فضل الخشوع في الصلاة- من كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله

   فضل الخشوع في الصلاة- من كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله -الإمام أبي حامد الغزالي

قال الله تعالى:”وأقم الصلاة لذكري” وقال:” ولا تكن من الغافلين” وقال:

” لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون”

قيل سكارى من كثرة الهم، وقيل من حب الدنيا، وقال وهب: المراد به ظاهره، ففيه تنبيه على سكر الدنيا، إذ بين فيه العلة فقال:“حتى تعلموا ما تقولون” وكم من مصل لم يشرب خمرا وهو لا يعلم ما يقول في صلاته.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم:” من صلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشيء من الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه” وقال :” إنما فرضت الصلاة وأمر بالحج والطواف وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله تعالى، فإذا لم يكن في قلبك للمذكور الذي هو المقصود والمبتغى عظمة ولا هيبة فما قيمة ذكرك” وقال صلى الله عليه وسلم للذي أوصاه:” وإذا صليت فصل صلاة مودع” أي مودع لنفسه، مودع لهواه، مودع لعمره، سائر إلى مولاه.

كما قال عز وجل:” يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه” وقال تعالى:” واتقوا الله ويعلمكم الله” وقال تعالى:” واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه”

والصلاة مناجاة فكيف تكون مع الغفلة؟ وقال بكر بن عبد الله :” يا ابن آدم إذا شئت أن تدخل على مولاك بغير إذن وتكلمه بلا ترجمان دخلت، قيل وكيف ذلك؟ قال:” تصبغ وضوءك وتدخل محرابك فإذا أنت قد دخلت على مولاك بغير إذن، فتكلمه بغير ترجمان”


ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:” قال داوود صلى الله عليه وسلم في مناجاته:” إلهي، من يسكن بيتك وممن تتقبل الصلاة؟ فأوحى الله إليه:” يا داوود، إن من يسكن بيتي وأقبل الصلاة منه من تواضع لعظمتي وقطع نهاره بذكري وكف نفسه عن الشهوات، من أجلي يطعم الجائع، ويؤوي الغريب، ويرحم المصاب، فذلك الذي يضيء نوره في السماوات كالشمس، إن دعاني لبيته، وإن سألني أعطيته، أجعل له في الجهل حلما، وفي الغفلة ذكرا، وفي الظلمة نورا، وإنما مثله في الناس كالفردوس في أعلى الجنان، لا تيبس أنهارها، ولا تتغير ثمارها”وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول:” جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها” ويروى عن علي بن الحسين أنه كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله:” ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول:” أتدرون بين يدي من أريد أن أقول؟”

ويروى عن حاتم الأصم رضي الله عنه أن سئل عن صلاته فقال:” إذا حانت الصلاة، أصبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، وأكبر تكبيرا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعا بتواضع، وأسجد سجودا بتخشع، وأقعد على الورك الأيسر، وأفرش ظهر قدمي وأنصب القدم اليمنى على الإبهام، وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا؟

اويروى عن مسلم بن يسار أنه كان إذا أراد الصلاة قال لأهله: تحدثوا أنتم فإني لست أسمعكم” ويروى عنه أنه كان يصلي يوما في جامع البصرة، فسقطت ناحية من المسجد، فاجتمع الناس لذلك، فلم يشعر بهم حتى انصرف من الصلاة.وقال ابن عباس رضي الله عنهما:” ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه”

تأثر التاريخ الفكري العثماني بالكثير من العلماء الذين يعد الإمام "أبي حامد الغزالي" واحدًا من أبرزهم، إذ كانت البيئة العلمية والفكرية العثمانية مسرحًا لانتشار أفكاره منذ القرن الخامس عشر.

 وتبرز أهمية أعمال الغزالي ومدى اهتمام العثمانيين به وبمؤلفاته من خلال الكم الهائل من مخطوطات أعماله الموجودة في مكتبات الأناضول، عدا عن ترجمتهم لكتبه إلى التركية العثمانية وكذلك التعليقات والشروحات الكثيرة التي وضعت عليها. 

