بمناسبة الذكرى الثامنة والستين لاستشهاده الإمام حسن البنا في رؤية الشيخ محمد الغزالي كثيرٌ من الناس يعيش لنفسه، فإذا مات انقطع ذكره
كثيرٌ من الناس يعيش لنفسه، ولا يُفكِّر في سواها، فإذا مات انقطع ذكره، وطُويت صفحته، وقليلٌ من الناس يحيون لغيرهم، ويحملون هموم الناس، وهؤلاء لا يفنيهم الموت بانتهاء أعمارهم، إنما يمتد ذكرهم بعد مفارقتهم وجه الأرض.
وقد كان الإمام حسن البنا أحد هؤلاء الذين لم يعيشوا لأنفسهم، بل عاشوا لغيرهم، وحملوا على كواهلهم هموم الأمة، فرفعوا ذكرهم بعد وفاتهم.
وهو وإن تميَّز بأنه واعظٌ مؤثر، وخطيبٌ مفوَّه، وكاتب وعالم متمكن، وقائد ومنظم، ومرشد ومربٍّ وسياسي محنك، إلا أن أبرز ما تميَّز به أنه بنى دعوةً منظمةً تحمل مقوماتِ الامتداد عبر الأوطان والقارات، وأنشأ جيلاً من المسلمين متميزًا بالتفاني والتضحية في سبيل الله تعالى، ولن يستطيع مؤرخ منصف، أو محلل سياسي أن يتناول بالبحث أحداث الشرق الأوسط إلا ويبرز دور البنا ومدرسته في هذه الأحداث.
وكما قال أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي: "ليس المصلح من فكَّر وكتب، ووعظ وخطب، ولكنه الحي العظيم الذي تلتمسه الفكرة العظيمة لتحيا فيه، وتجعل له عمرًا ذهنيًّا يكون مصرفًا على حكمها، فيكون تاريخه ووصفه هو وصف هذه الفكرة وتاريخها".
واليوم تمر علينا ذكرى وفاة الإمام الشيخ حسن بن أحمد بن عبد الرحمن البنا (14/4/1368هـ= 12/2/1949م)، ومع بعدها عنا فلم يزدد- عليه رحمة الله- إلا حضورًا في الساحة وذكرًا بين الخلق، ولم تزدد دعوته إلا تغلغلاً في المجتمعات، وانتشارًا بين الناس.
كتب عن حسن البنا كثيرون؛ من أتباعه ومن غيرهم، القريبين منه والبعيدين عنه، ويطيب لنا أن نكتب عنه من خلال أحد تلامذته الذين تربوا عليه، وتشربوا من علمه وتوجيهه، وعاشوا معه على درب الجهاد وطريق الدعوة، وماتوا وهم يدعون لها ويدافعون عنها، إنه الداعية الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله.
وعندما يكتب الشيخ الغزالي عن الإمام البنا فإنه لا يكتب من منظار الحبِّ والعاطفةِ فحسب، لكن يزنه أيضًا بميزان العلماء والمربين والقادة، وينظر إليه نظرةَ الفاحص الدقيق، والناقد البصير.
ظهوره رحمة بالأمة الإسلامية والإنسانية
من فضل الله على أمة الإسلام أن جعل رسولها خاتم الرسل، وكتابها آخر الكتب، فلا نبيَّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شرعة بعد الإسلام.
ومن رحمة الله بها بعد ذلك أنه لم يتركها هملاً، ولم يدعها سدى، إنما وعد على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبعث على رأس كل مائة عام مَن يجدد لها معالم هذا الدين.
ولا يشك منصف في أن البنا كان أحد هؤلاء المجددين الذين بعثهم الله تعالى على قدر، يقول الشيخ الغزالي: "إنَّ من رحمة الله بالأمة الإسلامية، بل بالعالم الإنساني، أن يظهر بين الحين والحين رجل مثل حسن البنا، يجدد تراث محمد- صلى الله عليه وسلم- ويحشد الجموع حوله ويحل المشكلات به، وينفي عنه الأوهام والبدع، ويعيد إليه بريقه الأخَّاذ يوم كان وحيًا يُتلى، وسنةً تُتَّبع" (1)
رجال في رجل ودعوات في دعوة
ولأمرٍ ما استطاع البنا بإرادة الله أن يجمع ميزات دعوات ضخمة، وحسنات دعاة كبار سبقوه في هذا المجال، ويتحاشى ما وقعوا فيه من عيوب، بل كان يزيد ميزات عليهم في كثير من الأحيان.
يقول الشيخ الغزالي: "وقد لاحظت في دراستي الطويلة للرجال أن الله جمع في حسن البنا مواهب عددٍ من الزعماء الإسلاميين الكبار أمثال: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، فكان إذا تحدَّث بين الناس التقى في حديثه ما تميز به أولئك الرجال، كما تلتقي الأشعة في عدسةٍ صافيةٍ تجمع ما تفرق وتضاعف أثره، كان الأفغاني أول مَن أبصر الحقدَ التاريخيَّ في ضمير الاستعمار الغربي، ونبَّه المسلمين إلى أن أوروبا لا تزال تحمل ضغائن بطرس الناسك في تعاملها مع المسلمين، وكان محمد عبده أول مَن أحسَّ حاجة الأمة إلى تربيةٍ واعية، تتعهد سلوكها بالعقل المؤمن، وتحرس نظامها بالروح العامة، وكان محمد رشيد رضا ترجمان القرآن، وشارة السلفية الصحيحة، والمفتي العارف بأهداف الإسلام والمستوعب لآثاره، وشاء الله أن يكون حسن البنا وريث هؤلاء، فكانت محاضراته في المدن والقرى علمًا وأدبًا وثقافةً وكياسةً، وقلَّما يفلت سامعٌ له من التأثر به والانقياد له" (2)
ويقول في موضع آخر: "وقف حسن البنا على منهج محمد عبده وتلميذه صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب، ومع إعجابه بالقدرة العلمية للشيخ رشيد وإفادته منها، فقد أبى التورُّط فيما تورَّط فيه" (3)
والشيخ الغزالي يقصد بتورطه هنا- كما يقول الشيخ القرضاوي- تصديَه بعنف للحملة على الأزهر وعلمائه المقلدين للمذاهب، فوافق البنا الشيخ رشيد في فكره، وخالفه في أسلوبه وطريقته.
الأستاذ والمعلم
يفخر الغزالي كلما تحدث عن البنا بأنه أحد تلامذته، ويشعر بالرضا عن اتصاله به وتعلمه على يديه، يقول: "أشعر بالرضا وأنا أعترف بأني من تلامذة حسن البنا ومحبيه، وحاملي أعباء الدعوة الإسلامية معه، أعرف أن ذلك يبغضني عند كثير من الناس! ليكن، فقد تعلمت من الرجل الكبير: أن المؤمن يسترضي الله وحده، ويطلب وجهه الأعلى، ولا يبعثر محابَّه هنا وهناك فلا يظفر بشيء" (4)
وقال: "أنا واحد من الذين صحبوا حسن البنا، وتربوا على يديه، وأفادوا من علمه" (5)
وكتب تحت عنوان: "أنا تلميذ حسن البنا" يقول: "كنت وما زلت تلميذًا لحسن البنا؛ أذكر دروسه وأترسم خطاه، وأفيد من تجاربه، وأنا مستبشر بدعائه لي ورضائه عني، ونظرتي إلى ذلك الإمام الشهيد أنه من قمم الفقه الإسلامي، ومن بناة أمتنا الفقيرة إلى الرجال، بل هو بلا ريب مجدد القرن الرابع عشر الهجري، وأشهد بأن له بعد الله الفضل الأول في توجيهي وتثقيفي" (6)
العالم الموسوعي
عرفته الدنيا داعيةً صادقًا، وواعظًا مؤثرًا، ومصلحًا حركيًّا، كما عرفه الناس مربيًا وموجهًا ومرشدًا؛ يربي النشء على مبادئ الإسلام ليصنع منهم رجالاً يحملون راية الدعوة، وقد أعلن هو أكثر من مرة حينما سُئل: لماذا لا تؤلف الكتب؟، فأجب أنه مهموم ومشغول بتأليف الرجال، فإذا ما ألَّف الرجال حملوا الرايةَ من بعده، وقاموا بالتأليف والتصنيف، وملئوا الدنيا علمًا وعملاً.
بيد أن الناس لم يعرفوا حسن البنا العالم الكاتب، الذي ملأ الدنيا بمقالاته وشغل الناس، فكتب في كل مجالٍ من مجالات الثقافة الإسلامية والإنسانية: كتب في التفسير والحديث، والفقه والأصول، والتصوف والسلوك، والسير والأعلام، والمناسبات والأعياد، والمواعظ القلبية والخطب المنبرية، والدعوة والحركة، والتربية والإصلاح، والسياسة والاجتماع، والاقتصاد والعمران.. كل هذه المجالات كتب فيها كتابةَ العالم المتخصص، ونظر إليها نظرة الناقد البصير.
يقول الغزالي: "لقد كان حسن البنا واحدًا من علماء كثيرين ظهروا في العصر الأخير، علماء لهم فقه جيد في الإسلام ودروس رائعة.
بيد أن حسن البنا يمتاز عن أولئك بخاصةٍ أُتيحت له وحده ولم يرزق غيره منها إلا القليل، خاصة تأليف الرجال، والاستيلاء على أفئدتهم، وغرس علمه في شغاف قلوبهم وأخذهم بآداب الإسلام في تلطُّفٍ وإحسانٍ ساحرَين" (7)
ويقول: "لقد كان الإمام الشهيد يبعثر العلم في خطبه كما يبعثر الزارع الحَبَّ في أرضه، وأعانته على ذلك موهبةٌ لم تُعرف في تاريخنا الثقافي إلا لأبي حامد الغزالي؛ فقد كان أبو حامد الغزالي قادرًا على أن يشرح للعامة أفكار الفلاسفة، ويجعل ما تعقَّد منها كلامًا سهلاً سائغًا، كذلك كان حسن البنا- رضي الله عنه- يلخِّص لسامعيه حقائق الدين والدنيا، ويوجِّههم بحبٍّ ورفق إلى ما يريد من خدمة الإسلام، وتجاوز المرحلة التاريخية الصعبة التي يمر بها، أو التي كبا فيها"(8).
وعن أسلوبه في التربية كتب يقول: "كان لدى حسن البنا ثروة طائلة من علم النفس، وفن التربية وقواعد الاجتماع، وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير، وقيم الأفراد وميزان المواهب"(9).
وعن صلته بالقرآن وتفسيره، والسنة والفقه والتاريخ يقول: "كان مدمنًا لتلاوة القرآن يتلوه بصوتٍ رخيم، وكان يُحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله قدرةٌ ملحوظةٌ على فهْم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوبٍ سهلٍ قريب.
وهو لم يحمل عنوان التصوف، ومع ذلك فإن أسلوبه في التربية وتعهُّد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يُذكِّر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي.
وقد درس السنة المطهَّرة على والده الذي أعاد ترتيب مسند أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب، فأفاده ذلك بصرًا سديدًا بمنهج السلف والخلف.
وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة، وتعمَّق تعمقًا شديدًا في حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده"(10).
ويقول مبينًا أفق هذا العلم لديه: "إن حسن البنا كان أنجحَ الدعاة في هذا العصر، وقد أعانه على بلوغ ذلك علمٌ غزيرٌ، واطلاعٌ واعٍ على الثقافة الإسلامية قديمها وحديثها، أذكر أنه كلَّفني مرةً مع بعض الزملاء بنقل مكتبته من حي السبتية بالقاهرة إلى مسكنٍ جديدٍ اختاره قريبًا من المركز العام بالحلمية، فقلَّبتُ ألوف الكتب في شتى علوم الدين والأدب، بل لقد رأيتُ في مكتبته رسائل في القضايا التافهة، مثل: حكم حمل المسبحة!.
ويخطئ مَن يحسب حسن البنا واعظًا يجيد التعليم والتربية وحسب، إننا بلوناه فرأينا لديه فقهَ الأئمة الكبار من علمائنا، كما رأينا لديه فكر المجددين المعاصرين العباقرة" (11)
وحسبنا ما قاله الشيخ العلامة د. يوسف القرضاوي في مذكراته- ولكلمته وزن في مجال الدراسات الشرعية-: "كان البنا ذا ثقافة واسعة، تكوِّنت لديه من الدراسة في دار العلوم، ومن قراءاته الخاصة الطويلة والمتنوعة؛ فهو عالم متبحِّر في علوم اللغة العربية وآدابها، وفي العلوم الشرعية: العقيدة والفقه والأصول والتفسير والحديث والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وله إلمامٌ جيدٌ بالعلوم الاجتماعية".
وقد صدر مؤخرًا- تصديقًا لهذا الكلام- سلسلة شرعية وسياسية واجتماعية ضمَّت مقالات حسن البنا في هذه العلوم بلغت اثني عشر مجلدًا.
المُلهَم الموهوب
إنَّ الذي ينظر إلى آثار حسن البنا في الواقع وفي قلوب الناس لا يكاد يُصدِّق أن هذا فعْل رجل واحد عاش من العمر ثلاثةً وأربعين عامًا؛ ما لم يكن مسدَّدًا من الحقِّ الأعلى، ملاحَظًا بعناية السماء.
فكم شرح الله به صدورًا للإسلام، وكم قلبٍ هدى إلى الله، وكم فكرٍ أرشده للصواب، وكم تائبٍ عشق الحق ولزم الاستقامة!!.
لقد كان للجماهير بغام مزعج: يحيى فلان ويبقى فلان، فأصبح لها هتاف يهدر بتكبير الله وتحميده وتمجيده، مثقفون كثيرون كانوا يتوارون من الإسلام، ويستحون من الانتماء إليه، فلمَّا استمعوا إلى حسن البنا أصبحوا يجأرون بالإسلام، ويطالبون بالعيش في ظلاله، وخلال عشرين عامًا تقريبًا صَنَعَ هذه الجماهير التي صدَّعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد.
ترى، هل كان ذلك كله جهدًا بشريًّا معزولاً عن السماء، بعيدًا عن التوفيق الأعلى؟!.. كلا.. كلا.
وهذا ما جعل الغزالي يقول في أول مقدمة كتابه "دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين" يشرح فيه الأصول العشرين: "مُلهَم هذا الكتاب وصاحب موضوعه: الأستاذ الإمام حسن البنا، الذي أصفه- ويصفه معي كثيرون- بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة؛ فقد وضع جملةَ مبادئٍ تجمع الشمل المتفرِّق، وتوضِّح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم، وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العِوَج والاسترخاء، بيدٍ آسيةٍ، وعينٍ لمَّاحةٍ، فلا تدع سببًا لضعف أو خمول".
يقول الغزالي- يرحمه الله-: "كان حسن البنا موفَّقًا في انتقاء الرجال، وكانت كلماته البارعة تأخذ طريقها المستقيم إلى عقولهم فتأسرها؛ وذلك أمر يرجع إلى فضل الله أكثر مما يرجع إلى المهارة الخاصة، واقتياد الكلمة من فم القائل إلى شغاف قلب السامع يمكن أن يُقال فيه: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، وقد سمعت بعض تلامذة الإمام الشهيد يرددون المعانيَ نفسها التي كانت تجري على لسان الرجل، ويستحيل أن تجد في كلامهم عوجًا، ومع ذلك فإن الفتح بها محدود، إن السماء وحدها التي تضع للإنسان القبول في الأرض، وقد كان حسن البنا ملاحَظًا بعناية الله من هذه الناحية المهمة" (12)
السائح العابد الزاهد
ومن الأمور التي تميز بها البنا عن غيره من الدعاة والمصلحين سياحته في القطر المصري كله عندما بدأ جهاده الدعوي، فكما يروي عنه تلامذته أنه كان كثيرًا ما يصلِّي الفجر في القاهرة ثم يصلي الظهر في المنيا، ومنها في اليوم نفسه إلى سوهاج، وقنا في الصعيد، ثم يكون حظه من النوم سويعات أثناء ركوبه القطار، يؤازره في هذا الجهاد زهادة في الدنيا، واستعلاء على الشهوات، وقلب معلَّق بالله.
يقول الشيخ الغزالي: "كان هذا الإمام العجيب يحسب عمره بالدقائق لا بالساعات، وفوق تراب مصر وحدها شقَّ الطريق إلى عشرات المدن وآلاف القرى، فتحدَّث إلى الناس في ثلاثة آلاف قرية على الأقل، ولا أزال أتصوره وهو يزرع الحب بالبسمة الرقيقة، ويصنع اليقين بالإقناع الهادئ، ويتجاوز الخلافات برفض الجدل، وتعليق الناس بالجوهر لا بالمظهر، وتقديم الأهم على المهم، وقبل ذلك وبعده بتقوى الله والإعداد للقائه، وبكلمته التي طالما سمعته يرددها: إن موتًا في حق هو عين البقاء" (13).
ويتساءل الغزالي: "أهذا ما يتميز به؟ لا.. لقد رأيت حسن البنا يعمل وينسب عمله لغيره.. كان نكران الذات خليقةً ثابتةً فيه، على حين نجد كُثْرًا من الساسة الآن يدورون حول ذواتهم ويعبدون أنفسهم" (14).
كانت أحوال الأمة وبُعدها عن روح الدين يؤرقه ويؤثر في نفسه حتى تعدَّى الأثر وبلغ جسده، يقول الشيخ الغزالي في هذا المعنى: "التقيتُ الأستاذ الإمام قبل يومٍ من استشهاده، وعانقته، وأفزعني أني عانقتُ عِظامًا معلَّقةً عليها ملابس! كانت الهموم قد اخترمت جسدَ الرجل فلم تُبقِ منه إلا شبحًا يحمل وجهه المغضَّن العريض" (15).
ولهذا كانت نفسه- رضي الله عنه- شفَّافةً مشرقةً، أو كما عبَّر الشيخ الغزالي: "الرجل الذي يشتغل بتعليم الناس لا يستطيع في أحيانه كلها أن يرسل النفع فيضًا غدقًا؛ فله ساعات يخمد فيها، وساعات يتألَّق وينير. إن الإشعاع الدائم طبيعة الكواكب وحدها، وقد كان حسن البنا في أفقه الداني البعيد من هذا الطراز الهادي بطبيعته؛ لأن جوهر نفسه لا يتوقف عن الإشعاع"(16).
ما كتبه الشيخ محمد الغزالي عن الإمام البنا كثير، يزيد عما نقلناه في الأفكار على الأقل أضعافًا مضاعفة، ولم لا، ومجال القول ذو سعة؟!.
ونختم بكلمة معبِّرة قالها الغزالي عن الداعية والدعوة: "إن الرسالة التي حمل لواءها حسن البنا يجب أن تبقى، وهي رسالةٌ يستحيل أن يكرهها مسلم مخلص لله ورسله، ولا تزال جماعة الإخوان المسلمين بعد عشرات السنين من اغتيال حسن البنا أعدلَ الجماعات الإسلامية، ولا يزال التاريخ الإسلامي المعاصر بحاجةٍ إليها، وأحسب أن الذين يهاجمونها إما أبواق لأعداء الإسلام، وإما جهلة لا يدرون شيئًا"(17).
الهوامش
(1) من مقدمة لكتاب: الإخوان المسلمون في ميزان الحق ،للأستاذ محمد فريد عبد الخالق ، دار الصحوة. القاهرة ط أولى. 1408هـ 1987م.
(2) الحق المر: ص 183 .
(3) من مقدمة كتاب دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين.
(4) من مقدمة لكتاب: الإخوان المسلمون في ميزان الحق.
(5) الحق المر: ص 183 . طبع مركز الإعلام العربي ط ثانية. 1417ه 1996م.
(6) مجلة لواء الإسلام: 1-45 . رمضان 1410ه مارس: 1990م.
(7) من مقال بمجلة الدعوة بعنوان: العالم المربي العدد (207) 22 جماد آخر 1374ه 15 فبراير 1955م.
(8) الحق المر: 183-184 .
(9) مقال مجلة الدعوة السابق: "العالم المربي".
(10) من مقدمة كتابه دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين.
(11) من مقدمته لكتاب الأستاذ محمد فريد عبد الخالق.
(12) في موكب الدعوة: 212-213 . نهضة مصر. ط أولى. 1997م.
(13) من مقدمته لكتاب الأستاذ محمد فريد عبد الخالق، وانظر مقدمة دستور الوحدة.
(14) من مقدمته لكتاب الأستاذ محمد فريد عبد الخالق.
(15) مراجعة لا رجوع. مقال للشيخ الغزالي في مجلة الأمة القطرية. عدد 27 . ربيع أول. 1403ه يناير 1983م، وانظر أيضًا: غصن باسق في شجرة الخلود. مقال له أيضًا في مجلة الدعوة، عدد (3)، 7 جماد أول 1370ه 13 فبراير 1951م.
(16) في موكب الدعوة: ص 211.
(17) الحق المر: ص 184 .
تعليقات