بديع الزمان النورسي في ذكراه تأملاته في معاني القرآن الكريم وحقائق الإيمان وبراهينه
سعيد النورسي عالم ومصلح ومجاهد كردي تركي، يعتبر من رواد التفسير العلمي للقرآن وأبرز دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي في العالم الإسلامي بالعصر الحديث، نذر حياته للدعوة والدفاع عن الإسلام في وجه الماسونية والعلمانية فعانى السجن والتضييق، وضمّن مشروعه الإصلاحي في مجموعة كتب حملت اسم “رسائل النور”.
– توفي سعيد النورسي يوم 23 مارس/آذار 1960 في مدينة أورفة ودفن هناك، لكن السلطات العسكرية المنبثقة عن انقلاب مايو/أيار 1960 نقلت رفاته إلى جهة مجهولة.
قراءة أخرى عن بديع الزمان
لا يمكننا أن نفهم أفكار الداعية الإسلامي التركي فتح الله غولن وحركته "خدمة" من دون العودة إلى جذوره الفكرية، فهو يعد من مريدي الشيخ الصوفي بديع الزَّمان سعيد النورسي (1876- 1960). ويرى بعض الباحثين أنه إذا كان النورسي يعد منظّر التنوير الديني في تركيا، فإن غولن هو المهندس التنفيذي لأفكار النورسي والقائم على تطبيقها وتحقيقها على أرض الواقع. فمن هو النورسي وما هي أبرز أفكاره؟
يعرض إبراهيم سليم أبو حليوه في كتابه "بديع الزمان النورسي وتحديات عصره" الصادر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، حياة النورسي ومواقفه السياسية والاجتماعية ومنهجه في التربية والدعوة والإصلاح ورؤيته لإثبات إعجاز القرآن وشرح مقاصده. فالنورسي هو أحد أعلام الإصلاح الديني والسياسي في تركيا خلال مرحلة أواخر الخلافة العثمانية ومرحلة الدولة التركية الحديثة منذ نشوئها مع كمال أتاتورك في العام 1923 وحتى العام 1960.
وكان بحق أحد أعلام الجهاد والإصلاح في تلك المرحلة، وهو دعا في المرحلة الأولى إلى التغيير والإصلاح في النظام السياسي للدولة العثمانية، وعندما اقتضت المصلحة مواجهة العدو الأجنبي كان النورسي قائداً عسكرياً في جبهة القتال إلى أن وقع في الأسر. وبعد سيطرة الكماليين على السلطة توجه إلى البناء الداخلي للمجتمع.
وفي هذا السياق يعرض إبراهيم سليم أبو حليوه في كتابه"بديع الزمان النورسي وتحديات عصره"الصادر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2010 حياة النورسي ومواقفه السياسية والاجتماعية ومنهجه في التربية والدعوة والإصلاح ورؤيته لإثبات إعجاز القرآن وشرح مقاصده. ولد سعيد النورسي عام 1877 في قرية نورس التابعة لولاية بتليس شرق الأناضول في كردستان في تركيا، وهو من أسرة كردية متدينة كانت متوسطة الحال وتشتغل في الزراعة، ووالده ميرزا بن علي لقب بالصوفي.
وقد حرم من والدته بوفاتها وهو في سن التاسعة كما حرم من أخواته الثلاث لاحقاً، وقضى حياته عازباً فلم ينجب أولاداً. وقال إنه كان يشعر بالنقص العاطفي فأنعم الله عليه عوضاً عن هذه اللذات من العطف الأموي والأخوي بألوف من الوالدات اللائي يستفدن من رسائل النور التي كتبها وبألوف من الإخوة والأخوات والأولاد الذين اتبعوا هذه الرسائل. ظهرت عليه علامات الذكاء والنبوغ باكراً وكانت بداية تحصيله العلمي عام 1885 بتعلم القرآن، إذ كان يراقب أخاه عبدالله وما يتلقاه من علوم فأعجب بمزاياه ودفعه ذلك إلى شوق عظيم لتلقي العلم.
لذا شد الرحال إلى طلب العلم في القرى المجاورة لقريته نورس فتابع علومه في مدرسة الملا محمد أمين أفندي عام 1888.
بدأ النورسي المرحلة الأولى من نشاطه السياسي في ماردين عام 1892 عندما أخذ يلقي الدروس الدينية في جامع المدينة حيث قابل طالبين ساهما في توسيع آفاقه الفكرية، أحدهما كان من أتباع جمال الدين الأفغاني الذي يرى النورسي أنه استطاع الجمع بين العلم والدين. وسيراً على نهجه، أصبح النورسي يستخدم مصطلحات الأفغاني في أدبياته.
أما الطالب الثاني، فكان من أتباع الطريقة السنوسية التي بدأت تعمل منذ عام 1840 لتوحيد القبائل البدوية. واللافت هنا كيف تمكن النورسي من الجمع بين تأثيرات الفكلر الإصلاحي للأفغاني والطريقة الصوفية السنوسية، الأمر الذي سيظهر لاحقاً في منهجه الإصلاحي والسياسي والعرفاني القرآني.
وبسبب نشاطه في ماردين نفاه الوالي إلى بتيس، غير أن والي بتليس عرف فضله فطلب منه أن يقيم معه في منزله، حيث استفاد من مكتبة الوالي الغنية بأمهات الكتب الدينية، والصحف والكتب الصادرة في إسطنبول، مما ساهم في إثراء تكوينه العلمي والسياسي. في عام 1894 رحل النورسي إلى وان حيث قضى فيها خمس عشرة سنة قضاها في التدريس، ومحاولة إرشاد القبائل وإصلاحها.
كما التقى بعض أستاذة العلوم الحديثة، فاطلع على علوم الجغرافيا والجيولوجيا والفيزياء والكيمياء والفلك والفلسفة والتاريخ، وأصبح قادراً على التأليف في بعضها. ولشدة نبوغه العلمي ذاعت شهرته، فلقب بـ"بديع الزمان".
في عام 1899 حدث له تحول مهم حين علم أن أوروبا تحيك مؤامرة خبيثة ضد القرآن الكريم، بعدما قرأ خبراً عن خطاب لوزير المستعمرات البريطانية وليم غلادستون في مجلس العموم البريطاني الذي خاطب النواب وفي يده نسخة من القرآن قائلاً:"ما دام هذا القرآن بيد المسلمين، فلن نستطيع أن نحكمهم، فلا مناص من أن نزيله من الوجود، أو نقطع صلة المسلمين به". فغضب النورسي غضباً شديداً وغير اهتمامه للتفرغ لدراسة القرآن وإدراك معانيه وإثبات حقائقه. ولم يعرف بعد ذلك سوى القرآن هدفاً لعلمه وغاية لحياته. وأصبحت المعجزة المعنوية للقرآن دليلاً ومرشداً له.
وقال لمن حوله:"لأبرهنن للعالم أن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها". وفي سبيل هذا الهدف، حاول إنشاء جامعة إسلامية في كردستان، فسافر إلى إسطنبول لإقناع المسؤولين بذلك لكنه لم يفلح في مسعاه فرجع إلى وان.
وفي عام 1907 عاد النورسي إلى إسطنبول وهو يدرك أن الإصلاح التعليمي والسياسي هما أساس أي نهضة، لذا قدم التماساً إلى السلطان عبدالحميد الثاني يطلب منه فتح مدارس للعلوم الرياضية والطبيعية إلى جانب المدارس الدينية، وخصوصاً في كردستان حيث كان يسود الجهل والتخلف والفقر.
كما طلب من السلطنة القيام بواجباتها تجاه المسلمين في كل أنحاء العالم قائلاً:"إن مقام الخلافة لا ينحصر في إقامة شعائر صلاة الجمعة، فكما أن للخلافة قدرة وقوة معنوية، يجب أن تكون لها القدرة المادية التي تكفل مصالح الأمة المحمدية في أقطار الأرض جميعاً". كذلك انتقد النورسي نظام الحكم وسياسة الاستبداد في السلطنة العثمانية، مبيناً أن لا استبداد في الإسلام وضرورة قيام العدالة في المحاكم القضائية.
فأثارت انتقاداته غضب حاشية السلطان فأحيل إلى محكمة عسكرية، تكلم أمامها بجرأة فأمرت المحكمة بعرضه على لجنة طبية لفحص قواه العقلية، فوضع في مستشفى للأمراض العقلية نحو ثمانية أشهر، ثم حاولت السلطة استمالته وإسكاته.
وقبيل إعلان المشروطية الثانية في الدولة العثمانية عام 1908، اتجه النورسي إلى سلانيك فرحب به كبار شخصيات جميعة"الاتحاد والترقي"لكونه من دعاة الحرية والشورى ورفض الاستبداد. وعندما اتضح له انحرافهم عن الدين واستغلال الحرية لنشر التحلل من الأخلاق ابتعد عنهم وواجههم وانتقد النشاط التغريبي الذي سار عليه الاتحاديون باسم المدنية.
وفي عام 1911 زار النورسي بلاد الشام حيث ألقى خطبة باللغة العربية في المسجد الأموي خاطب فيها علماء الشام، محللاً أوضاع العالم الإسلامي ومبيناً أمراض الأمة والعلاج اللازم لها، وأبرز هذه الآفات ذيوع الاستبداد والانتفاع الشخصي وتجاهل النفع العام وانعدام الصدق في الحياة الاجتماعية والسياسية.
لقد ركز النورسي على إصلاح أوضاع الدولة الداخلية، لكن جهوده امتدت إلى المشاركة المسلحة في الدفاع عن الدولة ضد الاعتداءات الخارجية، حيث شارك في حرب البلقان عام 1912 كقائد لقوات الفدائيين المتطوعين القادمين من كردستان. كما شارك بمعية لجنة من العلماء بإصدار فتوى للجهاد بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.
وشارك في قتال الجيش الروسي الذي تمكن من الزحف نحو الأناضول، وعندما وقع في الأسر عام 1916، حاول الروس استمالته لإقناع العشائر الكردية بتسليم أسلحته، غير أنه لم يستجب لهم. كما أصدر حكم إعدام بحقه، إلا أنه أمام ثباته تراجع قائد روسي وأصدر عفواً عنه. وتمكن النورسي من الفرار من المعتقل مستغلاً أحداث الثورة البلشفية عام 1917، فاستقبل في إسطنبول استقبال الأبطال وعين عضواً في دار الحكمة، لكنه طلب إعفاءه بعد فترة.
بعد الهدنة التي زادت من سيطرة الحلفاء، اضطرت الدولة العثمانية إلى توقيع معاهدة"سيفر"التي كانت استسلاماً شبه مطلق، فأحس النورسي بأن طعنة قوية وجهت إلى العالم الإسلامي. وبدأ تصديه للإنكليز وحلفائهم بتأليفه كتاب"الخطوات الست"عام 1920، فرد على الحرب النفسية التي حاولت تيئيس المسلمين من المواجهة والقبول بالهزيمة.
وبعد بدء مقاومة الاحتلال بقيادة كمال أتاتورك، دعي النورسي إلى مركز المقاومة في أنقرة وتم تكريمه من مجلس النواب، لكنه انزعج كثيراً لما رأى انصرافهم عن الدين وتركهم الصلاة، فقال لهم:"أيها المبعوثون.. إنكم لمبعوثون ليوم عظيم".
وقد تضايق أتاتورك من هذا البيان فاستدعاه ليعاتبه، وحاول تعيينه واعظاً عاماً لكردستان لإبعاده، لكنه رفض وظل في أنقرة يكتب الرسائل في إثبات وجود الله وترسيخ العقيدة، والرد على الانحراف الجديد نتيجة انتشار أفكار الإلحاد والمادية بين المسؤولين والمثقفين.لم يشارك النورسي في ثورة زعيم العشائر الكردية سعيد البيراني عام 1925 ضد السلطة المعادية للدين، وقرر الرجوع إلى وان حيث اختار العزلة والتأمل والتدريس.
ومع ذلك فقد اقتيد من ذلك الجبل إلى إسطنبول وبدأت رحلة المنافي إلى بلدة بارلا عام 1926. لكن هذه البلدة شكلت مركز الإشعاع الأول لدعوة النورسي، حيث أنجز القسم الأكبر من مؤلفاته"رسائل النور"، وخلال السنوات الثماني والنصف في المنفى في بارلا، كسر طوق العزلة وجذب آلاف الشباب من الأتباع والطلاب الذين ساهموا في نشر رسائله وتوزيعها في أرجاء تركيا كلها، فنفته السلطات ومجموعة من طلابه إلى اسبارطة.
لكنه استمر في تأليف رسائله حتى عام 1935 حيث اعتقل ونحو 120 من طلابه وسجنوا في مدينة اسكي شهر. وبعد قضائه 11 شهراً في السجن، نفي إلى مدينة قسطموني، حيث أكمل نشر رسائله وتوزيعها، فحاولت السلطات اغتياله بدس السم في طعامه، لكنه نجا من الهلاك عام 1943. ثم ألقي القبض عليه بتهمة تكوين جمعية سرية ومحاولة قلب نظام الحكم. وشكلت المحكمة لجنة لدراسة"رسائل النور"فأصدرت تقريراً برأته فيه من القيام بأي فعالية سياسية أو تأليف جمعية أو طريقة صوفية.
لكن السلطة واصلت سجنه ومن ثم نفيه ومحاولة تسميمه مجدداً، وسجنه في مدينة آفيون عام 1948 وحتى آواخر عام 1949.ومنذ خروجه من السجن وحتى وفاته عام 1960، شكلت مرحلة جديدة حيث شهدت تركيا تطورات سياسية مهمة، بعد سيطرة الحزب الواحد على الحياة السياسية منذ الاستقلال وحتى عام 1950، عندما سمح بتشكيل الأحزاب، فشكل أقوى حزب معارض، الحزب الديموقراطي الذي استطاع الفوز في انتخابات 1950.
وفي فترة حكمه، خفت موجة العداء للدين وسمح للمرة الأولى لرسائل النور بالطبع، وسمح للنورسي بالتدريس الجماعي مع استمرار تقييد حركته.
وأقام في آخر أيامه في اسبارطة حيث مرض مرضاً شديداً فألح على طلابه بنقله إلى أورفة، حيث حاصرت الشرطة فندقه وطلبت منه العودة إلى إقامته الجبرية في إسبارطة، لكنه فارق الحياة بعد يومين. وبقي النورسي مطارداً على رغم وفاته، فبعدها بشهرين وقع انقلاب عسكري، حيث أمر قادة الانقلاب بنقل رفاته من قبره في أورفة إلى جهة ظلت مجهولة إلى الآن. لقد أدرك النورسي مبكراً أن الأمة الإسلامية أصيبت أولاً في دينها، فركز على بناء الإيمان وإعادة المسلم إلى هويته من خلال إحياء الإيمان والعودة إلى الدين.
وبدأ مسيرة التربية والإصلاح والتغيير، متخذاً من القرآن مرشداً ومصدراً له. كما ركز على البيت والأسرة ودعا إلى الحفاظ عليه. كما دعا إلى بعث الفكر الإسلامي وتجديد علوم الشريعة. لقد أمضى حياته في خدمة الدين، متنقلاً بين المنافي والمحاكم والسجون التي جعلها مدارس على طريقة النبي يوسف، فجذب آلاف الشبان والشابات من خلال مواعظه ودروسه وكتبه"رسائل النور".
وبدأ بإصلاح نفسه أولاً فعمل على تخليصها من كل الرواسب المادية فزهد في المال والجاه والمنصب والشهرة، فتطابقت أقواله مع أفعاله وصار قدوة يحتذى.ومنهجه في التربية والدعوة والإصلاح يرى أن التربية الدينية هي وسيلة للرقي إلى مصاف اكتشاف الفقر والعجز وهذا ما يوجد دافعية الفعل المعبر عن العبادة، بما يحققه في النفس من جذوة شوق تبقى ما بقي الشعور بالعجز والفقر في النفس البشرية، وهذا هو معدن العبودية، وهو مثير للشفقة ومنتج لآثارها الاجتماعية. وطريق اكتشاف هذا الأصل، التفكر الإيماني المحدد الأصول.
بهذا التحديد يتحرر الفكر من عبثية المساعي ويحرر النفوس من أسر الأنانية والاستكبار، وما شابه ذلك من الأمراض النفسية والمعرفية والاجتماعية. هذه هي الخطوط العريضة للطريق النوري في التربية والسلوك عند النورسي. وأسس هذا الطريق هي اتباع القرآن الكريم والسنة النبوية والمعرفة العميقة للنفس البشرية والمعرفة الدقيقة بظروف المجتمع. ومن مميزات هذا الطريق الجمع بين العقل والقلب والتفكر في آيات الله واكتشاف العجز أمام الله والشفقة بين البشر وغيرها من الأسس التي تعرج بالمؤمن إلى الله تعالى.
هي طريقة عرفانية صوفية منهجها القرآن والسنة والعقل والتفكر تتجنب شطحات الطرق الصوفية التقليدية من جهة وتبتعد من الجمود الروحي للحركات السلفية والإصلاحية في عصره من جهة أخرى.لا شك أن غولن قد تأثّر بأستاذه النورسي لكن بلا شك قد طور فكره بحيث جمع بين مفاهيم الحداثة والفكر الإسلامي الصوفي المتسامح الذي يقبل بالتعددية الدينية والديمقراطية السياسية ويرفض الإسلام السياسي والعنف.
في ضوء سلسلة المؤتمرات العالمية حول بديع الزمان سعيد النورسي ورسائل النور أقامت مؤسسة اسطنبول للثقافة والعلوم الؤتمر الرابع بعنوان الحركات الإصلاحية المعاصرة في ضوء القرآن الكريم رسائل النور انموذجا .
وشهد المؤتمر الذ اقيم في قتعة لطفي قردار واق كون هوتيل بإسطنبول حضورا كبير من قبل المفكريين والأساتذة والأصلاحيين بالعالم الإسلامي .وكان من بين الحضور طلبة الأستاذ سعيد النورسي الذين تحدثوا عن نموذج رسائل عن النور الإصلاحي في هذا العصر وعن نهج بديع الزمان سعيد النورسي .
ومن جامعة بغادا تحدث الدكتور محسن عبدالحميد بكلمة ذكر فيها ان النورسي استطاع بما وهبه الله من ذكاء خارق وعق راجح ان يجمع العلوم التجريبية مع العلوم الدينية وان يمزج بين خلفيته الشرقية مع الحضارة الحاضرة بمنهج امتاز بالتفكر وصدرت منه مؤلفه رسائل النور .
رؤية أخرى حسان قاسم الصالحي
مركز بحوث رسائل النور
استانبول
إن حياة بديع الزمان سعيد النورسي حافلة بالأحداث الجسام إلا أننا نوجزها بالآتي فنقول: إنه عاصر عهد السلطان عبد الحميد الثاني وفترة الإتحاد والترقي وأحداث الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية ثم العهد الجمهوري والحزب الواحد الحاكم ثم فترة تعدد الأحزاب وحياة ديمقراطية في البلاد.
فقد ولد سعيد النورسي سنة 1293 هـ (1876م) في قرية (نورس) التابعة لولاية بتليس شرقي الأناضول. وتتلمذ على أخيه الكبير (الملا عبد الله) واقتصرت دراسته في هذه الفترة على الصرف والنحو، ثم بدأ يتنقل في القرى والمدن بين الأساتذ والمدارس، ويتلقى العلوم الإسلامية من كتبها المعتبرة بشغف عظيم، يرفده ذكاؤه المشرق، الذي اعترف به أساتذته جميعهم بعد إمتحانات صعبة، كان يجريها له كل منهم، واجتمع له مع الذكاء قوة الحافظة، حتى أنه درس وحفظ كتاب (جمع الجوامع) في أصول الفقه في أسبوع واحد.
ولم تلبث شهرة هذا الشاب ان انتشرت بعد ان فاق في مناقشاته علماء منطقته جميعا، فسموه (سعيد المشهور). ثم ذهب إلى مدينة (تللو) حيث اعتكف مدة في إحدى الزوايا، وحفظ هناك القاموس المحيط للفيروزابادي إلى باب السين.
وفي سنة 1892م ذهب إلى (ماردين) ؛ حيث بدأ يلقي دروسه في جامع المدينة ويجيب عن أسئلة الناس، فوشي به إلى الوالي فأصدر أمرا بإخراجه، وسيق إلى (بتليس). فلما عرف واليها حقيقة هذا الشاب العالم ألح عليه ان يقيم معه، وهناك وجد الفرصة سانحة لمطالعة الكتب العلمية، لاسيما علم الكلام والمنطق وكتب التفسير والحديث الشريف والفقه والنحو، حتى بلغ محفوظه من متون هذه العلوم نحو ثمانين متنا.
ثم ذهب إلى مدينة (وان) سنة 1894م وانكب فيها بعمق على دراسة كتب الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ ؛ حتى تعمق فيها إلى درجة التأليف في بعضها وذلك حينما احس في أثناء مجالسته مع بعض المثقفين أنه بحاجة إلى الاغتراف من تلك العلوم فأطلق عليه أهل العلم (بديع الزمان) اعترافا منهم بذكائه الحاد وعلمه الغزير واطلاعه الواسع.
كان الفكر المادي قد بدأ يجتاح العالم كله، ووجهت العلوم الحديثة وجهة بعيدة عن الدين بل مناهضة له. وأخذ العالم الإسلامي يئن تحت وطأة هذا الغزو الفكري. والدولة العثمانية لم تعد قادرة بمؤسساتها القديمة على الوقوف أمامه، وحل المشكلات المستعصية التي أفرزه. وبلغ الأمر إلى الهجوم على القرآن الكريم نفسه، حتى نشر في الصحف المحلية أن وزير المستعمرات البريطاني (غلادستون) قد صرح في مجلس العموم البريطاني مخاطبا النواب قائلا : (ما دام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود او نقطع صلة المسلمين به). زلزل هذا الخبر كيان بديع الزمان وأقض مضجعه فعلم ان القرآن مستهدف، فأعلن لمن حوله : (لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لايخبو سناها ولايمكن إطفاء نورها). فشد الرحال إلى إستانبول عام 1907م، وقدم مشروعا إلى السلطان عبد الحميد الثاني لإنشاء جامعة إسلامية في شرقي الأناضول، أطلق عليها اسم (مدرسة الزهراء)-على غرار الأزهر الشريف- تنهض بمهمة نشر حقائق الإسلام وتدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم الكونية الحديثة وفق مقولته :(ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلم الحديثة، فبإمتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبإفتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك) .
وكانت شهرته العلمية قد سبقته إلى هناك فتجمع حوله الطلبة والعلماء يسألونه وهو يجيب في كل فن بغزارة نادرة. فاعترف له الجميع بالإمامة وبانهم لم يشاهدوا في علمه وفضله أحدا، حتى أن احدهم عبر عن إعجابه الشديد بعد ان اختبره اختبارا دقيقا، قال : (إن علمه ليس كسبيا، وإنما هو هبة إلهية، وعلم لدني).
وفي سنة 911م ذهب إلى بلاد الشام، وألقى خطبه بليغة من على منبر الجامع الأموي دعا فيها المسلمين إلى اليقظة والنهوض، وبين فيها أمراض الأمة الإسلامية وسبل علاجها، ثم رجع إلى استانبول وعرض مشروعه بخصوص الجامعة الإسلامية على السلطان رشاد، فوعده السلطان خيرا، وفعلا خصص المبلغ فشرع بوضع الحجر الأساس للجامعة على ضفاف بحيرة (وان)، غير أن الحرب العالمية الأولى حالت دون إكمال المشروع. وعلى الرغم من معارضة سعيد النورسي لدخول الدولة العثمانية الحرب، فإنه حالما أعلنت شكل من طلابه والمتطوعين فرق "الأنصار" وخاضوا غمار الحرب ضد روسيا القيصرية المهاجمة من جهة القفقاس، وألف في خضم المعارك تفسيره القيم (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) باللغة العربية، وعندما دخل الجيش الروسي مدينة (بتليس) كان بديع الزمان يدافع مع طلابه عن المدينة دفاعا مستميتا، حتى أنه جرح جرحا بليغا، وأسر من قبل الروس وسيق إلى معتقلات الأسرى في قوصتورما.. (في سبيريا).
وهناك استمر على إلقاء دروسه الإيمانية على الضباط الذين كانوا معه والبالغ عددهم (90) ضابطا. وبعد نشوب الثورة البلشفية والاضطرابات التي نجمت منها تمكن من الهروب من الأسر بأعجوبة نادرة وبعناية ربانية واضحة. مارا في طريقه بوارشو وألمانيا وفينا. وعندما وصل إلى استانبول منح وسام الحرب، واستقبل إستقبالا رائعا من قبل الخليفة وشيخ الإسلام والقائد العام وطلبة العلوم الشرعية. وكلفته الدولة بتسنم بعض الوظائف، رفضها جميعا إلا ما عينته له القيادة العسكرية من عضوية في (دار الحكمة الإسلامية)، التي كانت لاتوجه إلا لكبار العلماء، فنشر في هذه الفترة أغلب مؤلفاته.
وبعد دخول الغزاة إلى استانبول احس النورسي ان طعنة كبيرة وجهت إلى العالم الإسلامي، ولذك شمر عن ساعد الجد، ونشر رسالة (الخطوات الست) سرا هاجم فيها الغزاة بشدة، وأزال دواعي اليأس الذي خيم على كثير من الناس. حتى حكم عليه بالإعدام غيابيا من قبل الغزاة الإنكليز.
ولشهرته الواسعة وجهاده المتواصل دعي إلى أنقرة عدة مرات. ويصف دعوته هذه بالآتي: "دعيت لزيارة أنقرة سنة (1922م) وشاهدت فرح المؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان أمام الجيش الإسلامي، إلا أنني أبصرت-خلال موجة الفرح هذه- زندقة رهيبة تدب بخبث ومكر، وتتسلل بمفاهيمها الفاسدة إلى عقائد أهل الإيمان الراسخة بغية إفسادها وتسميمها.. فتأسفت من أعماق روحي، وصرخت مستغيثا بالله العلي القدير..." .
وهناك وجد أن معظم أركان الدولة لايؤدون حتى الفرائض الدينية، فوجه إلى المجلس النيابي (مجلس المبعوثان) بيانا مؤثرا إستهله بـ"أيها المبعوثون إنكم لمبعوثون ليوم عظيم". وحصلت بينه وبين مصطفى كمال مشادة قوية. وعرض على المجلس أيضا مشروع إنشاء الجامعة الإسلامية فلقي القبول، إلا أن ظروفا سياسية حالت دون إكمال المشروع.
تيقن بديع الزمان أن الإصلاح لايمكن أن يتم في الأروقة السياسية مع فساد الأسس وضعف الإيمان. فتوجه إلى مدينة (وان) سنة 1923م، واعتزل الناس في جبل (أرك) القريب منها، طوال سنتين متعبدا ومتأملا. وفي هذه الفترة تشكلت الحكومة الجمهورية بعد إلغاء الخلافة . ثم قام الشيخ (سعيد بيران النقشبندي) بالثورة ضد السلطة آنذاك ، وأشار إليه بديع الزمان أن يعدل عن موقفه هذا حيث ستسفك دماء بريئة، ولكنه لم ينتصح بنصيحته، وفعلا أريقت دماء زكية دون جدوى. وأخمدت الثورة، وعلى إثرها سنت القوانين واتخذت القرارات لقلع الإسلام من جذوره وإخماد جذوة الإيمان في قلب الأمة التي رفعت راية الإسلام طوال ستة قرون من الزمان. فمنع تدريس الدين في المدارس كافة، وبدلت الأرقام والحروف العربية في الكتابة إلىالحروف اللاتينية، وحرم الأذان الشرعي وإقامة الصلاة باللغة العربية، وجرت محاولات ترجمة القرآن الكريم وسعي لقراءة الترجمة في الصلوات. كما أعلنت علمانية الدولة، فمنع القيام بأي نشاط أو فعالية في صالح الإسلام، إذ حظر طبع الكتب الإسلامية، وأرغم الناس على تغيير الزي إلى الزي الأوروبي، فالرجال أرغموا على لبس القبعة والنساء على السفور والتكشف.. وشكلت محاكم زرعت الخوف والإرهاب في طول البلاد وعرضها، ونصبت المشانق لعلماء أجلاء، ولكل من تحدثه نفسه بالإعتراض على السلطة الحاكمة.
ورغم موقف بديع الزمان ذاك من الثورة، إلا انه لم ينج من شرارة الفتن والإضطرابات فنفي مع الكثيرين إلى غربي الأناضول، إلى مدينة (بوردور). ثم نفي وحده إلى ناحية نائية وهي (بارلا) في جنوب غربي الأناضول ووصل إليها سنة 1927م.
ظن أعداء الإيمان سيقضى عليه في (بارلا) تلك القرية النائية، ويخمد ذكره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الفياض. ولكن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده، فرعاه بفضله وكرمه، حتى غدت (بارلا) مصدر إشعاع عظيم لنور القرآن الكريم، إذ ألف الأستاذ النورسي هناك معظم (رسائل النور). وتسربت هذه الرسائل عن طريق الإستنتساخ اليدوي سرا، وانتشرت من أقصى تركيا إلى أقصاها.
ولإلتزامه هو وطلابه بالأذان الشرعي والحروف العربية ولإنتشار الرسائل الإيمانية الواسع. سيقوا من منفى إلى آخر، وزجوا في السجون والمعتقلات في عديد من ولايات تركيا طوال ربع قرن من الزمن، فكان المولى القدير يقيض لهذه الرسائل القرآنية من يستنسخها، وينشر هذا الفيض الإيماني، حتى أيقظت روح الإيمان الراكدة لدى أهل الإيمان، وأرستها على دعائم علمية ومنطقية في غاية البلاغة بحيث يفهمه العوام ويتزود منه الخواص.
وهكذا استمر الأستاذ النورسي على تأليف رسائل النور حتى سنة 1950م فأصبحت في (130) رسالة، جمعت تحت عنوان (كليات رسائل النور). ولم تتيسر لها أن ترى طريقها إلى المطابع إلا بعد سنة 1954م وكان يشرف بنفسه على الطبع حتى كمل طبع الرسائل جميعها.
لبى الأستاذ النورسي نداء ربه الكريم في الخامس والعشرين من رمضان المبارك سنة 1379هـ الموافق 23 آذار 1960م في مدينة (أورفة).
ولكن السلطات العسكرية الحاكمة لم تدعه يرتاح حتى في قبره، إذ قاموا-في أوائل شهر تموز- بنبش قبره ونقل رفات هذا العالم الجليل بالطائرة إلى جهة مجهولة، بعد أن أعلنوا منع التجول في مدينة (أورفة) وملؤوها بالجنود المدججين بالسلاح. تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته.
سعيد القديم وسعيد الجديد:يطلق الأستاذ النورسي على نفسه "سعيد القديم" قبل تأليفه لرسائل النور (سنة 1927م) حيث كان يأمل ان الإصلاح وخدمة الدين يمكن ان يكون في بعث الروح في مؤسسات الدولة الإجتماعية والدينية بالطرق السياسية.
بينما يعد نفسه بعد تلك السنة "سعيدا الجديد" الذي تولى مهمة إنقاذ الإيمان وترسيخه في القلوب والأذهان، باسلوب منطقي علمي قلبي فطري برسائل النور المستلهمة من فيض القرآن الكريم، وبالالتزام التام بالإخلاص لله، بعيدا عن الأجواء السياسية.
آثـــــاره : ترك الأستاذ النورسي وراءه موسوعة ايمانية رائعة تسد حاجة هذا العصر وتخاطب مدارك ابنائه، تلك هي "رسائل النور" التي استقاها من فيض نور القرآن الكريم، فهي :تفسير شهودي للقرآن الكريم، يعتمد على حقائق الآيات الكريمة، وإثبات معانيها، بتوضيحها من خلال استشهادات يتحاور فيها العقل والقلب، وتمتزج فيها الروح واللطائف الأخرى. فهي تفسير لمعاني القرآن الكريم أكثر مما هو تفسير لألفاظ الآيات الكريمة وعباراتها، تعالج القضايا والمقاصد الأساسية التي يدور عليها القرآن الكريم وهي : التوحيد والنبوة والآخرة والعدالة.
وتدحض في الوقت نفسه اباطيل الفلاسفة الاوربيين وشبهات اعداء الإيمان حول القرآن والإيمان من أساسها، وتثبت حقائق القرآن والإيمان وأركانه بدلائل قاطعة وأدلة رصينة وأمثلة واقعية قريبة.
1- آثار سعيد القديم :التي طبعت منها باللغة العربية :1- الخطبة الشامية-دواء اليأس-(ط. 1911 و1912)2- رجتة العوام ورجتة العلماء (صيقل الإسلام) (ط. 1912)3- اشارات الاعجاز في مظان الإيجاز (ط. 1918)4- قزل إيجاز على السلم (ط. 1921) 5- لمعات من التوحيد الحقيقي، رشحات من بحر معرفة النبي (ص)، لاسيما (ط.1921)6- قطرة من بحر التوحيد وذيل القطرة (ط. 1922)7- شمة من نسيم هداية القرآن وذيل الشمة (ط.1922)8- حبة من نواتات ثمرة من ثمرات جنان القرآن وذيل الحبة (ط.1922)9- زهرة من رياض القرآن الحكيم وذيل الزهرة (ط. 1923)10- ذرة من شعاع هداية القرآن (ط. 1922) وذيل الذرة (ط. 1923)11- حباب من عمان القرآن (ط. 1923)والتي طبعت منها باللغة التركية :1- محاكمات (ط. 1911)2- مناظرات (ط. 1911)3- ديوان حرب عرفي (ط. 1911 و1912)4- تشخيص العلة (ط. 1912)5- نقطة من نور معرفة الله جل جلاله (ط. 1919)6- سنوحات (ط.1920)7- حقيقت جكردكلري/1 (ط.1920)8- لمعات (ط. 1921)9- طلوعات (ط. 1921)10- شعاعات من معرفة النبي (ص) (ط. 1921) 11- رموز (ط. 1921)12- اشارات (ط. 1921)13- لمعات (ط. 1921)14- خطوات ستة (بدون تاريخ) باللغة العربية والتركية 15- حقيقت جكردكلري/2 (ط.1921)2- آثار سعيد الجديد (رسائل النور)1- الكلمات : تضم 33 كلمة باللغة التركية2- المكتوبات : تضم 33 مكتوبا باللغة التركية 3-اللمعات : تضم 33 لمعة باللغة التركية 4- الشعاعات : تضم 15 شعاعا باللغة التركية5- اشارات الإعجاز في مظان الإيجاز : باللغة العربية (من آثاره القديمة وضمه إلى (رسائل النور)6- المثنوي العربي النوري (ويضم رسائل من آثاره العربية : لمعات، رشحات، لاسيما، قطرة، ذرة، شمة، حبة، زهرة، شعلة، نور من انوار نجوم القرآن، ونقطة "باللغة التركية")7- الملاحق في فقه دعوة النور (وتضم : ملحق بارلا، ملحق قسطموني، ملحق أميرداغ 2.1 باللغة التركية)8-صيقل الإسلام (آثار سعيد القديم) : محاكمات، قزل ايجاز على السلم (في المنطق)، تعليقات على برهان الكلنبوي (في المنطق)، السانحات، المناظرات، المحكمة العسكرية العرفية، الخطبة الشامية، الخطوات الست.9- سيرة ذاتية باللغة التركيةولقد من الله علينا بفضله وكرمه ترجمة رسائل النور كاملة إلى اللغة العربية.
وحققنا العربية منها على اصولها المخطوطة. كما ترجمت الأربعة الأولى منها إلى اللغة الإنكليزية الأخت الفاضلة شكران واحدة. وترجمت كثير من الرسائل الصغيرة إلى 15 لغة اخرى أو يزيد.
تعليقات