ومع ظهور حركات التجديد في نهايات القرن التاسع عشر اعتمد العديد من المفكرين العثمانيين على أفكار الغزالي مثل"إسماعيل حقي الإزميري"(1869-1946)و"محمد علي عيني" (1865-1945)و"محمد حمدي يازر" (1878-1942) إذ اعتبروا مؤلفاته من مصادر تجديد الفكر الإسلامي وبخاصة كتابه الهام "إحياء علوم الدين"الذي أشاروا إليه كثيرا أثناء جهودهم لتجديد العقائد والفلسفات الإسلامية. 

مثَّل كتاب "إحياء علوم الدين" نقطة التقاء مركزية لكل مهتم بمنهج الغزالي في الأمور الأخلاقية والصوفية والعقدية والفلسفية في التاريخ العثماني مما دفع ببعض العلماء العثمانيين الكبار مثل "كاتب جلبي" أن يقول بأنه لو اختفت جميع الكتب الإسلامية وبقي الإحياء لكفى.

لاقى إحياء علوم الدين ترجمات عثمانية كان من أشهرها الترجمة التي قام بها شيخ الإسلام "بستان زاده محمد أفندي" تحت عنوان "ينابيع اليقين في إحياء علوم الدين" وتم إهداؤها للسلطان "أحمد الأول" ووضح فيها شيخ الإسلام أهمية ترجمة الإحياء لموسوعيته وشموله واحتوائه على مجموعات كبيرة ومفيدة من العلوم التي يفتقر إليها أي كتاب آخر. 

كما قام العالم الموسوعي "طاشكُبرو زاده" في القرن السادس عشر بإضافة جزء طويل عن الأخلاق في الجزء الثاني من موسوعته "مفتاح السعادة ومصباح السيادة" والتي تأثر بتقسيمها "بالإحياء" كما اختصر أجزاء من الإحياء في هذه الموسوعة، وكان يستخدم عبارات الغزالي نفسها من حين لآخر مع بعض التعديلات.

ولقد تأثر "محمد أفندي البركوي" في كتابه " الطريقة المحمدية في السيرة الأحمدية" والذي حاز على شهرة واسعة في المجتمعات العثمانية بالإحياء، إذ أن كتابه أشبه ما يكون بتلخيص للإحياء خاصة في الجوانب الأخلاقية مع اقتباسه لكثير من مصطلحات الإحياء، إلا أن ما يُفرق بين الغزالي والبركوي هو موقف كل واحد منهم من التصوف والطرق الصوفية والبدع.

وفي القرن التاسع عشر قام "يوسف أحمد صدقي" (ت 1903) جد عالم الاجتماع البارز "شريف ماردين" بترجمة كاملة للإحياء إلى التركية العثمانية في 9 مجلدات كبيرة قدمها إلى السلطان عبد الحميد الثاني عام 1869، لكنها لم تطبع أبدا.

أما عن كتب الغزالي الأخرى التي حازت على اهتمام مجتمع العلم العثماني فنجد كتاب "كيمياء السعادة" الذي حصل على ترجمات للتركية العثمانية إحداها في القرن السادس عشر وهي لـ "سهاي حسام الدين بن حسين" الذي قدمها للسلطان "سليمان القانوني" والآخر للمترجم "نرجبسي زاده محمد البوسنوي" في عهد السلطان مراد الرابع في القرن السابع عشر.

وعن كتبه الفلسفية فقد وضع "كمال باشا زاده" و"الكاراباغجي" في القرن السادس عشر و"علاء الدين الطوسي" في القرن الرابع عشر تعليقات على "تهافت الفلاسفة" كما تم ترجمة كتاب "أيها الولد" بواسطة رجل الدولة المؤرخ مصطفى عالي (ت1600).

منتقدي الغزالي
وعلى الرغم من موقع الغزالي إلا أنه لم يَسلم من منتقديه، إذ تعرض لانتقادات من شخصيات عثمانية عاصرت نهاية الدولة وبداية الجمهورية، فلو نظرنا في الصحف والكتب في تلك الفترة نرى أن الغزالي وأفكاره مثلت محور نقاش بين طرفين، فهناك من نظر للرجل على أنه مدمر للثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي مثل الصحفي "جلال نوري" (ت 1938)، و"محمد شمس الدين كُنالطاي" أستاذ التاريخ والدراسات الإسلامية بجامعة إسطنبول في العهد العثماني والسياسي البارز في العهد الجمهوري، فقد ذكر في كتابه " الفلسفة الأولى" أن الحركة الفلسفية الإسلامية التي بدأت مع "الكندي" ووصلت لذروتها مع "ابن سينا" قد تعرضت لضربات قاسية بواسطة الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" مما أدى إلى فُقدان النظريات التي وضعت بواسطة المعتزلة لقيمتها بعد ذلك، وظهرت بعد الغزالي نظريات صوفية بديلا عنها .

كما قام كُنالطاي بتوجيه نقد آخر للغزالي بسبب قيام الأخير بنقد لفلسفة "ابن سينا" و"الفارابي"وهو بذلك مطفئ لشمعة الفكر الفلسفي من بعده كما يقول كُنالطاي وأنه كان ضد العلوم في مقابل وقوفه مع الفكر الديني واللامنطقية والتصوف، كما كان الرائد في تحويل العقيدة "الماتُريدية" في المدارس العثمانية في إسطنبول والمدن المحيطة بها إلى المذهب الأشعري حتى نهاية عمر الدولة.

المدافعون عن الغزالي

وعلى الجانب الآخر نجد مجموعة من المفكرين الذين أشادوا بالغزالي وفكره في مقابل ما يوجه إليه من نقد، مثل السياسي المفكر العثماني وأحد أعضاء حركة "العثمانيون الشباب" "علي صوافي" (ت 1878) الذي كتب مجموعة من المقالات في "مجلة العلوم" يدافع فيها عن الغزالي وأفكاره تحت عنوان: "الرد على من رد على الغزالي" موضحًا مكانة مؤلفات الرجل باللغات الأوروبية وما يبذل من أجل ترجمتها لهذه اللغات كما أوضح أن النقد الذي يتعرض له هو نتاج النقد الاستشراقي الذي أخطأ في فهم كتاب التهافت وانحاز إلى ابن رشد.

كما وضح "علي صوافي" الأسباب التي أدت بالغزالي إلى رفض أراء الفلاسفة المسلمين في المسائل الميتافيزيقية وأنه قَبل الآراء الفلسفية المنطقية البرهانية، لذا فنقده لجانب عدم التسليم بالبراهين الميتافيزيقية التي طرحها فلاسفة المسلمين لا تعني أنه سبب في تأخر الحركة الفلسفية وتراجعها، كما اعتبر ابن رشد فيلسوفا أكثر قربًا من العالم الغربي عن العالم الإسلامي.

أما العالم "أحمد حمدي الاكسكلي" (ت 1951) فقد دافع عن منهج الغزالي في التصوف بشكل خاص، وقام في سلسلة من المقالات في مجلة "المحفل" بعرض مكانة التصوف وعلاقته بالروح، وقد أوضح اختلاف طرق التصوف عن طرق علماء الكلام والفلاسفة في إثبات قضية مثل قضية الروح، وأوضح أن الغزالي قدم رؤيته بناء على آيات القرآن.

ومن الشخصيات التي دافعت عن الغزالي "محمد علي عيني" (ت 1945) الأستاذ بجامعة إسطنبول حيث قام بترجمة دراسات المستشرق الفرنسي "كارا دو فو" عن الغزالي المنشورة في "باريس" عام 1902 للتركية العثمانية، وقد حاول أن يوضح أن الغزالي لم يكن يرفض النظام الفلسفي بالكلية بل له نظرات تخص جوانب معينة منه.

كذلك من المدافعين عن الغزالي شيخ الإسلام في الدولة العثمانية والمفكر المصلح "موسى الكاظم" (ت 1920) الذي تناول بعض جوانب كتاب "تهافت الفلاسفة" في مجموعة مقالات وقام بجمعهم لاحقًا في كتاب له،إذ قام فيها بتوضيح آراء الغزالي وابن رشد وأنه من الممكن الجمع بينهما في حرص خاصة في الجوانب المتعلقة بالوجود الإلهي، وأن الثغرة الكبيرة الواقعة بينهما تكمن في الجانب الوجودي أو الأنطولوجي.
...............

أحصى المستشرق الإنكليزي رينولد ألين نيكلسون (1868- 1945) ثمانية وستين تعريفا للتصوف، فيما ذهب هو وآخرون إلى اعتبار التصوف الإسلامي بضاعة خارجية جاءت من المسيحية، بخلاف آخرين ممن اعتبروا أن التصوف الإسلامي ابن بيئته الحضارية، وفي مقدمهم ابن خلدون، حين قال في مقدمته:مع التصوف أخذ الغزالي سبيلا آخر في المعرفة، ومع الغزالي أخذ التصوف سبيلا آخر في الدين.لقد كانت الصوفية بالنسبة له أرفع طرق المعرفة وهي حقيقة الدين، وهذا يعني أنه انتقل من التفلسف العقلي إلى التصوف العرفاني، وقد كتب في "المنقذ من الضلال":

ثم إنـي لمـــا فرغت من هـذه العلـوم، أقبلت
بهمتــي علـى طريقــة الصــوفية وعلمـت أن
طريقتهــم إنما تتم بعلم وعمـل، وكان حـاصل
علــومهـم قطـع عقبـات النفس، والتنـزه عـن
أخــلاقهـا المـذمومـة وصـفـاتها الخبيثة، حتى
يتـوصل إلى تخلية القلــب عن غير الله تعالى
وتحليته بذكر الله.

وكـان العلم أيسر علـي من العمــل، فابتدأت
بتحصيـل علمهـم مـن مطـالعة كتبـهـم مثـل:

قــوت القلــوب لأبـي طـالـب المكـي وكتــب
الحـارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن
الجنيــد والشبلــي وأبـي يزيـد البسطـامـي
وغيرهم من المشايخ.
تأثر الغزالي بهؤلاء المتصوفة الذين ذكرهم، وقد تنبه إلى ذلك ابن تيمية حين قال إن أكثر مادته من كلام الشيخ أبي طالب المكي الذي يذكره في المنجيات في الصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والإخلاص، وإن عامته مأخوذة من كلام أبي طالب، لكن أبا طالب أسد وأعلى، وما يذكره في ربع المهلكات فأخذ غالبه من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية كالذي يذكره في ذم الحسد والعجب والفخر والرياء والكبر ونحو ذلك.
لم يقتصر تأثر الغزالي بأبي طالب المكي (ت 998م)، وبالمحاسبي (781- 857م) فحسب، بل تأثر أيضا بالجنيد (830- 910م) المؤسس الفعلي للتصوف السني، ويذهب البعض إلى أن الغزالي تأثر أيضا بأبي القاسم القشيري (986- 1074م).
اتفق الغزالي مع المتصوفة في المقامات (التوبة والورع والزهد والفقر والرضى) وفي الأحوال (الكشف والمشاهدة والتجلي واليقين)، لكنه رفض شطحات بعض الصوفية، فرفض الحلول والاتحاد ووحدة الوجود:
وعلـى الجملة، ينتهـي الأمـر إلى قرب يكاد
يتخيل منه طائفة الحلول وطـائفة الاتحـاد
وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ.
سلك الغزالي في التصوف طريقين:

1ـ منهجي، يتكون من مقامات الزهد والمحبة والإلهام والفناء، وهو منهج الذوق على الجملة دون العقل والحواس، وهو وحده الموصل إلى اليقين.
يفهم مما تقدم أن التصوف عند الغزالي هو علم وعمل، حصل الأول عن طريق مطالعة كتب المتصوفين، أما العمل فقد حصله بالذوق والحال وتبدل الصفات.
وأهم مقومات التصوف ثلاثة، الإلهام، الزهد، محبة الله.
ويرى الغزالي أن المعرفة تتحقق إما عن طريق العلم والاستدلال أو عن طريق الوحي والإلهام، الطريق الأول يستلزم الاجتهاد والاستبصار، في حين يحتاج الطريق الثاني إلى التأمل الباطني وتطهير القلب.
أما الزهد، فقد عرفه الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" بأنه:
انصراف الرغبة عن الشـيء إلـى ما هـو خيـر
منه، فكل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في
الدنيا بالتجـافـي عن دار الغـرور والإنـابة إلـى دار الخلود.
وللزهد ثلاث درجات: أن يزهد المرء في الدنيا وهو لها مشته لكنه يجاهدها، وأن يترك الدنيا طوعا استحقارا لها، والثالثة أن يزهد طوعا ويزهد في زهده.
أما محبة الله فهي غاية الزهد، ومحبة الله في الدنيا تحصل بتطهير القلب وقطع العلائق. 
وقد بين الغزالي أسباب محبة الله: منها أنه لا يتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك، ومنها أن المحبة تنقسم بحسب أنواع المدركات، فلكل حاسة إدراك يخصها، وكل إدراك لذة تخصه.
الله هو المحبوب المطلق، المتفضل بالنعم، مفيض الوجود على كل الوجود، فإن أحب العارف ذاته حقا، ووجود ذاته مستفادا من غيره، فبالضرورة يحب المفيد لوجوده والمديم له إن عرفه خالقا موجدا مبقيا، فإن كان لا يحبه، فهو لجهله بنفسه وبربه.
2ـ فرعي،ربط فيه التصوف بالفقه وجعل منهما علما واحدا للعبادات والمعاملات. 
قبل الغزالي كانت العلاقة بين الفقهاء والمتصوف علاقة جفاء، وبلغت ذروة هذا الجفاء مع الحلاج (858-922م)، لكن مع مجيء الغزالي اختلف الأمر، فجعل منهما حقيقة واحدة للدين.
وقد كتب ابن خلدون في ذلك:
كتب رجــال مـن أهـل هـذه الطرقـة، فمنهـم
من كتب فـي الـورع ومحــاسبة النفس علــى
الاقتـداء فـي الأخذ والترك كما فعـل القشيري
فـي كتـاب الرسـالة والسهـروردي فـي كتـاب
عوارف المعارف وأمثالهم.
وجمع الغزالـي بين الأمرين فـي كتـاب الإحيـاء 
فدون فيه أحكام الـورع والاقتـداء ثـم بين آداب
القــوم وسننهــم وشـرح اصطـلاحـاتهــم فــي
عبـاراتهم وصـار علم التصوف فـي الملـة علما
مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط.
وفي هذا كتب الجابري "لقد صنف الغزالي التصوف إلى صنفين: علم المعاملة وعلم المكاشفة، وجعل كتاب الإحياء خاصا بعلم المعاملة كعلم مقابل للفقه، وإذا كان الأخير يشرح كيفية أداء فروض الدين العملية من طهارة وصلاة وصيام وزكاة وحج من الناحية الأداتية الجسمانية، فإن علم المعاملة يشرح أداء هذه الفرائض أداء روحانيا.. وهكذا أدخل الغزالي التصوف إلى قلب الإسلام من بابه الرسمي الواسع، باب الفقه".
التوحيد

يتألف التوحيد عند الغزالي من أربعة مراتب: لب ولب اللب وقشر وقشر القشر، ويضرب مثال الجوز على ذلك، لأن له قشرتين ولب ولب اللب، أي الدهن.
المرتبة الأولى من التوحيد هي أن يقول الإنسان لا إله إلا الله وقلبه غافل عنه أو منكر له (المنافقون)، وهؤلاء موحدون باللسان، وهم يعصمون أنفسهم في الدنيا عن السيف والسنان، ويشبه الغزالي هؤلاء بالقشرة العليا من الجوز.
المرتبة الثانية أن يصدق قلبه بمعنى اللفظ كما صدق به عموم المسلمين (اعتقاد العوام)، والتوحيد عند هنا هو بمثابة العقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح، لكنه يحفظ صاحبة من عذاب يوم القيامة، ويشبه الغزالي هؤلاء بالقشرة السفلى من الجوز.
المرتبة الثالثة أن يشاهد ذلك بطريق الكشف عبر نور الحق، فيرى أشياء صادرة على الواحد (مقام المقربين)، وهؤلاء لا يشاهدون إلا فاعلا واحدا إذ انكشف لهم الحق كما هو عليه، ويشبه الغزالي توحيدهم بلب الجوزة.
المرتبة الرابعة أن لا يرى الإنسان في الوجود إلا الله، وهذا هو الفناء في الله (مشاهدة الصديقين)، والموحد هنا يعني أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى العارف الكل من حيث أنه كثير بل من حيث أنه واحد، وهذه هي الغاية الكبرى والقصوى من التوحيد، وتوحيد الموحد هنا يشبه لب اللب في الجوزة.
ولا يوضح الغزالي كثيرا سر المكاشفة في المرتبة الرابعة من التوحيد، فذلك لا يجوز كتابته في الكتب حيث يجب أن يبقى سرا من أسرار الربوبية التي خصها الله فقط للعارفين.
لكنه يقول في "الإحياء" و في "مشكاة الأنوار" إن العارف قد يترقى من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة يستكمل معراجه، فيرى بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى.
العــارفــون بعـد العــروج إلــى سمــــاء الحقيقــة
اتفقــوا على أنهم لم يروا في الوجـود إلا الـواحـد
الحـق، ولكـن منهـم مـن كـــان لـه هــذه الحــالـة
عرفـانا، ومنهم مـن صـار لـه ذوقـا وحـالا، وانتفت
عنهم الكثـرة بالكليـة واستغرقـــوا فـي الفردانية
المحضـة، فلـم يبقــى عنـدهـــم إلا الله، فسكروا
سكرا وقع دونه سلطـان عقولهـم، فقال بعضهم:
أنا الحق، وقال الأخــر: سبحاني ما أعظم شأني،
وقـال الآخر: مـا فـي الجبة إلا الله، وكـلام العشاق
في حال السكر يطوى ولا يحكى.
وقد انتقد ابن تيمية (1263- 1328) هذا النوع من التصوف كما انتقد كثير من آراء الغزالي في مواضع كثيرة، فقال في كتابه "مجموع الفتاوى": 
وتجـد أبا حامد الغزالي يذكر في كتاب الأربعين
ونحـو كتـابه المضنون بـه علـى غير أهله، فإذا
طلبــت ذلــك الكتــاب وجـدتـه قــول الصـــابئـة
المتفلسفــة بعينــه، قـــد غُيــــرت عبـــــاراتهم
وترتيبـاتهم..فـإن أبا حـامد كثيرا مـا يحيل فــي
كتبه إلـى ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد أنه
يـوجـد للصـوفية بريـاضتهم مـن إدراك للحقـائق
وكشفها لهم حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشـرع.
ويتابع ابن تيمية قوله في كتاب "الإحياء" للغزالي ما يلي:
إن فيه فــوائد كثيرة، لكـن فيـه مـواد مـذمـومة،
وفـاسدة من كــلام الفــلاسفة تتعلّق بالتّــوحيد
والّنبوة والمـعاد، فإذا ذكر معـارف الصوفية كـان
بمنزلة من أخـذ عـدوا للمسلمين فألبسـه ثيـاب
 المسلمين.
وقبل ابن تيمية وجه الإمام أبو بكر الطّرطوشي (1059- 1127) نقدا لاذعا لكتاب "إحياء علوم الدين" فقال:
لمّـا عمل كتـابه سمّـاه إحياء علوم الدين وعمـد
يتكلّم في علوم الأحوال ومراقي الصّوفية وكان
 غير دريّ بها ولا خبير بمعرفتهـا، فسقط على أم
رأسه فــلا فـي علمــاء المسلمين قـرّ، ولا فــي
أحوال الزّاهدين استقر.
 وعلى هذا الخط سار آخرون، منهم الإمام أبوعبد اللّه المازري (1061- 1141) من كبار أئمة المالكيّة في إفريقية، بل وصل الأمر إلى حد إطلاق السلطان علي بن يوسف بن تاشفين (1084- 1143) بإحراق كتاب الإحياء، لما وجدوا فيه من أمور غريبة على الإسلام، كالقول بالمعرفة الوجدانية الفيضية وبعض التأويلات القرآنية ممن لا تنتمي إلى لسان العرب في البيان.

لم تتلق شخصية نقدا لاذعا مثلما تلقاه الغزالي، كما لم تتلق شخصية علمية مدحا هائلا مثلما تلقاه الغزالي، فكان حجة في الإسلام ونابغة عصره.
كانت شخصية الغزالي فريدة من نوعها، كما هو حال عصره، بحر تتلاطمه الأمواج العاتية، لا وقت فيه للراحة والهدوء، اضطرته الظروف للكتابة في الكلام والفلسفة والباطنية والتصوف والفقه والأخلاق والمعاملة، وكانت الظروف التاريخية لا تسمح له بكثير من الصبر والآنة للتعمق أكثر فيما يقرأ، فكان مضطرا للكتابة ضد الفلاسفة والباطنية، لتكون كتبه بمثابة المانفيستو الأيديولوجي للمذهب الأشعري السني في مواجهة الأفكار الباطنية والغنوصية والأفلاطونية المحدثة التي تهدد النسيج الديني ـ الفكري للأمة الإسلامية..لقد كان محمولا بهاجس توحيد الأمة.. هكذا يجب أن نقرأ الغزالي.







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع الشيخ : عثمان حاج مصطفى

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

موسى ابن نصير قائد عسكري عربي في عصر الدولة الأموية. شارك موسى في فتح قبرص في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان