مقامات المتقين ونور المريدين
المحبة من أعلى مقامات العارفين، وهي إيثارٌ من الله تعالى لعباده المخلصين، ومعها نهاية الفضل العظيم. قال الله جلت قدرته: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴿٥٤﴾. ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴿٢١﴾. وهذا الخبر متصلٌ بالابتداء في المعنى؛ لأن الله تعالى وصف المؤمنين المحبين بفضله عليهم، وما اعترض بينهما من الكلام فهو نعتُ المحبوبين.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كان اللهُ ليعذِّب حبيبَهُ بالنّارِ"،وقال الله مصداق قول نبيه ،ردًا على مَن ادّعى محبته، واحتجاجًا عليهم: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴿١٨﴾.
وقال زيد بن أسلم: "إنّ الله ليُحبُّ العبدَ حتى يبلغَ من حُبه له أن يقول: اصنعْ ما شِئتَ فقد غفرتُ لك".
وروينا عن إسماعيل بن أبي زياد عن أبان عن أنس قال: قال رسول الله : "إذا أحبَّ اللهُ عبدًا لم يضرّه ذنبٌ، والتّائِبُ من الذنب كمن لا ذنب له، ثم تلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴿٢٢٢﴾.
وقد اشترط اللهُ للمحبة غفران الذنوب بقوله تعالى: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴿٣١﴾. فكلُّ مؤمنٍ بالله فهو محبٌّ لله، ولكن محبته على قدر إيمانه، وكشف مشاهدته، وتجلِّي المحبوب له على وصفٍ من أوصافه، دليل ذلك استجابتُهم له بالتوحيد، والتزامُ أمره، وتسليم حكمه. ثم تفاوتُهُم في مشاهدات التوحيد، وفي دوام الالتزام للأوامر، وفي تسليم الأحكام، فليس ذلك يكون إلا عن محبة. وإن تفاوت المحبون على حسب أقسامهم من المحبوب، وليس يصغر عن المحبة صغير، كما لا يصغر عن المعرفة من عرف، ولا يكبر عن التوبة كبيرٌ، ولو كان على كلِّ العلوم قد أُوقف؛ لأن الله تعالى وصف المؤمنين بشدِّة الحُبِّ له فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴿١٦٥﴾﴾. وفي قوله ﴿أَشَدُّ﴿٥﴾﴾ دليل على تفاوتهم في المحبة؛ لأنّ المعنى أشدُّ فأشدُّ، ولم يقل: شديدُ الحبِّ لله. فأشبه هذا الخطاب قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴿١٣﴾. فدل على تفاوتهم في الإكرام على قدر تفاضُلهم في التقوى، ولم يقل: إن الكرام المتقون.
وروينا عن رسول الله : "إنّ اللهَ يُعطي الدنيا من يُحبّ، ومن لا يحب، ولا يُعطي الإيمان إلاّ من يحب".
فالمؤمنون متزايدون في الحبِّ لله عن تزايدهم في المعرفة به، والمشاهدة له. وقد جعل رسول الله الحب لله من شرط الإيمان بالله من غير خبر عنه. وقال أبو رُزَين العقيلي: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: "أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليك مما سواهما". وفي حديث: "لا يؤمنُ أحدكُم حتى يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما". وفي خبرٍ آخر، أشد توكيدًا وأبلغ من هذين قوله: "واللهِ، لا يؤمن العبدُ حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين". وفي خبر آخر: "ومن نفسك". وقد أمر بالمحبة لله فيما شرعه من الأحكام، فقال: "أحبُّوا اللهَ لما أَسْدَى إليكم من نِعمِه، وأحبوني لحب الله"، فدل ذلك على فَرْض الحبِّ لله، وإن تفاضل المؤمنون في نهايات فضائله. ومن أفضل ما أسدى إلينا من نعمة المعرفةُ به، فأفضلُ الحبِّ له ما كان عن المشاهدة.
والمحبون لله على مراتب من المحبة؛ بعضها أعلى من بعضٍ، فأشدُّهم حبًا لله أحسنهم تخلُّقًا بأخلاقه، مثلُ العِلم، والحلم، والعفو، وحسن الخلق، والستر على الخلق، وأعرفهم بمعاني صفاته، وأتركهم منازعة له في معاني الصفات، كي لا يشركوه فيها، مثل: الكبر، والحمد، وحبّ المدح، وحبّ الغنى، والعز، وطلب الذكر، ثم أشدهم حبًا لرسوله، إذ كان حبيب الحبيب، وأتبعهم لآثاره، وأشبههم هديًا بشمائله.
وقد روي أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني أحبك، فقال: "استعد للفقر". فقال: إنّي أحب الله، فقال: "استعد للبلاء". والفرق بينهما أن البلاء من أخلاق المبلى، وهو الله تعالى المبتلي. فلما ذكر محبته أخبره بالبلاء؛ ليصبر على أخلاقه، كما قال تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴿٧﴾﴾، فدل على أحكامه وبلائه. والفقر من أوصاف رسول الله . فلما ذكر محبته دل على اتباع أوصافه ليقتفي آثاره؛ لقوله : "أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحْشُرني في جُملة المساكين".
ومن علامة المحبة كثرة ذكر الحبيب، وهو دليلُ محبة المولى لعبده، وهو من أفضل مِنَنه على خلقه. وفي الخبر: "إن لله في كل يوم صدقةً يَمُنُّ بها على خلقه، وما تصدَّق على عبدٍ بصدقةٍ أفضل من أن يُلهِمَهُ ذِكرَهُ".
وفي حديث سفيان عن مالك بن معول قيل: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: "اجتنابُ المحارم، ولا يزال فُوك رَطبًا من ذِكْر الله".
وقد أمر النبي بكثرة الذكر لله، كما أمر بمحبة الله؛ لأن الذكر مقتضى المحبة، فقال: "أكثرْ من ذكر اللهِ، حتى يقول الناسُ إنّك مجنون". وقد روينا: "أكثروا من ذكر الله، حتى يقول المنافقونُ إنكم مراؤون".
وفي حديث أبي سلمة المدني عن أبيه عن جده: أتانا رسول الله ذات يوم إلى مسجد قباء، فذكر حديثًا فيه طول، قال في آخره: "مَنْ تواضع لله رفعه، ومن تكبَّر وضعه، ومن أكثر ذكر الله أحبه الله".
وقد أخبر أن الذاكرين هم السابقون المفردون، ورفعهم إلى مقام النبوة في وَضْع الوِزْر ورَفْع الذكر، إذ كان الذكر موجب الحب، في قوله: "سيروا سبق المفردون. قيل: مَن المفردون؟ قال: المستهترون بذكر الله، وضع الذكر عنهم أوزارهم، يَرِدُون القيامة خفاقًا".
ومن أعلام المحبة: حبُّ لقاءِ الحبيب على العيان، والكشف في دار السلام ومحل القُرب، وهو الاشتياقُ إلى الموت؛ لأنه مفتاح اللقاء، وباب الدخول إلى المعاينة. وفي الحديث: "من أحب لقاءً اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءه".
وقال حذيفة عند الموت: حبيبٌ جاء على فاقةٍ، لا أفلح من ندم. وقال بعض السلف: ما من خصلة أحب إلى الله تكون في العبد بعد حبِّ لقائه من كثرة السجود. فقدم حبَّ لقاء الله.
وقد شرط الله لحقيقة الصدق القتلَ في سبيله، وأخبر أنه يحب قتل محبوبه في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴿٤﴾﴾. بعد قوله تقريرًا لهم: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴿٢﴾﴾ حيث قالوا: إنا نحب الله، فجعل القتل محنة محبته وعلامة أخذ مال محبوبه ونفسه، إذ يقول تعالى: ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴿١١١﴾﴾.
وفي وصية أبي بكرٍ لعمر رضي الله عنهما: "الحقُّ ثقيلٌ؛ وهو مع ثقله مَرِئٌ، والباطلُ حفيفٌ؛ وهو مع خفته وبئ. فإن حفظت وصيتي، لم يكن غائبٌ أحبَّ إليك من الموت، وهو مُدركك، وإن ضيَّعتَ وصيتي، لم يكن غائبٌ أبغض إليك من الموت، ولن تُعْجِزَه".
وكان الثوري وبشر بن الحارث يقولان: لا يكره الموت إلا مريب. وهو كما قالا؛ لأن الحبيب على كل حالٍ لا يكرهُ لقاءَ الحبيب.
وفي الخبر المشهور؛ أنّ إبراهيم قال لملك الموت، إذ جاءه لقبضه: هل رأيت خَليلًا يُميتُ خَليله؟! فأوحى الله إليه: فهل رأيت مُحِبًّا يكره لقاء حبيبه؟! فقال: يا ملك الموت، الآن فاقبض.
وهذا لا يجدُهُ إلا عبدٌ يحب الله بكلِّ قلبه، عندها يشتاق إليه مولاه، فينزعج القلب لشوق الغَيْبِ، فيحبّ لقاءه.
وقال البويطي لبعض الزهاد: أتحبُّ الموتَ؟ فكأنه توقف، فقال: لو كنتَ صادقًا لأحببته، ثم نَزعَ بهذه الآية: ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴿٩٤﴾﴾. فقال الرّجل: فقد قال النبي : "لا يتمنى أحدكُمُ الموت"، فقال: إنما قال: "لضُرٍّ نزل به".
وهكذا كما قال البويطي؛ لأن التائب إذا صدقت توبته طلب الموتَ، خشية الحَوَلِ عن حاله، فإن كان كذلك، كان هو التائب الذي هو حبيب الله. إلاّ أنّ مقام الرضا أعلى من مقام تمني الموت، فلذلك قال الرسول: "لا يتمنى الموت للضُّرِّ ينزل به" أي: رضاه بقضائه أفضل من تمني لقائه، ليُقبض على مقام الرضا.
وروي أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، لما زوَّج أخته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة من سالم مولاه، عاتبته قريش في ذلك، وقالوا: أنكحتَ عقيلةً من عقائل قريش بمولى؟! فقال: واللهِ لقد أنكحتُه إياها، وإني لأعلم أنه خير منها. فكان قولُه أشد عليهم، قالوا: وكيف؟ وهي أختك، وهو مولاك! فقال: سمعت رسول الله يقول: "من أراد أن ينظر إلى رجلٍ يحبُّ الله بكلِّ قلبه فلينظر إلى سالم".
ففيه دليله: أن من المؤمنين من يحب الله ببعض قلبه، فيؤثره بعض الإيثار، ويوجد فيه محبةُ الأغيار. ومنهم من يحبه بكل قلبه، فيؤثره على ما سواه، فهذا عابده ومألوهه الذي لا معبود له ولا إله إلا إياه. وفيه دليلٌ على أنهم على مقامات في المحبة، عن معاني مشاهدات الصفات، ما بين البعض في القلوب والكلية.
وقد كان نعيمان يُؤتى به رسولَ الله ، فيجده في معصية يرتكبها، إلى أن أُتي به يومًا، فحدَّه، فلعنه رجلٌ، وقال: ما أكثر ما يُؤتى به رسول الله ! فقال رسول الله : "لا تفعل، فإنه يحب الله ورسوله". فلم يخرجه من المحبة مع المخالفة.
وقد قال بعض العارفين: إذا كان الإيمانُ في ظاهر القلب -يعني على الفؤاد- كان المؤمن يحب الله حبًا متوسطًا، فإذا دخل الإيمان باطن القلب، فكان في سويدائه، أحبه الحبَّ البالغ.
وعلامة ذلك أن ينظر؛ فإن كان يُؤثر الله على جميع هواه، ويغلِّب محبته على هوى العبد، حتى تصير محبة الله هي محبة العبد من كل شيء، فهو محبٌّ لله حقًا، كما أنه مؤمن به حقًا، عن مشاهدة اليقين الذي يغلِّب رؤيته على رؤية الخَلْقِ، فيشهده في كلِّ شيءٍ، ويكون واجدًا به دون كل شيءٍ، إذ قد تجلّى لمن أيقن بكل شيء.
وإن رأيتَ قلبك دون ذلك، فلك من ذوق محبة سواه بقدر ما لك من شَوْب اليقين مُمتزجًا بشهادة الخلق والوجد بهم، دون الخالق، وذلك أيضًا عن خالص شهادة التوحيد، ومن المحبة بقدر ذلك له في مقامات الخالصين، أو مشُوبًا بالشرك الخفي بالنظر إلى الأواسط والثواني في إخلاص عموم المخلصين.
فأدل علامات المحبة الإيثارُ للمحبوب على ذخائر القلوب؛ ولذلك وصف اللهُ المحبين بالإيثار، ووصفه العارفون بذلك، فقال تعالى في وصفه المحبين: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً﴿٩﴾﴾، ثم قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴿٩﴾﴾. وقال في وصفه: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا﴿٩١﴾﴾.
وقال بعض العلماء: إن ظاهر القلب محلُّ الإسلام، وإن باطنه مكان الإيمان. فمن ههنا تفاوت المحبون في المحبة؛ لفضل الإيمان على الإسلام، وفضل الباطن على الظاهر. وفرَّق بعض علمائنا البصريين بين القلب والفؤاد، فقال: الفؤاد مقدم القلب وما استدق منه، والقلب أصله وما اتسع منه. وقال مرة: في القلب تجويفان، فالتجويف الظاهر هو الفؤاد وهو مكان العقل، والتجويف الباطن هو القلب وفيه السمع والبصر، وعنه يكون الفهم والمشاهدة، وهو محلُّ الإيمان. وقد قال الله: ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴿٢٢﴾﴾. وقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴿٣٧﴾﴾.
فمحبة الإسلام مفترضة على الخلق، وهي متصلة بأداء الفرائض واجتناب المحارم؛ طاعةً لله ومحبةً له. فأما محبةُ المقربين، فعن مشاهدة معاني الصفات، وبعد معرفة أخلاق الذات، فعبادةُ أولئك بالعادات واللجاجات، وعبادة المحبين للإجلال والحبّ والتعظيم، وهي مخصوصة لمخصوصين. والأصلُ في هذا أن المحبة، إذا كانت عن المعرفة، وأنّ المعرفة عمومٌ وخصوصٌ؛ فلخُصوص العارفين خاصيَّة المحبة، ولعُمومهم عمومُ المحبة.
ويروى في الأخبار السالفة: أن زليخا لما آمنت، وتزوَّج بها يوسفُ ، انفردت عنه، وتخلت للعبادة وانقطعت، فكان يدعوها إلى فراشه نهارًا، فتُدافعه إلى الليل، فإذا دعاها ليلًا سوَّفتْهُ نهارًا. فقالت: يا يوسف، إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه، فأما إذ عرفته، فما أبقت محبته محبةً لسواه، وما أريد به بدلًا. حتى قال لها: فإن الله أمرني بذلك، وأخبرني أنّه مخرج منكِ ولدين، وجاعلهما نبيين. فقالت: أما إذا كان اللهُ أمرك بذلك، وجعلني طريقًا إليه، فطاعةً لأمر الله، فعندها سكنت إليه.
وقال بعض العلماء بالله: إذا تمَّ التوحيدُ تمت المحبة، وإذا جاءت المحبة تمَّ التوكُّل، فتمَّ إيمانه، وخلُص فرضه، وسُمِّي ذلك يقينًا.
وقال الفضيل بنُ عياض في فرض المحبة: إذا قيل لك: تحب الله؟ فاسكت، فإن قلت: لا، كفرت، وإن قلت: نعم، فليس وصفُك وصف المحبين، فاحذر المقت.
وقال بعض علمائنا: ليس في الجنة نعيم أعلى من نعيم أهل المعرفة والمحبة، ولا في جهنم عذاب أشد من عذاب من ادعى المعرفة والمحبة، ولم يتحقق بشيء من ذلك. وقال عالمٌ فوقه: كلُّ أهل المقامات يُرجى أن يُعفى عنهم، ويُسمح لهم، إلا من ادعى المعرفة والمحبة، فإنهم يُطالَبون بكل شعرةٍ مطالبةً، وبكل حركة وسكونٍ، وكلِّ نظرةٍ وخطرة لله، وفي الله، ومع الله.
واعلم أن المحبة من الله لعبده ليست كمحبة الخلق، إذ محبة الخلق تكون حادثة لأحد سبع معانٍ: لطبع، أو لجنس، أو لنفع، أو لوصف، أو لهوًى، أو لرحمٍ ماسَّة، أو لتقرُّب بذلك إلى الله. فهذه حدود الشيء الذي يشبهه الشيء، والله يتعالى عن جميع ذلك، لا يوصف بشيء منه، إذ ليس كمثله شيء في كل شيء، ولأن هذه أسباب محدثة في خلق، لمعانٍ حادثة ومتولدة من المحبين، لأسباب عليهم داخلة. وقد تتغير لتغيُّر الأوقات، وتنقلب لانقلاب الأوصاف. ومحبة الله سابقة للأسباب عن كلمته الحسنى، قديمةٌ قبل الحادثات عن عنايته العليا، لا تتغير أبدًا، ولا تنقلب لأجل ما بدا؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴿١٠١﴾﴾، يعني: الكلمة الحسنى، وقيل: المنزلة الحسنى، فلا يجوز أن يسبقها سابق منهم، بل قد سبقت كل سابقةٍ تكون، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴿٥١﴾﴾. وكذلك قال: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴿٧٨﴾﴾.وقال تعالى: ﴿لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴿٢﴾﴾. وقال تعالى في آخر آياتهم: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴿٥٥﴾﴾.
ولا يصلح أن يكون قبل قَدَمه الصدق منهم قَدَم، كما لا يصلح أن يكون قبل علمه بهم منهم عملٌ، لأنّ علمه سبق المعلومَ، ومحبته لأولياته سبقت محبتهم إياه، ومعاملتهم له. ثم هي مع ذلك خاصية حكمٍ من أحكامه، ومزيدٌ من فضل أقسامه، وتتمةٌ من سابغِ إنعامه، خالصةٌ لمخلصين، ومؤثرة لمؤثرين، بقَدَم صدقٍ سابق لخالصين، يؤول إلى مقعد صدق عند صادق لسابقين، ليس لذلك سببٌ معقول، ولا لأجل عمل معمول، بل يجري مجرى سر القدر، ولطف القادر، وإفشاءُ سرِّ القدر كفرٌ، ولا يعلمه إلا نبي، أو صدِّق ولا يطلع عليه مَنْ يُظهره، وما ظهر في الأخبار من الأسباب، فإنما هو طريق الأحباب، ومقامات أهل القُرب من أُولي الألباب، فإنما هي تبصرة وذكرى للمنيبين، وتزودًا وبلاغًا للعابدين. وإنما تستبين المحبةُ وتظهرُ للعبد بحسن توفيقه، وكلاءة عصمته، ولطائف تعليمه من غرائب علمه، وخفايا لطفه، في سرعة ردهم إليه في كل شيء، ووقوفهم عنده، ونظرهم إليه دون كل شيء، وقُربه منهم أقرب من كل شيء، وكثرة استعمالهم لحسن مرضاته، وكشف اطلاعهم على معاني صفاته، ولطيف تعريفه لهم مكنونَ أسراره، وفتوحَه لأفكارهم من بواطن إنعامه، واستخراجه منهم خالص شكره وحقيقة ذكره.
فهذه طرقات المحبين له عن كشوف اطلاعه لهم من عين اليقين. يقال: إذا أحب الله عبدًا استخدامه؛ فإذا استخدمه اقتطعه. وقيل: إذا أحب اللهُ عبدًا نظر إليه، وإذا نظر اللهُ إلى عبدٍ لم يعذبه. وعلامةُ من نظر إليه ألا ينظر إلى سواه، ولا ينظر إلا به عنه، وهذه نظرة خاصة عن محبة مخصوصة. وروى بعض هذا عن رسول الله .
وروينا في الخبر: "إذا أحب الله عبدًا ابتلاه، وإذا أحبه الحبَّ البالغ اقتناه. قيل: وما اقتناؤه؟ قيل: لم يترك له أهلًا ولا مالًا". هذا لئلا يكون أهله عنده فيميل إليهم، وينقلب إليهم مسرورًا، ولئلا يميل قلبه إلى ماله، فينقلب على وجهه محسورًا. فالمحبة مزيد إيثار من المحب الأول –وهو الله– لعبده، وأحكامٌ تظهر من المحبوب وهو العبد، في حسن معاملته، أو حقيقة علم يهبه له. كما قال أخوة يوسف حين عرفوا فضل محبة الله ليوسف عليهم: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا﴿٩١﴾﴾، ثم قالوا: ﴿وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴿٩١﴾﴾، فذكروا سالف خطاياهم وأنه آثره بما لم يؤثرهم به. فقال الله تعالى في وصفه إياه: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴿٥٥﴾﴾. وقال في موهبته له: ﴿آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴿٢٢﴾﴾. فذكر ما سلف من إحسانه لما آثره به.
وقالت الرسل: ﴿إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴿١١﴾﴾. وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴿٧٥﴾﴾.
وفي الخبر: "إذا أحب اللهُ عبدًا ابتلاه –يعني اختبره– فإن صبر اجتباهُ، وإن رضي اصطفاهُ".
وقال بعض العلماء: إذا رأيتَك تحبّه. ورأيتَهُ يَبتليك، فاعلم أنه يريد أن يصافيَك. وقال بعض المريدين لأستاذه: قد طُولعتُ بشيءٍ من المحبة. فقال: يا بني، هل ابتلاك بمحبوب سواه فآثرتَ عليه إياه؟ فقال: لا. فقال: فلا تطمع في المحبة، فإنه لا يعطيها عبدًا حتى يبلوَه.
ومن دلائل المحبة: حبُّ كلام الحبيب، وتكريرهُ على الأسماع والقلوب. وحدثونا عن بعض المريدين قال: كنت وجدتُ حلاوة المناجاة في شَرَهِ الإرادة، فأدمنتُ على قراءة القرآن ليلًا ونهارًا، ثم لحقتني فترةٌ، فانقطعت عن التّلاوة. قال: فسمعت قائلًا يقول لي في المنام: إن كنتَ تزعم أنك تحبني، فلِمَ جفوتَ كتابي؟ أمَا ترى ما فيه من لطيف عتابي؟ قال: فانتبهتُ، وقد أُشرب في قلبي محبةُ القرآن، فعاودت إلى حالي الأول.
وقد قال بعض العارفين: لا يكون العبدُ مريدًا حتى يجد في القرآن كل ما يريد. وقد كان ابن مسعود يقول: لا على أحدكم أن يسأل على نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله.
ومن علامة حبِّ القرآن حبُّ أهل القرآن، وكثرةُ تلاوته آناء الليل وأطراف النهار. وقال سهل بن عبد الله: علامةُ حب الله حبُّ القرآن، وعلامة حبِّ القرآن وحبِّ الله حبُّ النبي ، وعلامة حب النبي حبُّ السنّة، وعلامة حب السنة حبُّ الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زادًا وبُلغةً إلى الآخرة. وقال تعالى وهو أحسن القائلين: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴿٥٤﴾﴾؛ أي لا يرتدون؛ لأنهم أبدالٌ من المرتدين، ولا ينبغي أن يكونوا أمثالهم. كما قال: ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴿٣٨﴾﴾.
ومن علامة محبة المولى تقديم أمور الآخرة في كُلِّ ما يقرِّب من الحبيب على أمور الدنيا من كل ما تهوى النفس، والمبادرة بأوامر المحبوب ونوادبه قبل عاجل حظوظ النفس، ثم إيثار محبته على هواك، وإتباعُ رسوله فيما أمرك به ونهاك، والذلُّ لأوليائه من العلماء به والعاملين، ثم التعزز على أبناء الدنيا الموصوفين بها المؤثرين لها. كما قيل لابن المبارك: ما التواضع؟ فقال: التكبُّر على المتكبرين. وقال الفتح بن شحرف العابد: رأيت عليَّ بن أبي طالب في النوم، فقلت: أنبئني بحرف خير، فقال: ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء؛ رجاء ثواب الله، وأحسن من ذلك تيهُ الفقراء على الأغنياء ثقةً بالله.
وإنما وصف اللهُ بالذلِّ للأولياء، والعزِّ على الأعداء؛ لأنّه يصف من يحبه بأحسن الأوصاف. فالذلُّ للحبيب حسنٌ، والعزُّ على العدو حسن، ومَثَلُ الذل للحبيب في حسنه مَثَلُ الذلّ للعزيز، ومَثَلُ العز على العدو في حسنه مثل العز على الذليل. فلذلك وصف الله محبَّه بالذل للولي وبالعز على العدو. وقُبحُ العزِّ على الحبيب كقبح الذل للعدو. والله لا يصف أولياءه بقبيح.
ومن علامات الحب: المجاهدة في طريق المحبوب بالمال والنفس؛ ليقرُب منه، ويبلغ مرضاته، ويقطع كل قاطع يقطعه عنه بالمسارعة إلى قُربه. كما قال تعالى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴿٨٤﴾﴾. وكما أمر حبيبه في قوله: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴿٨﴾﴾. فيه معنيان، أحدهما: انقطع إليه انقطاعًا عما سواه بالإخلاص له، والأثرة على غيره. والأخرى: اقطع كلَّ ما قطعك عنه إليه، أي اقطع كل قاطع حتى تصل إليه. فهذان من أدل الدليل على المحبة. ثم أن لا يخاف في حبه لومة لائم من الخلق لامهُ على محبته، أو على السلوك إليه بشق النفس، وهجران الدار، ورفض المال، ولا يرجو في محبته مَدْحَ مادح، ولا يرغب في حسن ثناء العباد بإيثارك له على الأهل والمال والدار. فبذلك فَضُلَ المجاهدون والأنصار الذين تبوئوا الدار والإيمان ابتغاء الفضل والرضوان، أولئك لهم عقبى الدار. ثم وجود الأنس في الوحدة، والرَّوح بالخلوة، ولطف التملق في المناجاة، والتنعُّم بكلامه، والرضا بُمرِّ أحكامه، ووَجد حلاوة الخدمة، ورؤية البلاء منه نعمة، كما قال قائلهم.
تعليقات