أستاذي النحريرالذي علمني الحرف الدكتور عبده الراجحي، ودرست على يديه فقه اللغة بجامعة الإسكندرية مع أساتذة أفذاذ اعطونا الكثير من الوقت والجهد

 

عَبْدُه الرَّاجِحِي في سُطُورٍ
بقلم :محمود عبد الصمد الجيار
                               بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.أما بعد..فهذه ومضات سريعة عن الدكتور عبده الراجحي،  تعالى:
· الاسم والنشأة:
عبده علي إبراهيم الراجحي.
ولد يوم السبت: 27 من رجب الفرد 1356 هـ، الموافق 2 من أكتوبر 1937م. في قرية كفر الترعة الجديد،مركز شربين، مدينة المنصورة، شمال الدلتا، محافظة الدقهلية، جمهورية مصر العربية.. تعود أصول عائلته إلى المملكة العربية السعودية.. كبير أسرته وعميدها..

· التعليم:
حصل على درجة الليسانس في الآداب قسم اللغة العربية جامعة الإسكندرية، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، عام 1959م. وعلى درجة الماجستير في الآداب في العلوم اللغوية تحت عنوان: (منهج ابن جني في كتابه المحتسب) إشراف الدكتور حسن عون من الجامعة نفسها في 13 يونيو 1963م. ثم على درجة الدكتوراة في العلوم اللغوية أيضًا، تحت عنوان: (اللهجات العربية في القراءات القرآنية) في 1 يناير1967م. إشراف الدكتور السيد أحمد خليل، من الجامعة نفسها.

عبده الراجحي طالبًا:
مما أخبرني به الدكتور عبده الرجحي، أنه جاء إلى جامعة الإسكندرية، قاصدا قسم اللغة الإنجليزية، إلا أن عميد الكلية وجَّهه إلى قسم اللغة العربية، وأصر على ذلك.. وكان يهضم جيدا ما يلقيه الدكاترة من نصوص التراث، ثم بعد أن ينتهي الدكتور المحاضر من الشرح، يلتف الطلاب حول زميلهم عبده الراجحي ليفسر لهم ما غمض عليهم من المحاضرة، وهكذا، مراتٍ.. ومن إنتاجه العلمي في مرحلة الدراسة: (فهرس مخطوطات المسجد الأحمدي بطنطا)، وقد كان مُعيدًا بقسم اللغة العربية، وأعدَّ هذا الفهرس مشاركة مع زميله المُعيد بقسم الفلسفة: جلال أبو الفتوح، والأستاذ الدكتور: علي سامي النشار..

أساتذته:
من أساتذته:
- الشيخ بلال عبد الجواد، في (كتّاب القرية).
- الأستاذ محمد موسى، مدرّس اللغة العربية، في المرحلة الإبتدائية.
- الدكتور محمد محمد حسين، في مرحلة الليسانس.
- الدكتور علي سامي النشار، في مرحلة الليسانس.
ـ الدكتور حسن عون في مرحلة الماجستير.
ـ الدكتور أمين الخولي في مرحلة الدكتوراة.
ـ الدكتور السيد أحمد خليل في مرحلة الدكتوراة.
- الدكتور محمود السعران.
تلامذته:
للراجحي عدد كبير من التلامذة المنتشرين في أنحاء العالم العربي والإسلامي كافة؛ ممن تتلمذوا على يديه في مرحلة الليسانس أو في مرحلتي الماجستير والدكتوراة؛ وما من جامعة أو مؤسسة لغوية إلا وتجد للراجحي ذكرًا ما..

· الراجحي وابن جني:
من خلال صحبتي لهذا العالم الجليل  تبين لي أنه كان متأثرًا جدًّا (بأبي الفتح عثمان ابن جني) على وجه خاص.. وليس أدل على ذلك من رسالة الماجستير: (منهج ابن جني في كتابه المحتسب)؛ ولعلمي أن الشيخ كان يحبه ويجل عقليته.. استأذنته في أن أقرأ عليه كتاب (اللمع) لابن جني، و(توجيه اللمع) لابن الخباز.. ومن الجدير أنه قد كان له عملٌ ما على كتاب (سر صناعة الإعراب لابن جني)؛ إذ عندي بخط يده الجزء الثاني من الكتاب في حوالي 400 صفحة.. وله تحليلات رائعة وتعليقات مفيدة على نصوصٍ من كتاب الخصائص، وهي مطبوعة، ومنشورة.. وقد كان يقول لي: (قال شيخي ابن جني كذا وكذا)؛ حتى إنني ظننتُ - في بادئ الأمر- أن ابن جني شخصية معاصرة..

