل والمال والوطن، وظل يسعى للوصول إليها ، حتى يتمكن من الاتحاد بها ، والفناء فيها:
             وصمت نهاري رغبة في مثوبـة      ....       وأحييت ليلي خشية من عقوبة
             وبنت عن الأوطان هجران قاطع    .....        مواصلة الإخوان واخترت عزلتـي
             وأنفقت من يسر القناعة راضيـا      .....      من العيش في الدنيا بأيسر بُلغة
             وهذبتُ نفسي بالرياضة ذاهبـا       .....      إلى كشف ما حجبُ العوائد غطّـت

وأما منهجه في الحصول على المعرفة فهو المنهج الصوفي الذي لا ينطلق من الحواس والعقل بل من الحدس / الإلهام لأن المعارف الروحية مطبوعة في العقل منذ الأزل،  قبل أن تنفصل الروح عن الملأ الأعلى ، وتتلبس بعالم المادة ، وما على الإنسان إلا أن  يتحرر من الواقع الدنيوي، ويدخل في حالة الاتحاد بالذات الإلهية حتى يكتشف ذلك. وقد أعرب عن هذا بقوله:
                     وشاهد إذا استجليت نفسك ما ترى        بغير مِراء في المرايـا الصقيلة
                     أغيرك فيها لاح أم أنت ناظـر       إليك بها عند انعكاس الأشعة ؟
                     وأصغ لرجع الصوت عند انقطاعه       إليك بأكناف القصور المشيدة
                     أهل كان من ناجـاك ثَمّ سواك أم       سمعت خطابا عن صداك المصوت؟
                     و ما هي إلا النفس عند اشتغالها       بعالمها عن مُظهر البشـريـة
                     فلاتـك ممن طيشته دروسـه       بحيث استفزت عقله واستقرت
                     فثم وراء النقـل عقـل يـدق عـن       مدارك غايـات العقـول السـليمة
                     تلقيته عني ،وعني أخذته        ونفسي كانت من عطائي ممـدتي
إذا فالله هو مصدر المعرفة، وإن كان أكثر الناس لا يعلمون. على أنهم لو عرفوا أنفسهم حق المعرفة لوقفوا على الحقيقة،  وفي ذلك يقول:  
                     وكل الذي شاهدتُه فعلُ واحد           بمفرده، لكن بحَجْب الأكنّة
                     إذا ما أزال الستر لم تر غيره           ولم يبق بالأشكال إشكالُ ريبة
     وقد وصف لنا ابن الفارض تلك الرتبة السنية التي بلغها، والسعادة الروحية التي تمتع بها ، لذلك دعا الناس إلى سلوك طريقه واتباع منهاجه:
            منحتك علما إن ترد كشفه فردْ     ....      سبيلي واشرع في اتباع شريعتي
            ودونك بحرا خضتُه وقف الألى   .....        بساحله صونا لموضع حرمتي
            وفز بالعلى وافخر على ناسك علا   .....        بظاهـر أعمـال ونفس تزكت
            وته ساحبا بالسُحب أذيال عاشـق     ....      بوصل على أعلى المجـرة جُرّت
            وجُل في فنون الاتحاد ولا تحـد   ....       إلى فئـة في غيره العمرَ أفنـت
            فأنت بهذا المجد أجدر من أخي   ....   اجـتهاد مجد عن رجـاء وخيفة
أما مفهوم الاتحاد عند ابن الفارض فيتلخص في أن العاشق يسعى إلى المحبوب ليتحد به، وقد يتحقق له ذلك، لكن اتحاده به ليس اتحادا دائما بل مؤقت، وهذا ما يميز ابن الفارض من سواه كابن عربي، فالوحدة عنده وحدة شهود لا وحدة وجود. أي أن العاشق، عندما يدخل في حالة الغياب/ الذهول عن نفسه، يشعر أنه فني تماما واضمحل، كما يشعر أن المحبوب هو الذي بقي وحده ، لذلك يرى الحقائق بعين الله ( كما يراها الله )، وهذا معنى أبياته:

 أممتُ إمامي في الحقيقة فالورى             ورائي، وكانت حيث وجهـتُ وجهتـي
 ولا غرو أن صلى الإمام إليّ أنْ              ثوت في فؤادي وهي قبلة قبلتـي
وكل الجهات الستّ نحوي توجهت            بما تـمّ من نُسك وحج وعُمـرة
 لها صلواتي بالمقام أقيمهـا                   وأشـهد فيها أنها لي صلّت
 كلانا مصل واحد ساجد إلـى                 حقيقته بالجمع في كل سجدة
 وما كان لي صلّـى سوايَ ولم تكن            صلاتي لغيري في أدا كلّ ركعـة

 ويتابع الكلام فيقول:
          وقد جـاءني مني رسول عليه ما          عنتُّ عزيز بي حريص لرأفـة
         إليّ رسولا كنت مني مرسلا                وذاتي بآيـاتي عليّ اسـتدلت
          ولا فلـك إلا ومن نور باطني            به ملك يَهـدى الهدى بمشيئتي
 وهو يعتمد على أحد الأحاديث النبوية؛ ليثبت لنا  الاتحاد
 وجاء حديث في اتحادي ثابت           روايته في النقـل غير ضعيفة
 و موضع تنبيه الإشارة ظاهر            بكنت له سمعا كنور الظهيرة      
( هـ ) القول بوحدة الأديان 
أعلن ابن الفارض أن مذهبه إنما هو مذهب الحب، لذلك دعا إلى المحبة والتسـامح ، ودعا إلى احترام جميع الديانات، ونبذ العصبيات، و لعل ما نشهده ونسمعه اليوم في عالمنا المعاصر من الدعوات التي تطالب بالتقارب بين الديانات والانفتاح على كل الثقافات لا يختلف في جوهره عن دعوة ابن الفارض.
 وعن مذهبي في الحب ما لي مذهـب           وإن ملت يوما عنه فارقت ملّتي
كما طالب بالتحرر من العصبيات المذهبية لأنها تشوه حياة البشر، وتثير العداوة والبغضاء فيما بينهم،  ورأى أنه لا يجوز لأحد أن يحقد على من اعتنق غير دينه، لأن الديانات والمذاهب كلها ترجع إلى مصدر واحد، وتمتح من معين واحد، فلا يجوز أن نزدريها ونتجاهلها، وكيف يجوز لنا أن نحتقر الديانات الأخرى والله هو الذي أرادها؟ويبالغ ابن الفارض في ذلك حتى يرى أنه لا فرق بين مسلم أو مسيحي أو يهودي أو وثني، يقول في هذا:
وإن نار بالتنزيـل محراب مسجد               فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
وأسفار تـوراة الكليم لقومه                     يناجي بها الأحبارُ في كل ليلـة
وإن خر للأحجار في البدّ عاكف               فلا وجه للإنكر بالعصبية
ويرى أن احتقار الديانات الأخرى أمر حرمه الله ونهى عنه. نعم هنالك ديانات انحرفت، وهناك عقائد فسدت أو ضلت أو أخطأت، ولكن ذلك لم يكن عن قصد، بل عن جهل :
وقد بلغ الإنذار عني من بغى                وقامت لي الأعذار في كل فرقـة
وما زاغت الأبصار من كل ملة               وما راغت الأفكار في كل نحلة
وإن عبد النارَ المجوسُ و ما انطفت                كما جاء في الأخبار من ألف حجة
فما قصدوا غيري وما كان قصدهم                سـواي، وإن لم يظهروا عقد نية
فلا عبث والخلق لم يخلقوا سـدى                وإن لم تكن أفعالهم بالسديدة
       
( و ) مفهوم القطبية:
القطب هو الإنسان الكامل، الذي يتمتع بالمعرفة التامة والعلم المطلق، وهو المدبر للكون، المصرّف لشؤون العالم، ويقصد به ابن الفارض " الحقيقة المحمدية" وهي أول ما صدر عن الذات الإلهية، غير أن الحقيقة المحمدية لا يراد بها هنا شخص الرسول محمد (ص)، وإنما يراد بها فكرة / مفهوم الإنسان الكامل، وهو سابق على وجود آدم، وعنه انبثق الوجود الروحي والمادي، وقد اتحد ابن الفارض بالحقيقة المحمدية من خلال اتحاده بالذات الإلهية، فوصـل إلى مرتبة العلم المطلق ، وقد عبر في التائية عن هذا ، فقال:
     فبي دارت الأفلاك فاعجب لقطبها الـ              محيط بها والقطبُ مركـز نقطة
   فأتلو علـوم العالميـن بلفظة              وأجلو عليّ العالميـن بلحظة
  وأسمع أصوات الدعاة وسائر الـ              لغات بوقـت دون مقدار لمحة
  وأستعرض الآفاق نحوي بخطرة              وأخترق السبع الطبـاق بخطوة
 فمن قال أو من طال أو صال إنما             يمتّ بإمدادي لـه برقيـقة
 وما سار فوق الماء أو طار في الهوا             أو اقتحـم النيـران إلا بهمـتي
   فعالمنـا منهم نبي ومن دعا             إلى الحق منا قـام بالرسـلية
  وعارفنـا في وقتنا الأحمديّ من             أولي العزم منهم آخـذ بالعزيمة
  وسـائرهم مثل النجوم من اقتدى             بأيهم منه اهتدى بالنصيحة
  وأهل تلقي الروح باسمي دعوا إلى            سبيلي وحجوا الملحدين بحجتي
   وكلهم عن سـبق معناي دائر             بدائرتي أو وارد من شـريعتي

والحق أن مفهوم " القطب الأعظم " عند الصوفية مأخوذ من فكرة " العقل المطلق " عند أفلاطون ، وتتلخص في أن الله كامل ، وهو خير محض ، والعالم ناقص وفيه شر كثير، ولا يليق بالله أن يتصل بالعالم مباشرة لأن العالم ناقص وحافل بكثير من الشرور، فلا بد إذا من وسيط يقوم بالربط بين الله والعالم. وقد تمثلت القطبية في الأنبياء والأولياء والراسخين في العلم ممن وصلوا إلى درجة الكمال من خلال الاتحاد بالذات الإلهية ، ويطلق الصوفيون على القطب الأعظم ألقابا أخرى مثل " قطب الوجود" و " الغوث الأعظم " و " واحد الزمان "، كما أنهم يُجمِعون على أنه ليس بعد القطبية إلا الألوهية.
                    
3 ـ شـعر ابن الفارض:
 لم يترك لنا ابن الفارض سوى ديوان صغير، لكنه  على صغره  يعد إنجازا كبيرا جدا لأنه قدم لنا ، في هذا الديوان، تراثا صوفيا من الدرجة الأولى لا يقل عن التراث الصوفي الفارسي، خصوصا في مجال الحب الإلهي. ففيه يتحدث ابن الفارض عن مراحل السلوك ، وعن نظريته في الاتحاد بالذات الإلهية ، فضلا عن كونه تحليلا وإيضاحا لتجربته الروحية.
 وقد بلغ من شهرة هذا الديوان واحتفاء الناس به أنه كان يلقن لتلاميذ المدارس فيحفظونه عن ظهر قلب، ويعلم للمنشدين فينشدونه على المآذن عند الأسحار وفي المناسبات الدينية.
 ثم إن الديوان يعطينا صورة واضحة عن رهافة إحساس الشاعر، وسمو عواطفه، وخصوبة خياله، وجمال صوره، وحسبنا دليلا على ذلك ما قاله ابن أبي حجلة في شعره:

               " هو من أرق الدواوين شعرا، وأنفسها درا، برا وبحرا
                وأسرعها إلى القلوب جرحا، وأكثرها على الطلول نوحا
                إذ هو صادر عن نفثة مصدور، وعاشق مهجور ، وقلب
                بحرّ النوى مكسور، والناس يلهجون بقوافيه، وما أودع
                من القوى فيه، وكثر حتى قلّ من لا رأى ديوانه أو طنّت
                بأذنه قصائده الطنانة".

 ومن الأمور الطريفة التي ينبغي لنا  هاهنا  أن نذكرها أن الأفكار والمفاهيم الصوفية التي اشتمل عليها ديوان ابن الفارض تلتقي إلى حد بعيد مع مفاهيم الشيخ الأكبر ابن عربي ، ولا عجب فقد جاء في الأخبار أن ابن عربي أرسل إلى ابن الفارض يستأذنه في وضع شرح للتائية الكبرى، فأجابه ابن الفارض: " كتابك الفتوحات المكية شرح لها " نفح الطيب  للمقري 1/ 100 طبعة القاهرة.
 ويبلغ عدد أبيات الديوان ألفا وثمانمئة وخمسين بيتا. وقد طبع عدة مرات أولها الطبعة الحجرية في مدينة حلب سنة 1841م. ثم ظهرت له طبعة ثانية في بيروت سنة (  ؟   ) ، وثالثة في  مصر سنة 1892م.
  وبوسعنا أن نقسم الديوان إلى قسمين:
 أ  القسـم الأول: يحتوي على شعره قبل ذهابه إلى الحجاز، وهو شعر يتسم  بالجفاف وضعف الخيال.
 ب  القسم الثاني :
ويحتوي على القصائد التي نظمها خـلال إقامته بالحجاز  وبعد عودته منه، وفي هذا القسم تتجلى بوضوح مواهب ابن  الفارض الفنية وقدراته التعبيرية، إذ نجد شعرا عميقا ناضجا - وتمكنا من استخدام الرمز.
 وللديوان عدة شروح ، أهمها :
      أ  شرح البوريني ( المتوفى سنة 1615م)، ويقوم في قسمه الأول على التحليل   اللغوي والبلاغي، وفي قسمه الثاني على شرح المعاني الصوفية.
  ومن الجدير بالذكر أن البوريني لم يقدم شرحا للتائية الكبرى.
     ب  شرح النابلسي ( المتوفى سنة 1731م ) ، وهو تعليق على شـرح البوريني  وإبراز للمعاني الصوفية.
  ومن الجدير بالذكر أن ديوان ابن الفارض لقي في الغرب أيضا كثيرا من العناية، فترجم إلى لغات عدة كاللاتينية والإيطالية والفرنسية والألمانية ، وكتبت حوله دراسات مستفيضة.

   وقد حظيت " التائية الكبرى"  و" القصيدة الميمية" من دون سائر قصائد الديوان بالاهتمام الشديد من قبل الدارسين لما اشتملتا عليه من الرموز والاصطلاحات الصوفية. 
 ولا بد لنا قبل تقديم بعض النماذج من ديوان ابن الفارض أن نشير إلى أبرز السمات الفنية التي تطغى على شعره:

         1  البراعة في اختيار الألفاظ.
         2  الدقة في التعبير عن المعاني.
         3  كثرة الصناعة البديعية.
         4  استخدام التصغير بكثرة.
         5  الإكثار من ذكر الأماكن المقدسة.
         6  التأثر بالقرآن الكريم.
         7  استخدام المصطلحات الصوفية
         8  روعة التصوير

وقصيدة :
ما بين معتـرك الأحداق والمهج             أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
أصبحت فيك كما أمسيتُ مكتئبا              ولم أقل جزعا: يا أزمة انفرجـي
عذب بما شئت غيرَ البعد عنك تجـد             أوفى محب بما يرضيـك مبتهج
وخذ بقيـة ما أبقيـت من رمق             لا خير في الحـب إن أبقى على المهج
من لي بإتلاف روحي في هوى رشأ             حلو الشـمائل بالأرواح ممتزج
من مات فيه غرامـا عاش مرتقيا             ما بين أهـل الهوى في أرفع الدرج
 علق المستشرق الإنكليزي نيكلسون على الأبيات بقوله: كان ( ابن الفارض ) هنا قريبا من الفكرة الأوربية الحديثة عما ينبغي أن يكون عليه الشعر ".
ومن النماذج الرائعة لشعر ابن الفارض قصيدته اليائية:
  سائق الأظعان يطوي البيد طي            منعما عرج على كثبـان طي
وتلطف واجر ذكري عندهـم            علهم أن ينظـروا عطفا عليّ
قل تركتُ الصب فيكم شبحـا            ما له مما بـراه الشـوق في
كهـلال الشك لولا أنه            أنَّ عينـي عينـه لم تتأي
في هواكـم رمضـان عمـره            ينقضي ما بين إحيـاء وطي
نصبا أكسـبني الشوق كما             تكسـب الأفعـال نصبا لام كي
هل سمعتم أو رأيتم أسدا            صاده لحظ مهـاة أو ظُبـي ؟
وضع الآسي بصدري كفـه            قال: ما لي حيلة في ذا الهوي
وهذه القصيدة كانت سبب إعجاب الملك الكامل به .
ولنستمع إليه يتحدث عن الحب الإلهي في إحدى قصائده، فيقول معرفا إياه:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل         فما اختاره مضنى به وله عقل
وعش خاليا؛ فالحب راحته عنـا          وأوله سقم، وآخره قتـل
نصحتك علما بالهوى، والذي أرى          مخالفتي؛ فاختر لنفسك ما يحلو
فإن شئتَ أن تحيا سعيدا فمت به           شـهيدا، وإلا فالغرامُ له أهل
فمن لم يمت في حبه لم يعش به          ودون اجتناء الشهد ما جنتِ النحل    
ومن الدرر الخالدة التي نظمها قصيدته المشهورة:
قلبي يحدثنـي بأنـك متلفي         روحي فداك عرفتَ أم لم تعرفِ
ما لي سوى روحي،  وباذل نفسه         في حب من يهواه ليس بمسرف
قل للعذول: أطلت لومـي طامعا         أنّ الملام عن الهـوى مسـتوقفي
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى          فإذا عشقتَ فبعد ذلك عنف
برح الخفاء بحب من لو في الدجا         سفر اللثـام لقلتُ: يا بدرُ اختف
لو قال تيها: قف على جمر الغضا         لوقفت ممتثـلا ولم أتوقف
أو كان من يرضى بخـدي موطئا         لوضعتُه أرضـا، ولم أسـتنكف
لو أسمعوا يعقوبَ ذكر ملاحـة        في وجهه نسي الجمال اليوسفي

               سلطان العاشقين عمر بن عليّ الملقب ابن الفارض

1  سـيرة سلطان العاشقين ابن الفارض

 ما قرأ احد او سمع ديوان ابن الفارض إلا أحس بروعة شعره، وأناقـة لغته ، وجودة أسلوبه، ولكن هذا الإحساس قد يزايله بسبب ما يشتمل عليه من مصطلحات وأفكـار صوفية      
هو عمر بن عليّ ، وكنيته أبو حفص، ويعرف أيضا بابن الفارض، ويلقب بسلطان العاشقين.
 ولد في القاهرة سنة 576 هـ ، وتوفي فيها سنة 632 هـ  ،  فهو   إذا  من رجال القرنين
   السادس والسابع. (1)
 دُفن ابن الفارض بـ " القرافة " بسفح المقطم " عند مجرى السيل، تحت المسجد المعروف باسم " العارض " . وحدّث الجعبري فيما حدث أنه حضر غسل ابن الفارض وجنازته، وأنه لم ير جنازة أعظم منها، وأن الناس كانوا يتهافتون على حمل نعشه. وقد أشار بعض الشعراء إلى مكان قبره تحت المسجد المعروف بـ " العارض "، ومنهم أبو الحسين الجزار:
 لم يبـق صيّب مزنة إلا وقد          وجبت عليه زيـارة ابن الفارض
لا غرو أن يُسقى ثراه، وقبره          باق ليوم العرض تحت العارض
 أما والده فهو شامي من مدينة حماة، يقال إنه هجرها بعد أن ضربها زلزال عنيف سنة 565 هـ  ، وسبب تلقيبه بـ" الفارض " أنه كان يثبت الفروض للنساء على الرجال أمام الحكام.
  عاش ابن الفارض في كنف أبيه، وأخذ عنه حبه للعبادة والتقوى والزهد.تحدث ابن العماد عن زهده في متاع الدنيا، فقال: " نشأ ابن الفارض تحت كنف أبيه في عفاف وصيانة، وعبادة وديانة، بل زهد وقناعة و ورع أسدل عليه لباسه وقناعه، فلما شبّ وترعرع اشتغل بفقه الشافعية، وأخذ الحديث عن ابن عساكر والحافظ المنذري، ثم حبب إليه الخلاء وسلوك طريق الصوفية، فتزهّد وتجرّد" وكان يستأذن أباه، فيسيح في وادي المستضعفين  بالمقطم.
 أما أبرز أساتذته فهو الشيخ البقال ، زاهدا متصوف، كان سببا مباشرا في رحلة ابن الفارض إلى الحجاز. ففي إحدى المرات، حضر ابن الفارض،  بعد رجوعه من السياحة في وادي المستضعفين، إلى القاهرة، ودخل المدرسة السيوفية، فوجد شيخا بقّالا على بابها يتوضأ وضوءا غير مرتب، فاعترض عليه بأن هذا الوضوء لا يتفق وقواعد الشرع، فنظر الشيخ البقال إلى ابن الفارض، وقال له: " يا عمر! أنت ما يفتح الله عليك في مصر، وإنما يفتح عليك بالحجاز، في مكة شرّفها الله؛ فاقصدها؛ فقد آن لك وقت الفتح ".
 رحل بعد ذلك ابن الفارض إلى مكة، فأقام فيها خمس عشرة سنة، وكان فيها لا يصلي إلا بالحرم الشريف. على أنه رجع بعد ذلك إلى القاهرة، وبقي فيها مدة أربع سنوات، ثم توفي.
 كان ابن الفارض جميل الطلعة، معتدل القوام، أبيض اللون، وصفه ابن العماد، فقال: " كان جميلا نبيلا، حسن الهيئة والملبس، حسن الصحبة والعشرة، رقيق الطبع، عذب المنهل والنبع، فصيح العبارة، دقيق الإشارة، سلس القياد، بديع الإصدار والإيراد، سخيا جوادا
  كان ابن الفارض، في معظم الأوقات، يعيش في حالة ذهول شديد عن الدنيا، وغيبة تامة عن الواقع؛ حتى إنه لم يكن يسمع من يكلمه ولا يراه. وقد روى سبطه ، أنه كان يقضي معظم أوقاته دهشا، شاخص البصر، لا يسمع ولا يرى من يكلمه، فهو تارة واقف، وتارة قاعد، وحينا مضطجع أو مستلق على ظهره مسجى كالميت، وربما أتى عليه ،وهو على هذه الحال، أيام قد تبلغ العشرة، وهو فيما بين هذا كله لا يأكل ، ولا يشرب، ولا ينام ، ولا يتحرك، ولا يتكلم، فإذا أفاق عمد إلى أصحابه فأملى عليهم ما فتح الله عليه به من قصيدته " نظم السلوك ". وقد أكد أصحابه أنه لم ينظم هذه القصيدة على حد نظم الشعراء لأشعارهم، بل كانت تحصل له جذبات، ثم ينتبه بعد ذلك ويصحو، فيملي قرابة أربعين أو خمسين بيتا، لا يلبث بعدها أن يدع الإملاء، ليرجع إلى ما كان عليه من الذهول والشرود والغيبة.

