اشتهر بكتاباته النقدية حول التراث الإسلامي.وفاة الباحث المصري سيد القمني خاض العديد من المعارك الثقافية مع أنصار التيارات الإسلامية


سيد القمني في ذمة الله: وفاة الباحث المصري الذي اشتهر بمواقفه النقدية من التراث الإسلامين  وكلنا سيموت توفي الكاتب والباحث المصري سيد القمني مات ، الذي اشتهر بمواقفه النقدية من التراث الإسلامي، عن 75 عاما.

وخاض القمني العديد من المعارك الثقافية مع أنصار التيارات الإسلامية سواء عن طريق الكتب والأبحاث والمقالات أو المقابلات الإعلامية.

ومن أبرز كتب القمني "حروب دولة الرسول"، و"الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية"، و"النبي إبراهيم والتاريخ المجهول".

وكان القمني يشدد على ضرورة إعمال العقل في التراث الإسلامي وعدم الركون إلى الغيبيات، بينما اتهمه منتقدوه بعدم التخصص الغربال أنفو: متابعة -اطلقت مؤسسة الحوار المتمدن حملة تضامن واسعة مع احد ابرز كتابها  الذي يتعرض لحملة شرسة وممنهجة داخل مصر.

وكانت هذه القوى المعادية لحرية الفكر خاصة العلماني والعلمي، اطلقت حملة قضائية وإعلامية ذات طبيعة سياسية واجتماعية شرسة من قبل مؤسسات وجماعات وشخصيات تشكل جزءاً من قوى الإسلام السياسي ضد المفكر المصري المتميز د.سيد القمني بسبب اراءه التنويرية, وهي جزء من محاولة لممارسة الضغط السياسي والاجتماعي بهدف الإساءة لمكانة ودور السيد القمني الفكري والسياسي وتشويه سمعته ومحاربة أعماله الفكرية الإبداعية. 


واعتبر مطلقو حملة التضامن مع القمني أن هذه الأساليب الرخيصة التي تستل من الجعبة البالية لقوى الإسلام السياسية المتطرفة تعبر عن خواء تلك القوى وعن ضعف حجتها وعدم قدرتها على مواجهة الفكر العلماني والعلمي بالحوار المتحضر ومقارعة الحجة بالحجة والقبول بالرأي والرأي الآخر. إنهم لا يتورعون عن ممارسة كل الأساليب غير المشروعة والعنف والقسوة للوصول إلى أهدافهم الشريرة المعادية لحرية الرأي والحق في ممارسة نقد الدين ومؤسساته. 

معلنين تضامنهم مع الأستاذ سيد القمني ضد التهديدات والدعاوى القضائية المرفوعة من جانب قوى الإسلام السياسي . إن هذه القوى الشريرة تريد، دون أدنى ريب، إعادة شعوبنا ومجتمعاتنا إلى قرون خلت، ولكنها لن تنجح بمسعاها إن تضافرت جهود التحرريين في مصر والمنطقة لمواجهة هذه الحملات العدوانية.  

“ـ ١ ـ

التأملات الثانية في الفلسفة الأولى …

هناك الكثير من الموروث الثقافى وصلنا في شكل مفاهيم ومصطلحات تبدو واضحة بذاتها، وفي شكل نظريات أنبنت على هذه المفاهيم، تبدو أيضا متماسكة فمقدماتها تؤدي إلى نتائج تلزم عنها في قياس منطقي سليم، فتظهر النظرية بمظهر البنيان المتماسك بينما المبنى نفسه غير موجود من الأصل، لأن المفاهيم والمصطلحات التي تشكل مقدمات القياس المنطقي ليست ذات وجود في الواقع أمامنا.

منذ وضع أرسطو أسس الاستنباط العقلي في منطقه الأبهى (القياس الأرسطي بالذات)، اهتمت الفلسفة الأولى بسلامة عملية الاستنباط ومراعاة قواعد القياس والالتزام بقواعده الأرسطية وشروطه، وقد أدى اكتشاف أرسطو لقواعد المنطق العقلي للوصول إلى استنتاج سليم إلى قفزات عملاقة في التفكير البشرى، بعد أن اعترف الجميع بقواعد واحدة ومعايير ثابتة يستخدمها العقل السليم المفكر، ليصل بما لديه من مقدمات إلى نتائج سليمة قياسا على تلك المقدمات.


وعندما وافقت الكنيسة الكاثوليكية على المنطق الأرسطي كوسيلة للاستنتاج، ألقت بظلها الثابت القدسي على أرسطو فتحول منطقه إلى مقدس إستاتيكي، مما أدى إلى انكماش اندفاعة العقل البشرى، وهو يكتشف نفسه ويضع لنفسه القواعد التي ترتب له تفكيره وتساعده على تفسير ما يجري حوله من ظواهر، وسكن العقل وسكت بدخول أوروبا إلى العصور الوسطى المظلمة، لأنه من بين كل ألف مقدمة ابتدأوا منها، توجد مقدمة واحدة صحيحة، لأن كلها فروض، كلام، حكي، كالقول إن سبب الحياة شيء مجهول لا يقع تحت الحواس أطلقوا عليه اسم الروح، أو كافتراض أن النظرة بالعين تصيب بالمرض، أو أن الأمراض النفسية ناتجة عن لبس الجان للإنسان، أو افتراض أن هناك على الأرض ماء شاف لكل الأمراض، وبمرور الزمن تحولت الفروض إلى حقائق وأصبحت هي المقدمات في عمل العقل للوصول إلى نتائج تنبني عليها، وهى النتائج التي ستكون باطلة بطلان المقدمات.

ومثل هذه الافتراضات بدأت مبكرا مع فجر الإنسانية، ولم تقم الأديان القديمة من جانبها بأي جهد لفحص الفروض والمسلمات، مما يعني أن الأديان سلمت بذات ما سلم به بشر زمنهم، بل وأقرت الأديان بصدق الفروض والاصطلاحات والمفاهيم القائمة، كالظن بأن الأرض مسطحة سبعا طباقا وأن السماء سقف محفوظ مرفوع بدون أعمدة، ولهذا السقف أبواب لها مصاريع إذا فُتحت انهمر منها المطر، وأن الأرض هي مركز الكون، وأن الشمس تدور حول الأرض، وأن النجوم مصابيح تزين الخيمة السماوية،

وأن وراء عالمنا هذا عالمًا غير مرئي، تعيش فيه كائنات مُنوعة مثل الجن والأرواح والملائكة والآلهة، وكله مما خالفه العقل البشرى بعد ذلك ابتداء من اكتشاف الإنجليزي (أوجست كونت) منهج التفكير العلمي، الذي فتح الأفاق أمام تطور العلوم بسرعة قياسية، مما أخذ بالدول التي اعتمدت منهج التفكير العلمي في البحث وتحصيل المعارف إلى قفزات نوعية هائلة كشفًا واختراعًا، معرفةً وحضارةً، حتى أن ما يتم اكتشافه اليوم في ليلة واحدة يعادل ما وصلت إليه البشرية منذ فجرها وحتى اكتشاف المنهج العلمي في التفكير.

إذن فالعقل السليم الواحد قد يصل مرة إلى حقائق سليمة ولا يصل في مرة أخرى، والسبب أنه استخدم في المرة الأولى أدوات منهجية أدت به إلى الوصول للحقائق السليمة، وفي المرة الثانية استخدم أدوات منهجية غير سليمة فوصل إلى نتائج مضللة. وهو ما يعنى أن سلامة العقل وحدها لا تكفي للوصول لحقائق سليمة لأنه يلزم لهذا العقل أدوات منهجية سليمة.

لكن… كيف نختار من بين تلك الأدوات المنهجية ما يمكن وصفه بأنه مناسب وسليم؟ الإجابة بالنظر فيما لدينا من مفاهيم ومعلومات فإن لاقت المعلومة اتفاقا تامًا بين كل العقول على اختلاف الأماكن واختلاف الزمن، تكون المعلومة حتى هذه اللحظة معلومة صحيحة، لأننا لا نعلم هل سيظل متفقُ عليها في الزمن المقبل أم ستتراجع كمعلومة صحيحة بعد أن يظهر ما هو أكثر صحة؟.

في بلادنا نجد أساتذة دكاترة أصحاب زمالات في جامعات كبرى في العلوم الفيزيائية والحيوية يفكرون بأدوات منهجية خاطئة، فيصل أحدهم لعلاج كل الأمراض بالعسل، والآخر بالحبة السوداء، والثالث ببول الناقة، والرابع ببول النبى، والخامس وهو الأنكى اكتشاف عبد العاطي لمفخرة القوات المسلحة (الجهاز السرى لعلاج كل الأمراض: الإيدز وفيروس سي والإنفلونزا والصدفية والسرطان والأمراض النفسية).

لو استخدم هؤلاء المنهج العلمي في التفكير لما فشلوا وانتهوا إلى البول خلاصًا للبشرية من عللها، ولما تبنت القوات المسلحة المصرية بجلال قدرها هذا الإنجاز الفضائحي، وهو ما يعني أن التفكير العلمي أمر لا يعرفه جيشنا العظيم وعلى حدودنا سلام أمين!!!!
المشايخ ودكاترة العلم والإيمان وقواتنا المسلحة كلهم يستخدم منهج غادرته البشرية منذ زمن بعيد، منهج قادم من عمق التاريخ المظلم، عشعش في كهوف تخلفنا عبر أربعة عشر قرنًا، ليس ليشكل الإيمان فقط بل ويشكل العقل أيضا. 

هو منهج البشرية قبل اكتشاف فرنسيس بيكون، يعنى نحن لازلنا نعيش ونفكر بمنطق العصور الوسطى المظلمة، بمنهج يُسلم بأوهام ليصل منها إلى نتائج ستكون بالضرورة وهمًا، هو منهج الاستنباط والوصول إلى نتائج مبنية على مقدمات غير ذات وجود أصلًا، فيصل إلى نتائج تليق بكهوف الماضي، وفي زماننا لا تزيد على كونها تخلف مقيت وغياب كامل عن الدنيا وما يجري فيها، هذه ليست فضيحة فقط لكنها مسخرة.

كان أفلاطون فيلسوفا سليم العقل بل باهر في ضيائه، ومثله بقية فلاسفة اليونان بدءًا بالحكماء السبعة وانتهاءً بالرواقيين، كلهم أسماء لوامعُ في سماء البشرية، لكن كل هؤلاء لم يتمكنوا من الوصول بالبشرية إلى عصر النهضة، كذلك المتفلسفة المسلمين مرورًا ببقية الفلاسفة الأوروبيين حتى عصر النهضة، لفقدهم الأدوات المنهجية اللازمة للعقل كي يعبر بالبشرية من عصر ما قبل العلم إلى عصر ما بعد العلم.

لا يبقى بأيدينا سوى ما توافقنا عليه معيارًا واحدًا يمكن به الفرز لاختيار ما هو تام الصدق، هو ما تتفق عليه كل العقول في كل زمان ومكان، 1+1=2، المتوازيان لا يلتقيان مهما امتدا، المعدن يتمدد بالحرارة، كل العقول تتفق على ذلك في كل زمكان، لكن هذه العقول نفسها ستختلف حول نبوة النبي محمد أو نبوة زرادشت. المنهج السليم هو الذي يصل إلى حقيقة تتفق عليها العقول، أما الأدوات المنهجية غير المناسبة ستصل في كل مرة إلى نتيجة غير التي سبقتها، فتتعدد النتائج ويظن كل عقل أنه الصح الأوحد، ويتهم المخالفين بقصور العقل، وتتعدد اليقينات الوهمية بتعدد الأديان والمذاهب فيقتلون بعضهم بعضًا، لأن كل منهم وصل إلى يقين مختلف، لأن كليهما استخدم أدوات منهجية لم تعد مناسبة ولا متفق عليها من الجميع.

يمكن إذن تعريف أدوات التفكير السليمة بأنها تلك التي إذا استخدمت أكثر من مرة في أماكن مختلفة وأزمنة مختلفة ستؤدي إلى النتيجة ذاتها في كل مرة، ودومًا. أما الأدوات التي تأتى بنتائج مغايرة في كل مرة يكون مبناها وناتجها مجرد رأى وليس حقيقة، وجهة نظر وليس قاعدة سليمة، لذلك يتعصب صاحب الرأي لرأيه، أما الحقيقة فلا يتعصب لها أحد….. لأنه لا يختلف حولها أحد.

قضية مثل قضية خلق القرآن شكلت في التاريخ الإسلامي مرحلة مُظلمة نتيجة تعصب صاحب كل رأي أو مذهب لرأيه بحسبانه هو المالك للحقيقة وغيره ليس كذلك، ما بين المعتزلة القائلين بأن القرآن مخلوق كبقية خلق الله، وكان أول خلقه مع نزوله وحيًا على النبي، وبين أهل السنة والجماعة القائلين بقدم القرآن ذات قدم الله الأزلي، وكما الله أزلي غير مخلوق فهو يعرف كيف يتكلم من الأزل.

إن قلت بخلق القرآن ستجد فقهاء يبدون التأييد التام، أن قلت بقدم القرآن ستجد فقهاء آخرين يبدون التأييد التام، ولو سرت مع كل منهم فيما أجراه من عمليات منطقية، ستجده يحمل أدلته النصية والعقلية المقنعة، الخطأ هنا ليس في سلامة خطوات البناء المنطقي، الخطأ هو في السؤال نفسه، فإن تسأل هل القرآن قديم أم مخلوق، فأنت تُقيم قضية على معنى غير موجود، معنى وهمي، فاختلاف العقول حول هذا السؤال بين الفرق الإسلامية يؤكد أنه لا توجد قضية حقيقية، هو سؤال وهمى نتجادل حوله بالفلسفة والمنطق والقياس، بينما الذي نبحثه ليس تحت حواسنا إنما هو يقع فيما يسمونه عالم الغيب أو عالم الميتافيزيقا، وهو مكان لا يمكن لأحد المختلفين والذى قدم كل منهم أدلته المنطقية، أن يذهب بنا إلى ذلك المكان في الغيب لنتمكن من معرفة أي الرأيين يطابق ما يحدث في عالم الغيب من عدمه.

بشديد التبسيط لو أعطاني مقياس ضغط الهواء في إطار السيارة مرة عشر درجات ومرة ثلاثون درجة فلا بد أن أفهم أن الخطأ في الأداة، في الوسيلة، في المقياس.
إذن يمكن أن يكون موضوع الاهتمام والبحث كله وما جره على البشرية من حروب طائفية ودينية من أصحاب الآراء المختلفة، بلا قضية، كلها مجرد كذبة وهمية وأيضا شريرة، لأن هناك من يعتاشون بسببها على أرواح الناس وأرزاقهم.

إذن يمكن أن يكون موضوع الاهتمام والبحث كله مجرد كذبة ووهم، ويمكن أيضا أن تكون الأدوات المنهجية في الوصول إليه هى الفاشلة، والأهم من كليهما هو طرح السؤال الخاطئ الذي يقوم على التسليم بافتراضات وهمية تبحث عن نتائج وهمية.
إن الذهب مهما خفضنا درجة حرارته أو رفعناها أو طرقناه أو كسرناه أو دفناه في الطين، يظل ذهبا، لكن أن يعتقد الصيني غير اعتقاد الهندي غير اعتقاد المسيحي غير اعتقاد الهندي الأحمر، فإن سلعتهم جميعا تكون سلعة من صفيح، لأنهم لو اتفقوا جميعا على إله واحد لكانت سلعتهم من ذهب.

ـــــــــــــــــــ

ـ ٢ ـ

هل للوجود هدف ؟ …

إن الملحظ الأهم والمشترك بين جميع الأديان خاصة الديانات الإبراهيمية الثلاث : اليهودية، المسيحية والإسلام، أن عبادة البشر للإله فيها سر خفى عظيم، يجعل جميع الآلهه تسعى للفوز بهذه العبادة، لذلك يدعى كل إله أنه الوحيد الحقيقى والأجدر بعبادة البشر دون غيره من آلهه مزيفة، هذا بينما الإنسان هو من يقوم بالاختيار والمفاضلة بين الآلهة فيقبل هذا ويرفض ذاك، ولايبالى فهو يسب الأرباب التي لا يحبها بتغطرس المُغتاظ، لأنه الذى ينتقى ويبدل ويرفض ويلعن، وعلى العكس من ذلك نرى الأرباب كلّاً منها يقوم بتحسين صورته أمام الإنسان وتقديم الرشى له والغوايات، وجميع الأرباب تغازله وتخطب وده طلبا لهذه العبادة.

ومطالعة قصة مثل قصة الخلق والتكوين فى الكتب الدينية المقدسة، تُحيل إيجاد الوجود كله وتكريسة لتحقيق رغبة الإله فى أن يكون معبودا، فيخلق من يحقق له هذه الرغبة فيعبده ويسجد له.
،لابد أن نفهم هنا أن رغبة الإله فى تلقى العبادة موجودة لدية من الأزل وسابقة على إيجادة للوجود، فى اشتياق لأن يمارس الوجود المخلوق عبادة الخالق الذى أوجدة فالأرباب تخلق الوجود لإشباع تلك الرغبة.
ويترتب على هذه المقدمة نتيجة حتمية وهى أن تكون تلك العباده قد تمت يوم خُلق الوجود، ولأن خلق الإنسان الذى سيقدم للخالق العبادة قد تأخر طويلا عن لحظة خلق الوجود، فقد حل الدين الإسلامى هذه المشكلة بإعتقادة أن كل الوجود جمادا أو حيوانا أو نباتا يسبح الله ويعبدة لكننا لانفقة تسبيحهم.

ولأنه لم يكن على الكوكب الأرضى من كائنات حية، وأن بداية الحياة كانت الخلية الأميبية الأولية، فوفق الإعتقاد الإسلامى ستكون الخلية الأميبية هى أول العابدين، وبتغيير منظومة الحياة وتغيرها تغير العابدون، فظهرت الأسماك لتعبد ثم البرمائيات لتعبد ثم الزواحف لتعبد ثم الطيور لتعبد والديناصورات والحشرات والخنازير والعناكب والقوارص والقوارض كلها لتعبد، كلها كانت سابقة فى الوجود على العابد الأهم والمستهدف الذى هو الإنسان بأربعة عشر مليار من السنين، حتى ظهرت السلالات البشرية فى تتابع تطورى وصل بها إلى الإنسان الحديث.

هنا لابد أن يظهر السؤال: طالما أن العبادة قائمة من الساعة الأولى للخلق، بالشكل الذى أراده الخالق وبالكيفية التى أرادها، زمنا ومكانا وموجودات عابدة، وطالما أن رغبتة قد تحققت من الوهلة الأولى فلماذا يكون الإنسان هو المستهدف الأكبر كعابد ؟ ، رغم أنه لم يظهر إلا بعد مليارات السنين وبعد عدد هائل من الموجودات والكائنات العابدة ؟ ، فهل لم تكن عبادة الموجودات السابقة كافية لإشباع الرغبة الإلهيه ؟ ، مما إستلزم إيجاد الإنسان لتحقيق الشبع والكفاية ؟ ، وإذا كان هذا صحيحا فلماذا كان كل هذا التأخير الطويل لإستكمال هذا النقص؟ ، ثم لماذا بدأ الله خلقه غير مكتمل وغير محقِّق لرغبتهِ الأساسية المُستهدفة من عملية الخلق كلها؟

الإنسان العاقل ظهر قبل مئتى ألف سنة، وسبقتة سُلالات بشرية تطورية، إستمرت أربعة ملايين سنة، ولأنة لايصح فى مفهوم الإيمان القول: إن الله خلق الوجود منقوصاً، ربما يكون الحل أن الله لم يقصد من خلق البشر أن يعبدوه!! ، وإلّا كان عليه إيجاد الإنسان من البداية طالما الهدف هو: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، وحتى لايتم إتهام الإله بالقصور يجب ألّا يكون الخلق قد حدث بقصد العبادة. 

لكن هذة النتيجة حتى تكون صادقة لابد أن يكون تفكير الخالق مماثل لما لدينا، أما إذا كان منطقه وتفكيره كإله يختلف عما لدينا، سيكون كل ما إستنتجناه هنا باطلاً، لإنه ستكون لله مبررات وإستنتاجات تختلف عما لدينا، ويكون منطقه وتفكيره غير منطقنا وتفكيرنا، فسيترتب على ذلك أن ماينتج عن فكر الله ومنطقه غير مُستوعب لنا، وهو مايعنى إستحالة التواصل والتفاهم بين الرب وبين البشر أو بين الله والأنبياء، ومن ثم يستحيل القول بنزول وحي إلهى بكتب سماوية إلى البشر، ويكون الإله قد خلق الوجود والكائنات لأسبابٍ نجهلها، ومرجع جهلنا بها أن تكون عقولنا غير مطابقة للعقل الإلهى، مما ينتج عنه عدم إدراكنا للإله، ولا رسم صورة له فى أذهاننا ولا فهم غاياته ولا توقع مقاصده من عملية الخلق جميعاً. وهو ما يترتب عليه أن يكون البحث عن الإله والأديان لا معنى له، ويلزم السكوت لأن مجرد التفكير فى هذا الشأن سيكون غباءاً، تأسيسا على مقدمة إستحالة التواصل بينهما أصلاً.

إحتمال أخير أن يكون الخالق خلق الوجود لأسباب لم يعلنها لنا، وهو مايستوجب على الإنسان البحث بعقلة عنها، وهو مما لا يمكن للعقل إستيعابه وفهمه، وهو ما يتوجب إرسال تلك الأسباب من العقل الخالق إلى عقل المخلوق فى تمام واضح دون أى غموض أوتشويش، وتتفق عليها كل العقول البشرية وتظهر فى هيئة واحدة للجميع، كالأسماء التي علمها لآدم. وللأسف هذا الفرض لم يحدث بل حدث عكسة، فالله مُختلف علية بين الناس، ومبررات خلقة للوجود غير متفق عليها من الناس، ولا يبقى من سبب أو غرض لخلق الله للوجود، سوى أن لاقضية والمسألة هي تفسيرات وظنون البشر. 

وكان الاعتقاد ” أن الوجود قد تم خلقة بواسطة خالق ” سببا في تعدد الخالقين بتعدد الأفهام، وهو فرض وهمي مُختلَق بدليل أن ما حدَّثَ هذا الدين عن الإلة يختلف عما تحدَّثَ به دينٌ أخر، حتى بين الأديان القريبة والنسيبة: الإبراهيمية الثلاث.

الوهم مهما إختلقت لة قضايا ووضعت لة فلسفات وقياسات واستنتاجات يظل وهماً، وهم من النوع الذى يقتل العقول ويقضى على الأمم.

ـــــــــــــــــــــــــــ

ـ ٣ ـ

من التعدد إلى التوحيد … 

ما يقع تحت حواسنا هو عالم واحد يفور بالصراع بين مكوناته، حركةً ومنافسة ومُغالبة، الفائز مستمر والمهزوم يختفي، فلكل صراع ضحاياه، وهو عالم موجود وحقيقي وحيٌّ بدليل ويقين معايشتنا فيه والتفاعل معه، ولأنه حي فهو موجود يفعل فينا ونفعل فيه، ما يؤكد حقيقة وجوده وحقيقة وجودنا فيه كجزء منه.

وإذا افترضنا وجود عالمٍ خالٍ من الصراعات سيكون خاليا من الحركة بالتبعية، ليس فيه موت ولا حياة، سيكون الفرض وهميا لعالم غير موجود لأنه لا أثر له، لكن في عالمنا المحسوس فإن ما نطلق عليه جمادات لأنها تبدو لنا ساكنة، فإنها تفور بالحركة وتغلي بالصراع، فأجرام السماء في حركة دائبة وصراع تختفي فيه موجودات وتظهر أخرى وتموت ثالثة، وأصغر مكونات وجودنا وعالمنا هي الذرة، ولها نواة تدور حولها أفلاك من الإلكترونات وتعيش صراعًا متصلاً لا يتوقف، 

وهذا بدوره عالم حسي تسقط فيه الضحايا كما في العالم البيولوجي، فالشموس تموت ومنها ما يشيخ حتى يتحول إلى قزم أبيض وينهار على ذاته ومنها ما يتمدد حتى ينفجر شظايا (سوبر نوفا) ومنها ما تبتلعه الثقوب السوداء. وإذا كان ثمة ضرورة لافتراض وجود عالم ساكن يغيب عنه الصراع والتنافس والحركة، فإنه يظل بالنسبة إلينا غير موجود، لأنه بلا أثر على إدراكنا، فلا هو ميت ولا هو حي، لأنه بلا ضحايا، هو مجرد وهم.

وقد حدثنا الكتاب المقدس للدين الإسلامي (القرآن) عن أرباب وآلهة عديدة مثل اللات والعزى ومناة وهُبل ويعوق وود ونسرا، وعن وجود عالم آخر إلى جوار عالمنا المحسوس تعيش فيه الملائكة والشياطين والجن والله وأرواح الموتى. وهو الاعتقاد الذي عرفته البشرية في أديانها المختلفة في شكل عالم مفارق لا يخضع لإدراكنا، لذلك أطلق عليه الفلاسفة الإغريق “عالم الميتافيزيقا”، وهي كلمة مُكونة من مقطعين ملصقين: الثاني منهما وهو “فيزيقا” يعني عالمنا الفيزيائي المشهود والمحسوس، والأول منهما يعني “اللا، الغير، الذي ليس”، بما يعني العالم “غير الفيزيقي”، وتترجم إلى: “ما فوق، ما بعد، ما وراء، ما خلف، ما تحت”، فهو غير متعين شكلا ولا مكانا، هو كل ما ليس طبيعة. وكل الأديان حدثتنا عن عالمها الميتافيزيقي الماورائي، وأن هناك العالم الحقيقي حيث تعيش الأرباب، وأن الرب المُختار للعبادة عند دين بعينه يقوم هناك بمطاردة أرباب الديانات الأخرى حتى يبقى وحده سيدا.
في الحضارات القديمة تجد آلهة بلا حصر تتكون من أُسر ثالوثية “أب وأم وابن” وتشكل الأسر مجامع إلهية، منها آلهة لطيفة الطبع حنونة تدافع عن البشر وتريد تحقيق رغباتهم، ومنها آلهة دموية قاسية تتعمد إيذاء البشر وإنزال النقمات بهم، وفي عالم الآلهة جحيم “جهنم في الأصل = جي + هنم / من العبرية وادي ابن هنم بأورشليم”، وفردوس “بارادايس / من الفارسية”، وفيه شياطين “ساتان / عبرية” وملائكة “ملائخ / عبرية”، ولكون هذا العالم غير المرئي جاء مفسرًا لكثير من ظواهر عالمنا الطبيعي غير المفهومة فقد أقرت البشرية بوجوده، بل واحتسبوه هو الأصل والحقيقة، بينما الوهم هو عالمنا الذي نعيش فيه، ووضع أفلاطون في محاورته “فيدون” تصورًا لهذا العالم في شكل شعاع ضوء يلقي بظلاله على كهف هو عالمنا الفيزيقي فعالمنا ليس سوى ظلال لعالم حقيقي لا نراه. وهناك تعيش كائنات تتحكم بعالمنا الطبيعي فتنزل المطر وترسل الصواعق والزلازل والبراكين وتفيض بالأنهار وتنبت الزرع صنوان وغير صنوان.

ومع الاستقرار المجتمعي البشري وانتهاء عصر الصيد باكتشاف الزراعة وقيام المدن والدول المتصارعة، تحولت آلهة كل مجموعة بشرية إلى آلهة قومية هي وحدها الجديرة بالاعتراف مع إنكار آلهة القوم الآخرين واعتبارها آلهة زائفة. ونتيجة المزج بين القوم ورب القوم وتوحدهما اتخذت الحروب بين الأقوام على خيرات الطبيعة أو لحسابات المصالح أشكالا دينية، عندما تم استخدام العالم الماورائي كحليف لكل فريق في صراعه مع الفريق الآخر، وبدأ تكليف الآلهة لعبادها بمحاربة الآلهة الأخرى وأتباعها، حتى وصلنا إلى الأديان الإبراهيمية الثلاث (اليهودية، المسيحية والإسلام).

وقد اعترف كل دين من الديانات الثلاث بما سبقه واعترف الإسلام باليهودية والمسيحية كأديان صحيحة، وأن لديهما كتابين مقدسين صحيحين هما التوراة والإنجيل، وقال القرآن بشأنهما وشأن أصحابهما ومقدسيهما: “إنّا أنزلنا التوراة فيها هُدى ونور” (المائدة: 14)، “الإنجيل فيه هُدى ونور” (المائدة: 46)، “كيف يُحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله” (المائدة: 43)، “وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه” (المائدة: 47)، “إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة: 62)، “وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة” (الحديد: 27)، “وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة” (آل عمران: 55)، لكن الإسلام انقلب بعد ذلك على كلتا الديانتين وعلى أصحابهما وكتبهما، بعد اكتشاف النبي محمد أن أتباع تلك الديانات لن يتخلوا بسهولة عن أديانهم وآلهتهم وينضموا إليه، وتم تحديث الحالة بالنسبة إليهما فهم أصحاب ديانات صحيحة بالفعل، لكنهم قاموا بتحريف كلام الله المقدس فانحرفوا عن صحيح الدين، وعليه تم التحول منهم إلى الموقف النقيض فجاءت الآيات تقول: “من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه” (النساء: 46)، “يحرفون الكلم عن مواضعه” (المائدة: 13)، “وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه” (البقرة: 75).

جاء تبرير الانتقال من الاعتراف إلى الإنكار والإقصاء بل والتكفير لكونهم حرفوا كلام الله المقدس حسب أهوائهم، ويكون الوقت الذي استغرقه اكتشاف هذا التزوير بالنسبة إلى اليهودية أكثر من ألفين وخمسمئة عام، وعندما اكتشف الله ما حدث من تزوير في كلامه السابق قرر إرسال كلام جديد هو الصواب وإرساله عبر النبي محمد، ليكشف للناس ما حدث من تزوير وهم لا يعلمون، وإنه آن أوان لحاقهم بالكلام السليم ودخول الإسلام وترك الديانات المزورة، لأنهم إن بقوا على أديانهم فإنهم سيكونون متهمين بالإساءة لله عن قصد.

كذلك استغرق اكتشاف تزوير الإنجيل نحو سبعة قرون حدث إبانها تلاعب جديد بكلام الله الجديد الإنجيل، فتقرر نسخ الديانة المسيحية بدورها والاكتفاء بعدهما بديانة واحدة فيها رسالة من الله للأرض في القرآن تنهي الخلاف حول طبيعة الله وتعريفه وتحديد صفاته وتعريف الإنسانية بالطقوس السليمة لعبادته والتي لا يقبل غيرها. وإعمالا لذلك فقد جاءت رسالة محمد كتصويب لانحرافات دينيه، وكتحديث لطرق العبادة وتغيير المواضع المقدسة المطلوب التوجه إليها بالعبادة واستبدال الأحبار والقديسين بالصحابة العرب، ليقوموا بفرض إرادة الرب، ومن ثم بدأت ظاهرة جديدة في جزيرة العرب، فرغم تعدد وقائع الحروب بين العرب فإنه لم يحدث أن قامت الحرب لأسباب دينية

 والحرب الوحيدة التي استظلت بالدين لتوسيع مناطق النفوذ، هي حرب الحبشة التي استولت على اليمن ورغبت في امتلاك الطريق التجاري وسلبه من قريش بحملة الفيل الفاشلة، فلم يكن عند العرب جهاد، لأن حرية العبادة كانت مكفولة دون صراع، ولم يحدث أن حارب العرب لنشر دين بالقوة العسكرية إنما كانت القبائل تغزو وتحارب كي تعيش فقط صراعا على الحياة حيث البئر والمرعى، بيئة قحط وندرة شحيحة ضنينة بالخيرات. ولم تكن هناك دعوة للات ولا العُزى ولا مناة الثالثة الأخرى، فلم تعرف جزيرة العرب حروبا دينية إلا مع شعار أَسلِم تَسْلَم.

أرسلت السماء إذن النبي العربي كي ينسخ العمل بما سبق للسماء إرساله عبر أنبياء ورسل كُثر، والإبقاء فقط على تاريخهم كذكرى دون التزام لا بأقوالهم ولا بأفعالهم ولا طرق عبادتهم، ولم يتحول أصحاب هاتين الدياناتين إلى أعداء لله ونبيه محمد الصادق الأمين، حتى عشية ظهور آيات الإدانة بتحريف الكلام المقدس، فقد كان اليهود والمسيحيون هم العابدون الصالحون المقربون المتقون المؤمنون، وأصبحوا بين عشية وضحاها هم المغضوب عليهم والضالين “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”. أصبح مؤمنو الأمس هم كفار اليوم

 وتحول اليهود عن كونهم الشعب الذي فضله الله على العالمين إلى قردة وخنازير، وتحول المسيحيون من كونهم فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة إلى عباد للصليب وأشركوا مع الله إلها آخر، لذلك لزم إعلان الحرب عليهم واستباحة دمائهم ونسائهم وذراريهم وأموالهم، استنادًا إلى مبرر عصيانهم النبي الجديد، تماما كما حدث مع آدم في قصة الخلق لتبرير طرده من الجنة إلى الأرض بمبرر عصيانه أمرًا إلهيا واحدًا هينًا بالأكل من الثمرة المحرمة. ولا شك أن الله كان يعلم مسبقًا أن اليهود والنصارى لن يؤمنوا بمحمد، ورغم ذلك أرسلة كي يبرر إسقاط غضبه عليهم وتفعيل هذا الغضب في مجازر هائلة دونتها كتبنا الإسلامية.

