الأحداث التاريخية وتاريخ الدولة العلية العثمانية
كتاب ألفه السياسي المصري محمد فريد بك المحامي، وقد أعادت نشره دار النفائس في لبنان عام ١٩٨٠، وهو مرجعي المفضل عند البحث في تاريخ الدولة العثمانية، فمؤلفه محمد فريد بك ومحققه الدكتور إحسان حقي كلاهما تشهد لهما أعمالهما وسيرتهما بأنهما كانا عثمانيي الهوى. والكتاب صدر على تقدير المحقق عام ١٩١٢، أي في أخريات عهد الدولة العثمانية.
وعلى هذا لن نجد من هو أكثر إنصافاً للعثمانيين من محمد فريد، وخاصة مع قرب عهد تأليف الكتاب من الأحداث، تاريخ الدولة العثمانية إما كتبه علمانيون أتراك أو قوميون عرب وربما أسرفوا في التركيز على أخطاء العثمانيين، و كردة فعل على ذلك فحين جاء الإسلاميون ردوا بإعادة كتابة تاريخ العثمانيين، فجعلوهم كالخلفاء الراشدين، وهذا أيضاً بهتان للحق يعادل بهتان العلمانيين.
في الفصل الثامن من الكتاب يتناول حياة السلطان بايزيد الثاني والد السلطان سليم، فيقول إن حكم بايزيد قد تكدر في سنيه الأخيرة باقتتال أولاده وإضرامهم نار الحروب الداخلية. للسلطان ثمانية أولاد ذكور توفي منهم خمسة صغار، الباقون الثلاثة هم: كركود وكان مولعاً بالعلوم والآداب ومجالسة العلماء ولذا كان الجيش يمقته بسبب انصرافه عن الحروب، ثانيهم أحمد كان محبوباً لدى الأعيان والأمراء وكان علي باشا كبير الوزراء مخلصاً له. أما ثالثهم سليم فكان محباً للحرب، ولذا كان المفضل لدى الإنكشارية والجنود.
ونظراً لاختلاف مشاربهم فقد باعد بينهم أبوهم، فعين كركود والياً على إحدى الولايات البعيدة، وعين أحمد والياً على أماسيا، أما سليم فولاه طرابزون، كما وعين سليمان بن سليم -الذي أصبح سلطاناً باسم القانوني فيما بعد- والياً على كافا من بلاد القرم. لم يقبل سليم بهذا وطلب من أبيه أن يعينه والياً في إحدى الولايات الأوروبية.
رفض الوالد فأعلن سليم العصيان. وكاد يحدث اقتتال لكن الوالد تراجع فعين ابنه سليم والياً على سمندريه ووديين في بلاد البلغار. رفض الابنان .أما سليم فقد سار إلى أدرنه وعين نفسه والياً عليها، بينما عين كركود نفسه والياً على صاروخان.
اضطر الأب إلى إرسال جيش لتأديب ابنيه. وقد هزمت قوات السلطان جيوش ولديه. إلا أن الإنكشارية ضغطوا على الأب للعفو عن سليم والتنازل له عن الحكم وتم لهم ذلك. ثم غادر الأب إسطنبول إلى مدينة ديموتيقا ومات بعد عشرين يوماً، ويدعي البعض أن ابنه سليماً قد دس له السم..
عند تسلم سليم -الذي سُمي بالياووز أي القاطع لجبروته- وزع الهبات على الإنكشارية. ثم سار لمحاربة أخويه، وعندما اكتشف أن كبير وزرائه مصطفى باشا قد أرسل إلى أخيه أحمد يعلمه بمقصد السلطان قتله شر قتلة. انتقل سليم إلى بورصة حيث قبض على خمسة من أولاد إخوته وأمر بقتلهم. ثم تابع كلاً من أخويه، كركود فتم له قتله في جبال صاروخان بعد أن فر. وأما أحمد فقد تحارب معه ولكن سليماً انتصر وقتل أخاه في مدينة يكي شهر.
بعد أن استتب له الأمر سار إلى مدينة أدرنة حيث قابل سفراء من المجر والبندقية وموسكو وسلطنة مصر (المماليك) ووقع معهم اتفاقيات هدنة لمدد طويلة بما أن مطامعه كانت متجهة إلى بلاد الفرس. بلاد الفرس كانت آخذة في النمو والارتقاء في عهد ملكها شاه إسماعيل الشيعي الذي امتدت مملكته من الخليج الفارسي إلى بحر الخزر ومن منابع الفرات إلى ما وراء نهر أموداريا.
السلطان الصفوي كان بينه وبين أحمد أخي السلطان سليم علاقة وساعده في حربه كما قبل لجوء أولاد أحمد إلى بلاده هرباً من عمهم سليم وآواهم. وعندما استتب الأمر لسليم راسل إسماعيل السلطان المملوكي عارضا عليه التحالف خشية من سليم الأول.
يتابع محمد فريد بك المحامي فيقول: ولإيجاد سبب للحرب أمر السلطان سليم بحصر عدد الشيعة المنتشرين في الولايات المتاخمة لبلاد العجم بطريقة سرية ثم أمر بقتلهم جميعاً. ويقال إن عددهم كان يبلغ أربعين ألفاً. وهنا يذكر محمد فريد أن هذه المذبحة تشبه مذبحة باريس المشهورة بمذبحة سان بارتيليمي سنة ١٥٧٢. نلاحظ أن محمد فريد أتى بهذا التشبيه ليظهر أن مثل هذه المذابح حصلت عند غير السلطان سليم سعياً لإيجاد مبرر. وتعليقي أن هذا ليس بعذر وإنما يدل على هوى المؤرخ.
قصد سليم بجيوشه تبريز ودخلها بعد انتصاره في معركة جال دران (جالديران)، هرب الشاه ووقع كثير من قواده في الأسر وممن أسر زوجة للشاه لم يقبل سليم أن يردها لزوجها بل زوجها لأحد كاتبي يده انتقاماً من الشاه. استولى سليم على خزائن تبريز وأرسلها إلى عاصمته كما أخذ أربعين شخصاً من أمهر الصناع وأرسلهم إلى القسطنطينية (هنا يمدح محمد فريد اهتمام سليم بالصناعة رغم انشغاله بالحرب).
تقدم سليم خلف الشاه الصفوي إلا أن الإنكشارية امتنعوا عن التقدم بسبب البرد الشديد ونقص المؤن، قفل راجعاً إلى أماسيا، حتى إذا حل الربيع رجع إلى بلد العجم ففتح قلعة كوماش وإمارة ذي القدر. ثم رجع إلى عاصمته القسطنطينية ولما وصل إليها أمر بقتل عدد عظيم من ضباط الإنكشارية الذين كانوا سبب الامتناع عن التقدم في بلاد فارس، وأمر بقتل قاضي عسكر هذه الفئة جعفر جلبي. وجعل لنفسه حق تعيين قادتهم. ليضمن السيطرة عليهم، وقبل ذلك كان للإنكشارية حق تعيين قائدهم.
بعد عودة السلطان إلى القسطنطينية فتحت الجيوش العثمانية ماردين وأورفة والرقة والموصل وبذلك تم فتح إقليم ديار بكر ودخل الكرد في طاعته بشرط بقائهم تحت حكم رؤساء قبائلهم.
تحول السلطان لمحاربة المماليك بما أن سلطانها قانصوه الغوري كان قد تحالف مع الشاه لمحاربة الدولة العلية. ولما علم السلطان المملوكي أرسل له رسولاً يعرض التوسط بين السلطان سليم والشاه لإبرام صلح. طرد سليم الرسول وأهانه. وهُزم الغوري في معركة مرج دابق بسبب وقوع الخلاف بين أفراد جيشه، وساعدت المدافع العثمانيين على النصر. ثم دخل السلطان حمص وحماه ودمشق، وأكرم العلماء وأمر بترميم الجامع الأموي ولما صلى السلطان الجمعة به أضاف الخطيب عندما دعا له عبارة خادم الحرمين الشريفين وهي مستعملة حتى الآن.
أرسل سليم إلى طومان باي الذي انتخبه المماليك خليفة للغوري رسالة، عرض فيها عليه الصلح شرط اعترافه بسيادة الباب العالي على مصر، فلم يقبل، ودارت عدة مواقع انتهت بهزيمة طومان باي رغم البسالة التي أبداها حتى أنه كاد يصل إلى سليم ويقتله، وكان لخيانة خاير بك المملوكي دور في انتصار سليم، الذي تنازل له آخر خليفة عباسي وكان مقيماً بمصر عن منصب الخلافة الصوري آنذاك وسلمه مفتاح الحرمين. ومن هنا أصبح سلاطين بني عثمان يلقبون بالخلفاء.
ينقل محمد فريد عن علي مبارك ما جاء في كتابه الخطط التوفيقية عن التنظيم الذي تركه سليم في مصر (جعل ديواناً للحكم رئيسه باشا يعينه السلطان العثماني ومهمته توصيل أوامر السلطان للمصريين وتوصيل خراجها للقسطنطينية، وقسم البلد إلى أربع وعشرين مديرية، على كل منها مدير من المماليك مهمته جمع الخراج وقمع العربان وتنفيذ أوامر الديوان ويتبع الباشا سبع بكوات. ثم رتب خراج مصر وقسمه ثلاثة أقسام، قسم للخزينة العثمانية، وقسم يشكل ماهية عشرين ألف عسكري من المشاة واثني عشر ألفاً من الخيالة. وقسم ثالث يرسل للحرمين.
ولم يلتفت إلى راحة الأهالي، بل تركها عرضة للمضار كما كانت. بهذا الترتيب حكمت الدولة العلية مصر مئتي سنة، وقد أُهملت القوانين التي وضعها سليم ولم تلتفت الدولة إلى إخلال المماليك بالنظام، فضعفت شوكة الدولة وأخذ البكوات يستكثرون من المماليك بالشراء ويستقوون بهم. وآل الأمر إليهم مرة أخرى، وصارت سلطة الدولة العثمانية صورية، ولو كانت الدولة قد تنبهت لذلك ومنعت شراء المماليك لكان الحال أفضل. ولذا فقد لحق بالأهالي الضر والإهانة، وخربت البلاد وتعطلت الزراعة وطرق الري، وهاجر الناس إلى الشام والحجاز)
يتحدث محمد فريد بعد ذلك عن مغادرة الخليفة سليم مصر بعد أن خلع على علماء الدين الهبات. عين خاير بك والياً على مصر، وأثناء مروره بالعريش التفت لوزيره الأكبر يونس باشا، الذي اعترض على الإصرار على فتح مصر، وسأله عن رأيه الآن؟ فأجابه بأن فتحها لم يعد عليه بشيء. إلا قتل نصف الجيش كما أنه سلمها لخائن لا يؤمن ولاؤه للدولة، فغضب عليه وأمر بقتله فقُتل في الحال. وخلال مروره بدمشق أقام مسجداً على قبر محيي الدين بن عربي، وعند عودته إلى عاصمته جاءه سفير من مملكة إسبانيا ليتفقا على حج المسيحيين للقدس في مقابل دفع المبلغ الذي كانوا يؤدونه للمماليك. بعد ذلك انشغل بالتجهيز لفتح جزيرة رودس، ومحاربة ملك العجم. لكنه توفي قبل وقوع الحرب.
يتابع محمد فريد بأن أيام سليم كانت أيام فتوحات خارجية وتنظيمات داخلية، لكنه كان ميالاً لسفك الدماء فقد قتل سبعة من وزرائه لأسباب تافهة، وكان كل وزير مهدداً بالقتل لأقل هفوة حتى أصبح يُدعى على من يُرام موته بأن يستوزره سليم. بنى كثيراً من الجوامع، وحول أجمل كنائس القسطنطينية إلى مساجد رغم وعود جده محمد الفاتح بعدم مس نصف كنائس القسطنطينية التي تبقت بعدما حول الفاتح بعض مساجدها إلى كنائس.
عند النقطة السابقة انتهى فصل كتاب تاريخ الدولة العلية، ولن أعلق ولكنني أترك القارئ لفهمه بعيداً عن المسلسلات التي ينتجها العثمانيون الجدد والأخرى التي ينتجها معارضو العثمانيين الجدد.
عد أن خلع علي علماء الدين الهبات.عين خاير بك واليا علي مصر ،و أثناء مروره بالعريش إلتفت لوزيره الأكبر يونس باشا،الذي اعترض على الإصرار على فتح مصر،و سأله عن رأيه الآن؟فأجابه بأن فتحها لم يعد عليه بشيئ .إلا قتل نصف الجيش كما أنه سلمها لخائن لا يؤمن ولاؤه للدولة.فغضب عليه و أمر بقتله فقُتل في الحال.و خلال مروره بدمشق أقام مسجدا على قبر محيي الدين بن عربي،و عند عودته إلي عاصمته جاءه سفير من مملكة إسبانيا ليتفقا على حج المسيحيين للقدس في مقابل دفع المبلغ الذي كانوا يؤدونه للمماليك.بعد ذلك إنشغل بالتجهيز لفتح جزيرة رودس،و محاربة ملك العجم .لكنه توفي قبل وقوع الحرب.
يتابع محمد فريد بأن أيام سليم كانت أيام فتوحات خارجية و تنظيمات داخلية،لكنه كان ميالا لسفك الدماء فقد قتل سبعة من وزرائه لأسباب تافهة،وكان كل وزير مهددا بالقتل لأقل هفوة حتي أصبح يُدعي على من يُرام موته بأن يستوزره سليم.بني كثيرا من الجوامع.و حول أجمل كنائس القسطنطينية إلي مساجد رغم وعود جده محمد الفاتح بعدم مس نصف كنائس القسطنطينية.التي تبقت بعدما حول الفاتح بعض مساجدها إلي كنائس.
عند النقطة السابقة إنتهي فصل كتاب تاريخ الدولة العلية،و لن أعلق و لكنني أترك القآرئ لفهمه بعيدا عن المسلسلات التي ينتجها العثمانيون الجدد و الأخري التي ينتجها معارضو العثمانيين الجدد.معركة "مرج دابق".. حين انتصر العثمانيون على المماليك وتوسّعوا في العالم العربي تعتبر معركة "مرج دابق" معركةً شديدة التأثير على العالم العربي والإسلامي، فقد كانت حرب المماليك والعثمانيون، وكان قادتها السلطان سليم الأوّل العثماني والسلطان قنصوة الغوري، قائد المماليك.
بعد أن أمّن السلطان سليم الأول حدود الدولة العثمانيّة من الناحية الشرقية والغربيّة، أصبح بإمكانه الآن تحويل انتباهه إلى الجنوب الشرقيّ، حيث كانت سلطنة المماليك القديمة هي المهيمنة على مصر والشّام والجزيرة.
كان العثمانيّون قد سيطروا على القسطنطينيّة عاصمة الدولة البيزنطية والتي أصبح اسمها إسطنبول عام 1453 واتخذوها عاصمةً لهم، وكانت السيطرة على القسطنطينيّة بداية توجُّه الدولة العثمانيّة الفتيّة إلى أوروبا الشرقيّة بل وحتّى لاحقاً إلى وسط أوروبا حيث أسوار فيينا، لكنّ سلطاناً واحداً من العثمانيين قرّر تغيير وجهته إلى الشرق بدلاً من الغرب، هو السلطان سليم الأوّل.
في أوائل القرن السادس عشر، كانت الإمبراطورية العثمانية قد غزت بالفعل معظم البلقان، والتي تقع في الجزء الجنوبي من أوروبا، وحوّلت انتباهها إلى الشرق الأوسط.
كان الدافع الأوّلي وراء هذا هو الخوف من تأثير الإمبراطورية الصفوية الفارسية سريعة التوسع، فقد نشأت الإمبراطورية الصفوية في عام 1501 في ما يعرف اليوم بمقاطعة أذربيجان الشرقية في شمال إيران، وسرعان ما توسّعت لتشمل الكثير من بلاد فارس وأفغانستان والعراق.
كان للدولة الصفوية تأثيرٌ هائل على العديد من القبائل التركية والكردية في شرق تركيا، فقد تأثر الكثير منهم بالدعاية الشيعية للصفويين، ومن أجل مواجهة هذا التأثير الهائل المزعزع للاستقرار على الجهة الشرقية، تحرك العثمانيون لمواجهة الصفويين مباشرة، وقد أدى ذلك إلى معركة "جالديران" المحورية في 23 أغسطس/آب عام 1514، والتي أسفرت عن النصر العثماني، بمساعدة المدفعية المتفوقة.
عزّزت "جالديران" الحكم العثماني على شرق تركيا وبلاد ما بين النهرين وقصرت التوسع الصفوي في الغالب على بلاد فارس، وأوقف هذا أيضاً توسُّع الإسلام الشيعي، وحافظ الإسلام السني، الذي دافع عنه العثمانيون، على هيمنته الدائمة في معظم أنحاء المنطقة.
سرعان ما أدت معركة "جالديران" إلى معركةٍ محورية أخرى في المنطقة، فبعد أن أمّن السلطان العثماني إمبراطوريته الشرقية، كان بإمكانه تحويل انتباهه إلى الجنوب الغربي، حيث سلطنة المماليك هي المهيمنة.
كانت سلطنة المماليك هي القوّة المهيمنة على العالم الإسلامي لما يزيد عن 250 عاماً، حيث حكمت في مصر والمدن المقدّسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس، وباقي ساحل ومدن الشام، كان هذا بعدما غزا الصليبيّون العالم الإسلامي، ثمّ من بعدهم المغول الذين فتتوا العالم الإسلامي تماماً وقتلوا الخليفة العباسيّ في بغداد.
لكنّ المماليك استطاعوا عبر العديد من المعارك والصراعات الداخلية والخارجية تأسيس دولتهم في مصر، والتي امتدّت لتشمل كامل الشام، وفقاً لما يذكره لنا كتاب "تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام" للمؤرخ محمد سهيل طقوش.
تأسست سلطنة المماليك في مصر في عام 1250 على يد طائفة من الجنود العبيد (لهذا سمُّوا مماليك) الذين أخذوا السلطة من سلالة صلاح الدين الأيوبي، وبحلول أوائل عام 1500، كان حكمهم قد بدأ في التدهور ببطء.
كان العالم الإسلامي تتقاسمه ثلاث دولٍ قويّة وكبيرة نسبياً: المماليك في مصر والشام، والعثمانيون في تركيا الحالية والبلقان وآسيا الوسطى، والصفويُّون في إيران الحالية وشرق آسيا.
خشي العثمانيون إلى حدٍ كبير من إمكانية تحالف المماليك والصفويين، فبعد معركة "جالديران" التي هُزم فيها الصفويّون، خلصوا إلى ما يبدو بمثابة اتفاقٍ دفاعيٍّ مع المماليك، مُفاده أنه إذا غزا العثمانيون بلاد فارس مرة أخرى، فإنّ المماليك سينتقلون شمالاً إلى تركيا عبر سوريا، ما دفع العثمانيين إلى هجومٍ استباقي على سلطنة المماليك في عام 1516.
الرسالة التي أشعلت حرب المماليك والعثمانيين
عندما علم السلطان سليم الأوّل بالتحرّكات المملوكية التي اتخذها السلطان قنصوة الغوري، ظهر منه بعض التحرّكات التي أكّدت للمماليك أنّ سليم عزم على المسير إلى الشام ومصر، ولقاء المماليك في معركةٍ حاسمة.
أرسل السلطان قنصوة الغوري رسالةً للسلطان سليم في محاولةٍ منه لتهدئة الأمور، لكن ردّ السلطان سليم جاء حاسماً، وهذا جزءٌ من الرسالة:
كانت همتنا العالية وعزيمتنا القوية مُنصرفة إلى الديار الشرقية (يقصد دولة الصفويين الشيعة في إيران) لإحياء الشريعة الغرّاء، لكن اتضحت لنا بعض تصرفاتك التي لا تليق، والتي قصدت بها تقوية هذا المُلحد الفاسد (سلطان الصفويين) ذي العادات السيئة الذي لا يدينُ بدين، فقصدت إليك ذاتنا، لأنك أسوأ منه، قطعنا المنازل والمراحل قاصدين إليك بجنود لا حصر لها ورايات فتح آياتها النصر، دخلنا ممالك تحت حكمك واستولينا عليها، وأرسل إليك عند مشارف وادي توجان.
فإن كانت لديك ذرّةٌ من الحميّة وقدرٌ من الرجولة ونصيبٌ من الفتوَّة وفي قلبك جرأةٌ وشجاعةٌ
خاصة، فلا تنزو في زاوية الخوف والرعب، و استعدّ أنت وجميع أعوانك وأنصارك، ولا تهرب من جرح السيف.
استشاط السلطان قنصوة الغوري غضباً من رد السلطان سليم الأوّل، ومن رسالة التهديد شديدة اللهجة، وبدأ يعدُّ جيوشه ويرتِّب صفوف جنده ويتحرّك إلى منطقة مرج دابق شمال غرب سوريا استعداداً للقاء دمويٍّ حاسم مع سليم الأول.
كان جيش المماليك أقلّ كفاءةً من الجيش العثماني، فقد كانت دولة المماليك في عهد تراجعها وانكفائها على ذاتها، وصراعاتها الداخليّة، ليس هذا وفقط، فقد كان السلطان قنصوة الغوري على خلافٍ مع الخليفة في بغداد، وكذلك فقد دبّ فيه الكِبر، فليس قنصوة هو نفسه القائد الذي هزم الأسطول البرتغالي في معركة "شاول" البحرية حينما حاولوا السيطرة على البحر الأحمر.
وصل السلطان سليم الأول وجيوشه إلى منطقة دابق، والتي تقع شمالي مدينة حلب وهي تابعة لمحافظة حلب السورية، ونودي أنّ الحرب غداً، وهنا خطب السلطان سليم الأول خطبته الشهيرة لجنوده:
سيتضح كل شيء غداً، إن الله معنا، نحن نثق في عساكرنا. إنّ الفصائل التي أحرزت لنا النصر في "جالديران" (المعركة التي هزموا فيها الصفويين) سوف ترفع أعلامها هنا أيضاً، وزرائي وأمرائي إنّ ما أطلبه منكم هو أن تُحاربوا على رأس جنودكم، حثُّوهم على البطولة والشجاعة، أما عني، فإني لن أتأخر عنكم، والله شهيد.
المدفعيّة العثمانية والخيانة تقضيان على السلطان قنصوة الغوري
يُصوّر لنا المؤرخ ابن إياس، في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" جيش المماليك على النحو التالي، فقد "ظهر الغوري في موكب القتال على جواده، وحوله طائفةٌ من الأشراف يحملون على رؤوسهم أربعين مُصحفاً في أكياسٍ من الحرير الأصفر، منها مصحفٌ بخط الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الجنود".
ويصف مطرقجي نصوح، وهو من مؤرخي الدولة العثمانية، في مخطوطته "فتحنامه ديار عرب"، أنّ الجيش العثماني اصطحب معه 300 مدفع، وكان عدد الجنود يصل إلى نحو 60 ألف جنديّ.
التقى الجيشان في 24 أغسطس/آب من عام 1516، وأبدى المماليك في هذه المعركة مقاومةً شديدةً وإن كانت إمكانياتهم الحربية مُتواضعة، لكن سرعان ما دبّ الخلاف بين فِرق المماليك المُحاربة، وانحاز بعضها إلى الجيش العثماني بقيادة خاير بك أحد أمراء المماليك الشراكسة.
أشاع خاير بك بين صفوف جيش المماليك أنّ السلطان قنصوة الغوري قد أمر جلبانه، – وهي إحدى فرق الجيش المملوكي وكان يشتريهم السلطان لنفسه -، بعدم القتال حتى يصدر أوامره إليهم، وحتى يُقاتل القرانيص وحدهم – القرانيص هم المماليك القدماء -.
بسبب هذه الشائعة فترت همّة القرانيص في الحرب، ورأوا أنهم ضحايا خطةٍ دنيئة من جانب السلطان الذي أراد أن يجعلهم فريسةً سهلةً لنيران مدافع العثمانيين، ثم أشاع خاير بك إشاعة أخرى أيضاً بين صفوف الجيش تقول إنّ السلطان قنصوة الغوري نفسه قد قُتل، وفقاً للمؤرخ ابن زنبل الرمّال، وهو مؤرخ مصري مسلم عاش في القرن الخامس عشر، وظل خاير بك يقول للجنود "الفرار الفرار، فإن السلطان سليماً أحاط بكم، وقُتل الغوري، والكسرة علينا".
كان الغوري لا يزال حيّاً، وظلّ يُردد لصفوف الجيش الهارب: "يا أغوات! هذا وقت المروءة، هذا وقت النجدة، يا أغوات الشجاعة، صبر ساعة!" ولكن لم يستمع إليه أحد، وظلوا ينسحبون من حوله، فقد كانت أسطورة السلطان القوي قنصوة قد ذهبت من خيالهم.
ووفقاً لكتاب "الفتح العثماني للشام ومصر" فقد حاول الغوري الهرب، لكنّ السلطان السبعينيّ سقط عن فرسه بعد خطواتٍ جثّة هامدة من هول الهزيمة، ولما عُثر على جثته قُطعت رأسه وقُدمت للسلطان سليم.
كان العامل الرئيسي في النصر العثماني هو التمكن من التقنية العسكرية الجديدة: المدافع، فقد اصطحبوا معهم 300 مدفع كما ذكرنا. وكانت قوات المماليك تعتمد بشكلٍ مُفرط على سلاح الفرسان فقد اعتمدت عليه بشكل كامل للفوز في المعركة، والذي لم يصمد أمام نيران المدافع، وزاد من إحباط الجيش وتفرُّقه الشائعات التي روّجها خاير بك ما أدى لهروب الجيش، لاحت بشائر النصر العثماني في عصر اليوم نفسه بعد نحو ثماني ساعات من بدء القتال.
انهارت السلطنة المملوكية بعد فترة وجيزة من "مرج دابق"، مع استمرار النصر العثماني في معركة "الريدانية" لاحقاً في 22 يناير عام 1517، والتي دارت بين طومان باي، آخر سلاطين المماليك في مصر وابن أخي السلطان قنصوة الغوري والسلطان العثماني سليم الأول أيضاً، وأصبحت مصر تابعة للدولة العثمانية.
كذلك انتقلت السيطرة على الحجاز إلى العثمانيين، حيث نقل شريف مكة ولاءه من المماليك إلى السلاطين العثمانيين.
أمّا خاير بك فقد أصبح أوّل والٍ عثماني على مصر بعد إحكام سليم الأوّل سيطرته عليها بعد القضاء على طومان باي، وقد كان خاير بك قبل ذلك والي حلم المملوكي الذي راسله سليم الأوّل واتّفق معه على خيانة قنصوة الغوري وفقاً للعديد من المصادر، بل إنّ بعض المصادر العربيّة والمصريّة لم تحاول توصيفه بغير هذا الوصف: الخائن.
توفي خاير بك عام 1521، وحكم مصر طيلة أربع سنوات يصفها المؤرخون المصريون بأنّها كانت سنين صعبة وقاسية على المصريين.
تعليقات