البروفيسور جيفري لانج وقصته مع الإسلام
د جيفري لانج | شئ بقلبى
إنَّه القرآن الكريم، كلام ربِّنا تعالى، الَّذي جعله الله تعالى هدًى وشفاءً، والَّذي ما صادف آذانًا واعية وقلوبًا لم تتكدَّر سماءُ فطرتِها بالغيوم إلاَّ وأذْعن صاحبُهما، في خضوع واستِسلام طالبًا العزَّة بالإسلام في الدنيا والآخرة. وهذا الَّذي حدث مع الأستاذ الدكتور البروفيسور جيفري لانج، أستاذ الرِّياضيات بجامعة كانسس بالولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، والَّذي وُلِد لأسرة نصرانيَّة كاثوليكيَّة.
يَروي لنا قصة إسلامِه، حيث أخذ الله تعالى بيدِه من الكاثوليكيَّة إلى الإسلام، ومن الوثنيَّة والشِّرك إلى التوحيد.
فقد بدأ الثَّمانية عشَر عامًا الأولى من حياتِه في تنقُّل بين المدارِس النَّصرانيَّة الكاثوليكيَّة، تلك الرحلة التي جعلت كمًّا كبيرًا من الأسئِلة عن الإله والدِّين النَّصراني تتراكم لديْه، بعد عجْز النَّصرانيَّة عن الإجابة عليْها؛
ممَّا دفعه رأسًا إلى الإلْحاد والخروج عن مقْتضيات العقْل والفِطْرة، في رحلة من الصِّراع بين حاجته غير المشبعة روحيًّا وما يُحيط به من بيئةٍ نصرانيَّة شركيَّة، زادت من حيرة نفسِه المتشوِّفة للهداية، ثم بعد ذلك الصِّراع المرير هُدي إلى الإسلام الذي احتضن نفسَه المضطربة، وأظلَّه بإشباع حاجتِه الرُّوحيَّة بمعقولات تتقبَّلها نفسيَّةُ وعقليَّة رجُل الرياضيَّات والأرقام والنظريَّات.
يقول: "مثْل كثير من أبناء فترة الستينيَّات والسبعينيَّات، كان لديَّ الكثير من التساؤلات حوْل القِيم الدينيَّة والسياسيَّة والاجتِماعيَّة السائدة ذلك الوقت، شعرتُ بالتمرُّد على كافَّة تلك القِيَم التي يقدِّسها المجتمع، بما فيها تلك القيم النصرانيَّة الكاثوليكيَّة".
ويشير د. جيفري لانج عقِب ذلك إلى أنَّ هذه التساؤُلات دفعتْ به إلى فترة من الإلحاد، قبل أن يهتدي إلى الإسلام الَّذي أرشده إلى الحقائق الَّتي ظلَّ يبْحث عنْها حول الإلَه والكون.
الإسلام الَّذي وجد فيه بيانًا لحقيقة الرَّبِّ - سبحانه - حيثُ عثَر على طوْق النَّجاة من خلال بعْض الأصدقاء المسلمين، عند عملِه كمحاضر بجامعة سان فرانسيسكو الأمريكيَّة.
فقد ألقى بما في جُعْبتِه من تساؤُلات على زملائِه، الَّذين تعجَّب من وفْرة الإجابات لديْهِم عن كلِّ ما دار بخلَدِه من أسئلة.
ويذكر د. جيفري لقاءَه بالطَّالب السُّعودي محمود قنديل، الَّذي أهْدى إليْه نسخةً من القُرآن وبعض الكتُب الإسلاميَّة، وأنَّ هذا كان له الأثَر البالغ في رحلته إلى الإسلام.
ويذكر لنا د. جيفري أنَّه بمجرد أن قام بقراءة القرآن وجد نفسَه يهْرَع إلى مسجد الجامِعة مسلِمًا مستسْلِمًا.
ويؤكِّد أنَّه كان يجد إجاباتٍ لكلِّ ما يدور بخلدِه من تساؤلات، بل إنَّ ما يَدور بذهْنِه في المساء يقع على إجابةٍ له في الصَّباح، وكأنَّ القرآن يقرأ أفكارَه ويسارع في إجابتها، فقد عثر على ذاتِه وحقَّق ما كان يبْحث عنْه من الرِّضا الروحي.