 راض ابن الفارض نفسه على خشونة الحياة وشظف العيش، وكلفها احتمال المشقات، وأسرف في الزهد، يقال كانت له أربعينيات متواصلة، لا يأكل ولا يشرب ولا ينام فيها. وقد وصف لنا ذلك في شعر له:

               فنفسي كانت قبلُ لوامّـة، متى        أطعها عصت أو أعص كانت مطيعتي
 فأوردتها ما الموت أيسر بعضه        وأتعبتـها كيما تكون مريحتي
وأذهبت في تهذيبها كل لذة         بإبعـادها عن عادها فاطمأنت
 وصمت نهاري رغبة في مثوبة       وأحييت ليلـي خشـية من عقوبة
 وبنت عن الأوطان هجران قاطع       مواصلة الإخـوان واخترت عزلتـي

  حار الناس في أمره، فبعضهم أجلّه وأكبره، وبعضهم اتهمه بالزندقة، و رماه بالإلحاد. وممن دافعوا عنه السيوطي، في كتيّب له اسمه " قمع المعارض بنصرة ابن الفارض" وفيه
يعدّ ابن الفارض من أولياء الله الصالحين، بخلاف ابن حجر العسقلاني في كتابه " لسان الميزان " إذ يرميه بالإباحة، ويتهمه في دينه.

  ومما ينبغي لنا أن نذكره ههنا أن ابن الفارض كان صاحب كرامات، ومن هذه الكرامات ما رواه سبطه:

(أ‌)    أوفد "الملك الكامل" يوما "القاضي شرف الدين" إلى ابن الفارض، وأعطاه مبلغ ألف دينار مكافأة له على قصيدة " سائق الأظعان " ،لكن  القاضي شرف الدين تردد في الذهاب، وطلب من الملك أن يعفيه من القيام بهذه المهمة محتجا بأن ابن الفارض لا يقبل الذهب،  ولا يأخذ من أحد شيئا. غير أن الملك ألح وأصر، فلم يجد شرف الدين مناصا من الذهاب إلى الأزهر حيث يقيم ابن الفارض، فذهب بعد أن  ترك الذهب عند شخص من أصحابه، وما كاد يصل حتى وجد ابن الفارض واقفا له بالباب ينتظره، وهناك ابتدره بقوله: يا شرف الدين! ما لك ولذكري في مجلس السلطان ؟ ردّ الذهب إليه، ولا تجئني إلى سنة.

( ب ) كان المتصوف الكبير السهروردي في الطواف، فلما رأى كثرة ازدحام الناس عليه بكى ، وقال في نفسه : يا ترى هل أنا  عند الله   كما يظن هؤلاء الناس فيّ ؟ ويا ترى هل ذكرتُ في حضرة المحبوب هذا اليوم؟ وهنا برز ابن الفارض، وقال له:

 لك البشارة فاخلع ما عليك فقد       ذُكِرت ثَمّ على ما فيكَ من عِوَجِِ
( ج ) كان خلال وجوده في الحجـاز يقيـم في واد يبعد عن الحرم الشريف مقدار عشرة  
 أيام للفارس المجدّ ،و كان يأتي الحرم كل يوم؛ ليصلي فيه خمس مرات يصحبه 
 فيها عند ذهابه وإيابه أسد ضخم الجثة، ينخ له كما ينخ الجمل، ويقول له : يا سيدي اركبْ. لكن ابن الفارض ما ركبه قط.

( د ) روى الجعبري، وكان ممن حضروا وفاته، أن الجنة تمثلت لابن الفارض أمام عينيه عند احتضاره، لكنه مع ذلك تأوه وبكى حين رآها، وصرخ:
               إن كان منزلتي في الحب عندكم     ما قد رأيت فقد ضيعتُ أيامـي
               أمنية ظفرت روحي بها زمنا     واليوم أحسبها أضغاث أحـلام
       قلت له: إن هذا مقام عظيم. فقال ابن الفارض: ليس هذا المقام ما كنت أطلب وأروم خلال سنوات عمري. قال الجعبري: فسمعت هاتفا بين السماء والأرض يقول: فما تروم يا عمر؟ فقال:
              أروم وقد طال المدى منك نظرة        وكم من دماء دون مرماي طلّتِ !
      ثم  بعد ذلك  تهلل وجهه، وتبسم، وقضى نحبه فرحا مسرورا، فعلمت أنه أعطي مرامه.

2 ـ عقيدتـه
 
 ( أ ) الحب الإلهي سر الخلق :
        اعتقد ابن الفارض أن مظاهر الكون كلها ليست سـوى تجليات للذات الإلهية، كأنه بهذا ينطلق من الآية الكريمة: " حيثما تولوا وجوهكم فثم وجه الله "، فهو يرى عظمة الله ماثلة حاضرة في كل شيء: في مناظر الطبيعة، في تقويم الإنسان، في الأدب الرفيع، في الموسيقى البديعة ،في الخمائل والرياض، في غروب الشمس وشروقها ،في هطول الغيث، وهبوب الريح، وفي ألوان الزهر:
               قل للذي لامني فيه وعنفـني             دعني وشأني وعد عن نصحك السمج
               تراه إن غـاب عني كل جارحة              في كل معنى لطيف رائق بهج
               في نغمة العود والناي الرخيم إذا             تألفا بيـن ألحـان من الهـزج
               وفي مسارح غزلان الخمائـل، في             برد الأصائل والإصباح، في البلج
               وفي مسـاقط أنـداء الغمـام على             بساط نَور من الأزهار منتسج
              وفي مساحب أذيال النسـيم إذا            أهدى إلي سُـحيرا أطيب الأرج
 ولكن عظمة الله تتجلى أكثر ما تتجلى في الجمال الإنساني، ولا سيما جمال المرأة:

           بها قيس لبنى هام بل كل عاشق           كمجنون ليلى أو كثيّـر عزة
           وما برحت تبدو وتخفى لعلّة          على حسب الأوقـات في كل حقبة
           وتظهر للعشاق في كل مظهر           من اللبس في أشكال حسـن بديعـة
           ولسن سواها، لا ولا كُنّ غيرها           وما إن لها في حسنها من شـريكة

ويترتب على هذا أن الحب المتجه إلى المظاهر الكونية ما هو  في الحقيقة   إلا حب موجه إلى الذات الإلهية، لأن هذه المظاهر كلها تصدر عنها ، وتفيض منها. فقيس بني عامر مثلا رأى الذات الإلهية في صورة ليلى، وكثيّر رآها في صورة عزة، وكذلك رأت ليلـى الذات الإلهية في صورة قيس العامري، وهكذا دواليك.
اعتقد ابن الفارض أن المحبة سر الخلق وسبب الوجود، فلولا محبة الله لنا ما ظهرنا في صفحة الوجود، وهو في هذا ينطلق من الحديث القدسيّ " كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبه عرفوني". وفسر بعضهم قوله في الخمرية:

              شـربنا على ذكر الحبيب مدامة       سكرنا بها من قبل أن يُخلـق الكرمُ
              لها البدر كأس، وهي شمس يديرها      هلال، وكم يبدو إذا مُزجـت نجمُ !

فقال: الشمس هي شمس المحبة الإلهية ، وأما النجوم التي تبدو منها فهي كناية عن المخلوقات.
وربما كان موضوع الحب عند ابن الفارض من الأمور التي اختلف فيها الباحثون والدارسون
فنحن حين نقرأ شعره لا ندري أهو حب حقيقي أم حب صوفي للذات الإلهية ، و لئن كان هذا ينطبق على شعره كله فإنه لا ينطبق  على التائية والميمية ( الخمرية ) ؛ فهما قطعا من الغزل الصوفي.والسؤال المهم الآن هو: هل خاض ابن الفارض تجربة حب حقيقية قبل أن يتصوف؟ والجواب أننا لا نعرف شيئا عن هذه المسألة سوى ما رواه بعضهم ( زكي مبارك في كتابه " التصوف الإسلامي 1/ 293)  من أن ابن الفارض صعد مرة منارة مسجد، فرأى امرأة جميلة فوق سطح أحد البيوت، فاشتعل قلبه ، وهام مع الهائمين، ويقال إن تلك المرأة كانت زوجـة أحد القضاة. ولا عجب فقد يمر الإنسان بتجربة حب، فإذا صادف أن أخفق، عمد إلى عواطفه فصعّدها، وحولها إلى حب من نوع سام، هو حب الله. وقد رأينا كثيرا من العشاق يتحولـون عند الإخفاق في الحب، إلى عبادة الله.

(ب ) نظريته في أصل الكائنات:
 يرى ابن الفارض أن "الذات الإلهية" أصل الوجود، ثم انبثقت عنها  "الحقيقة المحمدية"، وعن الحقيقة المحمدية صدرت الكائنات علوا وانحدارا، فالحقيقة المحمدية إذا هي حلقة متوسطة بين الحق والخلق، وهو بهذا يقترب من الفيلسوف أفلوطين في نظريته عن الفيض.

ولكن الغريب أن ابن الفارض لم ينظم قصيدة في مدح الرسول الأعظم، وهذا يمكن أن يعلل بأن حب الله شغله عن كل حب، شأنه شأن أبي سعيد الخراز ( م 277 هـ ) الذي رأى محمدا (ص) في منامه، فقال له: " يا رسول الله اعذرني، فإن محبة الله تعالى شغلتني عن محبتك، فقال له النبي: يا مبارك! من أحب الله فقد أحبني ". وذكر بعضهم أنه رأى ابن الفارض في نومه، فقال له معاتبا: " لم تمدح المصطفى (ص) في ديوانك! " فقال:
              أرى كل مـدح في النبي مقصـرا          وإن بالـغ المثني عليه وأكثرا
              إذا الله أثنى بالذي هو أهله         عليه، فما مقدار ما يمدح الورى ؟
(ج) القول بالجبر / الإنسان مسير:
        يؤمن ابن الفارض  على غرار سائر المتصوفة ـ بمبدأ الجبر، و يرى أن كل ما يجري في الكون من صنع الله وبإرادته ، وأن تصرفات البشر ليست تتم باختيارهم ولا تكون بإرادتهم ، ولئن بدا لنا أحيانا أنها تجنح إلى النقص أو الشر؛ فذلك لحكمة تخفى علينا:

         وما عقد الزنار حكما سـوى يدي   .......  وإن حُلّ بالإقـرار بي فهـي حلت
           يصرفهم في القبضتين ولا .. ولا   ....    فقبضة تنعيم وقبضة شـقوة                            
           فلا عبث والخلق لم يخلقوا سدى   ....    وإن لم تكـن أفعالـهم بالسديدة
وهو يستعين على إثبات رأيه بما ورد في القرآن الكريم من آيات تعضد هذا الرأي، فقد اشتمل على كثير من الآيات...                

(د ) القول بوحدة الوجود
  آمن ابن الفارض  على غرار معظم المتصوفين  أنه ليس في الوجـود إلا الله، وأن كـل ما   في الكون الفسيح الشاسع من كائنات ما هي إلا تجليات للذات الإلهية، ولكن أبصـارنا وعقولنـا  عاجزة عن فهم تلك الحقيقة. ولو أننا تجردنا من غرائزنا ومصالحنا، وتحررنا من العادات السائدة والعقائد الخاطئة، وزهدنا في متـاع الدنيا، وانصرفنا إلى حب الله،  لوقفـنا على ذلك السر الخفي ، و اظهرت لنا الحقيقة ، ولكن هيهات هيهات؛ فدون ذلك أهـوال تشبه ما يعانيه العاشق من تباريح الشوق وعذاب الحب، وهذه لا يقوى على احتمالها والصبر عليهـا إلا من تمتع بالإخلاص:
         فلو وقف العواد بـي وتحققوا       ....     من اللوح ما مني الصبابة أبقت
         لما شاهدت مني بصائرهم سوى     .....       تخلّلِ روح بين أثواب ميت
         وأين الصفا؟ هيهات من عيش عاشق    ....        وجنةُ عدْن بالمكاره حُفّـت

أما الذات الإلهية فلا تتجلى إلا لمن هام بها حبا، وانقطع إليها كليا، وضحى في سبيلها بالدنيا والأهل والمال والوطن، وظل يسعى للوصول إليها ، حتى يتمكن من الاتحاد بها ، والفناء فيها:
             وصمت نهاري رغبة في مثوبـة      ....       وأحييت ليلي خشية من عقوبة
             وبنت عن الأوطان هجران قاطع    .....        مواصلة الإخوان واخترت عزلتـي
             وأنفقت من يسر القناعة راضيـا      .....      من العيش في الدنيا بأيسر بُلغة
             وهذبتُ نفسي بالرياضة ذاهبـا       .....      إلى كشف ما حجبُ العوائد غطّـت

وأما منهجه في الحصول على المعرفة فهو المنهج الصوفي الذي لا ينطلق من الحواس والعقل بل من الحدس / الإلهام لأن المعارف الروحية مطبوعة في العقل منذ الأزل،  قبل أن تنفصل الروح عن الملأ الأعلى ، وتتلبس بعالم المادة ، وما على الإنسان إلا أن  يتحرر من الواقع الدنيوي، ويدخل في حالة الاتحاد بالذات الإلهية حتى يكتشف ذلك. وقد أعرب عن هذا بقوله:
                     وشاهد إذا استجليت نفسك ما ترى        بغير مِراء في المرايـا الصقيلة
                     أغيرك فيها لاح أم أنت ناظـر       إليك بها عند انعكاس الأشعة ؟
                     وأصغ لرجع الصوت عند انقطاعه       إليك بأكناف القصور المشيدة
                     أهل كان من ناجـاك ثَمّ سواك أم       سمعت خطابا عن صداك المصوت؟
                     و ما هي إلا النفس عند اشتغالها       بعالمها عن مُظهر البشـريـة
                     فلاتـك ممن طيشته دروسـه       بحيث استفزت عقله واستقرت
                     فثم وراء النقـل عقـل يـدق عـن       مدارك غايـات العقـول السـليمة
                     تلقيته عني ،وعني أخذته        ونفسي كانت من عطائي ممـدتي
إذا فالله هو مصدر المعرفة، وإن كان أكثر الناس لا يعلمون. على أنهم لو عرفوا أنفسهم حق المعرفة لوقفوا على الحقيقة،  وفي ذلك يقول:  
                     وكل الذي شاهدتُه فعلُ واحد           بمفرده، لكن بحَجْب الأكنّة
                     إذا ما أزال الستر لم تر غيره           ولم يبق بالأشكال إشكالُ ريبة
     وقد وصف لنا ابن الفارض تلك الرتبة السنية التي بلغها، والسعادة الروحية التي تمتع بها ، لذلك دعا الناس إلى سلوك طريقه واتباع منهاجه:
            منحتك علما إن ترد كشفه فردْ     ....      سبيلي واشرع في اتباع شريعتي
            ودونك بحرا خضتُه وقف الألى   .....        بساحله صونا لموضع حرمتي
            وفز بالعلى وافخر على ناسك علا   .....        بظاهـر أعمـال ونفس تزكت
            وته ساحبا بالسُحب أذيال عاشـق     ....      بوصل على أعلى المجـرة جُرّت
            وجُل في فنون الاتحاد ولا تحـد   ....       إلى فئـة في غيره العمرَ أفنـت
            فأنت بهذا المجد أجدر من أخي   ....   اجـتهاد مجد عن رجـاء وخيفة

أما مفهوم الاتحاد عند ابن الفارض فيتلخص في أن العاشق يسعى إلى المحبوب ليتحد به، وقد يتحقق له ذلك، لكن اتحاده به ليس اتحادا دائما بل مؤقت، وهذا ما يميز ابن الفارض من سواه كابن عربي، فالوحدة عنده وحدة شهود لا وحدة وجود. أي أن العاشق، عندما يدخل في حالة الغياب/ الذهول عن نفسه، يشعر أنه فني تماما واضمحل، كما يشعر أن المحبوب هو الذي بقي وحده ، لذلك يرى الحقائق بعين الله ( كما يراها الله )، وهذا معنى أبياته:

            أممتُ إمامي في الحقيقة فالورى             ورائي، وكانت حيث وجهـتُ وجهتـي
            ولا غرو أن صلى الإمام إليّ أنْ              ثوت في فؤادي وهي قبلة قبلتـي
            وكل الجهات الستّ نحوي توجهت            بما تـمّ من نُسك وحج وعُمـرة
            لها صلواتي بالمقام أقيمهـا                   وأشـهد فيها أنها لي صلّت
            كلانا مصل واحد ساجد إلـى            حقيقته بالجمع في كل سجدة
            وما كان لي صلّـى سوايَ ولم تكن            صلاتي لغيري في أدا كلّ ركعـة

 ويتابع الكلام فيقول:
          وقد جـاءني مني رسول عليه ما          عنتُّ عزيز بي حريص لرأفـة
         إليّ رسولا كنت مني مرسلا          وذاتي بآيـاتي عليّ اسـتدلت
          ولا فلـك إلا ومن نور باطني         به ملك يَهـدى الهدى بمشيئتي
                         
 وهو يعتمد على أحد الأحاديث النبوية؛ ليثبت لنا  الاتحاد
                 وجاء حديث في اتحادي ثابت           روايته في النقـل غير ضعيفة
                 و موضع تنبيه الإشارة ظاهر            بكنت له سمعا كنور الظهيرة      
( هـ ) القول بوحدة الأديان 
           أعلن ابن الفارض أن مذهبه إنما هو مذهب الحب، لذلك دعا إلى المحبة والتسـامح ، ودعا إلى احترام جميع الديانات، ونبذ العصبيات، و لعل ما نشهده ونسمعه اليوم في عالمنا المعاصر من الدعوات التي تطالب بالتقارب بين الديانات والانفتاح على كل الثقافات لا يختلف في جوهره عن دعوة ابن الفارض.
             وعن مذهبي في الحب ما لي مذهـب           وإن ملت يوما عنه فارقت ملّتي

كما طالب بالتحرر من العصبيات المذهبية لأنها تشوه حياة البشر، وتثير العداوة والبغضاء فيما بينهم،  ورأى أنه لا يجوز لأحد أن يحقد على من اعتنق غير دينه، لأن الديانات والمذاهب كلها ترجع إلى مصدر واحد، وتمتح من معين واحد، فلا يجوز أن نزدريها ونتجاهلها، وكيف يجوز لنا أن نحتقر الديانات الأخرى والله هو الذي أرادها؟ويبالغ ابن الفارض في ذلك حتى يرى أنه لا فرق بين مسلم أو مسيحي أو يهودي أو وثني، يقول في هذا:

وإن نار بالتنزيـل محراب مسجد               فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
وأسفار تـوراة الكليم لقومه               يناجي بها الأحبارُ في كل ليلـة
وإن خر للأحجار في البدّ عاكف               فلا وجه للإنكر بالعصبية
ويرى أن احتقار الديانات الأخرى أمر حرمه الله ونهى عنه. نعم هنالك ديانات انحرفت، وهناك عقائد فسدت أو ضلت أو أخطأت، ولكن ذلك لم يكن عن قصد، بل عن جهل :
وقد بلغ الإنذار عني من بغى                وقامت لي الأعذار في كل فرقـة
وما زاغت الأبصار من كل ملة               وما راغت الأفكار في كل نحلة
وإن عبد النارَ المجوسُ و ما انطفت                كما جاء في الأخبار من ألف حجة
فما قصدوا غيري وما كان قصدهم                سـواي، وإن لم يظهروا عقد نية
فلا عبث والخلق لم يخلقوا سـدى                وإن لم تكن أفعالهم بالسديدة
       
( و ) مفهوم القطبية:
القطب هو الإنسان الكامل، الذي يتمتع بالمعرفة التامة والعلم المطلق، وهو المدبر للكون، المصرّف لشؤون العالم، ويقصد به ابن الفارض " الحقيقة المحمدية" وهي أول ما صدر عن الذات الإلهية، غير أن الحقيقة المحمدية لا يراد بها هنا شخص الرسول محمد (ص)، وإنما يراد بها فكرة / مفهوم الإنسان الكامل، وهو سابق على وجود آدم، وعنه انبثق الوجود الروحي والمادي، وقد اتحد ابن الفارض بالحقيقة المحمدية من خلال اتحاده بالذات الإلهية، فوصـل إلى مرتبة العلم المطلق ، وقد عبر في التائية عن هذا ، فقال:
     فبي دارت الأفلاك فاعجب لقطبها الـ              محيط بها والقطبُ مركـز نقطة
   فأتلو علـوم العالميـن بلفظة              وأجلو عليّ العالميـن بلحظة
  وأسمع أصوات الدعاة وسائر الـ              لغات بوقـت دون مقدار لمحة
  وأستعرض الآفاق نحوي بخطرة              وأخترق السبع الطبـاق بخطوة
 فمن قال أو من طال أو صال إنما             يمتّ بإمدادي لـه برقيـقة
 وما سار فوق الماء أو طار في الهوا             أو اقتحـم النيـران إلا بهمـتي
   فعالمنـا منهم نبي ومن دعا             إلى الحق منا قـام بالرسـلية
  وعارفنـا في وقتنا الأحمديّ من             أولي العزم منهم آخـذ بالعزيمة
  وسـائرهم مثل النجوم من اقتدى             بأيهم منه اهتدى بالنصيحة
  وأهل تلقي الروح باسمي دعوا إلى            سبيلي وحجوا الملحدين بحجتي
   وكلهم عن سـبق معناي دائر             بدائرتي أو وارد من شـريعتي

والحق أن مفهوم " القطب الأعظم " عند الصوفية مأخوذ من فكرة " العقل المطلق " عند أفلاطون ، وتتلخص في أن الله كامل ، وهو خير محض ، والعالم ناقص وفيه شر كثير، ولا يليق بالله أن يتصل بالعالم مباشرة لأن العالم ناقص وحافل بكثير من الشرور، فلا بد إذا من وسيط يقوم بالربط بين الله والعالم. وقد تمثلت القطبية في الأنبياء والأولياء والراسخين في العلم ممن وصلوا إلى درجة الكمال من خلال الاتحاد بالذات الإلهية ، ويطلق الصوفيون على القطب الأعظم ألقابا أخرى مثل " قطب الوجود" و " الغوث الأعظم " و " واحد الزمان "، كما أنهم يُجمِعون على أنه ليس بعد القطبية إلا الألوهية.
                    
3 ـ شـعر ابن الفارض:
 لم يترك لنا ابن الفارض سوى ديوان صغير، لكنه  على صغره  يعد إنجازا كبيرا جدا لأنه قدم لنا ، في هذا الديوان، تراثا صوفيا من الدرجة الأولى لا يقل عن التراث الصوفي الفارسي، خصوصا في مجال الحب الإلهي. ففيه يتحدث ابن الفارض عن مراحل السلوك ، وعن نظريته في الاتحاد بالذات الإلهية ، فضلا عن كونه تحليلا وإيضاحا لتجربته الروحية.
 وقد بلغ من شهرة هذا الديوان واحتفاء الناس به أنه كان يلقن لتلاميذ المدارس فيحفظونه عن ظهر قلب، ويعلم للمنشدين فينشدونه على المآذن عند الأسحار وفي المناسبات الدينية.
 ثم إن الديوان يعطينا صورة واضحة عن رهافة إحساس الشاعر، وسمو عواطفه، وخصوبة خياله، وجمال صوره، وحسبنا دليلا على ذلك ما قاله ابن أبي حجلة في شعره:

               " هو من أرق الدواوين شعرا، وأنفسها درا، برا وبحرا
                وأسرعها إلى القلوب جرحا، وأكثرها على الطلول نوحا
                إذ هو صادر عن نفثة مصدور، وعاشق مهجور ، وقلب
                بحرّ النوى مكسور، والناس يلهجون بقوافيه، وما أودع
                من القوى فيه، وكثر حتى قلّ من لا رأى ديوانه أو طنّت
                بأذنه قصائده الطنانة".

 ومن الأمور الطريفة التي ينبغي لنا  هاهنا  أن نذكرها أن الأفكار والمفاهيم الصوفية التي اشتمل عليها ديوان ابن الفارض تلتقي إلى حد بعيد مع مفاهيم الشيخ الأكبر ابن عربي ، ولا عجب فقد جاء في الأخبار أن ابن عربي أرسل إلى ابن الفارض يستأذنه في وضع شرح للتائية الكبرى، فأجابه ابن الفارض: " كتابك الفتوحات المكية شرح لها " نفح الطيب  للمقري 1/ 100 طبعة القاهرة.
 ويبلغ عدد أبيات الديوان ألفا وثمانمئة وخمسين بيتا. وقد طبع عدة مرات أولها الطبعة الحجرية في مدينة حلب سنة 1841م. ثم ظهرت له طبعة ثانية في بيروت سنة (  ؟   ) ، وثالثة في  مصر سنة 1892م.
  وبوسعنا أن نقسم الديوان إلى قسمين:
 أ  القسـم الأول: يحتوي على شعره قبل ذهابه إلى الحجاز، وهو شعر يتسم  بالجفاف وضعف الخيال.
 ب  القسم الثاني :
ويحتوي على القصائد التي نظمها خـلال إقامته بالحجاز  وبعد عودته منه، وفي هذا القسم تتجلى بوضوح مواهب ابن  الفارض الفنية وقدراته التعبيرية، إذ نجد شعرا عميقا ناضجا - وتمكنا من استخدام الرمز.
 وللديوان عدة شروح ، أهمها :
      أ  شرح البوريني ( المتوفى سنة 1615م)، ويقوم في قسمه الأول على التحليل   اللغوي والبلاغي، وفي قسمه الثاني على شرح المعاني الصوفية.
  ومن الجدير بالذكر أن البوريني لم يقدم شرحا للتائية الكبرى.
     ب  شرح النابلسي ( المتوفى سنة 1731م ) ، وهو تعليق على شـرح البوريني  وإبراز للمعاني الصوفية.
  ومن الجدير بالذكر أن ديوان ابن الفارض لقي في الغرب أيضا كثيرا من العناية، فترجم إلى لغات عدة كاللاتينية والإيطالية والفرنسية والألمانية ، وكتبت حوله دراسات مستفيضة.

   وقد حظيت " التائية الكبرى"و" القصيدة الميمية" من دون سائر قصائد الديوان بالاهتمام الشديد من قبل الدارسين لما اشتملتا عليه من الرموز والاصطلاحات الصوفية. 
 ولا بد لنا قبل تقديم بعض النماذج من ديوان ابن الفارض أن نشير إلى أبرز السمات الفنية التي تطغى على شعره:

         1  البراعة في اختيار الألفاظ.
         2  الدقة في التعبير عن المعاني.
         3  كثرة الصناعة البديعية.
         4  استخدام التصغير بكثرة.
         5  الإكثار من ذكر الأماكن المقدسة.
         6  التأثر بالقرآن الكريم.
         7  استخدام المصطلحات الصوفية
         8  روعة التصوير

وقصيدة :
ما بين معتـرك الأحداق والمهج             أنا القتيل بلا إثم ولا حرج
أصبحت فيك كما أمسيتُ مكتئبا              ولم أقل جزعا: يا أزمة انفرجـي
عذب بما شئت غيرَ البعد عنك تجـد             أوفى محب بما يرضيـك مبتهج
وخذ بقيـة ما أبقيـت من رمق             لا خير في الحـب إن أبقى على المهج
من لي بإتلاف روحي في هوى رشأ             حلو الشـمائل بالأرواح ممتزج
من مات فيه غرامـا عاش مرتقيا             ما بين أهـل الهوى في أرفع الدرج
 علق المستشرق الإنكليزي نيكلسون على الأبيات بقوله: 

كان ( ابن الفارض ) هنا قريبا من الفكرة الأوربية الحديثة عما ينبغي أن يكون عليه الشعر ".
ومن النماذج الرائعة لشعر ابن الفارض قصيدته اليائية:

  سائق الأظعان يطوي البيد طي            منعما عرج على كثبـان طي
وتلطف واجر ذكري عندهـم            علهم أن ينظـروا عطفا عليّ
قل تركتُ الصب فيكم شبحـا            ما له مما بـراه الشـوق في
كهـلال الشك لولا أنه            أنَّ عينـي عينـه لم تتأي
في هواكـم رمضـان عمـره            ينقضي ما بين إحيـاء وطي
نصبا أكسـبني الشوق كما             تكسـب الأفعـال نصبا لام كي
هل سمعتم أو رأيتم أسدا            صاده لحظ مهـاة أو ظُبـي ؟
وضع الآسي بصدري كفـه            قال: ما لي حيلة في ذا الهوي


وهذه القصيدة كانت سبب إعجاب الملك الكامل به .
ولنستمع إليه يتحدث عن الحب الإلهي في إحدى قصائده، فيقول معرفا إياه:

هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل         فما اختاره مضنى به وله عقل
وعش خاليا؛ فالحب راحته عنـا          وأوله سقم، وآخره قتـل
نصحتك علما بالهوى، والذي أرى          مخالفتي؛ فاختر لنفسك ما يحلو
فإن شئتَ أن تحيا سعيدا فمت به           شـهيدا، وإلا فالغرامُ له أهل
فمن لم يمت في حبه لم يعش به          ودون اجتناء الشهد ما جنتِ النحل    

ومن الدرر الخالدة التي نظمها قصيدته المشهورة:
قلبي يحدثنـي بأنـك متلفي         روحي فداك عرفتَ أم لم تعرفِ
ما لي سوى روحي،  وباذل نفسه         في حب من يهواه ليس بمسرف
قل للعذول: أطلت لومـي طامعا         أنّ الملام عن الهـوى مسـتوقفي
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى          فإذا عشقتَ فبعد ذلك عنف
برح الخفاء بحب من لو في الدجا         سفر اللثـام لقلتُ: يا بدرُ اختف
لو قال تيها: قف على جمر الغضا         لوقفت ممتثـلا ولم أتوقف
أو كان من يرضى بخـدي موطئا         لوضعتُه أرضـا، ولم أسـتنكف
لو أسمعوا يعقوبَ ذكر ملاحـة        في وجهه نسي الجمال اليوسفي



سلطان العاشقين عمر بن عليّ الملقب ابن الفارض



عمر بن علي بن مرشد بن علي الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، أبو حفص وأبو القاسم، شرف الدين ابن الفارض. 

أشعر المتصوفين، يلقب بسلطان العاشقين، في شعره فلسفة تتصل بما يسمى "وحدة الوجود" قدم أبوه من حماة "بسورية" إلى مصر فسكنها، وصار يثبت الفروض للنساء على الرجال بين يدي الحكام، ثم ولي نيابة الحكم فغلب عليه التلقيب بالفارض. 

وولد له (عمر) فنشأ بمصر في بيت علم وورع.

 ولما شبّ اشتغل بفقه الشافعية وأخذ الحديث عن ابن عساكر، وأخذ عنه الحافظ المنذري وغيره. 

حبب إليه سلوك طريق الصوفية، فتزهد وتجرد، وجعل يأوي إلى المساجد المهجورة في خرابات القرافة (بالقاهرة) وأطراف جبل المقطم. 

وذهب إلى مكة في غير أشهر الحج، فكان يصلي بالحرم، ويكثر العزلة في واد بعيد عن مكة، وفي تلك الحال نظم أكثر شعره. 

وعاد إلى مصر بعد خمسة عشر عاماً، فأقام بقاعة الخطابة بالأزهر، وقصده الناس بالزيارة، حتى أن الملك الكامل كان ينزل لزيارته. 

كان جميلاً نبيلا، حسن الهيئة والملبس، حسن الصحبة والعشرة، رقيق الطبع، فصيح العبارة، سلس القياد، سخياً جواداً. 

وكان أيام ارتفاع النيل يتردد إلى مسجد في "الروضة"  يعرف بالمشتهى، ويحب مشاهدة البحر في المساء. وكان يعشق مطلق الجمال.
ونقل المناوي عن القوصي أنّه كانت للشيخ جوارٍ بالبهنسا، يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشّبّابة وهو يرقص ويتواجد، قال المناوى: "ولكل قوم مشرب، ولكل مطلب، وليس سماع الفساق كسماع سلطان العشاق" ثم قال: (واُختُلف في شأنه، كشأن ابن عربي، والعفيف التلمساني، والقونوي، وابن هود، وابن سبعين، وتلميذه الششتري، وابن مظفر، والصفار؛ من الكفر إلى القطبانية، وكثرت التصانيف من الفريقين في هذه القضية.
 وقال الذهبي: كان سيد شعراء عصره وشيخ "الاتحادية" وما ثم إلا زيّ الصوفية وإشارات مجملة، وتحت الزيّ والعبارة فلسفة وأفاعي !
(كذا)

 وأورد ابن حجر أبياتا صرّح فيها ابن الفارض بالاتحاد، كقوله:وفي موقفي لا بل إليَّ توجهي،ولكن صلاتي لي ومنّي كعبتي
له (ديوان شعر - ط) جمعه سبطه عليّ. وشرحه كثيرون منهم حسنُ البوريني وعبد الغني النابلسي. 

وشرحاهما مطبوعان. ولمحمد مصطفى حلمي (ابن الفارض والحب الإلهي - ط) وليوحنا قمير (ابن الفارض - ط).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع الشيخ : عثمان حاج مصطفى

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

موسى ابن نصير قائد عسكري عربي في عصر الدولة الأموية. شارك موسى في فتح قبرص في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان