الشيخ الدكتورمصطفى السباعي نشأ في أسرة علمية عريقة معروفة بالعلم والعلماء منذ مئات السنين، وكان والده وأجداده يتولَّون الخطابة في الجامع الكبير
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
كتب: إعداد: أيمن بهجت
قال تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)﴾ (الأحزاب).
على هذه المعاني ربَّى "الإمام البنا" رجالاً ونساءً عرفوا قيمة الحياة، فتاجروا مع الله فيها، فباعوا أنفسهم له واشتروا رضوانه وجنته، فربحوا بهذا البيع.. رجالاً ونساءً كانت غايتهم الله،والرسول قدوتهم، والقرآن دستورهم،والجهاد سبيلهم، والموت في سبيل الله أسمى أمانيهم، وظلوا يردِّدون هذه المعاني بقلوبٍ صادقة صافية مخلصة لله فنالوا ما تمنَّوا.
إن الدعوة الإسلامية تتعرَّض الآن إلى هجومٍ مستمر من قِبل المتربصين لهذا الدين؛ فالمؤامرة على الإسلام ودعاته مستمرة وستستمر؛ ولذا وجب على كل الدعاة أن يفطنوا لحقيقة دورهم في كل مكان، وأن يستشعروا معية الله، وأن نصره مهما طال الأمد قادم حتى لا يتسرَّب اليأس والخوف إلى قلوب حماة هذا الدين.
لقد كان مصطفى السباعي مثلاً للمجاهد الذي باع نفسه لربه والفقيه الذي دافع عن كتاب الله وسنة نبيه.
مَن هو الشيخ مصطفى السباعي؟
مصطفى حسني السباعي، من مواليد مدينة حمص في سوريا عام 1915م، الموافق 1333هـ، نشأ في أسرة علمية عريقة معروفة بالعلم والعلماء منذ مئات السنين، وكان والده وأجداده يتولَّون الخطابة في الجامع الكبير بحمص جيلاً بعد جيل، وقد تأثَّر بأبيه العالم المجاهد والخطيب المفوَّه الشيخ حسني السباعي؛ حيث حفظ القرآن الكريم قبل التحاقه بالمدرسة، ثم أقبل على الدراسة النظامية، ثم أتمَّ المرحلة الثانوية وهو في الخامسة عشرة من عمره.
وكما اعتنى مصطفى السباعي بالعلم حمل مشعل مقاومة المحتل الأجنبي؛ فشارك في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا، وكان يوزِّع المنشورات ويلقي الخطب ويقود المظاهرات في حمص وهو في السادسة عشرة من عمره، وقد قبض عليه الفرنسيون واعتقلوه أول مرة عام 1931م بتهمة توزيع منشورات في حمص ضد السياسة الفرنسية، كما اعتُقل مرةً ثانيةً من قِبل الفرنسيين أيضًا بسبب الخطب الحماسية التي كان يلقيها ضد السياسة الفرنسية والاحتلال الفرنسي.
وفي عام 1933م ذهب إلى مصر للدراسة الجامعية بالأزهر،والتحق بكلية الشريعة، واستمرَّ محبًّا للتعليم حتى نال دراسة الدكتوراه عام 1368هـ الموافق 1949م.
وفي مصر شارك إخوانه المصريين عام 1941م في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، كما أيَّد ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد الإنجليز، فاعتقلته السلطات المصرية بأمرٍ من الاحتلال مع مجموعةٍ من زملائه الطلبة، وهم: مشهور الضامن، وإبراهيم القطان، وهاشم الخازندار، وفارس حمداني، وعلي الدويك، ويوسف المشاري، وبقَوا في المعتقل قرابة ثلاثة أشهر، ثم نُقلوا إلى معتقل (صرفند) بفلسطين؛ حيث بقَوا أربعة أشهر، ثم أُطلق سراحهم بكفالة.
السباعي ودعوة الإخوان المسلمين
كان مصطفى السباعي عالمًا وفقيهًا ومجاهدًا، وقرَّر الجهاد في كل مجالات الحياة؛ فبعدما جاء مصر تعرَّف على علمائها ومشايخها، وبرز وسطهم كعالم، وأثناء إقامته في مصر التقى بالإمام الشهيد حسن البنا، وظلت الصلة قائمةً بينهما بعد عودته إلى سوريا؛ حيث اجتمع العلماء والدعاة ورجال الجمعيات الإسلامية في المحافظات السورية وقرَّروا توحيد صفوفهم والعمل جماعةً واحدةً، وبهذا تأسَّست منهم (جماعة الإخوان المسلمين) لعموم القطر السوري، وقد حضر هذا الاجتماع من مصر الأستاذ سعيد رمضان، وكان ذلك عام 1942م، ثم بعد ثلاث سنوات، أي في عام 1945م، اختار الجميع الأستاذ مصطفى السباعي ليكون أول مراقب عام للإخوان المسلمين في سوريا.
وقد حدَّد الأستاذ السباعي في كتابه "دروس في دعوة الإخوان المسلمين" الأهداف والمهمات وميادين الإصلاح؛ حيث نادت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا بالإصلاح السياسي، والكفاح الوطني، وإزالة آثار الاستعمار، ورفع المظالم عن العمال والفلاحين، وإنشاء المدارس والمعاهد، والأندية الرياضية، والمخيمات الكشفية، ومراكز الفتوَّة في مختلف المحافظات، وكان الأستاذ السباعي هو القائد العام للفتوَّة، كما قام الإخوان المسلمون بتشكيل لجان الإصلاح بين الناس وتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية والخيرية، وزيارة القرى والأرياف.
ويُعدُّ القطر السوري من أوائل الأقطار التي نبتت فيها دعوة الإخوان خارج مصر، يقول الأستاذ البنا عن العالم الفذ مصطفى السباعي: "وعاد إلى سوريا بعد فترةٍ، واختير نائبًا عن دير الزور، وجاء إلى مصر لحضور المؤتمر البرلماني لقضية فلسطين- فيما أذكر- فترك حقائبه في الكونتننتال وهرع إلينا في دار الإخوان، وكان يقضي معهم وقت العمل الرسمي، ثم يقضي معنا ما بقي بعد ذلك".
ومع بداية دعوة الإخوان في أقطار الشام والتحاق السباعي بها عام 1933م ظهرت الفكرة الإسلامية عامة، وغذَّتها الأفكار الإخوانية وعملت على نموها وازدهارها، ومرورًا بعام 1935؛ ذلك العام الذي حرصت فيه قيادة الإخوان على إرسال مندوبٍ لها إلى الأراضي السورية واللبنانية والفلسطينية؛ تأصيلاً لجذور الدعوة الإخوانية.
وفي بداية عام 1937 استطاع الإخوان تأسيس أول مركز مرخَّص للجماعة في حلب تحت اسم: دار الأرقم، أي أن النشأة الرسمية للإخوان في سوريا كانت عام 1937م، وكان من أبرز المؤسسين: الأستاذ عمر الأميري، الأستاذ عبد القادر الحسيني، الأستاذ أحمد بنقسلي، الأستاذ فؤاد القطل، الشيخ عبد الوهاب الطوبجي، والأستاذ سامي الأصيل.
أما في دمشق فتأسَّست جمعية الشبان المسلمين، وكان على رأسها الشيخ محمد المبارك، ومن أعضائها الدكتور فايز الميت، والأستاذ محمد خير الجلاد، والأستاذ بشير العون، والدكتور زهير الوتار.
أما في حمص فُأسِّست جمعية الرابطة، وكان سكرتيرها العام الدكتور مصطفى السباعي.
وبالفعل عقدت الجمعيات المختلفة مؤتمرها الخامس في حلب في ذي الحجة سنة 1364ﻫ، الموافق نوفمبر 1945م، وقرَّرت إلغاء المركز الرئيسي في حلب وتأليف لجنة مركزية عليا في دمشق مشكَّلة من ممثِّل عن كل مركز أو جمعية، واتخذت لها مكتبًا دائمًا، وجعلت على رأس هذه اللجنة مراقبًا عامًّا، هو الشيخ مصطفى السباعي، وتعقد اجتماعات دورية لتباشر الإشراف على الفروع المختلفة، كما اتُّفق- بالتنسيق مع الإخوان في مصر وفلسطين- على توحيد أسماء الجمعيات باسم (الإخوان المسلمين)، وعلى توحيد النظم فيها.
وكتب الإمام البنا خطابًا إلى الأستاذ مصطفى السباعي قال له فيه: "فضيلة الأخ المجاهد الشيخ مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين بدمشق..
جهادكم المشكور في سبيل القضية المصرية ودأبكم المتصل على استنفار الشعب السوري الكريم لتأييد كل القضايا العربية والإسلامية إنما هو أصدق برهان على السمو في اعتناق فكرة الجهاد، وهو أعظم مفخرة يلمع بها اسم الإخوان المسلمين في جميع بقاع الأرض.
حيَّا الله سوريا المجاهدة، وحيَّاكم وإخوانكم الأبطال، وأعزَّ بجهادكم العروبة والإسلام".
وفي عام 1944م ذهب السباعي إلى الحج لأول مرة، وفي عام 1947م أنشأ جريدة (المنار) حتى عطَّلها حسني الزعيم بعد الانقلاب العسكري الذي قاده بتدبير ودعم من الأمريكان عام 1949م.
مصطفى السباعي وفلسطين
تقدَّم إخوان سوريا تحت قيادة المجاهد الشيخ مصطفى السباعي المراقب العام لإخوان سوريا، وأعدوا كتيبةً لمساعدة إخوانهم القادمين من مصر، واستقبلوهم في معسكر قطنة، حتى إن الإمام البنا حرص على زيارتهم في المعسكر، وطالب الإمام البنا الحكومات العربية بعدم التدخُّل في هذه الحرب؛ حتى لا يكتسب اليهود عطف العالم، وذكَّرهم بأنها حرب عصابات بين المجاهدين الفلسطينيين والعصابات اليهودية، وأنه لا تنفع معهم الجيوش المنظَّمة، لكن الملوك والحكام رفضوا ودخلت جيوش سبع دول عربية، لكنها لم تكن معدَّة إعدادًا جيدًا، فلحقتها الهزيمة في كل معاركها، وكانوا يستعينون بالمجاهدين الإخوان في كثيرٍ من العمليات، وظهرت خيانة الحكام بقبول الهدنة، ثم اعتقال المجاهدين، ثم اكتملت المؤامرة باغتيال الإمام البنا في 12/2/1949م.
أصبح السباعي مسئولاً عن معسكر المجاهدين في قطنة، وبعد الإعداد الجيد لمدة شهر ونصف سافر الفوج الأول بقيادة الملازم عبد الرحمن الملوحي في صحبة الشهيد عبد القادر الحسيني، ثم لحق بهم الفوج الثاني، والذي كان فيه الشيخ السباعي، ووصلت هذه الكتيبة إلى القدس وعملوا على حماية أهلها، واشترك في معركة القطمون ومعركة الحي اليهودي بالقدس القديمة، ثم معركة القدس الكبرى، غير أنه شعر بأن شيئًا يحدث على الساحة السياسية، وتحقّق ظنُّه بإعلان الهدنة، وعاد إلى سوريا في 8/12/1948م غاضبًا يصبُّ جام غضبه على المأجورين والعملاء، ويفضح خطط المتآمرين، ويكشف عمالة الأنظمة، ويشرح ما جرى من مهازل القادة العسكريين الذين كانوا تحت إمرة الجنرال (كلوب) الإنجليزي، ويكشف قضية الأسلحة الفاسدة التي زُوِّد بها الجيش المصري، ويفضح تصريحات القادة العراقيين عن عدم وجود أوامر لضرب اليهود، ولولا جهاد المتطوِّعين من الفلسطينيين والمصريين والسوريين والأردنيين من الإخوان المسلمين لما وُجد ثمة قتال حقيقي ضد اليهود، بل هدنة ثم هدنة لتمكين اليهود من العرب، وإمدادهم بالأسلحة الأوروبية والأمريكية والمقاتلين الأجانب لترجيح كفة اليهود على الفلسطينيين، ثم تسليم البلاد وتهجير أهلها واعتقال المجاهدين المتطوِّعين في سبيل الله للذود عن ديار المسلمين المقدَّسة.
يقول السباعي: "كنا نشعر ونحن في قلب معارك القدس أن هناك مناورات تجري في الصعيد الدولي، وفي أوساط السياسات العربية الرسمية، فتشاورنا في كتيبة الإخوان المسلمين فيما يجب علينا فعله بعد صدور الأوامر إلينا بالانسحاب من القدس، فقرَّ رأينا على أننا لا نستطيع مخالفة الأوامر الصادرة إلينا بمغادرة القدس لاعتباراتٍ متعدِّدة، وأننا بعد وصولنا إلى دمشق سنرسل بعض الإخوان المسلمين خفيةً إلى القدس مرةً ثانيةً لدراسة ما إذا كان بالإمكان عودتنا بصورة فردية، لنتابع نضالنا في الدفاع عن فلسطين، وعدنا إلى دمشق مع سائر أفراد الحامية وقيادتها التابعة لجيش الإنقاذ؛ حيث تسلَّمت قيادة جيش الإنقاذ أسلحتنا ووعدت باستدعائنا مرةً ثانيةً عند الحاجة.
وقمت بجولةٍ في سوريا تحدَّثت فيها عن معارك فلسطين، وألقيت في ذلك محاضرات في كل مكان من دمشق وحمص وحماه وحلب واللاذقية ودير الزور وغيرها من المدن السورية، وذهل الجمهور لما أبديته من حقائق لم تكن معروفة لديهم تمامًا، حتى شكَّ بعضهم فيها، ثم انكشف الأمر وتبيَّن صدق ما أدَّعي من العوامل الخفية والظاهرة التي كانت تُسيِّر معركة فلسطين، هذا بينما كان فريق من إخواننا المجاهدين قد عادوا إلى فلسطين خفيةً لتنفيذ ما اتفقنا عليه".
وبعد عودته سجَّل ملاحظاته على الحرب فقال:
1- إن جيش الإنقاذ الذي ألَّفته الجامعة العربية تحت قيادة فوزي القاوقجي لم يكن إلا تسكينًا لشعور العرب، ولم يستطع الذود عن مدينة واحدة.
2- إن قيادة جيش الإنقاذ لم تخض معركةً واحدةً جديةً في فلسطين.
3- إن جيش الإنقاذ كانت مهمته تحطيم منظَّمة الجهاد المقدَّس، والتي كان قائدها عبد القادر الحسيني.
وانتهت الحرب بهزيمة الجيوش العربية واعتقال المجاهدين من إخوان مصر والزجِّ بهم في السجون في عهد إبراهيم عبد الهادي.
وعندما اندلعت معارك القنال بمصر طلب من الحكومة السورية سنة 1952م السماح بمشاركة الإخوان في سوريا أن ينضموا إلى إخوانهم في مصر في كفاحهم ضد الإنجليز، فصدر الأمر باعتقاله وحلِّ الإخوان في سوريا.
السباعي.. جهاد لا ينقطع
عاد السباعي إلى سوريا ليخوض الحرب لإصلاح الفساد في الداخل، وتربية الأمة من جديد على منهج الإسلام الصحيح، منهج الإخوان المسلمين الذي يُعنَى بتربية الفرد المسلم، ثم الأسرة المسلمة، ثم المجتمع المسلم؛ لتكون الثمرة قيام الحكومة المسلمة التي تحكم بشرع الله وتنفِّذ أحكامه وترعى مصالح البلاد والعباد، وتقضي على الشر والفساد، وتحارب الزيغ والإلحاد.
ولقد عمل السباعي وإخوانه على إدخال مواد التربية الإسلامية إلى المناهج التعليمية، كما سعى إلى إنشاء كلية الشريعة في الجامعة السورية، ثم شرع في إنشاء موسوعة الفقه الإسلامي التي أسهم فيها العلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي لتقديم الفقه الإسلامي في ثوبٍ جديدٍ، يعالج قضايا العصر ويحلُّ مشكلاته على ضوء الكتاب والسنة وفقه السلف الصالح، واجتهاد العلماء الذين يملكون وسائل الاجتهاد وأدواته.
واختارت دمشق الدكتور مصطفى السباعي نائبًا في الجمعية التأسيسية عام 1949م وهو ابن حمص، ولم يمضِ على إقامته في دمشق سوى بضع سنين، وسرعان ما لمع نجمه كبرلماني شعبي متفوِّق؛ إذ كان الصدى الحقيقي المعبِّر لأماني الشعب وآلامه، والصوت المدوي الذي يصدع بالحق ولا يداري، ويقارع الباطل ولا يهادن، ويترفَّع عن المكاسب والمغانم ولا يساوم، فاتجهت إليه الأنظار، والتفَّت حوله القلوب، وانتخب نائبًا لرئيس المجلس، وأصبح عضوًا بارزًا في لجنة الدستور، وقد بُذلت له العروض بإلحاح وإغراء للدخول في الوزارات المتعاقبة فرفضها، مُؤْثرًا العمل الشعبي والعيش مع مشكلات الجماهير وقضاياها، وكان عضوًا في لجنة الدستور وأحد الأعضاء التسعة الذين وضعوا مسودة الدستور، ولقد قاد معركة القرآن تحت قبة البرلمان، كما قاد المظاهرات في دمشق من أجل الدستور.
وتمكَّن السباعي وإخوانه من استبعاد الطابع العلماني عن الدستور، وفرض الطابع الإسلامي على معظم أحكامه الأساسية سنة 1950م.
قال الأستاذ السباعي في كتابه القيِّم "دروس في دعوة الإخوان المسلمين": "نحن نعتقد أن كل نظام صالح في العالم لا يمكن أن ينتفع به ما لم تؤيِّده حكومةٌ حرةٌ قويةٌ صالحةٌ، ومن أجل ذلك آمن الإخوان المسلمون بوجوب تحرير العالم العربي والعالم الإسلامي من الاستعمار مهما كان شكله أو لونه، كما آمنوا بتوحيد البلاد العربية في الوطن العربي الكبير والتعاون مع البلاد الإسلامية والصديقة بأي شكل من أشكال التعاون الذي يحقِّق قوة العالم الإسلامي ونجاته من الاستعمار ونهوض شعوبه من الفقر والجهل والتأخر، وفي سبيل هذه الغاية عمل الإخوان المسلمون في حقل القضايا العربية والإسلامية بنشاطٍ لم يُعهَد في غيرهم من الهيئات والجماعات".
وفي نفس هذا العام؛ عام 1950م عُيِّن السباعي أستاذًا في كلية الحقوق بالجامعة السورية، وفي عام 1951م حضر الدكتور السباعي المؤتمر الإسلامي العام الذي انعقد في باكستان وحضرته وفودٌ من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كما ذهب السباعي في العام نفسه إلى الحج للمرة الثانية، وفي عام 1952م تقدَّم السباعي وإخوانه بطلبٍ إلى الحكومة السورية للسماح لهم بمشاركة إخوانهم المصريين في محاربة الإنجليز في قناة السويس، فما كان من رئيس الحكومة أديب الشيشكلي إلا أن أمر بحلِّ جماعة الإخوان المسلمين واعتقال السباعي وإخوانه وإلقائهم بالسجن، ثم أصدر أمره بفصل السباعي من الجامعة السورية وأبعده خارج سورية إلى لبنان، وفي عام 1953م عُقد المؤتمر الإسلامي العام في القدس وحضره ممثِّلو الإخوان المسلمين من جميع الأقطار.
وأثناء المحنة التي تعرَّض لها الإخوان في مصر بعد حادثة المنشية عام 1954م والتعذيب الذي لاقَوه في السجون، كتب الشيخ سعيد حوَّى ما يوافق ما قاله الدكتور مصطفى السباعي في كتابه (أخلاقنا الاجتماعية) يرثي إخوانه فيقول: "إن في سجون مصر علماء يقطعون الأحجار، ويلبسون ثياب المجرمين، ويعاملون بالزراية والمهانة؛ لأنهم فهموا العلم جهادًا ونصيحةً وتعبًا ومعاملةً مع الله عز وجل، فإذا رأوا المنكر أنكروه، وإذا التقوا مع الجاهل نصحوه، وإذا ابتلوا بالظالم وقفوا في وجهه ليردُّوه ويهدوه، وإذا كانوا مع مستغلِّي الشعب من أغنياء وزعماء ورجال أحزاب، واجهوهم بالحق الذي جعله الله أمانةً في أعناق الذين أوتوا العلم.. هذه هي جريمتهم التي زُجُّوا من أجلها بالسجون، وقيَّدت أرجلهم بالحديد، وسيقوا إلى مقالع الأحجار كما يُساق القتلة واللصوص والأشرار والمجرمون، ويا ليتهم سلموا من ألسنة إخوانهم من علماء الدنيا، الذين سخَّرهم الطغيان ليخدعوا الناس باسم الدين، فإذا هم أداة تخدير للشعب، وزراية بالعلماء المصلحين وتمجيد للفسقة والمغتصبين.
هؤلاء العلماء المصلحون على قلِّتهم ومحنتهم والعداوات التي تحيط بهم هم وحدهم الأمل المرتَجى لنهضة الأمة وتحررها".
وفي عام 1955 أسَّس مع إخوانه مجلة (الشهاب) الأسبوعية، والتي استمرَّت في الصدور إلى قيام الوحدة مع مصر عام 1958م، وفي العام نفسه 1955م حصل على ترخيص إصدار مجلة (المسلمون) الشهرية بعد توقُّفها في مصر، وظلَّت تصدر في دمشق إلى عام 1958م؛ حيث انتقلت إلى صاحبها د. سعيد رمضان في جنيف بسويسرا، فأصدر السباعي بدلها مجلة (حضارة الإسلام) الشهرية، وظلَّ السباعي قائمًا على هذه المجلة حتى توفَّاه الله؛ حيث تولَّى إصدارها د. محمد أديب الصالح بدمشق.
وفي عام 1957م ذهب السباعي مع عمداء الكليات في الجامعة السورية إلى روسيا بدعوةٍ من جامعة موسكو؛ زار خلالها معظم الجامعات الروسية في مختلف الأقاليم، والتقى أساتذة الدراسات الشرقية والتاريخية والاجتماعية، وناقشهم وفنَّد مقولاتهم وأبطل مزاعمهم الخاطئة عن الإسلام والمسلمين.
لقد كان السباعي رجلاً من الطراز الفريد؛ فقد كان سياسيًّا ومربيًا وصحفيًّا وخطيبًا مفوَّهًا ومجاهدًا.
من مؤلفاته
1- آلام وآمال، سلسلة مقالات نُشرت في مجلة القاهرية.
2- جهادنا في فلسطين.
3- مقدِّمات حضارة الإسلام.
4- أحكام الصيام وفلسفته في ضوء القرآن والسنة.
5- أخلاقنا الاجتماعية.
6- الاستشراق والمستشرقون وما لهم وما عليهم.
7- المرأة.. بين الفقه والقانون.
8- عظماؤنا في التاريخ.
9- هكذا علمتني الحياة.
10- الدين والدولة.
11- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي.
12- مشروعية الإرث وأحكامه في الإسلام.
13- شرح قانون الأحوال الشخصية (ج1، ج2).
14- المرأة بين الفقه والقانون.
وغيرها من المؤلفات التي زخرت المكتبات بها.
قيل: لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا من هم من أهله.. والدكتور مصطفي السباعي علم فوق منارة في مزايا الفضل، إنه الرجل الحرّ الشجاع، المقدام العالم المفكر الأديب الداعية، صاحب المبادرات الفذة في العلم والفكر والحركة والدعوة.
ولقد عرف فضل تقدم الرجل في كل هذه الميادين من هم من الرجال المعدودين في أوطانهم، ولكونهم كذلك، فقد دونوا في سجل الأمة سيرة عطرة من خصال ومناقب الرجل، التي قلما تجتمع في إنسان واحد. إلا في النادر من الأزمان والأمكنة، وفيما يلي ننقل ثبتاً من بوح أولئك الرجال يؤدون من خلاله واجب الوفاء لرجل كان قمة في كل وصف.
فهذا الأستاذ الكبير مصطفى الزرقاء يبين بكلمات رائعة اجتماع الخصال الفذة في الرجل فيقول: "لا أريد هنا بهذه الكلمة القصيرة أن أشيد بشتى مآثر فقيدنا العظيم النفس، بل فقيد العالم الإسلامي أجمع، تلك المآثر التي تستند إلى مواهب جمة أسبغها الله تعالى عليه وجمعها فيه، حتى كان بها وحده في قوة جيش من العاملين من مختلف الكفايات والمزايا العلمية والفكرية والأدبية والنفسية والسياسية، قلماً، ولساناً، ونشاطاً وعملاً، وإيماناً، وإخلاصاً لرسالة الإسلام العظمى الخالدة، ومعرفة بالزمن الذي نعيش فيه وبخصائصه ومقتضياته في أسإلىب العمل، وبصيرة بالمقدمات والنتائج، والبدايات والعواقب".
وهذا الشيخ الجليل الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة يكتب لحضارة الإسلام في مناسبة تأبين الدكتور السباعي الذي لحق بالرفيق الأعلى فيقول: "ورأيت نفسي واقفاً متهيباً أمام سيرته ـ رحمه الله ـ الحافلة بوافر الإنتاج وجليل الأعمال، كالواقف على شواطئ البحر الكبير، تهوله عظمته، وتروعه قوته، وتبهره لآلئه وكريم أصدافه، فلقد كان السباعي رحمه الله كالبحر، عميقاً في فكرته غنياً في مكنو ن جواهره، مهيباً في طلعته جميلاً رائعاً في منظره، سمحاً كريماً لمن طلب رفده...".
ولا يفوتنا أن ننقل بعض ما قاله الدكتور محمد صبحي أبو غنيمة سفير الأردن في دمشق في تلك الأيام الخوإلى: "لعمري إن الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله أشبه بالبحر الذي يسهل على الكاتب أن يغترف منه ما شاء ويظل ما بقي منه هو ذلك البحر الذي لم ينقص منه شيء".
ولا نمر في هذه الحلقة دون أن نثبت بعض ما قاله أحد علماء الهند الكبار الأستاذ محمد الحسني الندوي بمناسبة تأبين الدكتور السباعي رحمه الله: "إن الدكتور مصطفي السباعي كان بلا نزاع من أساتذة الحركة الإسلامية العالمية، ومن صفوة الدعاة والمرشدين والعلماء من الطراز الأول".
وبعد فإن اليراع ليعجز عن نقل كل ما قيل في الرجل، وإن الصحائف لتقصر عن استيعاب ما تحمله تلك النفس الظاهرة من صفات ومناقب وخلال يحتاجها رجال الدعوة في كل حين وآن.
فهل يسوغ لنا عجزنا هذا ما نختزنه من تلك العواطف الجياشة، وما نكنه من الحنين الجارف إلى رحاب التحلي بشيء من تلك المناقب الفذة.. لعل وعسى.. فإن الرجل كان بكل المقاييس كبيراً كبيراً.
قال عنه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: "كان السباعي عذب النفس، رقيق الحاشية، مرهف الذوق والشعور، يستجيب للدعابة ويجيدها، ولا يبذلها إلا في مواطنها، وكان صافي النفس وفيًّا، محبوب العشرة، شهم الإخاء، سريع النجدة كريمها، وكانت له مسامرات ومحاورات تفيض ذوقًا وعذوبة نفس مع صديقه الصفي وأخيه الكريم الشيخ محمد الحامد، وإن الإنسان قد يعجب- ولا عجب- حين يقرن بين وقار النابغة السباعي في مواطن الجد ومخاشنةٍ لأعداء الله والأمة وانقباض نفسه عن المنافقين والنفعيين، وبين شفافية روحه وانطلاق جنانه وتلطُّف لسانه في معاشرة أحبائه وإخوانه، ولكن لا عجب؛ فهو للإسلام والعمل به على بصيرة".
ولقد كتب سماحة مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني يقول: "فقدت سورية علمًا من أعلامها، ومجاهدًا من كبار مجاهديها، وفقد العالم الإسلامي عالمًا من علمائه الأجلاء، وأستاذًا من أساتذته الفضلاء، وداعيةً من دعاته البلغاء، ولقد عرفته فعرفت فيه الصدق والإخلاص، والصراحة ومضاء العزيمة والاندفاع في سبيل العقيدة والمبدأ، وكانت له قدم صدق، ويد بيضاء في خدمة القضايا الإسلامية والعربية، وفي طليعتها قضيتا سورية وفلسطين، وكان على رأس كتيبة مجاهدي الإخوان المسلمين دفاعًا عن بيت المقدس عام 1948م".
ويقول عنه الشيخ محمد أبو زهرة: "إنني لم أرَ في بلاد الشام أعلى من السباعي همةً، وأعظم منه نفسًا، وأشدَّ منه على الإسلام والمســـلمين حرقةً وألمـًا".
وكتب الشاعر محمد الحسناوي قصيدةً يرثي فيها السباعي، قال:
كم جاء يخطب كلُّ عملاق ودا دَكَ بالمنى والأصفر الرنان
كم دولة كبرى دعتك فما استجبت لغير صوت الحق والإيمان
وسخرت بالإغراء والتهديد لا قرّتْ بفقدك مقلة الخوان
ومشيت إذ قعد الورى لتغيث أرضَ الأنبياء بغيثك الرباني
بكتائب الرحمن تجتاح اليهو د تذود عن دين وعن أوطان
ورجعت صلب العود عالي النفس ترسي الأُسَّ فيما انهار من بنيان
ورجمت أصنام الخيانة والهوى ودمغت كل مداور وجبان
فيك الأبوة والقيادة والتقى والعلم والإخلاص للرحمن
فيك الجهاد شجاعة وريادة لله كم أصفاك من إحسان
أو لست من هز المنابر والعرو ش وزلزل الطاغوت بالإيمان
رحيله
في يوم السبت 27 جمادى الأولى 1384هـ الموافق3/10/1964م انتقل الأستاذ الدكتور مصطفى حسني السباعي إلى جوار ربه بمدينة حمص، بعد حياةٍ حافلةٍ بالجهاد المتواصل، وقد شُيِّعت جنازته في احتفال مهيب، وصلَّى عليه في الجامع الأموي بدمشق.
----------
المراجع:
1- المستشار عبد الله العقيل: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2002م.
2- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
3- محمد المجذوب: علماء ومفكرون عرفتهم، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، دار الاعتصام.
4- د. إسحاق موسى الحسيني: الإخوان المسلمون.. كبرى الحركات الإسلامية الحديثة، دار بيروت، الطبعة الأولى، 1952، ص (123).
5- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الكتاب الثالث.
6- مصطفى السباعي: جهادنا في فلسطين، دار الوراق للنشر والتوزيع (بيروت)، 2000م.
7- الموسوعة الحركية بإشراف الأستاذ/ فتحي يكن
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات