قبل بضع سنين ظهر مقطع فيديو في شوارع لندن عام (1900م)، أي قبل ربع وقرن الربع تقريبا، وكان المدهش فيه أن نساء لندن كنَّ محجبات، بما يشبه الذي نسميه في مصر"الخمار"، أو حتى "الملاءة".
قبل بضع سنين ظهر مقطع فيديو في شوارع لندن عام (1900م)، أي قبل ربع وقرن الربع تقريبا، وكان المدهش فيه: أن نساء لندن كنَّ محجبات، بما يشبه الذي نسميه في مصر "الخمار"، أو حتى "الملاءة".
إذن، هكذا كانت لندن، التي يستطيع الآن أي شباب أن يحصل مجانا على جولة في جسد أي امرأة، بما في ذلك أدق تفاصيلها الخاصة جدا.. وهو يرى، وهي ترى، والحكومة ترى، والمجتمع يرى، أن هذا هو التحضر والمدنية والثقافة والرقي.. والحرية!!
ربما لم تسمع من قبل عن رجل اسمه رشدي سعيد..هذا الرجل، سيدي القارئ، كان من الرواد المصريين في مجال الجيولوجيا والتعدين، وتولى رئاسة مؤسسة التعدين في زمن عبد الناصر والسادات، وكان برلمانيا، وله مذكرات جميلة صدرت بعنوان "رحلة عمر"، اشترتيها قديما ضمن إصدارات مكتبة الأسرة.
من أطرف ما في هذه المذكرات أنني اكتشفت فيها لأول مرة، أن البعثات النسائية في مصر بدأت منذ عام 1925م، حيث بدأت مصر في إرسال بناتها المراهقات واللاتي هن في أول الشباب إلى البلاد الأوروبية منذ ذلك الوقت.. كان من ضمن الدفعة الأولى أخت رشدي سعيد.. وكانت في السادسة عشرة من عمرها.
تذكر أن الحكومة التي اتخذت هذا القرار هي حكومة الوفد بزعامة سعد زغلول، وهي أول حكومة تشكلت كنتيجة لثورة 1919..
لكن: ماذا كانت ستدرس الفتاة في إنجلترا؟!الإجابة: كانت ستدرس الرسم!! (تأمل هنا في طبيعة ما حصل، حكومة "وطنية" متشكلة في أعقاب ثورة، همّها الاستقلال والتحرر، ومحاولة ردم فجوة التخلف بين مصر وإنجلترا.. تتخذ قرارًا بإيفاد الفتيات المصريات إلى لندن، ومنهن صاحبتنا هذه التي ستدرس الرسم في معهد للفن التشكيلي)!!
أطرف ما في القصة لم يأتِ بعد..ذلك أن رشدي سعيد كان مفتخرا جدا بأن أخته كانت في أول بعثة دراسية لفتيات مصريات إلى الخارج، ووضع لنا صورة جريدة المصور التي امتلأ غلافها بصورة الفتيات.كان يفتخر بذلك على من؟ على أصدقائه الإنجليز والأمريكان!! ذلك أن إرسال فتيات في هذا السن إلى دولة أخرى للدراسة لم يكن مقبولا لا في إنجلترا ولا في أمريكا!!
أي أن الإنجليز والأمريكان أنفسهم لم يكونوا يقبلون بمستوى "التغريب، الانحلال، التهاون" الذي صار إليه صنائعهم في مصر!
وهذه قصة أخرى تعرف منها أن العميل يتفوق في أحيان كثيرة على الأصيل!لكن القصة لا تنتهي عند من خرجوا من مصر.. لقد جاء إلينا في مصر عدد كبير من الأجانب، وكان مجيئهم هذا مما أثار ارتباكا واشتباكا اجتماعيا خطيرا..لزكي مبارك، الأديب المصري المعروف، مقال يلخص فيه طبيعة هذا الوضع، نشره في جريدة البلاغ، 28 فبراير 1936.. ولهذا المقال قصة!
وقعت مناظرة في الأزهر بين طالبيْن يُمَثِّلان اتجاهيْن للطلبة؛ حول موضوع الأنشطة الاجتماعية في الأزهر.. وفي ذلك الوقت كان الأزهر قد تحول بالفعل إلى جامعة ولها كليات على النمط الحديث قبل سبع سنوات من لحظتنا هذه (أي عام 1929ه).فثمة اتجاه يريد أن يكون للأزهر فرقه الأدبية وفرقه الرياضية ومسرحه وفريقه التمثيلي وحتى فريقه الموسيقي، فهذا كله من النشاط الاجتماعي الذي ينشط صحة الطلاب وينير أذهانهم ويروِّح عن أنفسهم.. إلخ!
في هذا السياق كتب زكي مبارك مقاله هذا الذي هو من أوجز ما كُتب في وصف التحول الاجتماعي الذي حصل للأزهر والأزهريين، فكان مما قال في ذلك:
"الأزهريين يشعرون بالعزلة عن المجتمع، وهو شعور غريب أوحاه إليهم ما في الحواضر من انقلابات اجتماعية لا يعرفها الأزهريون"
وطفق يذكر أن غالبية الأزهريين من الأرياف والأنحاء، وهم ما زالوا على تقاليدهم، وضرب لذلك مثلا معبرا عن تأثير الجامعة والأساتذة الأجانب (المستشرقين) فيها، وكيف أخرجوا جيلا جديدا.. قال زكي مبارك:
"وفي كل كلية جملة من الأساتذة الأجانب الذين يمثلون أذواق رومة ولندن وباريس. وهؤلاء الأساتذة الأجانب يوحون إلى تلاميذهم حب التمدن الحديث.
والآن يمكن القول بأن الطالب في الجامعة المصرية له عادات وتقاليد لا يعرفها الطالب في الجامعة الأزهرية، فالطالب في الجامعة المصرية لا يؤذيه أبدا أن يذهب إلى حفلة رقص، ولا يضايقه أن يلمح بادرة من الخلاعة في مشهد من مشاهد التمثيل، ولا يستغرب أن يذهب إلى منزل أحد الأساتذة فيرى زوجته في غرفة الاستقبال.
كل هذا في التمدن الحديث مقبول، وهو أيضا من أنواع النشاط الاجتماعي، فهل يصح في ذهن طالب أزهري أن يذهب إلى حفلة رقص، أو يصفق لمشهد خليع، أو يقابل زوجة أحد الأساتذة، فيقبل يدها وفقا لتقاليد العرف الحديث؟"
ومن أطرف ما في هذا المقال، ما ضربه زكي مبارك من المثل بنفسه هو، وترى في ذلك كيف أن شخصية الأزهري نفسها قد تحولت لا على مستوى السلوك وحده، بل على مستوى النظر.. فبدلا من الأزهري القديم الذي كان يقيم الأمور أمامه بميزان الحق والباطل، ويرى نفسه مكلفا بإقامة الحق ومكافحة الباطل.. نرى أزهريا جديدا.. موضوعيا.. يقوم بالوصف والمشاهدة.. ويلبس في كل بيئة أسلوبها.
يقول زكي مبارك:
"وأرجو القارئ أن يلاحظ أن موقفي موقف المؤرخ للتقاليد الاجتماعية، وما أكتب هنا لا يمثل مذهبي الخاص، لأني في الواقع رجل مخضرم عاش في الأزهر والجامعة المصرية وجامعة باريس، وأنا لا أدخل بيتا إلا حاولت أن أتأدب بآداب أهله، فإن زرتُ شيخا أزهريا تجاهلت أخبار زوجته، وإن زرت رجلا فرنسيا سألت بكل أدب عن جميع أهله ولا أخرج إلا بعد السؤال عن صحة زوجته الغالية...
غير أن هذا لا يمنع الجزم بأن الأزهري يعسر عليه الاندماج في تلك البيئات، وهو لن يرحل إليها إلا بعد أن يروض نفسه على التسامح فيما ورث من الآداب الشريفة. وهي آداب عزيزة عليه، ويرى من واجبه أن يقيها من الضعف والانحلال.
والذي أراه أن الأزهر صائر لا محالة إلى التمدن الحديث، فقد شرع أبناؤه يتعلمون اللغات الأجنبية؛ واللغات الأجنبية لها مداخل إلى الميول والأذواق، ومن المكابرة أن نزعم بأن الاطلاع على أدب لامرتين وميسيه وبيرون وشلي وجوت لا يؤثر في أذواق من تربوا على أدب الغزالي وابن مسكويه"
انتهى كلام زكي مبارك.
بدأنا في لندن.. وعبرنا إلى القاهرة.. وتجاهلنا عواصم أخرى في طريقنا مثل اسطنبول وبغداد ودمشق والرباط.. وعلى أهل الخليج أن يستعدوا للسير في ذات الطريق.. فالعوامل ذاتُها تعمل فيهم، بل بوتيرة أسرع!
إن الانتقال العنيف من الحشمة والتحفظ والتدين إلى الإباحية والانحلال والإلحاد تجري على قدم وساق.. وما من مجتمع مُحَصَّنٍ أمام هذه التحولات! حتى بيئة العلماء!!
إن المرأة المسيحية في لندن، إذا سار بها الزمن فرأت زوجات بعض مشايخ الأزهر في الستينات بلا حجاب لم تكن لتصدق أن هذه صورة امرأة متدينة زوجها يوازي في مرتبته الدينية رئيس الكنيسة العظمى!!
وفي مثل هذه الأحوال تعرف وتشعر بمعنى وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- "فإذا أردت بقومي فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون"
تعليقات