تمر هذه الأيام ذكرى رحيل الحاج فرج النجار صاحب أكبر رحلة للتخفي عن عيون الاستبداد، وستظل تجربته مثالا على الصبر في طريق مصاعب الدعوة.
ورحل الحاج فرج إبراهيم النجار في شهر سبتمبر من عام 2009م بعد أن ترك نموذجا في الصبر على البلاء دون أن يستسلم، وأبى أن يكون لقمة سائغة لهم في سجون العسكر ومع كونه لم يهرب أو يخرج من مصر فإنه ظل أكثر من عشرين عاما لم تستطع أيدي الاستبداد العسكري أن تمسك به، بل أذاقهم في كثير من المواقف الذل والهوان.
النشأة في قرية ميت خاقان مركز شبين الكوم محافظة المنوفية، وفي بيت عرف بالصمود ومواجهة الطغيان، ولد فرج إبراهيم شحاتة النجار، في يوم الأحد 5 رمضان 1341هـ الموافق 22/4/1923م، من أب كان يدير ورشة نجارة خاصة به، وتزوج بالسيدة شفيقة نوير أحمد الجمل، والتي كانت بحق (امرأة في وجه الطغيان).
أنجبا محمود، محمد، عبدالخالق، فرج، زينب، عزيزة، دياب، عبدالغني، وكانت الأسرة متوسطة الحال، وتسير أحوالها في هدوء واطمئنان.
تعرف فرج النجار على الإمام حسن البنا في أوائل عام 1939م وكان عمره 16 عاما مما اضطره لإكمال تعليمه عن طريق التعليم المنزلي لكبر سنه ولفقر أسرته.
ومع ذلك انطلق لينشر فكر الإخوان في قريته، والتي تحولت إلى معقل إخواني،وزارها الأستاذ البنا عام 1940م.
النظام الخاص والتربية الجهادية
أنشأ الأستاذ البنا النظام الخاص بهدف التصدي للمستعمر البريطاني بمصر،ومحاولة صد التحركات الصهيونية في فلسطين. وفي يوم من الأيام سافر فرج النجار للعمل في مدرسة حراء بالإسماعيلية ـ التي أنشأها الإخوان- وهناك وقعت حادثة للأستاذ يوسف طلعت وتدخل فرج النجار..
فعجب به يوسف طلعت وضمه للنظام الخاص،وقرر أن يكون هذا النظام في الدلتا،وبالفعل قام بما طُلب منه عام 1941م، فكوَّن النظام في محافظات القليوبية والمنوفية والغربية وكفر الشيخ، والذي أصبح مسئولاً عنه فيما بعد.
كان للجيش الإنجليزي بعض المعسكرات في محافظة المنوفية، فعمد النظام الخاص إلى قض مضاجعهم في كل مكان، فقام فرج النجار وأفراد النظام بالمنوفية بعدد من العمليات الفدائية في بلادهم ضد الجيش الإنجليزي والذي كان يتمركز في مدرسة الصنايع بشبين، وبعد هذه العملية انسحب إلى جبل باغوث بقويسنا.
قام النظام الخاص بتفجير مبنى الحراسة الذي كانوا يقومون بإنشائه مما أفزعهم وشعروا بعدم الأمان في هذه الأماكن فاضطروا لمغادرة المنوفية.
في عام 1947م انتسب الحاج فرج بتكليف من النظام الخاص إلى الحزب الشيوعي في الغربية، وترقى فيه إلى أن أصبح الرجل الثاني(سكرتير الحزب الشيوعي بالغربية) فيه على مستوى وجه بحري.
وفي إحدى زيارات الأستاذ البنا لطنطا جاءت تكليفات باغتيال حسن البنا، فكان الذي تلقى التكليفات وهو سكرتير الحزب! فرج النجار، فساهم بدور فعال في إفشال محاولة الاغتيال، ولم ينكشف أمره إلا بعد حل الجماعة في 8 ديسمبر 1948م.
أصبح فرج النجارحارسًا خاصًّا للإمام البنا في بعض الأوقات،وكان قائمًا على عملية تأمين الإمام البنا إلى عزبة عبد الله النبراوي بعد أن حلت الجماعة في 28/12/1948م إلا أن الشيخ النبراوي اعتقل وبعدها اغتيل الإمام البنا.
في وجه المحن
لم تسلم الجماعة من المحن، فهذا دأب الدعوات التي لا تخضع للأنظمة الحاكمة، فكانت محنة رجال الدعوة على يد العسكر بعدما غدروا بالإخوان الذين شاركوهم ثورة 23 يوليو وكانت محنة قاسية خاصة أن معظم أفراد النظام الخاص كانوا معروفين لدى عبد الناصر وبعض رفاقه، ومنهم فرج النجار.
فحينما حل العسكر الجماعة على أساس أنها حزب سياسي وتم اعتقال مرشدها وبعض قادة الجماعة تم اعتقال النجار في يناير 1954م بالسجن الحربي ثم سجن العامرية، وخرج في مارس 1954م، بعدما تحركت المظاهرات المطالبة بعودة اللواء محمد نجيب والإفراج عن الإخوان وظل يترقب الأحداث محاولاً معاونة إخوانه.
إلا أن المستجدات على الساحة وخلاف الإخوان مع قادة الثورة عجّل بدخول الإخوان طور المحنة الشديدة بعد حادثة المنشية في 26/10/1954م، وبعدها صدر له قرار بالهروب وعدم تسليم نفسه بسبب كثرة المعلومات التي معه، وكان هذا الهروب سببًا في إحجام عبد الناصر عن نزوله المنوفية إلا قليلاً وبحذر شديد.
رحلة الهروب وتحدي العسكر
اتسم فرج النجار بالنظامية والطاعة، فما كاد يصدر له أمر الهروب حتى بدأ رحلة طويلة استمرت أكثر من عشرين عاما،ولم يفكر بالهرب للخارج، فيقول في ذلك: "الهروب كان بأمر من الإخوان، فقد أمروني بذلك خوفًا من القبض عليّ، ومن ثَمَّ أقوم بالاعتراف على جميع إخوان النظام الخاص في المحافظات التي كنت مسئولاً عنها، فيقبض عليهم جميعًا أو يتعرضون للتعذيب والقتل".
لقد عاش حياة مثيرة تنوعت فيها المواقف، حتى يصفه بقوله: ففي يوم من الأيام جاءالأمن البيت لأول مرة وحاصروه، فقلت لأمي اشغليهم حتى أهرب من الخلف،والدتي كانت امرأة أمية إلا أنها كانت على دراية بفنون الهروب، فلما نادوا عليّ قالت لهم:اصبروا حتى يستعد أهل البيت .
ثم نادت عليّ وأعطتني جميع ذهبها لكي أستعين به في الهروب،وقفزت على المنزل المجاور فكان هناك كلب هاجمني فقتله صاحب البيت وأعطاني ملابس ومشيت بعد ذلك لأبدأ الرحلة من يناير 1954 حتى يوليو 1975.
وعشت بعدها أتنقل من مكان إلى آخر وأذهب عند أشخاص غير معروفين تمامًا من الإخوان، كما كنت أختبئ عند أفراد ليسوا ملتحين ولا يصلون في المسجد وحياتهم تبدو في الظاهر عادية جدًّا، وأحيانا أذهب للاستراحة في بيت وزير الداخلية!
لا أحد يتوقع ذلك أبدًا، وأحيانًا تضطرني الظروف إلى المبيت في المقابر لعدم وجود أماكن آمنة، الحمد لله مرت الفترة بسلام بدون أن أقع في أيديهم، وكان ذلك من توفيق الله".
قررت ألا أعود للبيت أو القرية مرةً أخرى ولا أقابل أصدقائي ولا أبي ولا أمي ولا إخوتي ما دمت مختفياٍ؛ لأنه من المؤكد أن البوليس سيكون مراقبا المكان، ولسنوات طويلة لم أر أحدًا، حتى إن والدي مات بعد بداية الهروب بـ15 سنة ولم أستطع حضور جنازته، وكان أمرًا مؤثرًا جدًّا عليَّ لأني كنت أحبه كثيرًا".
قصة فرج النجار من الأعاجيب، فقد كان البوليس يبحث عنه لدرجة أنه عذَّب أباه وأمه عذابًا لم يلقه أحد غير أنه كان يزورهم في بعض الأحيان، وفي أثناء سيره على الطريق وجد دوريةً فقالوا مَن هناك فقال: فرج النجار فأسقط في أيديهم وفزعوا فاستغلَّ رعبهم وقال ارفعوا أيديكم وللخلف در ..
ثم أمرهم بالسير حتى المركز دون الالتفات للخلف ففعلوا ما أمرتهم به من درجة الرعب. وحينما علم البوليس أنه يزور أهله حاصروا المنزل وأمروه بالخروج فما كان منه إلا أنه وضع وجهه في عش الدبابير وجعلها تلدغه فورم وجه فخرج من بيت الجيران ومرَّ من وسط البوليس وهم لا يدركون أن الذي يمر وسطهم هو فرج النجار.
مات عبد الناصر وعاش فرج النجار
بعد وفاة عبد الناصر وتولي السادات، أصدر قرارًا بالعفو الشامل عن كل الإخوان المحاكمين أمام محكمة الثورة ما عدا فرج النجار – لأنه لم يحاكم- فقرر الاستمرار في الهروب،وظن إخوانه أنه مات، وظل الحال كذلك سنتين ونصف لكن كانت المتابعة الأمنية قد خفت بعض الشيء فأصبح حر الحركة نوعا ما.
وحينما تولى الأستاذ عمر التلمساني منصب المرشد العام توجه إليه فرج النجار مطالبا الإذن بالظهور كما كان الأمر بالاختفاء فردَّ عليه وقال اصبر عليَّ أسبوع وراجعني، وبعدها أعطاه الإذن بالظهور.
يقول الحاج فرج: خرجتُ لأزور أصحابي ثم أهلي بعد ذلك في البيت، وكنت لم أرهم طول فترة الهروب حتى نسوا شكلي فعرفتهم عليَّ فعرفوني كلهم إلا أخي الأصغر أنكر، وقال إني من البوليس فبدءوا كلهم يتراجعون عن الترحيب بي ثم بدءوا في الاعتداء عليَّ بالضرب.
أنهم ظنوا أني من رجال البوليس فقلتُ لهم نادوا أمي فلما جاءت قلت لها هل تتذكري أي شيء في جسم فرج فقالت: نعم، كانت هناك حسنة كبيرة وراء كتفه اليمين فكشفت لها ملابسي وقلت لها هذه؟
فلما رأتها حضنتني وبكت وبشدة وعرفني إخوتي كلهم وبكوا بشدة أيضًا. ظلَّ فرج النجار مختبئًا لمدة تقرب من الربع قرن لم يستطع البوليس ولا المخابرات ولا الأجهزة الأمنية أن تقبض عليه ما مثَّل أسطورةً أمام عجز الدولة بأنظمتها الأمنية.
وظلَّ كذلك حتى عفا عنه السادات في يوليو 1975م ليعود للحياة الطبيعية حيث تزوَّج ورزقه الله بخمسة من الأبناء وبنت. وجاء عام 2000م ليكون عامًا حاسمًا في حياة أهل المنوفية، حينما بدأت مراسم انتخابات مجلس الشعب عام 2000م وفوجئ النظام والناس جميعًا بأن فرج النجار مرشح على قائمة الإخوان رغم هذا العمر الكبير حتى فزعت الأجهزة الأمنية، وقال أحد اللواءات أما زال هذا الرجل على قيد الحياة لقد ظننا أنه مات منذ زمن.
وجاءت الأوامر العليا بأن هذا الرجل لابد أن لاينجح، وحالت الأجهزة الأمنية دون نجاحه وبعدها توفاه الله . عصر الأربعاء الموافق 19 من رمضان 1430هـ الموافق 9/9/2009م، ودفن ظهر الخميس 20 من رمضان؛ حيث شيعه الآلاف من محبيه وإخوانه. للمزيد:
1- حوار لموقع إخوان أون لاين مع الحاج فرج النجار 19/ 11/ 2006م. 2- عبد الحليم خفاجي عندما غابت الشمس، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة، الطبعة الثانية، 1408هـ 1987م، ص (133).
فرج النجار : روح الدعوة
الكاتب : جمال ماضي رحمه الله
التاريخ: الخميس 10 سبتمبر 2009 الساعة 12:00:00 صباحاً
فرج النجار : روح الدعوة
خاص ينابيع تربوية
1 - أخوك فرج النجار :
في يوم مشرق من أيام ربيع الإسكندرية الأخاذ عام 1976 م , جاءتني روح فجذبت روحي بلا استئذان، وفي ابتسامة ساحرة، قال : هل تعرفني ؟ ( أخوك فرج النجار ) فوجدني أقبله وأرحب به من أعماق قلبي، فقد رأيت من أحببت لقاءه، وكنت قد رأيته في صحبة الحاج عباس السيسي من قبل.
وكنت على أحر من الجمر لمعرفته،وها هي الفرصة قد حانت، فاصطحبته على الفور لمكتب الحاج عباس، ولكنني رجعت بعدما أصبحت صديقاً له بلغة الشباب فقد كان عمري حينئذ عشرين عاماً، وكان كلما جاء إلى الإسكندرية يتصل بي، وكلما تقابلنا بعدها التقت روحانا قبل الوجوه، في هذه اللقاءات البديعة.
وهو يحكي عن قصته مع الإمام الشهيد حسن البنا ، حيث كان أحد اثنين من الإخوان طلب منهما الإمام البنا تأجيل زواجهما إلى ما بعد الثلاثين لأن نشاطهما ومهامهما لا يستطيع أحد من الإخوان أداؤها .
وهو يحكي عن الصلة العميقة التي كانت تجمع بينه وبين الإمام البنا، حيث كان الحاج فرج النجار آخر من رأى الإمام الشهيد قبل استشهاده، وكان يفخر بهذه الرؤية دائماً .
وهو يحكي عن مغامرة عدم تسليمه لنظام عبد الناصر،بأمر من الإخوان، حتى لا يتم الضغط عليه فيذكر أسماء إخوانه في النظام الخاص، الذي أسسته الجماعة لحرب الانجليز .
وهو يحكي عن قصة هروب دامت إحدى وعشرين عاماً، فقرار السادات جاء بالعفو عن الإخوان جميعاً عدا فرج النجار، حتى عام 1975 م،عندما ذهب يطلب من الأستاذ عمر التلمساني السماح له بالظهور، فسمح له ومن يومها عاد إلى حياة الدعوة، وعادت إلى الدعوة روحها .
2 - روح الدعوة :
لقد كنت شغوفاً بالمعاني العميقة التي كان يؤكدها الحاج فرج النجارمن خلال العرض التاريخي للجماعة ،ومعاصرته لأسرار الثورة والإخوان والنظام الخاص، فهو رغم كل ما تقلده من مناصب وأعمال وأنشطة في الجماعة - إلا أنه كان المربّي الحاذق، والداعية الماهر .
وشهد بذلك كل من تعاملوا معه، فكان الطبيب الذي يداويك، والشيخ الذي يطهرك،والأب الذي يرحمك، والأستاذ الذي يعلمك، أو بمعني آخر نجمله في عبارة( روح الدعوة )فهي اختصار لكل ما سبق في صفة فريدة حقيقية، تشعر بها إن قابلته، وتحس بها إن رأيته، وتملك أعصابك إن تعاملت معه أو عاشرته .
3 - وإليك هذه المشاهد :
التي يحكيها فؤادي، قبل قلمي، كما رأيتها وعايشتها
المشهد الأول : الحيل التربوية
في صيف عام 1978 م ، كانت المعسكرات الإخوانية على مستوى القطر، تقام بمنطقة أبي يوسف بالإسكندرية، وقدّر الله لي أن أكون في معسكر على مستوي المحافظات، وكنت من الشباب الذين اختيرواعن محافظة الإسكندرية،وكنا في الخيام ليلاً،وإذا بنا ونحن مستغرقون في النوم، استعداداً لبرامج الصباح واليوم التالي.
ويأتي إلى الخيمة الحاج فرج النجار، وكان مسئولاً عن المعسكر،ويبلغنا بأنّ هناك خطراً، ويجب علينا أن نزحف على الرمال، وفي الظلام، بدون أن نصدر أي صوت، حتى نصل إلى المسجد،وامتثل الجميع للأمر، مستشعرين الخطر الذي لا نعرف تفاصيله،ولكن الكل يزحف في مشهد أخاذ، حيث ترى الكبير والصغير، الأستاذ والتلميذ، الشيخ والشاب، الكل يلبي التكليف .
وعند وصولنا إلى المسجد تضاء الأنوار، لنفاجيء بأن هذا التجمع كان بهدف الاستماع إلى محاضرة للأستاذ عمر التلمساني المرشد العام آنذاك.
وكان فضيلته قد فوجيء بموعد مهم في القاهرة صباحاً، فكان عليه أن يسافر ليلاً، وقد رأي مسئول المعسكر الحاج فرج، اللجوء إلى هذه الحيلة التربوية للاستفادة من المحاضرة , والردود على أسئلة الإخوان من مرشدهم،ولك أن تتخيل هذه التجمع الذي حدث في أقل من دقائق، لحنكة وذكاء القائد الماهر بالحيل التربوية، التي تحقق الهدف بلا معاناة أو مشاكل .
المشهد الثاني : لا مناصب في الدعوة
قدّر الله أن أكون ضمن المعسكر الشتوي الذي كان يقام بمحافظة أسيوط، وكان يجمع مجموعات من المحافظات، وكنت أحد أفراد مجموعة الإسكندرية، حيث كنا ننعم بزيارة الأستاذ حامد أبو النصر / والدكتور محمد حبيب ، وكان من أقدار الله الكريمة بي أن يكون مسئول المعسكر هو الحاج فرج النجار ! .
وتم اختياري مسئولاً للخيمة التي تجمع محافظات الإسكندرية والقاهرة والجيزة، وبعد يومين من أعمال المعسكر،أصدر الحاج فرج النجار أمراً بالتجمع في المسجد لكل أفراد المعسكر،ثم أمر جميع المسئولين والمعاونين له بما فيهم نائبه،بالوقوف أمام الإخوان، وأصدر أمره بإعفائهم جميعاً عن مناصبهم، ويتولي من هو أكبر سناً العمل،وبذلك قمت بتسليم زمام الخيمة إلى الأكبر سناً، امتثالاً للأمر،( وصار الأمر دون توقف،بل بمذاق جديد، ومهارة تجديد، ومزيد من الحيوية، وزيادة في الانتعاش ) .
وبعد يوم أصدر الحاج فرج أمره بنفس التجمع السابق ثانية،وأمر المسئولين المعزولين بأن يفصح كل واحد منهم عن مشاعره عند سماعه نبأ عزله،وانقسمنا كمسئولين إلى ثلاثة أنواع : نوع قال: لقد جئت جندياً وليس مسئولاً، فأنا جندي على كل الأحيان،ونوع أخذ الأمر بتهريج، كأن لسان حاله يقول: وهل يؤثر فينا العزل؟! ونوع ثالث أخذ الأمر بجدية وكان متأثراً قائلاً: حمل ثقيل وارتفع عني،وتخفيف ورحمة من سؤال الله، فرصة ليخلو الإنسان بنفسه، ويستفيد من برنامج المعسكر! .
وأياً كانت الإجابات بقي المعنى العميق، في أن الدعوة تسير بنا أو بغيرنا، وأن الدعوة لا تتوقف على أشخاص بعينهم، ومن ظن بأن الدعوة تنهار أو تتعطل أو تتأثر أو تتوقف إن ترك أحد منصبه فهو واهم، وأن الدعوة ليست مناصب، فكل الدعاة جنود الله تعالى .
وهكذا كانت المعاني تغرس في مشاعرنا , وفي قلوبنا،وفي عقولنا، بشكل أعظم مما هو مدون في الكتب،وهكذا القائد المربي يغرس المعاني في الكيان التي تحركه وترفع من همته وتدفعه،دون أن يدري،وهذا هو معني القدوة، الذي رأيناه في الحاج فرج النجار .
المشهد الثالث : الدهاء التربوي في علاج المشكلات
في عام 1984 م انتقل الحاج فرج النجار للعمل باليمن،وفي نفس العام وبعد انتهائي من الخدمة العسكرية،اختارني الله لأداء فريضة الحج، وعندما وصلت إلى مكة المكرمة، انضممت إلى إخوان الإسكندرية برفقة الحاج محمود شكري والدكتورإبراهيم الزعفراني ،وفي مِنى تجمع الإخوان في معسكر الحج،وكانت المفاجأة أن يكون مسئول المعسكر الحاج فرج النجار آتياً من اليمن!، الأمر الذي لم أتخيل ولم يكن في بالي أن يأتي من اليمن لأنعم بصحبته ويكون مسئولاً للمرة الثالثة عن معسكرنا !
وكنا شباباً من بلدان مختلفة، وكان طبيعياً أن نكون مختلفين، فقد كان معنا الدكتور سناء أبو زيد رحمه الله ، وكان يميل إلى الهدوء والعمل والتربية، والدكتور أنور شحاتة رحمه الله، الذي يميل إلى الفكاهة والبساطة والمرح، والدكتور إبراهيم الزعفراني حفظه الله، الذي يميل إلى السلاسة والإنجاز والتيسير.
رأيت بعيني كيف كان الحاج فرج النجار يستعمل أساليب تربوية في نقل المعاني وترسيخ المفاهيم وحل المشكلات، فكان يجمعنا في رفق،ثم يحكي قصة رمزية على لسان الحيوانات في الغابة، وبينما نحن مشدوهين للحكاية تكون الإسقاطات الذكية على إخوان المعسكر في فطنة عميقة، ودهاء مؤثر، ينهي المشكلات قبل استفحالها، في شكل راق، وأسلوب رشيق .
المشهد الرابع : ملهم الدعاة ومعلم المربين
بعد سنوات عديدة خاض الحاج فرج النجار انتخابات عام 2000 م، حيث لم يتوقف عطاؤه للدعوة، (وسجل بعد هذه السنوات ذكرياته كشاهد على العصر مع المذيع اللامع أحمد منصور في قناة الجزيرة، وقبل عرضها اعتذرت القناة عن إذاعتها والسبب الذي أفصحت عنه القناة: أن الشرائط الثمانية قد سرقت من القناة !) .
وعلى ضوء ذلك أخذت موعداً لزيارته في منزله بالمنوفية، وقد حكي لي أن أستاذا بأحدي جامعات أمريكا،جاء خصيصاً إلى المنوفية، يبحث عن الحاج فرج النجار، وعندما قابله، قال له : لقد وجدت ثمانية أشرطة فيديو في مكتبة الكونجرس الأمريكي باسم فرج النجار , فقلت لابد أن أقابله لأعرف منه سر وصول هذه الأشرطة، ومن يكون فرج النجار ؟ ! .
وفي نفس الزيارة علمت من الحاج فرج النجار كيف أن الأمن جاء إلى المنزل ليعتقل ابنه، ولكن الابن استطاع أن يهرب منهم بحيلة ماكرة !فقلت هذه ( روح الدعوة ) التي تهدد الأعداء من ناحية، وتورث إلى الأبناء من ناحية أخرى .
فإن كان الحاج فرج النجار قد انتقل إلى ربه، فقد بقيت روحه ،تلهم الدعاة ، وتعلم المربين ، وتغرس المعاني العملية، لتستمر الأجيال المؤمنة في طريق الدعوة، رغم أنف خصومها وتآمر أعدائها .
وفد الحاج فرج النجار إلى السعودية لأداء العمرة ، والتقينا به والتففنا حوله وسمعنا منه مغامراته في الدعوة ، وكيف استطاع الفرار من الأمن المصري خلال ربع قرن..رحمه الله ..هذا بعدما ترك الاخ جمال ماضي السعودية ، وعاد إلى مصر، وكان في مدرسة (مدرسة الفكر)
تعليقات