خواطر صائم في إسطنبول: سبع سنوات بعيدا عن القاهرة، ما يعني سبعة "رمضانات" من غير السيدة زينب، والجامع الأزهر، والسلطان حسن، ومقاهي شبرا ووسط البلد وشارع شامبليون
سلطنة بورنجا تعلن الحرب على محلات الكشري
ذهبت سيدة مصرية مسيحية لاصطحاب ابنتها إلى البيت بعد يوم طويل، حضانة وتمرينا، كان هذا في نهار من رمضان الجاري. وقبل موعد الإفطار بأقل من ساعتين، طلبت الصغيرة أن تأكل، فأخذتها الأم إلى محل كشري، وطلبت، وبدأت في تناول الطعام.
جاء أحد العاملين، مسرعا، ليخبرها بأنه ممنوع الأكل قبل أذان المغرب، ردّت ببساطة، وفق روايتها، يعني إيه؟ .. مش ده مطعم ومفتوح والناس قاعده، رد العامل: الناس تقعد بس محدّش ياكل قبل الاذان. .. قالت السيدة: أنت صايم ومستني الاذان.. براحتك.. أنا مش صايمة وقاعده في "مطعم"، والأكل قدّامي إزاي ماكلش؟ رد العامل بحسم: هو ده "النظام". وجاء آخر، بدا للسيدة أنه مدير العامل، لا ليحل المشكل، بل ليكرّر كلام العامل .. ممنوع الأكل .. وهو ده "النظام".
يحتاج "يوم" المصري العادي إلى دراسات معمقة تتقاطع فيها تخصّصات علوم النفس والاجتماع والتاريخ والسياسة والأنثروبولوجيا، مع إعطاء أهمية خاصة لعلم الحفريات، كما يمثل أي "حدث"، مهما بدا عاديا، وساذجا، مادّة خصبةً لكتاب الكوميديا. ولكن في بلد آخر، يتمتع بالحد الأدنى من الاتفاق على البديهيات.
حاول أن تقرأ الفقرة السابقة من المقال مرة أخرى، لتكتشف أن كل ما جاء بها لا ينتمي، من قريب أو بعيد، لدنيا الناس العاديين، الذين يعيشون في عالمنا، وفي دولة، أيًا كان موقعها من التحديث أو الديمقراطية، لكنها في الأخير دولة لها قوانين تنظّم العلاقة بين مواطنيها، وتدير الاختلاف.
مطعم، مكان يرتاده الناس، في أي مكان في العالم، مفتوح، مستعدّ لاستقبال الزبائن. كل من يحمل صفة "زبون" ولديه ثمن ما يطلبه من حقه الدخول، عامل في المطعم، مهنته أن يخدم الزبائن، ويقدّم لهم ما يطلبون. العامل صائم لأن دينه يأمره بذلك، والزبون غير صائم لأنه يعتنق دينا آخر، أو غير صائم، لأي سبب.
هنا يظهر الاستثناء المصري الفريد: العامل ومديره ومحله يأمرون الزبون بالانتظار حتى موعد الإفطار، والزبون يحاول تفهيمهم أنه لا يشاركهم الاعتقاد والشعيرة، وليس عليه الانتظار، فيكون الرد المفحم: هو ده النظام.
كتبت السيدة المسيحية تشتكي،على صفحتها الشخصية، وأثارت نقاشاتٍ كثيرة بين فريقين، ورأيين، خلاصة الأول أننا نعيش في دولة، أو هكذا يفترض، والمجال العام ملك للجميع، و"احترام" الأقليات مشاعر الأغلبية، ما وسعهم، لا يعني أنه حقّ مكتسب، خصوصا أن الأغلبية لا تحترم، بدورها، شعائر الآخرين، ولم نسمع، يوما، عن شيخٍ دعا إلى الامتناع عن أكل اللحوم أمام المسيحيين، وقت صيامهم، أو صاحب مطعم مسيحي امتنع عن تقديم وجبات اللحوم، وقت صيامه، وأخبر زبائنه بأن المطعم مطعمه "وهو ده النظام".
أما الرأي الثاني فخلاصته، باختصار، أن البلد بلدنا، بلد مسلم، ودولة مسلمة، ومجتمع مسلم، ومجال عام مسلم، حتى طبق الكشري مسلم، ولا يكفي أحدُهم اكتساب صفة "مواطن" كي يتمتع بأكله، يلزمه أن يكون مسلما (وهو ده النظام).
أين الدولة إذن، أين حماة الوطن، حماة الأقباط من المسلمين، وحماة الإسلام من العلمانيين، وحماة العلمانيين من خيرت الشاطر، أين "النظام"؟ يأتي النظام محمّلا بخبرات السنين في تطييف المجتمع، ويتّخذ قرارا بإغلاق أحد فروع "كشري التحرير".
وينشر الخبر بوصفه "انتقاما" لصالح السيدة المسيحية، وتُحرّك الدولة، بالتزامن مع قرار الإغلاق، أحد أدواتها من شيوخ "الضرب في المليان" ليضرب من جديد، ويعلن عن حبّه "كشري التحرير".
يشعر بعض الأقباط بالرضا من عقوبة إغلاق المحلّ، ويشعر بعض المسلمين بمزيد من الكراهية تجاه الأقباط الذين تسبّبوا في قطع عيش مسلم "غلبان" يدافع عن دينه، فيما تحتفظ الدولة بخط الرجوع، الآمن، وقت اللزوم، والذي لم يلتفت إليه أحد، وهي أنها لم تتدخّل أصلا في مشكلة السيدة ومحل الكشري، ولم تغلق فرع كشري التحرير الذي حدثت فيه واقعة الطرد والتمييز الديني (فرع سراي القبة)، وإنما أغلقت فرع مدينة نصر، لأنه مفتوح بدون ترخيص، (وهو ده النظام).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خواطر صائم في إسطنبول
سبع سنوات بعيدا عن القاهرة، ما يعني سبعة "رمضانات" من غير السيدة زينب، والجامع الأزهر، والسلطان حسن، ومقاهي شبرا ووسط البلد وشارع شامبليون. مذاق الشهر الكريم في القاهرة "غير"، ليس عن غير مصر من البلاد، بل عن غير القاهرة من مدن، داخل مصر نفسها.
الإسكندرية، بكل تاريخها، تتوقف عن الإشعاع في رمضان. يبدو الشهر فيها، كما شهدته مرارا، لطيفا، عابرا، استثنائيا، كما هو في الزمن، فيما تبدو القاهرة نفحةً من أدعية الصالحين بأن يجعل الله من العام كله "رمضان".
في القاهرة رمضان هو الأصل، وبقية العام استثناء، رأيت رمضان، بحكم ظروف العمل في "التلفزيون العربي"، في مدن عربية مختلفة، بيروت، تونس، الدوحة طبعا، كما رأيته وعرفته مرّات عديدة في إسطنبول، محطة "التغريبة" الأولى.
تبدو إسطنبول المدينة الأكثر إسلامية في الشهر الكريم (هذا اعترافٌ صعبٌ على أي قاهري)، ليس بما تمنحه حاضرة الخلافة لشهر الصيام من زخم روحي.. مآذنها وقبابها وصوت القرّاء والمؤذنين الطربي "العربي" البديع، ولكن بما تتمثله من روح الإسلام في البهجة والتسامح والتنوع والاختلاف، المعنى الحقيقي للحضارة، مما جرى "تغييبه" عمدا عن أغلب بلادنا ومدننا العربية، وخصوصا مصر "المخنوقة" منذ خمسة عقود أو يزيد، بنمط تديّن مصنوع، لا يعبر عن شخصيتها، كأنه صلاة بلا خشوع، أو جسد بلا روح.
في إسطنبول، الصيام عبادة خالصة، كما أراده الله، اختيار ديني حرّ. يصوم الصائم لأنه "يريد"،لا مجاراة للمجتمع،أو حرجا منه.لا يلاحقه محيطه الاجتماعي بالتأنيب و"التجريس" إذا أفطر، لا يلاحقه شرطي أو يلقي القبض عليه بتهمة "الجهر بالفطر"، من شاء فليصُم ومن شاء فليُفطر، لا يتوقف ذلك عند الدولة وقوانينها، بل يتجاوزها إلى ثقافة "الجماهير" المؤمنة، المسلمة، الصائمة، التي لا يعنيها "فطر" غيرها أو أسبابه، "كل نفسٍ بما كسبت رهينة". في مكتب خدمات التاكسي، أقف منتظرا دوري، بعض السائقين صائمون، فيما يجلس هذان الشيخان يشربان الشاي، في أمان.
يستأذن السائق في إشعال سيجارةٍ، فأرفض، لأرى ردّ الفعل، يعتذر ويكمل طريقه، أمنحه الإذن، فيشعلها ويشرب. بين المسلّة المصرية ومئذنة جامع السلطان أحمد، تمتلئ ساحة آيا صوفيا بالزوار، من كل صوبٍ وحدب، مؤمنين وغير مؤمنين، مسلمين وغير مسلمين، صائمين وغير صائمين، الاختلاف هو الهوية، الاختلاف "متفقٌ عليه"، مطاعم ومقاهٍ (وبارات).. باعة الكستنا، والذرة المسلوق والمشوي (يسمّونه مصر)، يمنحك البائع الصائم ما لديه لتأكل أو تشرب وعلى وجهه ابتسامة ترحاب، لا يجرَح شعورَه الإيماني أنك مفطر، فالدين لله والصيام لله، وأحوال البشر ومقاماتهم تعزّ عن الحصر.
يأتي المريض والمسافر(أصحاب الرخصة)والمرأة (صاحبة العذر)، كما يأتي غير المسلم، والمسلم، غير المتديّن (أصحاب الاختيار)، كلٌّ في فلكٍ يسبحون. وحين يأتي وقت "الإفطار" تمتد المائدة بطول الساحة وعرضها، وتسع الجميع، في أجواء إيمانية، هادئة، لا صراخ.. لا ادّعاء.. لا مزايدة.
نتحدّث عن "مجتمع" لا يسبقنا كثيرا يشبهنا، في أغلب تفاصيله، عاداته وتقاليده وحبه الحياة والفن وكرة القدم، وحتى الفضول والرغبة في التدخل في شؤون الآخرين، والخوف من الغريب، و"العنصرة" عليه، "على خفيف". إسطنبول هي القاهرة، "على نظيف"، أو دمشق (خصوصا حي الفاتح). نتحدّث عن بلد شرق أوسطي أكثر منه أوروبياً، وإن كان الجيل الجديد يتطلّع إلى مزيد من "الأوربة".
الإسلام في تركيا ليس ديناً فحسب، إنما قومية. الإسلام، بالنسبة لكثيرين"وطن"، حتى غير المتدينين، أو اللادينيين الأقحاح، تجد فيهم من يعتبر الإسلام كذلك.
تختلف أسباب "نضج" التديّن التركي (في بعض أوجهه)،عن تديّننا، مصريا وعربيا.. التجربة العلمانية.. الحريات الاجتماعية.. مستوى التعليم.. الثقافة.. الخطاب الديني.. الإعلام، قل ما شئت. لكننا، في الأخير، حال المقارنة، بين قوسي (الحرية والاستبداد)، مقدار ما يتمتّع به الفرد من الأولى، هنا وهناك، وما يعاني منه من الأخير، هنا وهناك، هنا الفارق، ليس في الدين وحده، في كل شيء.
القبض على خفة دم المصريين
كان الرئيس جمال عبد الناصر ينزعج من النكت السياسية، وأحياناً يخشاها، ويحذّر منها، بوصفها مؤامرة، كما حدث في أحد خطاباته، بعد هزيمة يونيو 1967، حين أشار إلى أنّه يعرف الشعب المصري، ويعرف أنّ التنكيت طبعٌ فيه، لكنّه يخشى أن تتحوّل النكت إلى ثغرةٍ يمرّ منها العدو. يروي الكاتب الصحافي طايع الديب، في كتابه البديع "جمهورية الضحك الأولى" أنّ عبد الرحمن الخميسي ومحمود السعدني وكامل الشناوي كانوا يجلسون، في الخمسينيات، على قهوة عبد الله في الجيزة، ويطلقون النكات على مجتمع ما بعد ثورة يوليو، ومشاهيره، خصوصاً الضباط، وفي اليوم التالي تصبح النكتة على كلّ لسان، بعد أن يتناقلها روّاد القهوة، فصدر قرار بنقل الخميسي من عمله في صحيفة الجمهورية إلى شركة باتا للأحذية، بدعوى أنّه من أعداء الثورة. وتعرّض السعدني للاعتقال، غير مرّة، لهذا السبب وغيره، وهدّد عبد الناصر الشناوي بنفسه في مناسبة عامة، وظلّ الشناوي حبيس بيته إلى أن توسّط له عبد الحليم حافظ، فسمح عبد الناصر بخروجه، شريطة أن يتوقف عن التنكيت على الضباط!
ساءت الأحوال الاقتصادية بعد الهزيمة، وضجّ الناس، وأخذوا يؤلفون النكات على الأوضاع الاقتصادية التي لم تكن أسوأ مما يعيشه المصريون الآن، رغم الحرب والهزيمة والانشغال ببناء جيشٍ جديد، والاستعداد للمعركة، والذي ساهم فيه عبد الناصر بشكلٍ كبير في سنواته الثلاث الأخيرة. ويروي الكاتب الصحافي محمود عوض، في كتابه "بالعربي الجريح" عن لقاء جمع عبد الناصر بضباط في القوات المسلحة عام 1969، واستهله عبد الناصر بنكتة تقول: "مرّة واحد راح الجمعية يشتري سمك، وقف طابور طويل، واشترى، وراح لمراته طلب منها تقلي السمك، فقالت له مفيش زيت، قال لها خلاص نشويه، فقالت له مفيش غاز، الأنبوبة فاضية، فقال لها خذي من الجيران، لفّت على جاراتها واحدة واحدة، كلهم نفس الحكاية، مفيش زيت، مفيش غاز، مفيش فايدة، أخذ الرجل السمك ونزل يشويه في محل بفلوس، لقى المحلات كلها قافلة، يئس الرجل ورمى السمك في النيل، السمك ردت فيه الروح وهتف: يعيش الرئيس جمال عبد الناصر".
يسخر عبد الناصر من نفسه، من شعبيته، من مسؤوليته عن سوء الأحوال، ويفعلها أمام ضباطه، ليس لأنّه ديمقراطي و"بحبوح" لكن لأنّه ذكي، و"صايع"، يفهم الظرف، وإملاءاته، وإكراهاته. مات عبد الناصر وجاء السادات، وكان أكثر بروداً في التعامل مع نكت المصريين، حتى أنّ جيهان السادات تروي للإعلامي عمرو الليثي، في برنامج "واحد من الناس" إنّ السادات كان من جمهور نكت المصريين عليه، يحرص على سماعها، ويضحك، ومنها نكتة المصريين الشهيرة أنّ السادات نزل إلى الشارع ونادى على جيهان، وقال لها: "احدفي زبيبة الصلاة عشان نسيتها" في إشارة إلى تديّنه المغشوش. ناهيك عن نكات الضباب السياسي، وأشهرها النكتة التي تشبّه السادات بالحمار، والتي رواها السادات بنفسه، والشيء نفسه يرويه غير واحدٍ من الصحافيين والفنانين المقرّبين، أو الذين كانوا، من حسني مبارك.
كانت النكتة ولم تزل أقدم وسيلة تظاهر سلمي لدى المصريين، كما أنّها دفتر أحوالهم الحقيقية، لا يستطيع أحد، بالغ عاقل مميز، أن يكذّبها أو يمنعها، ولا يستطيع أحدٌ أن يسجنها، إلّا إذا سجن مائة مليون مصري.
اكتفى عبد الناصر بمنع النخب التي تؤلف نكاتاً على ضباطه، لكنّه لم يجرؤ، أو حتى يفكّر، أن يقبض على مواطنين بتهمة التنكيت، وحين أزعجته نكات المصريين تودّد لهم في خطاب رسمي، وحذّرهم من أن تكون النكتة مؤامرة على الجيش! الآن يقبض عبد الفتاح السيسي على ثلاثة مواطنين صعايدة، ويودعهم السجن بتهمة إشاعة أخبار كاذبة. نشر الثلاثة فيديو لهم وهم يغنّون "الأسعار نار"، وهي أغنية شائعة، سبق أن غنّاها الممثل والضابط السابق أكرم حسني، ولم يُقبض عليه أو يسجن (لماذا؟) .. غلاء الأسعار أخبار كاذبة؟ ربما تكون هذه هي النكتة الوحيدة التي يستحقّ صاحبها أن يُسجن، وفوراً.
لماذا نحب عادل إمام؟
ما الذي يجعل من عادل إمام، نجمًا متفردًا، وزعيما لجيله، موهبة عادل تؤهله أن يكون (من) أهم كوميديانات جيله، حضوره، وكاريزما الزعيم، يؤهلانه لنجاح سينمائي ومسرحي كبير، بجوار آخرين، ينافسهم، يسبقهم حينا، ويسبقونه، فما الذي يجعل من الجميع متنافسين على المركز الثاني، بعد عادل إمام، الذي ينفرد وحده بقمة هرم النجومية، طوال ما يقرب من أربعين عامًا، وهي أطول مدة حازها فنان عربي، وربما فنان على الإطلاق، وهو يتمتع بكمال العافية الجماهيرية؟ هل أفلام عادل إمام هي الأفضل؟ هل مسرحياته، مسلسلاته؟ الإجابة الأكيدة لا، موهبة أحمد زكي الممثل تتفوق بمراحل، فطرية سعيد صالح الكوميديان تتفوق، روايات صبحي على المسرح تتفوق، حضور سمير غانم الطاغي، يتفوق، محمود عبد العزيز، نور الشريف، يحيى الفخراني، كيف تفوق عادل إمام على الجميع؟ وربما يكون السؤال أوقع لو قلنا: هل تفوق عادل إمام حقًا على الجميع؟
لا أميل إلى القول إن عادل إمام مضحك أكثر منه ممثلا مهما، عادل كوميديان عظيم، ومضحك عظيم، وممثل متميز، ليس بنفس الدرجة، لكنه ممثل، كما أن الكوميديا ليست ترفا أو رفاهية، الكوميديا بدورها فنّ يتطلب مهارة، وجهدًا، وتركيزا، مع الموهبة، وبها، صبي العالمة في سيد درويش ممثل، الهلفوت ممثل، فهمي في "حتى لا يطير الدخان" ممثل، فارس الحريف ممثل، أدوار كثيرة منحتها أقدار المجتهد لعادل إمام كي يثبت أنه ممثل حقيقي.. لكن يظل السؤال: عادل ليس الكوميديان الأفضل وحده، وليس الممثل الأفضل، في جيله، كما أن موضوعاته ليست الأكثر قيمة، فكيف أصبح النجم الأفضل والأوحد والأغلى والأدوم؟
يزداد السؤال تعقدًا وتركيبا حين نتابع مسيرة الزعيم فنجد أنه الأكثر تجارية، الأكثر شعبوية، الأكثر ابتذالا، الأكثر "نحتًا" في جيله، من النجوم، وأن ما قدمه من "قيمة"، تحديدًا في السينما، استثناءات، يتقدم إليها بحذر شديد، ويجرب، فإذا اهتزت إيراداته، عاد فورًا، وبسرعة، وربما بذعر، إلى معادلة السوق، المضمونة، والاستثمار في أمية الناس السينمائية، بدلًا من تحمل مخاطرة الارتقاء التدريجي بذوقهم.
حين يقف أحمد زكي في ضد الحكومة، ويترافع عن فساد جيله، ويقول: أدركت قانون السبعينيات، ولعبت عليه، وربحت، أتذكر فورًا عادل إمام، أكثر من غيره، عادل هو النجم الذي أدرك قانون السبعينيات، الذي يحكم الوعي والذوق المصري إلى اليوم، ولعب عليه وكسب، الابن البار، فنيا، لعبد الحليم حافظ، ذلك الموهوب، الذكي، محدود الإمكانات، بمعايير عصره الطربية، الذي أدرك قانون الستينيات، ولعب عليه، وربح، قد يكون فؤاد المهندس هو مكتشفه، لكن حليم هو دليله، خطته وخريطته، نجم الوطن العربي، الأكثر لمعانًا وتوهجا، رغم مساحة صوته الضعيفة، ذكاءه الحاد، والمرعب، في توظيف ما لديه، قدرته على الاستفادة من السلطة والعلاقات الاجتماعية، والتربيطات مع الصحافة والإعلام والمتعهدين والمنتجين والموزعين، ورجال المال ورجال السياسة، والتقفيل المدروس على كل نجم جديد، يصلح كمنافس محتمل، وتبني المواهب الأقل، التي لا تقلق، ولا تصلح إلا للصف الثاني، كي تعلو، بفضل الأستاذ، وتظل مدينة للأستاذ، وتردد حكايات عن الأستاذ، عن فنه، وتواضعه، وتبنيه للأجيال الجديدة، ولا يعني وجودها ونجاحها واستمرارها سوى المزيد من التأكيد على أستاذية الأستاذ!
كان عادل، دوما، يمتلك هذه الشخصية التي تتمثل الحكمة الشعبية المصرية وتنفذها بحذافيرها، تظبيط الشغل أهم من الشغل، ذكاؤه الفني والاجتماعي هما رقم واحد في أسباب نجاحه، يليهما مغازلته الدائمة للمزاج والخيال الشعبي، فعادل هو الذكر الذي تحبه كل النساء، "أنا مفيش مره ما بتحبنيش"، جملته الحوارية الشهيرة في سلام يا صاحبي، هي جزء مهم من ولع الشباب، من أي جيل، بعادل إمام، ثقافتنا الجنسية البائسة تمنح الزعيم زخما، لم تمنحه لغيره، ربما لأن أحدًا لم يفهم، هذه الثقافة، ويمثلها ويتمثلها، مثله، جميع بطلات أفلام عادل إمام يعشقنه، ويقبلنه، ويضاجعنه، جميعهن يقبلن منه ما لا يقبلن من غيره، مشاهد السرير الساخنة بسبب وبدون، التحرش اللفظي بسبب وبدون، التحرش بالعين، الأصابع التي تعبث وتقرص بسبب وبدون، عادل هنا لا يغازل خيال المشاهد المحروم فحسب، بل يشارك المشاهد في نظرته الدونية للمرأة بوصفها وعاء جنسيا، من ناحية، وفي نظرته الأدون والأغور للفنانة التي تعمل بهذا المجال، محل الاستهجان الاجتماعي، وتستحق ما يحصل لها، (وفيها)، طالما وافقت، أما الرجل، الذكر، فلا يعيبه شيء، هنا يخبره عادل إمام بأنني "أنا الرجل" الذي يمثلك ويفعل كل ما تتمنى فعله، "شفت عادل إمام عمل إيه في فلانة، فشخها، قطعها، شفته وهو بيشد البلوزة، شفت قميص النوم، السوتيان بان، طرف اللباس، شفت.. أنا شفت.. أنت شفت؟
هكذا كنا نقول أو نسمع في إعدادي وثانوي، وهكذا كانت عايدة رياض تتحرش بشريف منير في سينما مظلمة، في أحد مشاهد "الكيت كات"، وتشير لعادل إمام وهو يداعب يسرا، التي تحاول الإفلات منه، مثلما يحاول شريف الإفلات منها، وتقول: هو الرجل عمل حاجة؟! لتحرك الصنم بجانبها كي يفعل مثلما يفعل "بطل المولد"، فهو لم يفعل ما يستحق اللوم بالنسبة لامرأة تريد!
لا يمثلنا عادل إمام في السرير فقط، بل في كل تفاصيل الحياة، الشاب الكحيان، أبو دم خفيف، أبو بنطلون جينز مقيح، وهو البنطلون الذي لم يكن يغيره عادل إمام في أغلب أفلامه، وما زال يحتفظ به في دولابه، إلى اليوم، بوصفه إحدى تمائم حظه، الشاب الذي يضرب البطل السمج الذي يتمنى المشاهد ضربه، يلكمه، ويصفعه، ويسخر منه، وينتصر عليه، ولو كان يفوقه حجما خمس مرات، عادل إمام يشبهنا مع سبق التمثيل والتمثل، وحين نشاهده نشاهدنا، لا كما نحن، بل كما نحب أن نكون، ولذلك نحبه.
ولذلك أيضا، كان من الطبيعي أن يكون دور صبي العالمة في فيلم سيد درويش الذي وافق عليه قبل النجومية هو الدور الذي لا يحبه عادل إمام ويتمنى حذفه من تاريخه، ذلك لأنه الدور الذي لا نراه فيه كما تعودنا، كان من الطبيعي ألا تعجبه تجربته مع خان، التي افتقدت إلى الشعبوية، وهي تعالج البطل الشعبي، كان من الطبيعي أن يرفض دور الشيخ حسني في الكيت كات، كان من الطبيعي أن يرفض دخول ابنته إلى عالم التمثيل، ثم لا يتحرج أبدًا من الإعلان عن ذلك، ولا يعنيه أن تغضب زميلاته فنفوذه أكبر من أي ممثلة، وجمهوره سوف يحتفي بالحمش "أبو أحمدات" الذي يفعل ولا يفعل به.... رجل يا عم!
ذكي، ومتحرش وشعبوي ويشبه أحلامنا عن أنفسنا؟ هل هذا هو كل ما يملكه عادل إمام؟ وإذا كان ذلك كذلك فلماذا أحبه كثير من المثقفين، ولماذا أنصفه كثير من النقاد، وكيف يمكننا أن نفسر أفلامه الجادة مع وحيد حامد، وكيف يمكننا أن نحكم على مواقفه الشجاعة في مواجهة الإرهاب، وزيارته لأسيوط في ذروة نشاط المتطرفين، وصورته الحلوة مع فرج فودة، رحمه الله، ألا يتعارض ذلك كله مع الصورة الشعبوية الانتهازية السبعيناتية السابقة؟
هنا تبرز أهم ميزات عادل إمام، وأخطرها، مركز اهتمام عادل هو الشباك، النجاح هو الشباك، الاستمرار هو الشباك، الفلوس طبعا من الشباك، ولذلك فهو يشتغل كل شيء طالما يراه من الشباك، أو يرى الشباك منه، نصيحته لمحمود حميدة كانت: ياض يا محمود/ نعم يا أستاذ/ اشتغل كلللللل حاجة... وذلك ردًا على نصيحة أحدهم لمحمود حميدة بأن ينتقي أدواره لأنه ولد نجمًا، ويجب أن يحافظ على ذلك، عادل لا تعنيه القيمة.. الرسالة الفنية.. النقاد، إنما تعنيه الفلوس والشباك، وطالما الناس انبسطت، ودخلت، ودفعت، فلا شيء يهم، وهو ما جعله يقبل بكل شيء يحقق له ذلك، سواء في مرحلة الانتشار وهذا مفهوم، أو في مرحلة بناء النجومية، وهذا مبرر، أو في مرحلة النجومية الكبيرة وهذا غريب، أو في مرحلة الزعامة وما بعدها وما بعد الأفلام المتميزة وما بعد تحوله إلى براند وقبوله بسيناريوهات مخجلة مثل بوبوس، وهذا مؤسف، ومحزن، .. لكنه عادل إمام.
هذا الاستعداد الانتهازي الكامل والدائم لقبول أي شيء "يجيب فلوس"، جعل من الكم عند عادل إمام مسألة لافتة، في عقدي السبعينيات والثمانينيات، كان عادل إمام يشتغل في العام الواحد أربعة أفلام وأحيانًا خمسة وستة، وأحيانًا أكثر، وجميعها بطولات مطلقة، العام الذي مثل فيه حب في الزنزانة والغول والحريف، عام 1983، هو نفسه العام الذي وافق فيه على تمثيل خمسة باب، وولا من شاف ولا من دري، والمتسول!.. أفلام هامة، وأفلام متوسطة، وأفلام ضعيفة، ومقاولات، ودون المستوى، كله ماشي!
هذا الكم يصنع النوع.. قدرة عادل إمام على مخاطبة جميع الأذواق.. على مخاصمة جمهور السينما الحقيقي ومصالحته.. على مخاصمة النقاد ومصالحتهم.. الاستقواء على المنتجين بإيرادات أفلامه التعبانة، النجاح الاستثنائي في كل ذلك، صنع "براند" اسمه عادل إمام، لو ظهر على الشاشة وقال "ريان يا فجل" سوف يدخل الجمهور، ويقول هذا فيلم تافه، ويضحك، ويقول هذا فيلم حقيقي ويضحك، ويقول عادل إمام يكرر نفسه ويضحك، ويقول عادل إمام يعيد نفس الحركات ولم يعد يضحكنا ويضحك، ويقرر تجاهل عادل إمام، ويتابع أفلامه بمزاجه أو رغمًا عنه، يتابعه مع زملائه الذين لا يشعرون بخروجة العيد إلا إذا دخلوا فيلم عادل إمام، يتابعه مع أفراد عائلته الذين لا يشعرون بإجازة العيد إلا أمام المشاغبين أو شاهد ما شافش حاجة، أو أي فيلم هايف لعادل إمام يضحكهم ويسليهم.. عادل إمام موجود، ووجوده أكبر من قدرة أي أحد على تجاهله، ولذلك نحب عادل إمام، نحبه بمزاجنا أو رغمًا عنا فهو موجود بحضوره ومفروض بمجهوده وإصراره ودأبه، ولا يخلو مشواره من مصادفات فنية رفيعة المستوى استخدمه فيها مؤلفون مثل وحيد حامد، وغيره، لإيصال رسالتهم ووضعها في فاترينة تشع ضوءا ملونا وتجذب أعين الناظرين.
علاقة عادل إمام بالسلطة مسألة واضحة لا تحتاج إلى شرح، تأييده لمبارك، ثم لجمال مبارك في الصحافة والبرامج التلفزيونية، بل وعلى خشبة المسرح بعد أحد عروض بودي غارد، ثم تأييده لمرسي وكلامه عن ثقافته، ثم سخريته من مرسي بعد عزله، وتأييده للسيسي، كل ذلك فرض على عادل بعض الاستحقاقات.. سفرية أسيوط، حين احتاجوه هناك، فيلم مثل الإرهابي، بالتعاون مع الأمن، الذي وفر معلومات ورواية حقيقية لأحد الإرهابيين العائدين، أصحاب المراجعات، بل ومقابلة بين لينين الرملي رحمه الله، وبطل القصة، وتفاصيلها، مع إضافات لينين وعادل، كل ذلك لزوم استمرار الشغل، والاحتماء بالسلطة التي تملك مفاتيح كل شيء، لم يكن عادل مؤيدًا لأحد أو معارضًا لأحد، في تقديري، لم يكن متابعًا ولا مهتما ولا فاهمًا، إلا بالقدر الذي يخدمه، ويدعم مشروعه، كان فنانا يريد أن يستمر فيدفع "الإتاوة الفنية" المطلوبة، المقربون من عادل، وهذه معلومات، يعلمون جيدا أنه لم يكن ضد ثورة يناير، لكنه كان ضد توقف مسرحه ولو يوما واحدا، أحب الثورة وشبابها، وكان يتمنى لقاء أحمد دومة، ولم يكن لديه مانع من حكم الإخوان، أو غيرهم، كان على استعداد لتأييد أي أحد ما دامت الحياة ماشية والبلد ماشية والسياحة ماشية والمسرح شغال، يأتيه بالتقدير المادي والمعنوي في الإيرادات وفي "هاااااااا" التي يسمعها من جمهور المسرح حين يلقي بأحد إفيهاته فتملأ قلبه سعادة وتشعره بأن الزمن لم يأت عليه بعد، وهو أكثر ما يخيف عادل إمام كما أخبر مفيد فوزي في حواره الشهير معه على هامش تصويره لفيلم المنسي..
في الأخير عادل إمام فنان ناجح، نجح بالقوانين المفروضة على الجميع، ولو ظهر في بلد أفضل ومناخ أفضل وشروط أفضل لظل هو الأفضل، فمثله لا يستطيع أن يفشل، وأصارحك، دون مواربة، بأنني، رغم كل شيء، أحب عادل إمام، ولا أكف عن مشاهدته، كأنه مصر صلاح جاهين: (بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء/ وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء).. حاجة تنقط!
تعليقات