· مسيرته الجامعية:
بدأ حياته العلمية والمهنية في ميدان التدريس الجامعي معيدًا في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، سنة 1961م. ثمّ مدرسًا سنة 1967م. ثم أستاذًا للعلوم اللغوية سنة 1977م..
· الإعارات والزيارات والمؤتمرات:
- معار إلى جامعة بيروت العربية، 1971 - 1975، 1979 - 1983.
- مهمات علمية بجامعات ألمانيا وبريطانيا والنمسا واليابان وأزبكستان وتتارستان وروسيا.
- أستاذ زائر بجامعة صنعاء، وفي معظم الجامعات العربية.
- مؤتمر العلاقات الإسلامية البيزنطية، سالونيك، اليونان. 1979 م.
- الندوة الأولى للسانيات، الرباط، المغرب. 1981 م.
- مؤتمر مشكلات تعليم اللغة العربية بالجامعات العربية، الإسكندرية. 1981 م.
- الندوة الأولى لتعليم اللغات، الكويت. 1985 م.
- معار إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1987 - 1989.
- ندوة مشكلات تقنية الحاسوب واللغة العربية، الرياض.
- مؤتمر تطوير اللغة العربية في ماليزيا، 1990 م.
وغيرها كثير، مما يعقد في المجامع اللغوية ومؤسسات التعليم.

· المناصب العلمية والإدارية:
تقلد مناصب إدارية وعلمية عديدة طوال مسيرته العلمية:
- معيد بقسم اللغة العربية، جامعة الإسكندرية، 1961 - 1967.
- مدرس بقسم اللغة العربية، جامعة الإسكندرية، 1967 - 1972.
- أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية، جامعة الإسكندرية، 1972 - 1977.
- أستاذ بقسم اللغة العربية، جامعة الإسكندرية، 1977.
- عميد كلية الآداب بجامعة بيروت العربية.
- مدير مركز تعليم اللغة العربية للأجانب بجامعة الإسكندرية. وهو من أسّسه.
- مديرمعهد الدراسات اللغوية والترجمة في جامعة الإسكندرية.
- رئيس قسم اللغة العربية، جامعة الإسكندرية.
- وكيل كلية الآداب للدراسات العليا والبحوث، جامعة الإسكندرية.
- رئيس قسم تأهيل معلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
- عضو مجمع اللغة العربية.
- عضو اتحاد الكتّاب المصري.
- عضو اللجنة الدائمة للترقية إلى درجة الأستاذ المساعد والأستاذ في الجامعات المصرية.
- أستاذ فاحص للإنتاج العلمي بالجامعات العربية وجامعات شرق آسيا.
- عضو لجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلى للثقافة.
- عضو لجنة تحقيق التراث بالمجلس الأعلى للثقافة.
- انتُخِب عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة ـ مجمع الخالدين ـ في شباط (فبراير)عام 2003 م. في المكان الذي خلا بوفاة الدكتور محمود مختار..

· الجوائز التي حصل عليها قبل وفاته:
- جائزة الجامعة التقديرية.
- جائزة طه حسين.

· الجوائز والتكريمات التي كانت بعد وفاته:
- جائزة الدولة التقديرية.
- عقد مجمع اللغة العربية تأبينا له في مايو 2010.
- كما فعلَت ذلك جامعة الإسكندرية، وبعض المؤسسات الأخرى العربية، والأجنبية.
- من التكريمات أيضا المجموعُ الكبير الذي كتبه عنه الأصدقاء والزملاء والتلاميذ، في المعالم الإنسانية في شخصيته، والقيم العليا، وخدمته للعلم واللغة على وجه الخصوص.
- بعد موته بعام، صدرت رسالة دكتوراة تركية، بعنوان: (عبده الراجحي والتطبيق النحوي).
- وبعدها، رسالة ماجستير لبنانية، بعنوان: (الجهود اللغوية والمعرفية للدكتور عبده الراجحي).
- وقد دار نقاش أمامي عن محاولةٍ مصرية، في جامعة الزقازيق، عن إعداد رسالة ماجستير عن الراجحي من جانبٍ ما.
- ومن تكريم الله تعالى له أيضا، ما يكتبه الباحثون عن كتبه، والوقوف على منهجه في التناول للمسائل اللغوية.
- ومن أجلّ التكريم بقاء كتبه في قاعات الدرس الأكاديمية وغيرها، مما يصله بالأحياء، ويجعل الثواب موصولا؛ (علم ينتفع به).

· مؤلفاته:
1- إعراب القرآن الكريم.
2- التطبيق الصرفي.
3- التطبيق النحوي.
4- الدكتوراة = اللهجات العربية في القراءات القرآنية.
5- الشخصية الإسرائيلية.
6- العربية الجامعية لغير المتخصصين.
7- اللغة وعلوم المجتمع.
8- الماجستير = منهج ابن جني في كتابه المحتسب.
9- النحو العربي والدرس الحديث.
10- دراسات لغوية باللغة الإنجليزية.
11- دروس في المذاهب النحوية.
12- عبد الله بن مسعود.
13- علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية.
14- فقه اللغة في الكتب العربية.
15- في التطبيق النحوي والصرفي.
16- فهرس مخطوطات المسجد الأحمدي بطنطا.
17- محاضرات في الأدب المقارن.
18- مهارات العربية في النحو والصرف.
19- هيراقليطس.
20- وفي أخريات حياته كان يعمل على إخراج مؤلَّف كبير، تحت عنوان: (معاجم القرآن الكريم)؛ وكان قد أنجز (المعجم النحوي) منه، في حوالي 700 صفحة تقريبًا؛ غير أن هذا الكتاب لم يُطبع، ومات الشيخ، والكتاب مازال مخطوطًا على الورق؛ ولم نعرف عنه شيئا، وفي أثناء الكتابة كان  تعالى يطلعني عليه، وذلك مرات؛ تشجيعا لي وتواضعا منه في آن واحد.
21- بالإضافة إلى عمل آخر هو (موسوعة القراءات) التي كانت بالاشتراك مع الدكتور محمد أسعد النادري، والدكتور عصام نورالدين، ومحمود عبد الصمد الجيار.. وتوفي الراجحي قبل أن ينتهي العمل.
22- له أيضًا عدد من المقالات العلمية المنشورة في المجلات العربية والإنجليزية، وقد جمعتُ منها ما تيسر لي الحصول عليه، ونشرتُها في كتابٍ برعاية دار الصحابة للتراث بطنطا.
23- ومن إنتاج الراجحي العلمي ذلك القدر الهائل من المناقشات العلمية لرسائل الماجستير والدكتوراة وغيرهما.
24- ومن إنتاجه كذلك التقريرات العلمية على البحوث والترقيات.
25- وكذلك المقدمات الرائعة النافعة على الكتب والرسالات؛ لا سيما إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة (الذخائر)، على كتاب الصاحبي، مثلا.
26- وكذلك (المجالس النحوية)، و(المجالس الصرفية)، و(المجالس الإعرابية)؛ وهي شرائط صوتية مفيدة جدًّا، حوالي 27 ساعة صوتية.

· موت ولَده:
ما من شخص شاهد مراسم دفن ولده البكر (محمد) إلا ويحكي لك باندهاش وإعظام ما جرى في تلك الحادثة؛ حيث تجلي الإيمانُ وتحقق الصبرُ، ويلقي عليك جُمُلًا من خطبة الراجحي على القبر.. أما حينما رفع رأسه إلى السماء جاهرًا خاشعًا بقوله: (راضٍ يا رب / رضيتُ يا رب) فلا تصفها الحروف..
· عبده الراجحي والقرآن الكريم:
- يحفظ القرآن الكريم؛ وكان يبدأ يومه بساعة يقرأ فيها القرآن الكريم بعد الفجر، ونادرًا جدًّا ما يتخلف عن ذلك..
- للقرآن الكريم أهمية ملموسة وتقديمٌ ملحوظ في أعمال الراجحي كلِّها؛ في الماجستير، في الدكتوراة، في جميع أعماله.
- كان يتردد على أهل القرآن والقراءات، وظل مدةً يعقد جلساتٍ قرآنيةً منتظمة في بيته.
- كلّما ذهبت إليه، نقرأ أولًا قدرًا من اللغة، ثم نتبعه بعد ذلك بتلاوة القرآن الكريم حتى نطبّق ما أخذناه في أثناء القراءة؛ فنعرب، ونوجِّه، ونعلِّل، ونجوِّد ... إلخ. وكانت الجلسة الواحدة لا تقل في الغالب عن ثلاث ساعات، وتمتد أحيانًا إلى خمس ساعات وستٍّ، وأحيانًا اليوم كله..
- كان يردد كثيرا من الآيات، وهو في شدة المرض، وهبَّ فجأة بصوت مرتفع: (وإبراهيم الذي وفَّى، يا شيخ محمود)، ومرة ثانية بنفس الوصف: (وربك الأكرم)..

قراءاتي معه:
- قرأت عليه: التطبيق النحوي، والتطبيق الصرفي، وشذور الذهب: قرأتها كاملة. وقرأت كذلك أبوابا كثيرة من (شرح الهداية للمهدوي)، و(توجيه اللمع لابن الخباز)، و(أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز للجرجاني) ... إلى غير ذلك. وقبل ذلك شرح لي أبواب النحو بخط يده في عشرين جلسة، والصرف في سبع جلسات. كما كان يخصِّص لي وقتًا لتعليمي اللغة الإنجليزية..
- قرأ عليَّ ختمةً برواية حفص عن عاصم، وفي بعضها عرضٌ لاختلاف القراءات العشر، عرضًا وسماعًا، من أول القرآن الكريم إلى آخره، ثم أجزته بسندي المتصل إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم. ثم ختمة برواية شعبة عن عاصم؛ من أول القرآن الكريم إلى سورة إبراهيم. وعندها نزل به مرض الموت، وقد كان يذهب في إغماء أحيانا، وحينما يفيق، يسألني - مرات - عما وصل إليه في ختمة رواية شعبة..

الوفاة
- كنت أذهب إليه في الصباح قبل موعد الزيارة في المستشفى، حتى منتصف الليل أحيانًا- كنت كلما سألته عن صحته، وهو في أشد المرض، قال: (نحمد الله حمدًا كثيرًا)؛ ويرددها ويقول: (طهور، إن شاء الله).
- من العجيب أنه لمّح بموعد موته قبل أن يموت بحوالي عشرين يومًا.. فحصل أنه  قد قال في أول شهر أبريل وهو نائم أو مغمى عليه: اليوم 26 وغدًا 27؛ وسمِع ذلك منه ابنه الأستاذ هشام؛ فقلتُ في نفسي أخشى أنه سيموت في هذين اليومين؛ وكان الأمرُ... فتوفي يوم 26 ودفن يوم 27. وكان يقول أشياء كثيرة من (العلم) وهو مغمى عليه..
- في آخر يومين كان كلما أفاق من إغمائه وهو على الفراش شخص ببصره إلى السماء وحدَّق بعينيه بشدة ووجهه يملأه السرور والحبور والبهجة ـ كأنه ليس مريضًا ـ ويشير بيديه إلى السماء، قائلًا: (أقبلوا .. تعالوا) ويحاول أن ينهض. وقد حدث هذا الأمر حوالي خمس مرات..
- وفي الموعد.. جاء الأجل، بعد الظهر بنصف ساعة.. نهض، وكأنه صحيح معافى؛ وأوصى أهله، ونطق بالشهادتين، وخرجت روحه بخفةٍ وسهولة..
- كان ذلك يوم الإثنين 12 من جمادى الأولى 1431 هـ، الموافق 26 من أبريل 2010 م. بعد صراعٍ مرير مع مرضٍ عضال. وقد صُلّي عليه في مسجد المواساة، ودفن في مدافن المنارة، بحي الحضرة، الإسكندرية..
- سألته مرة، ونحن نقرأ في شذور الذهب: (كيف يِكون بِّري بِكَ بعد موتك؟) قال: (بالمذاكرة، والاجتهاد في العلم والعمل).