ويؤكد د. جيفري على التِزامِه تعاليمَ الإسلام ومواظبته على الصلوات الخمس، وخصوصًا صلاةَ الفجر، الَّتي يرى أنَّها من أجمل وأفضل عبادات الإسلام، والتي يقول في شأنها: "تشعُر فيها كأنَّك انتقلت من هذا العالَم واتصلت بعالم الملائِكة؛ لتشاركها تسبيح الله تعالى وتقديسَه".
وعندما سُئل عن كيفيَّة التغلُّب على صعوبة قراءة القُرآن بالعربيَّة، والَّتي تختلف عن لغتِه الإنجليزيَّة، أجاب د. جيري إجابة نابعةً من أعماق قلب تغلَّف بالإيمان وتخلَّله القرآن قائلاً: "ألا يشعُر الطفل بالرَّاحة إذا ما اسْتمع لصوت أمِّه؟!".
أي: بالرَّغم من أنَّه لا يفقه لُغَتها إلا أنَّه يشعر بالارتِياح لسماع صوتها.
فهو يقْرأ القرآن ويحفَظ ترجمةَ معانيه، وبيان مقاصده، من خِلال النُّسخ المترجمة، إلاَّ أنَّ هذا لم يُفْقده لذَّة ومتعة القُرآن بالعربيَّة التي تأخذ بقلبِه ولبِّه.
وهكذا حالة د. جيفري مع القُرآن، حيث أكَّد أنَّ قراءتَه تمدُّه بقدر كبير من الرَّاحة والقوَّة على مواجهة الأوقات العصيبة.
وفي بيان تفوُّق الإسلام على غيره من المِلَل يؤكِّد د. جيري أنَّه من الصعب على عقْل لا يقبل إلاَّ الحقائق العقليَّة أن يؤمِن بالأديان الأخرى؛ لاعتِمادها على الإيمان بمسلَّمات لا تخضع للعقل، ولكن الإسلام يتميَّز بمخاطبة العقل.
ويحكي لنا قدرًا عن حياتِه الحالية بعد الإسلام، فيشير إلى أنَّه يتولَّى منصب الاستِشاري بجمعيَّة الطلاب المسلمين، والَّذي يمثل من خلالِها قناة التَّواصل بين الطلاب المسلمين وإدارة الجامعة.
وبدوره يقوم د. جيفري بالحصول على موافقات لعقْد محاضرات حول الإسلام، كما أنَّه يقوم بمساعدة الطلاب المسلمين في التواصُل مع الثَّقافة الأمريكيَّة، بالإضافة إلى الإسْهام في إتمام إجْراءات الالتِحاق بالجامعة، وهذا إلى جانب عمله على تصحيح المفاهيم الخاطئة حول الإسلام.
تزوَّج د. جيفري من مسلِمة سعوديَّة، وقام بتصْنيف عددٍ من الكتُب حول الإسلام، والَّتي تحقِّق مبيعات جيِّدة بين صفوفِ المجتمعِ الإسلاميِّ بالولايات المتَّحدة.
ومن بين هذه المصنَّفات كتاب "أيضًا الملائكة تسأل: رحلة إلى الإسلام في أمريكا"، حيث يقوم د. جيفري بمشاركة القرَّاء في الوقوف على ما تبيَّن له من روْعة الإسلام خلال رحلتِه واكتشاف ذاته مع الإسلام، وكتاب "نداء استغاثة"، والَّذي يقصُّ فيه رحلته من الإلحاد إلى الإسلام بالتَّفصيل.
وعندما سُئل عن تأثير الإسلام على حياتِه، أشار د. جيفري إلى أنَّه ولأوَّل مرَّة في حياته يستطيع أن يعيش حالةً من الحبِّ مع كلِّ شيءٍ، والَّتي كان فيها للإسْلام والقُرآن والصَّلاة الأثر البالغ، بما يستمدُّه من الرَّحمة الإلهيَّة.
وبِخصوص المِحَن التي تعرَّض لها بسبب إسلامِه، ذكر د. جيفري أشدَّها وهي تلك التي تعرَّض لها عقب أحداث 11 - 9 حين هجره أصحابُه في أعقاب حدوث حالةٍ واسعة من السلبيَّة تجاه الإسلام من قبل الأمريكيِّين، بالإضافة إلى تعرُّض مستقْبلِه الوظيفي للخطر بسبَب كونِه محاضرًا مسلمًا في واحدةٍ من كُبرى جامعات الولايات المتَّحدة، والتي أبْدتْ إدارتُها عدم الارتِياح لاعتناقه الإسلام.
وبالنسبة لخدمةِ الإسلام، فقد أكد د. جيفري على أنَّه يَجب على المسلم تقديم الإسلام للآخَرين، وإظهار حسن سلوكِه في التَّعامل معهم والعمل به، فالله -تعالى- قد أخبر نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الهداية بِيَد الله - سبحانه - وأنَّه ما عليه سوى البلاغ.
ويختم د. جيفري حديثَه بنصيحةٍ حثَّ فيها الباحثين عن الحقيقةِ على مواصلة البحث بجدِّيَّة وإخلاص، وموضوعيَّة وشجاعة؛ لكي يكتشفوا الحقيقة كما اكتشفها هو.
يعد جيفري لانج أحد أشهر العلماء الأمريكيين الذين تحولوا للدين الإسلامي بعدما خاض صراعا طويلا بين الشك والحقيقة فمن مسيحي كاثوليكي إلى شخص ملحد ومنبوذ، إلى مسلم يعرف الناس بالدين الإسلامي.
ولانج هو أستاذ الرياضيات في جامعة كنساس الأمريكية، ومؤلف العديد من المذكرات حول التحول إلى الإسلام.
ولد لانج في 30 يناير 1954، بمدينة برديجبورت لعائلة كاثوليكية، والتحق بأحد المدراس الكاثوليكية، وهناك بدأ شكوكه الدينية تظهر خصوصا بعدما مرضت أمه، ومات بعدها أبوه.
قبل وفاة أمه أصيبت بانهيارٍ عصبي، وماتت في المستشفى، ثم توفي والده بعدها بعام، لكن لانج كان متوقد الذكاء، كثير التساؤل حتى طال شكوكه المؤسسات الدينية، ولم يتمكن معلم مادة التربية الدينية من الإجابة على أسئلته.
علم المنطق زاد شكوك الشاب الأمريكي
كان جيفري لانج مولعا بعلم الرياضيات والمنطق لذا لم يستطيع المعلم والذي كان كاهنا متمرسا في المذهب الكاثوليكي أن يجاريه في أسئلته خصوصا عندما أخبره بان علم الوجود ليس برهانًا كافيًا على وجود الرب، وعلى إثر ذلك عوقب جيفري بالطرد من الصف الدراسي ورسب في هذه المادة وكان في نظر الجميع ملحدا.
زادت شكوك الشاب الأمريكي جيفري بسبب سيادة روح الفوضى والحرب، خصوصا بعد اغتيال شخصيات أمريكية بارزة مثل الرئيس كينيدي، ومارتن لوثر كنغ، والمذابح الأمريكية في فيتنام الغريبة.
كان سؤلا ملحا يدور في رأس لانج «لماذا خلق الله هذا العالم العنيف الناقص؟» ولم يقبل بفكرة طغيان القوي على الضعيف بحجة أنه من دين آخر من نوع آخر، واختار الإلحاد سبيلا للخلاص من هذه الشكوك.
بحلول عامه الثامن عشر كان جيفري ملحدا صريحا ولم يستطع أحد إقناعه بوجود إله، وبات الوضع كذلك لقرابة 12 عاما بعدها، لكنه دائما كان يحترم معتقدات الآخرين ولم يهاجمها.
خلال شبابه اتخذ جيفري كثير من الأصدقاء ما بين ملحدين، ويهود وبروتستانت، لكنه في السنوات الأخيرة تعرف على أناس هندوس وبوذيين، وكان ذلك كله محاولة للتعرف على أديان هؤلاء البشر والتطرق للإجابات القديمة المحفورة في رأسه، إلا أنه لم يجدها فظل محتفظا بإلحاده.
زواج نفعي انتهى بالاتفاق
درس جيفري في قسم الرياضيات في جامعة كونيتيكت، وتزوج بعدها زواجًا نفعيا، حيث اتفقا على أنه يمكن إنهاؤه في أي فترة، ورحل مع زوجه إلى لافاييت الغربيلكي يتابعا دراستهما في جامعة بردو، لكنها اتفقا على الطلاق بعد 3 سنوات وتخرج عام1981م، وعمل محاضرًا في نفس الكلية لمدة فصل دراسي واحد.
رحلة إلى الإسلام مع عائلة قنديل
بحلول العام 1982 انتقل جيفري لمدينة سان فرانسيسكو وعمل مدرسا في جامعتها، وبدون أن يرتب ساق له القدر أحد الطلاب المسلمين، لكي يتعرف على هذا الدين من ضمن معارفة التي تلقاها خلال سنواته الماضية.
في الأيام الأولى للعمل في سان فرانسيسكو تعرف جيفري على شاب سعودي اسمه محمود قنديل، وتوطَّدت علاقته به بأن عرفه على عائلته؛ وما لبس أن أصبح صديقا مقربا من عائلة قنديل ذات الأصول السعودية.
نقاشات جيفري مع أصدقائه الجدد كانت تتطرق في بعض الأحيان للدين وكان محمود وشقيقه عمرو، وأخته راجية يردون على تساؤلاته، فوجد أن أفكارهم الدينية محددة وتتبع أساسا منطقيا يبدو له متنزن.
بعد أيام تلقي جيفري مصحفا مترجما هدية من عائلة قنديل وقرأ للمرة الأولى القرآن، إضافة لبعض الكتب عن الإسلام، وبعد أن وجد في القرآن ما وجد.
قراءة القرآن أثارت عدد من الأسئلة لدي جيفري والذي توجه لمسجد الكلية ليستفسر عن الأسئلة وإذ به يسلم وينطق بالشهادتين.
تزوج جيفري من راجية قنديل أخت صديقه محمود، وعاش مع عائلته وبناته الثَّلاث عمل أستاذًا في قسم الرياضيات في جامعتها، إلى أن استقال من عمله.
.........
تلخيص محاضرة الهدف من الحياة لـ جيفري لانغ
هذه المحاضرة عن قصة المخلوق الأخلاقي، هذا النحن، عن العقل و الاختيار و المعاناة. عن أم الأسئلة: (لماذا).. يتحدث هذا الذي كان لكتابه فضل علي زمانا..
ذكرتني بالانبهار الذي عشته _قبل سنوات طويلة أنا صاحبة الذاكرة المثقوبة_ مع كتابه (حتى الملائكة تسأل)، مع العمق الذي حملني إليه حينها و هو يريني الوجه الآخر من الصورة الذي كنت غافلة عنه، و ذكرتني بالامتنان الذي حملته له و لا زلت..
مدة المحاضرة ساعة و نصف:
الهدف من الحياة: لـ جيفري لانغ .. مترجمة
https://www.youtube.com/watch?v=cojNpwlkMmk&feature=youtu.be
التلخيص:
المحاضرة هي استخلاص من القرآن الكريم للحكمة من وجود الإنسان و لماذا كان الابتلاء..
محور المحاضرة أن الوجود البشري على الأرض يتلخص بثلاث عناصر:
العقل (أي القدرة على التعلم) + الاختيار (مخلوق أخلاقي) + الابتلاء (المجاهدة)..
هذه الأمور الثلاثة متضافرا معها الهداية الإلهية و وسوسة الشيطان و إيعاز الملائكة_ كلها أمور ستؤدي دورا أساسيا لتزكيتنا و تطورنا الروحي على الأرض، و هي ما يؤدي لوصولنا للإيمان و التحلي بصفات الله، أسماؤه الحسنى.. فأهم هدف للحياة هو أن يصنع الله مجموعة من البشر ستنشئ بإرادتها الحرة علاقة سامية من الحب مع الله..
ففي هذه الحياة ستختبر بالإضافة إلى العلاقات الثانوية الأخرى مع البشر، الصلة الأساسية مع الله، مصدر الوجود، الكمال و المطلق.. و لذلك حين نأتي للدنيا نأتي ببذور هذه الصفات بداخلنا التي نفخها فينا من روحه، و لنا الخيار إما بقتل ما وضعه فينا بتدسيتها (قد خاب من دساها) أو بتطويرها و ذلك عبر تزكيتها (قد أفلح من زكاها).. هذه الصفات من رحمة و حب و حكمة إنما ولدت من رحم القدرة العقلية و حرية الاختيار و الابتلاء للإنسان..
فمثلا من دون الصراع في اختيار الأصدقاء وعدم اختياره فلن يمكن اعتباره صدقا..و كذلك الحب، فمن دون اختياره بمحض الإرادة و الرضا رغم الصعوبات لا يمكن اعتباره حبا.. و لذلك نفهم لماذا يؤكد القرآن على هذه العناصر الثلاثة.. و لهذا يصف القرآن المعصية بأنها ظلم للنفس..
لأننا ندمر نفسنا و نحرمها من تلك الصلة بالله.. و بالتالي إن لم نستغل فرصة الحياة و نطور أنفسنا و نقيم علاقة مع الله بتحصيل هذه الصفات فسنعاني في هذه الحياة كمثل الجنين الذي لم يكتمل تطوره في الرحم و يخرج للحياة، بل معاناة من لم يطور روحه و يقم صلة مع الله أشد منه، و سيكون الوضع أسوأ في الآخرة..
هذه أهم العناصر في المحاضرة..
لكن التسلسل في كيفية استنباطها من القرآن جدا ملهمة.. و خاصة حديثه عن قصة بداية الخلق، و هنا بعض البسط لكيفية استنباطه لها..
ابتدأ من بدايات سورة البقرة (و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)
إعلان الله لملائكته أنه سيجعل خليفة له على الأرض، بمعنى أن هذا المخلوق سيقوم بدور إيجابي على الأرض.. فاستغربت الملائكة لماذا تخلق هذا المخلوق الذي تفترض وجوده لأجل دور إيجابي، في الوقت الذي يمتلك فيه القدرة على فعل القبائح من إفساد و سفك للدماء، و لماذا لم يكن ملاكا كإياهم يقدسون الله و يسبحونه..
قد سألت الملائكة أحد أكثر الأسئلة أهمية في تاريخ الأديان قاطبة. و قد سألته في الجنة!
ثم إن الله أجاب الملائكة عبر عرض قدرات هذا المخلوق أمامهم:
(و علم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون)
فأول الأمور التي سيؤكد عليها القرآن هي قدرة الإنسان على المعرفة، و كونه مخلوقا يمتلك عقلا. و أكبر موهبة منحها الله له و ذكرت كجزء من جواب سؤال الملائكة: هي اللغة. و نلاحظ كيف أن المهمة كانت سهلة على آدم حين أجاب، فالقدرة على التعلم بالنسبة للبشر أمر بدهي.. بينما اعتذرت الملائكة بأن هذا أمر يتجاوز قدرتها..
و ما هو الذي أبدته الملائكة و كتمته و علمه الله كله؟
الذي أبدته الملائكة بسؤالها هو إظهار قدرات البشر على فعل الشر و إحداث القباحات و البؤس، و ما كتمه السؤال هو قدرات البشر أيضا على فعل العكس تماما فيمكنهم اختيار عمل الخير و إظهار الرحمة و إحداث الجمال.. فما فعلته الملائكة هو ما نفعله حين نسأل هذا السؤال، أننا نرى أحد وجوه العملة فقط..
ثم ينتقل القرآن لإخبارنا بأن هذا الكائن العقلاني هو كائن أخلاقي أيضا، ينبغي عليه اتخاذ الخيارات، فلديه القدرة على معرفة الحق و الباطل.
ففي الآية التالية: (و قلنا يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين)
يلاحظ أن مستوى الحوار في الآية لم يكن تهديديا حادا و إنما هادئا، و بدا و كأن الله انتقى أي شجرة ليس فيها ما هو مميز و نهى آدم عنها لأجل اختباره بها (و الصفات التي أضفيت عليها من كونها شجرة الخلد هي من وسوسة الشيطان و التي تبين أنها كذب محض)..
نحن ندرك أن الله في الأصل قد خلق الإنسان ليكون خليفة له على الأرض، و كانت هناك فترة تمهيدية له في الجنة لينمو و يدرك كيف يكون كائنا أخلاقيا.. و صار جاهزا للأرض عندما قام بأول اختيار مستقل بنفسه.. لم تكن أبشع خطيئة حين أكل آدم من الشجرة و إنما كانت زلة كما وصفها الله، و لكنها علامة تظهر استعداد الإنسان ليتخذ القرارات بنفسه و يتصرف منفردا و يسكن الأرض..
(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم . قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون)
فالإنسان نزل إلى الأرض خائفا و نادما و خجلا من فعله في محيط جديد لم يعتد عليه و لكن توجه الله إليه برحمته، و ألقى إليه كلمات للتسلية تطمئنه بأن لا يخاف و أنه هنا لمهمة و فترة محدودة و أن الأمر صعب و لكنه تم إعداده لهذا الأمر، و هي مرحلة مهمة من مراحل نموه، فمن تبع هدى الله و إرشاده فلن يخاف و يحزن. و من لم يتبعه فإنما يظلم نفسه..
هذه الأمور الثلاثة ستؤدي دورا أساسيا كما تخبرنا القصة في نمونا على الأرض.. و هي ما يؤدي لوصولنا للإيمان و لصفات المؤمنين التي يخبرنا عنها القرآن.. فالمعاناة و الابتلاء جزء من هدف وجودنا على هذه الأرض، و هو ليس عقابا و لا شيئا يحتاج لإنقاذ الإنسان منه عبر الفداء، و لا أمرا عبثيا عشوائيا بلا معنى و لا حتى أنه أمر سيء، ولا هو يصيب الأشرار فقط و يوفر الأبرياء، و إنما هو مضمون هذه الحياة لجميع الناس، و هو أمر في غاية الأهمية من أجل نموه و تزكيته إلى ما تصير إليه النفس التي سيأخذها معه إلى الآخرة.
(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)
(أحسب الناس أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فيلعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين)
(و لنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات و بشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة و أولئك هم المهتدون)
كل هذا من أجل نموه الذاتي و تطوره الروحي، و الأمر عائد إليه في استغلال الفرصة التي أوتيها في هذه الحياة.. نعم كان الله قادرا على هداية الناس جميعا، بل و جعلهم ملائكة.. و لكنه لم يفعل.. لقد أراد الله لكل هذا أن يكون كما هو... (قد أفلح من زكاها) أي جعلها تنمو و تتطور (و قد خاب من دساها) من يدمر نموه و تزكيته..
العقل + الاختيار + الابتلاء = تزكية النفس و تطورها الروحي = اكتساب صفات المؤمنين و التي هي من صفات الله = إنشاء علاقة خاصة مع الله.. يحبهم و يحبونه..
هذا اختصار مخل لأهم الأفكار الرئيسية في المحاضرة، و هي تستحق الاستماع لها... و للمؤلف كتابان يناقش فيهما باستفاضة أكثر الفكرة هما (حتى الملائكة تسأل) و (ضياع ديني).
أريد إضافة ملاحظتين سلماويتين صغيرتين:
الأولى أن الابتلاء يشمل الخير و الشر اللذين يعرضان للإنسان، السعادة و الألم، المنح و المنع كليهما: (و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون).. (هذا من فضل ربي ليبلوني أءشكر أم أكفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن ربي غني كريم) و مفهوم كلمة فتنة هو الامتحان، و لذلك يقال: فتنت الذهب بالنار، إذا أحرقته بها لتعلم أنه ذهب خالص أو مخلوط.. و المرء يفتن بما هو خير و ما هو شر.. و لذلك كلمة فتنة ليست شتيمة و إنما تعني امتحان يحتاج لجهد..
الثانية، حين يعترض شخص بأن الله ليس بحاجة لعبادتنا و لا صلاتنا و لذلك هذا الشخص لا يريد الالتزام بها... فهذا استنتاج خاطئ لمقدمة صحيحة، فالله فعلا ليس بحاجة لالتزامنا بما أمرنا، و لكن الإنسان هو من بحاجة ذلك... و من يقلل من شأن الأوامر أو يظن نفسه وصل لدرجة أعلى من أن يحتاجها، فإنما يوهم نفسه بإعطائها حجما أكبر من حقيقتها البشرية بعدم حاجتها للتشذيب و التزكية و التطور..و كيف يتطور من يظن نفسه قد وصل؟ وهنا أنقل فقرة جميلة لـ محمد عبد الله دراز في كتابه (دستور الأخلاق في القرآن):
هل خُلق الإنسان من أجل القانون أو أن القانون هو الذي خُلق من أجل الإنسان؟
و قد يجاب عن ذلك تارة بالرأي الأول (وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون) وتارة بالرأي الثاني (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه)، (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).
فلنقرب ما بين هذين القولين، بحقيقتهما النسبية، و لسوف نحصل على الحقيقة المطلقة، فالإنسان وجد من أجل تنفيذ الشرع، و لما كان الشرع قد وجد من أجل الإنسان، إذن فالإنسان وجد من أجل نفسه. و الشرع غاية، و لكنه ليس الغاية الأخيرة، إنه ليس سوى حد وسط بين الإنسان، كما هو، ناشئا يتطلع إلى الحياة الأخلاقية، و مصارعا من أجل كماله، و بين الإنسان كما ينبغي أن يكون، في قبضة الفضيلة الكاملة. و الشرع أشبه بقنطرة بين شاطئين، نحن نقطة بدايته، و نقطة نهايته، أو هو أشبه بسلم درجاته مستقرة على الأرض، و لكن يعد من يريدون تسلقه أن يرفعهم إلى السماء.]
سلمى
26 أيلول 2015
تعليقات