· نبذ من كتاباته وأقواله:
إن مطلق العبودية لله تعالى.. لهي مطلق الحرية للعبد.
لولا الإسلام.. لتأخرنا، وتأخرت لغتنا أكثر من ذلك.
الزم السماحة والوسطية والإيغال في الدين برفق.
العلم سؤال.
احتكاك الحجارة يومض نارًا؛ فما بال احتكاك العقول.
الجامعة أستاذ،والأستاذ الحق جامعة؛ وما تذكر جامعة على مر التاريخ إلا ويقال إن فيها فلانا وفلانا من الأساتذة، ولا يذكر أستاذ إلا ويقترن به اسم جامعته... أساتذ شق لنفسه في العلم مجرى تدفقت فيه ومنه مياه كثيرة.
من أعجب العجب في حياتنا العربية المعاصرة أن مشكلة ما قد تنشأ، وتظل تنمو وتتضخم، ثم لا يكون منا إلا نعايشها المعايشة الودودة؛ لأننا أهل أُلفة وأصحاب عِشْرة، وتسودنا في نهاية الأمر حالة مستتبة من الطمأنينة، ومن السكينة، يحسدنا عليهما غيرُنا من خلق الله.
ومن عجب أننا كثيرا ما نتجاهل الحقائق الماثلة بين ظهرانينا من كثرة إلفنا لها.
الأستاذ لا يستحق صفة الأستاذية إلا بما يخلف من تلاميذ.
مهما يبلغ الإنسان من العلم.. فيجب عليه ألا يفقد القدرة على التلمذة.
يجب أن ندرك أنه ليس أحد فريدا في بابه؛ بل هو حلقة في سلسلة طويلة مضيئة منذ اجتهادات الخليفة الأول  إلى يومنا هذا.
أن تكون أستاذا.. يعني: أن تكون طالبا دائما للعلم؛ وإذ ذاك، يتحول لديك مقياس الزمن إلى مقياس واحد.. هو مقياس الإنجاز في طلب العلم.
لا طريق إلا طريق العلم.. ولا علم إلا بإخلاص.
إننا الآن نعيش عصرًا تتفجر فيه المعرفة، ويتلاصق الإنجاز العلمي في إيقاع سريع، وليس من حقنا أن ننجرف مع السيل، وليس من حقنا أيضًا أن نتخلف عن الركب؛ فالمعرفة العصرية لا تعرف السدود وإنما هي تقتحم علينا حياتنا من كل سبيل، مقصودة مرصودة، تتكالب عليها تيارات من كل مكان، تتغير وسائلها وأدواتها وتتوحد غاياتها. وهي تيارات تتوجه إلى شبابنا على وجه الخصوص، وما ينبغي لنا أن نواجهها بالخطبة البليغة، أوبالعبارة الرنانة، وإنما الأمر أمر علم، فهو أخطر طريق، وهو أصح طريق. وأول هذا الأمر أن نعرف ما نملك، وأن نقدمه للناس على ما ينبغي أن يكون التقديم.
ثمة حقيقة راسخة لا يجادل فيها أحد؛ هي أن العربية لغة طبيعية كغيرها من اللغات الطبيعية في العالم، لكنها في الوقت نفسه تكاد تمثل حالة فريدة لا يشركها فيها غيرها من اللغات؛ فهي اللغة المعاصرة الوحيدة التي اتصل تاريخها اتصالا كاملا دون انقطاع منذ وصلت إلينا نصوصها الأولى قبل ستة عشر قرنا من الزمان.
أود أن أؤكد أن ثمة مبدأين يجب أن يكونا أصلين في كل ما نصدره الآن وفيما يقبل من الزمان: الأول- أنه لا تنمية، ولا تقدم، ولا تحقيق للذات دون تعليم صحيح. الثاني- أنه لا تعليم صحيح في بلادنا دون تعليم حقيقي للغة العربية. وهذان المبدآن كليان Universal ينطبقان على البشر جميعا، لا يرتكنان إلى شيء من العاطفة أو الانتماء القومي والثقافي، بل يستندان إلى نتائج ودراسات علمية تؤكد أن المعرفة لا تكون إلا إذا سكنت لغة أصحابها.
نحن في حاجة إلى تغيير جوهري في التعليم وليس إلى إصلاحه على ما يتنادى به الناس.
من معضلات الحياة العربية المعاصرة أننا حين نتصدى لقضية ما لا ندرسها درسا يشمل عناصرها في آن واحد، بل يغلب علينا بحث كل عنصر في صورة منعزلة.
قد يكون من نافلة القول أن نؤكد أن مناهج التعليم إنما هي تطبيق لمواقف نظرية، بعضها يناقض بعضها الآخر مناقضة كاملة في أسسها الفلسفية، وأن النظريات تبقى تجريدات ما لم تتحول إلى واقع فعلي يمارسه الناس ممارسة حقيقية. وأن أفضل المناهج هي التي يستخلصها كل مجتمع بما يناسب خصائصه الثقافية والتاريخية.
الأديب العربي الحق هو الذي ينبغي أن يؤسس أدبه على فكر عربي وعلى ذات عربية وهؤلاء الذين ننتظر منهم الدور.. ويجب أن يكون النضال ليس بالإشعار وإنما أن نعرف ذاتنا حق المعرفة.. وأنا أشك في وضوح الذات العربية في الأجيال العربية المعاصرة وأتصور دور الأديب العربي الحقيقي هو أن يصل إلى عمق الذات العربية وأن يشعر بها كل فرد في العالم العربي.
الذي نراه أن خصائص المنهج العربي لا ينبغي أن نفتش عنها عند أرسطو أو عند الهنود وإنما نتحراها فى البيئة الإسلامية وبخاصة عند الفقهاء والمتكلمين.
الذي لا شك فيه أن علوم اللغة عند العرب نشأت فى ظلال القرآن، وأنها وغيرها من العلوم كانت تهدف إلى خدمة النص الكريم.
يعيش العالم الآن عصر العلم ولكن العرب لم يدخلوا هذا العصر إلى الآن، والتخلف الذي نعيشه يرجع في أساسه إلى غياب المنهج، وأود أن أؤكد أنه لا يقتصر على موضوعات العلم، وإنما هو أداة تعالج بها كل جوانب الحياة في: السياسة، والاقتصاد، والأدب، والطب، واللغة، والكرة، والسباحة، والطهو، وطريقة تناول الطعام، وتنظيم الوقت، وتوزيع العمل... إلخ.
سنة الله تعالى في الكون قد اقتضت ألا تكون هذه الحياة على هيئة واحدة، وإنما تتعدد وتتنوع وتختلف باختلاف المكان والزمان. من هنا لم يكن تنظيم الإسلام لقواعد الحركة في الحياة تنظيما واحدا جامدا لا يتغير؛ بل وجدنا فيه على امتداد تاريخه تنوعا وتعددا واختلافا يصدر في أصله عن هذه السنة الإلهية في الكون.
إذا كان الخطباء يرفعون أصواتهم بأن رسول الله  ترك هذه الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.. فينبغي أن نفهم من ذلك أنه لا مكان لغموض أو تغافل أوتجاهل، بل نلقي الضوء على كل ما يجد أمامنا في الحياة ولا نترك فيه نقطة واحدة يلفها الظلام.
حين أراني في المجمع العريق أعلم علم اليقين أن ذلك حصاد أجيال متوالية من المربين والمعلمين، أسهم كل واحد منهم في صناعة إنسان.
لنذكّر قومنا - دائمًا - أن التنمية لا تتحقق بالتخطيط الاقتصادي والسياسي فحسب، بل يستحيل وجودها ما لم تقم على قاعدة لغوية مكينة.
من أسف أن أشير إلى أن المواطن الفرنسي الذي يعلّم الفرنسية خارج وطنه يعفى من الجندية؛ فهم يجعلون تعليم اللغة الوطنية مناظرًا لحماية تراب الوطن، وهذا حق، فكيان الأمة ولغتها لا ينفصلان.
لقد أمرنا أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، وأمرنا بإتقان العمل؛ فكيف تكون محاسبة النفس إن لم تكن مراجعة ما تعمل؛ ننظر فيه، ونختبره، ونعدّله، أو نعدِل عنه. وهذه مسألة جوهرية ما ينبغي لنا أن نغض الطرف عنها، أو أن نرجئها إلى حين الانتهاء من كيت وكيت، وإنما المراجعة الدائمة مطلوبة، وليس ثمة عمل بشري كامل على الإطلاق. وإني لأشهد الله أن كثيرًا مما نعلِّمه في حاجة إلى مراجعة، وعلى أخص الخصوص تعليمنا للعربية.
ليس من العدل أن نتغافل عن الحقائق الصارخة، بل الواجب الفرض أن نتعلم كيف نعلِّم، وألا يتوقف لنا سعي في سبيل الإتقان. ولنعلم أن العلم لا يمكن أن يكون فرديًّا، وإنما العلم جماعة، وكيف نفهم الشورى إن لم تكن احتكاك عقل بعقل، يتولد عنه الضوء الذي ينير الطريق.
إن وجود عامية وفصيحة شيء طبيعي في اللغات، والقضية قضية تعليم.. والذي أود أن أؤكده أنه لا توجد ازدواجية لغوية في العالم العربي، لأن العاميات ليست من لغة أخرى.. والعربي الأمي يفهم الفصحى ويستجيب لها، وإن كان لا ينتجها، وعلينا أن نبحث عن مكمن الخطر في مجال آخر، وآراه في تعليم العربية.
يجب أن نعترف بأننا تخلفنا عن الركب.. ففي عصور الازدهار كانت العربية نموذجا لكل اللغات، وكان العلماء يقلدون النحاة العرب كما حدث في الأندلس.. أما الآن فنحن لم نصنع شيئا، ولم نتقدم خطوة، لا من حيث الإفادة من الدرس الحديث فحسب؛ بل من حيث إدراكنا الحقيقي للتراث.
ليس هناك عائق أمام ازدهار العربية في العالم المعاصر إلا شيء واحد، هو أن ندرك أنه لا طريق إلا طريق العلم.. ولا علم إلا بإخلاص.
لا توجد الآن مدارس نحوية في العالم العربي، ولا توجد تيارات فكرية حقيقية، وإنما يوجد على أحسن تقدير لغويون مستهلكون، يتبعون اتجاها لغويا هنا أوهناك، وهذا الاتباع يفتقد التمثيل في الأغلب، فضلا عن أنه يفتقد المشاركة الفاعلة.
علينا أن نعترف بأن نشاطنا اللغوي في العربية مريض، والعافية موجودة ظاهرة، لكننا نتنكب الطريق.
اللغة حركة الإنسان، وسكونه، وفعله، بل هي هو تلازما وجوديا.
ما من سلوك مرفوض إلا وراءه شهوة تصم الفرد والمجتمع بالتأخر، وتكشف عن نقص حقيقي في فهم الإسلام.
(استووا واعتدلوا، استقيموا يرحمكم الله)؛ ماذا يفهم المسلمون الآن من هذا النداء العظيم؟ إن استواء الصف في الصلاة ليس سوى رمز لاستواء مجتمع المسلمين، وما الاستواء والاعتدال والاستقامة إلا الانضباط، واحترام القواعد التي يستقر عليها أهل الرأي لصلاح المجتمع وتقدمه.
ليس من بيننا أحد يشك في أن أهم قضية تواجه العالم العربي قضية التعليم، فإما أن يكون لدينا تعليم حقيقي ملائم وإما ما تعلمون جميعا، وليس من بيننا أحد يشك في أن تعليم اللغة الأولى قلب أي تعليم، وحين يصيب هذا القلب خلل ما ينهار هذا التعليم من أساسه.
إن أهم خصائص المواطنة أن يشترك الناس جميعا في أمور وطنهم، ولا يتحقق ذلك إلا بوجود أساس ثقافي ومعرفي مشترك يطلق عليه المختصون الجذع الثقافي للوطن، وهذا الجذع يتآكل كل يوم بفعل الواقع البائس للتعليم العام.
إن الحياة الإنسانية لابد أن تعتمد على ما عندها أولًا، وعليها أيضا ألا تغمض عينها على كل ما يحدث في العالم، وأن تتصل به وتعرفه وأن تتمثله، وأن يصدر عنها بعد ذلك أي تطور صدورا داخليا ممتزجا بمكوناتها الذاتية.
اللغة العربية لغة طبيعية مثل اللغات الطبيعية الأخرى، لكنها تختلف عنها اختلافا أساسيا، فهي لغة ممتدة التاريخ، حياتها موصولة غير منقطعة، ومن ثم فإن ما حدث من تغيير جوهري في الإنجليزية والفرنسية والألمانية لم يحدث في العربية وهذا الاتصال في الحياة جعل الفصحى المعاصرة قريبة جدا من فصحى التراث.
مسألة العامية والدعوة إلى استعمالها أمرها معروف، وأظن أنه من الخير ألا نلقي إليها بالًا، لأنها دعوة تقتل نفسها بنفسها، ونحن نعرف المحاولات التي بدأت منذ القرن الماضي، انتهت جميعا إلى الفشل، وليس غريبا أن نرى الذين يدعون إلى العامية يستعملون الفصحى في دعوتهم، لأنها هي التي ترتبط بعقول الناس ووجدانهم فضلا عن أنك لا تستطيع أن تخاطب العرب في جميع أقطارهم إلا باللغة التي يفهمونها جميعا وهي الفصحى، وأصحاب الدعوة إلى العامية يسعدون حين يجدون من يتصدى لدعوتهم بالنقد لأن هذا وحده يعطي دعوتهم شيئا من الحياة.
أؤكد أن الحرب على العربية ليس مقصورا على الدعوة إلى استخدام العامية أو إلى كتابة العربية بحروف لاتينية أو فينيقية أو غيرها. فهاتان دعوتان تحملان الموت الذاتي منذ البداية، لكن الحرب الحقيقية الآن فيمن يستعمل العربية في أنماط غير عربية، بحيث نجد كلاما عربيا من حيث الأصوات لكنه موضوع في قوالب تعبيرية لا تمت إلى الثقافة العربية ولا إلى المعرفة العربية.
النحو العربي نشأ لمواجهة اللحن الذي بدأ يتفشى في المجتمع الإسلامي بعد اتساع الفتوح؛ وأعتقد اعتقادا قويا أن هذا يجافي الحقيقة، لأن النحو نشأ مع العلوم الإسلامية الأخرى لهدف محدد هو محاولة فهم النص القرآني ومسألة الفهم مسألة لا نهاية لها، إذ لا يقال إن نصًّا ما قد فُهِم الفهم الأكمل الذي لا محاولة بعده، ومن هنا كان لابد من الأخذ بالأدوات التي تعين على فهم نص القرآن الكريم.
لاشك أننا مقصرون جدا في تقديم التراث؛ لأننا مقصرون في درسه وفي فهمه.
لا ننكر إفادتنا من جهود الاستشراق؛ لكن علينا أن ننبه إلى اختلاف الغايات واختلاف المناهج.
يكاد الإجماع ينعقد على أن تعلم أي شيء لا يحدث في فراغ، أي إن التعلم لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان مرتبطا بشيء معروف لدى المتعلم، ومن ثم فلابد أن يجري التعلم في سياق مألوف. وهذا القانون الأساسي من قوانين التعليم هو الذي ينتج القاعدة المعروفة عن ضرورة الانطلاق من المألوف إلى غير المألوف.
الذي لاشك فيه أن الخطاب هو الأساس في النشاط اللغوي.
يستحيل التقدم في عمل علمي حقيقي دون وجود إطار نظري يحكمه ويحدد مساره.
اللغة تعلم الأخلاق، وتبني الفكر، وتقوي الشخصية.
إذا كتبت شيئا.. فانظر فيه مرة أخرى.
متى ضاعت اللغة.. ضاع مستقبلنا.
كن شمعة تحترق لتضيء للآخرين.
وبعد، فإنني أود أن أنوه بما قدمته دار الصحابة للتراث بطنطا من مجهود في إعادة نشر جميع ما أنتجه الأستاذ الدكتور عبده الراجحي؛ كما أطمع من الله تعالى وحده أن يتقبل ذلك منا، ويجعله خالصا له سبحانه.
الحمد لله رب العالمين.

وكتبه
محمود عبد الصمد الجيار
الملفات المرفقة

استاذي الدكتور عبده الراجحي الذي كان علما  في قواعد اللغة العربية 

محاضرة:"خطاب الوقت عند المسلمين" للدكتور عبده الراجحي في جمعية متخرجي الجامعة في الشمال عام 2006

الدكتور مصطفى الشكعة أستاذ الحضارة الإسلامية 


 







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

الكلمات:القدسُ وعكّا نحنُ إلى يافا في غزّةَ نحنُ وقلبِ جِنين الواحدُ منّا يُزهرُ آلافا لن تَذبُل فينا ورقةُ تين ما هان الحقُّ عليكِ ولا خافَ عودتُنا إيمانٌ ويقين لن نسكتَ لن نستسلمَ لا لا لا لا نفديكِ لنحيا يا فلسطين فلسطين بلادي نحملُها جُرحاً أو أملا لا لا لا ورح نبقى فيها ليوم الدين فلسطين بلادي كي تُشرقَ شمسُكِ فوقَ أمانينا وينامَ صغارُكِ مُبتسمين ونراكِ بخيرٍ حين تُنادينا لعمارِ بُيوتٍ وبساتين سنعيدُكِ وطناً رغم مآسينا أحراراً نشدو متّحدين لن نسكتَ لن نستسلمَ لا نفديكِ لنحيا يا فلسطين فلسطين بلادي نحملُها جُرحاً أو أملا لا ورح نبقى فيها ليوم الدين فلسطين بلادي#palestine #فلسطين

العالم روبرت غيلهم زعيم اليهود في معهد ألبرت أينشتاين، والمختص في علم الأجنة أعلن إسلامه بمجرد معرفته للحقيقة العلمية ولإعجاز القرآن