السؤال هنا: هل الرب بحاجة إلى اختلاق المبررات للقيام بأعماله؟ وهل المطلق بحاجة إلى مبررات لما يفعله؟ ولمن يقدم هذه المبررات؟ مثلا يقول: لقد طردت آدم من الجنة لأنه عصاني، وعذبت اليهود والنصارى بيد أتباع محمد، لأنهم حرفوا كتبهم ورفضوا أن يؤمنوا بمحمد. إن المطلق لا يجوز أن يقدم تبريرا لما يفعله فإن برر فعله لا يعود مطلقا. أم أن التقدير الإلهي اعتاد إفناء البشر كما فعل مع عــاد وثمود وإرم ونوح، وأن هذا التقدير يحمل عداء شديدا للبشرية، فخلق جهنم لتكون مقرا لهم؟ أم أنه رحمن رحيم عفو كريم محب لخليقته، وما خلقهم إلا لأنه يحبهم؟ أم أن رُسله وأنبياءه يحبون العدوان وأحالوه إلى الله فنسبوا الشر إلى الإله كذبا وافتراء.

إن المطلق يعلو ويتسامى ويرتقي فوق كل ما هو محدود ونسبي وجزئي، والله مطلق القوة والإرادة، لا تعلو قدرته وإرادته أي قوى أخرى، ولا يُقاس عليه، لأنه غير خاضع للقياس، لأنه غير محدود ولا نهائي.
لقد أمر الله المطلق آدم ألا يأكل من شجرة بذاتها في الجنة، والله يعلم بلا شك أنه سيأكل منها، وعليه يكون الله قد رتب لخلق أول معصية والتي حدثت بأكل آدم للثمرة المحرمة، فحل به غضب الله وطرده إلى الأرض ليجوع ويعرى ويعاني خزي المعصية التي رتبها له المطلق.

لقد أوجد الرب مبررا ليطرد به آدم من الجنة وهو مطلق العلم، ويعلم سلفًا أن آدم ضعيف لن يتحكم بشهواته، وأنه سوف يخالف الأمر الإلهي ويعصى ويأكل الممنوع. الأمر بهذا الشكل من بدايته هو تقديم تبرير لطرد آدم من الجنة إلى الشقاء الدنيوي، فهل كان الأمر بحاجة إلى مبرر؟ إن المبررات يتم تقديمها كتفسير للأفعال عند المساءلة، وهي نوع من الاعتذار يقدمه الضعيف الخائف للأقوى القادر على المحاسبة، وهو ما لا يجب أن يتصف به المطلق الذي لا يعلوه أحد ولا يرهبه أحد، وليس بحاجة إلى اختلاق المبررات وتقديم الاعتذارات التي تفسر أفعاله، وإلا فقد صفته الفريده أنه بعد عصور الوثنية الطويلة وحده هو المطلق الأحد.

ـــــــــــــــــــ

ـ ٤ ـ

هو الأول وهو الآخر … 

عندما يبدأ العقل في أخذ نقطة ما أخذًا عشوائيًّا، ثم يفترض أنها نقطة بداية تتبعها نهاية، فإن هذا الفرض يكون من بدئه خاطئًا، لأن النقطة التي افترضها العقل كبداية ليست كذلك، إنما هي نهاية لبداية سابقة عليها، فإذا انتقل إلى نقطة أخرى غير تلك السابق اختيارها، وافترض أنها نقطة بداية، كان ذلك تكرارا للخطأ الأول، لأن جميع النقاط ليست بداية، لأن وجود النقطة كمرحلة بداية تتبعها نهاية أو علة تتبعها نتائج ونهايات ومعلول، يعنى أنها ما دامت ملحوقة فلا بد أنها كانت مسبوقة.
على المستوى الكوني لا يمكنك الوصول إلى نقطة بداية دوران الأرض حول الشمس فإن تمكنت من ذلك ستكون فرضيتك للبداية وللنهاية صحيحة وصوابًا في آن واحد، وهذا هو المستحيل، لأن الفرض بوجود بداية في كون دائم الحركة والتخلق المستمر يحتم علينا معرفة سرعة حركته الملازمة لتفاعله، لذلك يلزم أيضا معرفة بداية حركة الكون وتفاعله، وقدمت هذه المعرفة باكتشاف الحدث الكوني الهائل المعروف بالبيج بانج أو الانفجار العظيم، وهو الاكتشاف الذي أفادنا أن الكون في تحرك وتفاعل وتمدد مستمر غير ثابت ولا مستقر، لذلك فليس لهذا الكون بداية إنما له حركة وعلاقات تفاعلية متبادلة نشطة، يتم فيها دوما تبادل البداية مع النهاية فالبداية فيه هي نهايته.
صبرا جميلا لنتفهم معا بضرب المثل: لو نظرت إلى الزوبعة الإعصارية وهي تلف وتدور حاملة في داخلها كل ما يصادف طريقها، لن تستطيع أن تحدد أين تقع نقطة بداية هذا المخروط المتحرك دائريًّا حول ذاته، ولا يمكن أن تشير إلى نقطة بذاتها على أحد جوانب الإعصار لتقول إن هذه النقطة هي بداية الإعصار، وأن تشير إلى نقطة أخرى وتقول إن هذه هي النقطة التي تلت البداية، وعدم الاستطاعة، لأنها متحركة لا تتوقف، وكذلك هو حال الكون بعد الانفجار العظيم، فهو إعصار كل نقطة فيه تصلح بداية ونهاية في الوقت نفسه.
هو ذات حال العالم الذري المتناهي في الصغر، فالإلكترونات دائبة الحركة الدائرية الأهليجية حول النواة في مدارات لا يمكن أن تحدد فيها نقطة بداية الدوران، أو أي إلكترون منها كان بداية للحركة التي لا تتوقف، لذلك فإن تحديد البداية هو شأن مستحيل مع متحرك إهليجي لا يتوقف، وإن أمكن معرفة بداية للكون الحالي تحديدا مؤقتا وغير كامل السلامة، مع لحظة الانفجار العظيم.
يمكننا فهم وإدراك أن الأول هو ذات نفس الأخر بالنظر إلى عالم الكواكب الكوني ومثاله دوران كوكب الأرض حول الشمس بمدار محسوب ومسجل ومرصود في عملية دوران عظيمة القِدَم، فهل يمكن افتراض نقطة بداية لهذا المدار تكون هي الأول، وعندما تتم الأرض دورة كاملة في سنة تكون قد وصلت إلى الآخر. إن الأرض لن تتوقف عند نقطة الآخر وتمتنع عن الدوران، بل تستمر لتتابع الدورة التالية، فتكون بداية الدورة التالية هي (أول) جديد لدورة جديدة، وهي في الوقت نفسة هي (آخر) للدورة السابقة، فتكون النقطة التي افترضناها بداية هي أول وآخر معا، وهي بداية لدورة كاملة قادمة وهي آخر لدورة سابقة، فيكون أول الدورة الأولي هو آخرها فتتطابق النقطتان ويكون الأول هو الآخر.
مثال آخر دورة الماء على الكوكب الأرضي إذا افترضنا بدايتها بعملية البخر، فإن هذا البخر يتجمع على شكل سحاب تحركه الرياح ليسقط على اليابسة مطرًا، ليمتص النبات بعضه وتشرب منه الكائنات الحية ثم يخرج النبات ما امتصه في عملية بخر جديد يسمونها النتح، والحيوانات تعيد إخراج الماء في شكل بول وعرق ولعاب يتبخر، وما يسقطه المطر على الجبال يعود عبر النهر إلى المحيطات المكان الذي منه جاء، فدورة المياه الطبيعية على كوكب الأرض أولها هو آخرها، من حيث تبدأ السير من هذه الدورة، معتبرا أنها نقطة بداية (أول)، فإنك في النهاية تعود إلى حيث بدأ (الآخر)، ويكون هذا الآخر هو الأول للدورة التالية.

البشر قبل الكشوف العلمية كانوا يظنون أن الأول شيء بذاته وأن الآخر هو شيء آخر مخالف للأول، وأن هناك نقطة بداية ونقطة نهاية لكل شيء، فعندما كان الإنسان البدائي ينظر حوله في العالم البيولوجي نبات وحيوان وحشرات ويرى ولادة وموتًا، ويرى العالم الكوني، فالقمر يظهر ثم يغيب والشمس تشرق وتغرب، فشكل ذلك لدية مفهوما تراتبيا للأول والآخر، لكن خارج العقل الإنساني ليس الأول هو حالات الولادة وليس الآخر هو حالات الموت، لأنه في العالم البيولوجي هو الخلية الأولى الأميبية، والتي كانت مسبوقة مرحلة التخلق اللاحيوي الذي تنشأ فيه المادة الحية الأولى بتفاعلات كيميائية بين apiogenesis بالمواد، 

وتمكن العلماء من تخليق المادة العضوية من مواد لا عضوية بتجربة ميلر/ يوري سنة 1953 بجامعة شيكاغو، مما أكد أن ظهور الحياة مرتبط بظهور هذه المادة، ونشوء الحياة على الأرض حدث نتيجة توفر شروط ضرورية وشديدة الخصوصية بما يتناسب وكوكبنا الأرضي، فكانت الحياة مع البكتيريا عديمة النواة ثم وحيدة الخلية، وبعد ملايين السنين وظهور اليابسة والبحار، كما أثبت الأركيولوجي البيولوجي الأمريكي وليام شويف عام 1993 بعد عثوره على وجود الحياة الأولي بالصخور القاحلة غربي منطقة ماربيل بار بغربي أستراليا، وكان هذا هو الأول البيولوجي الذي أخذ بالتكون في شكل بروتين الـ”دي إن آي” والخلية عديمة النواة، لكن هذا الأول لم يكن أولا إنما كان مسبوقا بالبيج بانج.

علمنا أن الكون هو مجموعة من الدورات المتحركة منها دورة النيتروجين ودورة ثاني أكسيد الكربون وغيرها، ولا وجود فيها لأول أو آخر، فالأول والآخر تصور عقلي افترضه العقل البدائي لتسهيل الحياة لنفسه وإعماره للكون وإقامة أعماله وصناعاته وزراعاته، فالأول والآخر ليس شيئًا موجودًا في الكون المحسوس، إنما هو يرتبط بتصورات ذهنية وبالإرادة الواعية المدركة، فهو فعل إنساني خالص قائم على تصور عقلي ولا علاقة له في الواقع بعلة ولا بمعلول، ولا بأول ولا بآخر، إنما يتعلق بأفعال الكائن الحي الذي هو عالم بذاته تحكمه إرادة الكائن الحي.

وقبل ظهور نسبية أينشتين كانت قوانين الحركة النيوتونية هي المعتمدة في العمل على الأرض، ولم تزل، وكانت الهندسة الإقليدية التي تقول بخط مستقيم ومثلث ومربع هي عماد الحضارة والعمار، لكن على المستوى الكوني ستجد الضوء لا يسير في خط مستقيم، لأنه في الكون لا يوجد شيء اسمه مستقيم، لكن على الأرض، وهي مساحة صغيرة كانت الهندسة الإقليدية ضرورة لإدارة حياة البشرية. كان ذلك خطًا ضروريا للبشرية!! 

فإن يتصور العقل ويفترض فروضا تناسب حياته وضرورتها، ويستعمل هذه الفروض، بما يقيم حياته، ويحفظ نوعه ويؤسس حضاراته، فهذا كلة شيء، وفرض هذه التصورات على الكون شيء آخر، فالإنسان يفرح ويحزن ويغضب ويحيا ويموت، وهذا كله لا علاقة له بالكون، ويظل كل هذا على مستوى فيزياء الكون خطأ، والخطأ على مستوى الكون يظل خطأ فالكون لا يقبل الخطأ، فلا يمكننا إطلاق الصواريخ للفضاء وفق الهندسة الإقليدية وقوانين الحركة النيوتونية وإلا انطلق الصاروخ من أمريكا ليسقط في الصين.
إذن فالأول والآخر هما نسبيان يرتبطان بحيزهما، لأن الأول والآخر على الحيز الأرضي لا معنى له على المستوى الكوني.

وإن قلنا إن نقطة بداية وجود الكون هي لحظة الانفجار العظيم الناشئ من وضعية عظيمة الحرارة وعظيمة الكثافة، الذي علمنا به من ألفريد هابل عندما تيقن من تباعد المجرات عن بعضها البعض، ما يعني أن حجم الكون كان في السابق أصغر، وبعد حسابات سرعة التمدد والزمن الذي احتاجه الكون ليصل إلى حجمة الراهن كان قبل 13.7 مليار سنة أرضية. انطلق الانفجار في تمدده وتباعد مجراته عن بعضها وعن مركز الانفجار، ولا يزال هذا التباعد مستمرًا حتي اليوم، وفي تسارع يشير إلى أننا حتى الآن نعيش لحظة الانطلاق الانفجاري الكبير، وعندما تبدأ قوة الدفع الانفجاري تقل فإن المجرات سوف تتوقف عن الابتعاد، ويتوقف الكون عن التمدد، 

ومع تباطؤ سرعة القذف الانفجاري تأخذ عملية التوسع في التوقف، وتبدأ قوة الجاذبية تتفوق على قوة الدفع نحو الخارج، فتأخذ المجرات بالاندفاع عودًا على بدء نحو مركز الكون، ويعود الكون إلى الانكماش والتكدس على ذاته، ويجتمع المكان والزمان وتتلاشى الأماكن والأبعاد والزمان، لتجتمع كل صور المادة والحركة والطاقة داخل نقطة متناهية الصغر تكاد تصل إلى العدم أو الصفر، وفي نفس الوقت لا متناهية في الكتلة والكثافة والحرارة، عندها تتوقف كل القوانين الفيزيائية عن العمل، وتبقى نقطة عظيمة الكتلة عظيمة الحرارة عظيمة الكثافة، تكون هي الآخر. 

هي نقطة نهاية الكون، التي ستكون نقطة بداية جديدة مع تزايد الضغط والحرارة والكثافة اللانهائي ليبدأ الانفجار العظيم التالي ليكون (الآخر) هو (أول) لانفجار عظيم جديد، يصنع كونا آخر مغايرا تماما لما سبق وشكلة الانفجار العظيم الحالي والانفجار العظيم السابق والانفجار العظيم الأسبق، فكل انفجار يشكل كونه ومجراته وكواكبه وأقماره ومنظومة الحياة فيه.

إعمالا لما سبق يتأكد لدينا أن الأول والآخر هي مجرد تصورات عقلية من صنع العقل البشري، ولا وجود لها خارج هذا العقل، هو تصور يتعلق بالإرادة البشرية، لأنه كي يصنع ويبني لا بد أن تكون لصنعته أول وآخر، هو تصور إرادي مصنوع يخص العقل البشري ولا يخص الواقع الكوني، لأنه يرتبط بحيز ومساحة ومكان لا وجود لهما على مستوى الحراك الكوني الأهليجي الدائري والدوري المستمر.

ــــــــــــــــــــ

ـ ٥ أ ـ

ويسألونك عن الروح ج١ …

كان للأحلام دور مهم في ظهور فكرة عن عالم غير عالمنا، يتصف بالدوام وأيضاً بعدم الوقوع تحت الحس، غيبي غير مرئي، هو عالم مُفترض الوجود غير محدد المكان لعدم إدراكه بالحواس، فهو قبل أو بعد، فوق أو تحت، أمام أو وراء عالمنا، وهو ما تعنيه الكلمة الإغريقية “ميتافيزيقا” كتسمية للعالم اللا محسوس مقابل عالمنا الفيزيقي المحسوس.
عندما حلم الإنسان البدائي بأسلافه ومعارفه وأولاده وأقاربه الموتى يعيشون في منامة ويتحدثون معه ويصطادون ويأكلون ويرقصون بل ويمارسون معه الجنس ليقوم قاذفًاً بعد فعل جنسي كامل المواصفات، لم يكن لدى هذا البدائي من تفسير سوى أن الميت لم يمت فعلا، إنما انتقل إلى عالم آخر يتم الولوج إليه عبر المنام.
وبعد مرور الزمن أمكن لبعض الانتهازيين استثمار تلك الظاهرة، فزعموا أنهم القادرون على التواصل مع هذا العالم والتعامل معه، ليس في الرؤية والمنام فقط، لكن في الصحو أيضاً، وبدأت تظهر وظيفة رجل الدين الابتدائية الذي يلقبونه بـ (الشامان) الطبيب الساحر، الذي كان يمكنه نقل رغبات الأحياء الفانين إلى الأحياء الخالدين في عالم الأرواح والآلهة.
كان الإنسان في حاجة لمعرفة الصواب والخطأ والصدق والكذب، بحل يحسم المشكلة التي تحدث في رؤيته الخطأ صواباً والكذب صدقاً، بما يساعده على التمييز بينهما، ووجد الحل في التسليم بوجود عالم لا فيزيقي إلى جوار عالمنا الفيزيقي، تعيش فيه أرواح الموتى والجن والعفاريت وآلهة الخير والآلهة الشريرة، وأن الصدق هناك وكل ما يأتي منه صواباً، وهو العالم الحقيقي بدليل أنه خالد وليس فانياً كعالمنا الذي كل ما فيه يموت، فهو دُنيا الغرور، ويترتب عليه أن يكون هذا العالم المحسوس هو الباطل والكاذب والزائل والوهمي.

وأول من افترض وجود عالم ميتافيزيقي له مكونات تعيش فيها كائنات، هم المصريون القدماء، وأخذت الفكرة المصرية خطوات تطورية، مع إضافات كثيرة من شعوب المنطقة، شرحتها تفصيلاً في كتابي “رب الثورة.. أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة”. وتطورت الفكرة في مصر من عالم تسكنه أرواح الموتى إلى عالم تسكنه الآلهة أيضاً، وإلى هناك يسافر الموتى ليتم حسابهم أمام موازين عدل الإله أوزيريس عما قدموه من أعمال في الدنيا، وأن الموت يحدث عندما تغادر (البا / الروح) الجسد، وأن الروح ستعود من عالمها الميتافيزيقي إلى عالمنا الفيزيقي لتدخل إلى جسدها الميت، فيبعث من جديد في اليوم الأخير قبل فناء عالمنا المحسوس، لذلك وجب تحنيط جسد الميت حتى يمكن للروح عند عودتها أن تتعرف عليه، ومن ثم تم استنتاج أن سبب حياة الإنسان جسم أثيري لا مادي هو في المصرية القديمة باسم (البا) وهو ما تعنيه كلمة الروح في المفاهيم الدينية، فدخول الروح في الجسم المادي يعطيه الحياة، وأن الموت هو عملية خروج الروح من الجسد الذي سبق أن دخلته.
ورغم تطور الفكرة -سواء في مصر أو بعد انتقالها إلى عقائد شعوب أخرى وامتزاجها بها- فإن كل تلك العقائد منذ فجرها في مصر القديمة وحتى اليوم، لم توضح ماهية الروح ولا صفاتها، قالوا فقط: إن الروح تساوي الحياة، فهل الروح نفسها كائن حي؟ وهل تنمو الروح بنمو الجسد الذي تستقر فيه؟ وهل تمر مع الجسد بأطوار الطفولة والصبا والشباب والشيخوخة؟ وهل تمرض بمرض الجسد أو تضعف بضعفه؟ وهل تتطور بتطور المخ والفكر مع التقدم في العمر؟ وهل تتعلم وتتثقف؟
التساؤل يُصر على إجابة، أيهما يُفضي إلى الآخر؟ هل خروج الروح من الجسد هو الذي يُفضي إلى الموت؟ أم أن الموت هو الذي يدفع الروح للتخلي عن الجسد؟ هما في كافة العقائد حتى اليوم حدثان متلازمان دون وضوح أيهما يؤدي إلى حدوث الآخر؟ بحسبان النظرية نفسها فإن الجسد يكتسب الحياة بدخول الروح فيه، فيكون الجسد هو الأسبق في الوجود، ثم يصبح حياً بدخول الروح فيه، على اعتبار أن الخروج يكون لما سبق له الدخول، وتم تحديد موعد خروج الروح بموعد الموت، أما الموعد الذي سبق ودخلت فيه الروح للجسد فقد وجدت اهتماماً ومحاولات توضيح وتفسير، منها ما انتهى إليه الفقه الإسلامي أن الروح تدخل جسم الجنين وعمره ثلاثة أشهر، فهل يكون ما فات من عمر الجنين كان حياة بلا روح ؟ وكيف يكون حياة بلا روح بينما الروح هي الحياة التي تحيي الجسد؟
إن الجنين يتكون من بويضة حية وسليمة من الأم، ومن حيوان منوي ذكري حي وسليم يتمكن من الفوز بالبويضة من بين ملايين الحيوانات المنوية في القذفة الواحدة، بتمكنه من تلقيح البويضة، لأنه الأنشط والأقوى ليولد الجنين قويا، وباندماج البويضة والحيوان المنوي يتكون الزيجوت، وهو خلية الجنين الأولى الواحدة نصفها من الأم ونصفها من الأب، وتتكاثر هذه الخلية الواحدة بالانقسام الثنائي المتتالي لينمو الزيجوت إلى جنين ويتابع النمو، وفي كلتي المرحلتين يحدث نمو وحركة لأن الحيوان المنوي والبويضة كائنان حيان، ولا نجد هنا وظيفة للروح، والنظرية الفقهية الإسلامية لا تفسر لنا المكونات الحية المتفاعلة والمتحرك والنامية والمتطورة، بحياة كاملة الصفات والمعاني للحيوان المنوي وللبويضة وللزيجوت وللجنين، بينما الروح لم تتدخل بعد وتنتظر بلوغ الجنين سن ثلاثة أشهر، وما دامت المكونات حية من الأصل فما حاجة الجسم إلى الروح في الشهر الثالث وماذا تقدم له ؟ إن الإقرار بأن الحيوان المنوي ، والبويضة ، والزيجوت، والجنين، حيوات واضحة، يستلزم السؤال عما تضيف الروح لكائن حي ينمو ويتحرك ويتطور قبل وجودها؟

فإذا كانت الروح سبباً لحياة الجسد، وأن فقدان الحياة هو فقدان الجسد لشيء اسمه الروح، فستكون الروح والحياة شيئاً واحداً، وإذا كان تصور الجسم الحي مكوناً من نقيضين: جسد مادي فانٍ، وروح لا مادية، فإن البدائي عندما وضع هذه النظرية اكتفى بالربط بين الحياة وشيئاً يسببها دليلاً على وجود ذلك الشيء الذي اسمه الروح، دون محاولة معرفة ماهية الروح ذاتها، لأنها افتراض غير قابل للإدراك.
إن الجسد يولد وينمو ويشيخ ويموت، لأنه كائن حي، فهل الروح كائن حي يجب أن يموت كأي كائن حي؟ أم أنها ليست كائناً حياً؟ وهل عندما تدخل الجسد تتكاثر بنظام الانشطار الذاتي الذي يحدث للزيجوت الذي دخلته؟ وعندها هل ستكون ذكراً أم ستكون أنثى؟ هل هي ذكر مع الحيوان المنوي أم هي أنثى مع البويضة؟ أم هي جنسين مع الزيجوت؟ أم هي روحين في جسد واحد؟
أجاب صاحب النظرية الأصلي (المصري القديم): إن افتراق الروح عن الجسد يعني أن الروح حياة لا تموت مثل بقية الأحياء التي تموت، فهي لا تموت مع الجسد، ما يعني أنها خالدة، لذلك اخترع لها عالما خالداً تعيش فيه حتى موعد رجوعها للجسد يوم البعث ثم الحساب أمام موازين عدل الإله أوزيريس، وإن عالم الخلود يصبح بالضرورة موجوداً كحل لإيجاد مكان يأوي الأرواح التي تنتظر العودة لأجسادها.
واستنام العالم القديم شرقي المتوسط لما وصل إليه جيرانه المصريون كتفسير مقبول ومريح لرؤية الموتى في الأحلام، ولأنه تفسير يقدم لهم الأمل في استمرار الحياة بعد الموت، وباختلاف البيئات والمجتمعات أدخل كل شعب على النظرية ما يناسب ظروفه، فهناك أمم لم تربط الروح بجسد محدد فهي تنتقل بعد الموت إلى أجساد أخرى بشر أو حيوانات وتسمى تناسخ الأرواح، وهناك طبقات رأت أن يكون مسكن أرواحها في نجوم السماء كما رأى ملوك الفراعنة لأنفسهم، ورأى اليهود أن الأرواح كلها تذهب إلى عالم تحت أرضي أسموه (شيول) أي الهاوية، بينما فضلت الديانات الإبراهيمية الثلاث الأخذ بالنظرية المصرية الشعبية الأوزيرية التي تقول ببعث وحساب، وضمنها اليهودية التي قررت الاعتراف ببعث وحساب قبل الميلاد بسنوات.
وقد حدثتنا الديانات الإبراهيمية عن عملية خلق مباشر للإنسان، بدأت بصنع هيكل طيني نفخ الله فيه الروح فتحول من جماد إلى جسم حي هو (آدم) أبو البشر.
فالروح هنا هي سبب الحياة وبدونها كان آدم سيظل تمثالا طينياً، أما الأنثى فجاءت من ضلع آدم الأعوج ولم ينفخ الله في الضلع وتكون الروح جاءتها من الضلع الحي، وهو ما يعني بلغة اليوم أن كل الأجيال البشرية من الصين واليابان إلى أوروبا وإفريقيا إلى استراليا والأمريكتين متطابقة في جيناتها الوراثية، بينما واقع الحقيقة لا يقول ذلك بالمرة لأن هناك اختلافات هائلة بين الأجيال البشرية، لحد لفظ الجسم البشري لأي عضو بشري غريب يضاف إليه وهو لا يطابقه في الجينات وعوامل الوراثة، فهل ثمة تفسير لاختلاف الجينات رغم وحدة المصدر؟ نلاحظ أيضا أن الله لم يعلم الأسماء لحواء كما علمها لآدم، وهو ما يعني أن الأرواح لا تتعلم، فقد سكنت الروح جسم آدم ثم جاء دور الله ليعلمه ويعرفه أسماء الأشياء جميعا، فالروح لم تكن تحمل شيئاً من المعارف فهي من الأصل لا تعرف وأيضا لا تتعلم.


فإذا كانت الروح هي الحياة -كما انتهت النظرية المصرية- وأنها ترتبط وثيقاً بجسم صاحبها وحده، فلا بد من افتراض أن جميع الكائنات الحية التي سبقت الإنسان في الوجود على الأرض بملايين السنين كانت تمتلك أرواحا، وأن هذه الأرواح غادرت أجسادها شأن كل الأرواح، ويكون أول ظهور للروح مع أول ظهور لكائن حي أي من حوالي ثلاثة ونصف مليار عام، فقبل هذا التاريخ كان الكوكب الأرضي غير مهيأ بعد لظهور الحياة. وعندما بدأت الحياة بالكائنات وحيدة الخلية لم يكن الإنسان قد وُجد بعد، وهو ما يعني عدم وجود أرواح بشرية لمئات الملايين من السنين، فإلى أين ذهبت تريليونات الأرواح ومنها الديناصورات، هل ذهبت إلى عالم الأرواح تنتظرنا هناك؟ 

وهل سنجد في عالم الأرواح كل السلالات البشرية منذ بدء الظهور حوالي أربعة مليون سنة تطور، من الإنسان الأول، إلى الرجل القرد، إلى إنسان جاوة أو نياندرتال أو كرومانيون أو البدائي الصانع الهوموسيبيانس، الذي ظهر منذ حوالي مئتي ألف عام؟ وأي هؤلاء من تم تشكيله من طين باسم آدم؟

يتبع …

ــــــــــــــــ

ـ ٥ ب ـ

ويسألونك عن الروح ج٢ … 

لا يفتأ العقل يطرح تساؤلاته عن الروح وهو يتأمل تاريخ الكون والحياة على الأرض، ففي بداية الحياة على الأرض لن نجد شيئاً مستقلا بذاته، اسمه الروح، فلا هي تأتي للجسد من خارجه ولا هي تغادره، فكائن الأميبا كائن حي وحيد الخلية وحسب النظرية الدينية لا بد أنه يملك روحا، المشكلة أنه يتكاثر بالانقسام الذاتي فتنشطر الخلية نصفين بما فيها النواة، فيكون لدينا نواتان بجسمين حيين، ولكل منهما جسم مستقل وحركة مستقلة عن شقيقه الذي انشق عنه، وتظل الأميبا في الانشطار إلى ما لا نهاية ولا تدخل أجسادها أرواح ولا تخرج منها أرواح وتظل حية.

ما وصل إليه علم الحياة أن الذي يندمج هو الكروموسومات كما في الزيجات، من الذكر والأنثى.. فما يقوم بوظيفة الروح هنا هو الكروموسوم بما فيه من جينات، فدودة الأرض مثلا وكذلك السلمندر إذا تم قطعه نصفين لا يموت إنما يُعيد بناء الجزء المفقود فهل مع هذا القطع يكون قد تم قطع الروح إلى نصفين؟ نصف ضاع ونصف بقى !

كان ابتداع المصري القديم لهذا الاختراع مساراته التاريخية عبر الزمان ما كانت لتحدث لولا هذا الابتداع، فقد أخذت به الديانات الإبراهيمية واستبعدت نظائر أخرى كسكن الأرواح للنجوم أو تناسخها أو ارتقائها للفناء في الوجود (النيرفانا)، وهو ما يستتبعه تساؤلات، فاختراع المصري للأرواح ارتبطت به طقوس لازمة كطرق التحنيط والدفن وفق جدول مواعيد شمسي دقيق لتيسير عملية عودة الروح للجسد للبعث والحساب، فإن كانت هذه المعارف قد جاءتهم عن طريق أنبياء ممن ( لم نقصُص )، فإن ديانة المصريين تكون سماوية المصدر، ولأنها الديانة الأقدم فلا شك أنها كانت أصدق الديانات، فإن لم تكن كذلك وكانت ديانة وضعية وثنية، فلا بد من تعميم هذا الحكم على كل مكوناتها وضمنها الإيمان بالـ ( الآبا )أو( الروح)،التي بموجب التوصيف الديني الوثني هي محض خيال مصري .

كما نعلم جميعا فإن الأساس الذي قامت عليه مجمل الديانة المصرية القديمة هو ابتداعها لفكرة الروح، وعلى هذه الفكرة التأسيسية قام الدين والإيمان المصري كله، وعليها كانت مراسم التحنيط والدفن وكتاب الموتى أهم وأقدم كتاب لفكر ديني في العالم، والأهرامات الثمانين وضمنهم أهرامات الجيزة الأشهر، مع ما تركوه من تفاصيل تنص على الحصر: أدعية وتعاويذ ويوم البعث وتفاصيل الحساب والشهود والاعتراف ووزن القلب أمام ريشة ( ماعت ) العدالة في كفتي ميزان أوزيريس، ثم الجنة والعذاب عبر طريقين شرحهما ( كتاب الطريقين ) بتفصيل لا يخرج عنه ما جاء عن المعبر في الديانة المسيحية،أو ما جاء عن الصراط في الديانة الإسلامية.

فإذا كان دين المصريين وضعيا وثنياً وليس أكثر من كذبة مُخترعة، فسيكون هو ذات حال الديانات الإبراهيمية التي يعتقد أصحابها بذات النظرية المصرية وبذات الطرائق والتفاصيل، من عودة الروح إلى عملية الحساب.. ولا يصح هنا التمييز والاختيار لبعض من بعض، فهذا التفاف عقلي دفاعي تقوم به آليات الدفاع النفسية، فيقولون إن صواب المصري القديم كان اكتشافه العالم الآخر وبقيته ابتداع وكفر، لأن الدين إما أن يكون صادقا كله أو كاذباً إجمالا وتفصيلا، فإن كذِّبنا المصريين نكون قد اعترفنا ضمنا بكذب فكرة الروح بكاملها في أي دين آخر .

هنا نحاول الاهتمام بماهية الروح التي لم يشرحها لنا دين من الأديان بما يرضي نهم العقل للتمييز بين الخطأ والصواب، ولا حل مع المجهول سوى طرح المزيد من الأسئلة لعلها تصل بنا إلى تحديد واضح للشيء المسمى بالروح، ربما ما يشغل المؤمن منها السؤال: هل إيمان الإنسان أو كفره يرتبط بالروح أم بالجسد؟ فإذا ارتبط بالروح فلماذا يُعذب الجسد؟ وإذا ارتبط بالجسد فلماذا تُعذب الروح مع الجسد؟

فقهاء الإسلام أكدوا أن الروح تُفرض على الجسد وهو جنين لا يُدرك من أمر نفسه شيئاً، ولم يبِّينوا لنا وظيفة هذه الروح ولا ماهيتها، وهل قبل دخولها الجسد كانت مؤمنة أم كافرة أم هي محايدة بلا دين؟ ولماذا مثلا لا تولد مؤمنة متيقنة ميراثاُ عن آدم أبي البشرية الذي عرف الله وعاينه؟ و بالفرض العقلي المنطقي كميلاد مفطور على الإيمان أشار إليه الإسلام بـ ( يُولد الإنسان على الفطرة )، فإنه من جانب آخر يعني أنه لا ضرورة لإرسال أنبياء ورُسل إلا عبثاً.

المؤمن الحريص على أبديته سيسأل: هل إذا كفر صاحب الجسد وأشرك وعبد صنما فهل ستتبعه روحه بضرورة الارتباط ويكون مصيرها العذاب الأبدي لذنب لم ترتكبه، وهل الذين يولدون في أُسرة كافرة يكون قد تم فرض الأرواح الكافرة عليهم وهم بعد أجِّنة؟ وهو ما يتنافى وأبسط قواعد العدل؟ فالعدل يقضي بالعفو عن الروح في حال تعذيب الجسد.

مع أسئلة من نوع مختلف: هل للروح إرادة؟ وإذا كان لها إرادة فهل لها أفعال تُنفذ بها إرادتها؟ وهل لها دماغ ووظيفة عقلية فتفكر وتُمايز وتُقارن لتتخذ قرارها بإرادتها؟ وهل إرادة الروح هي المُسيطرة على إرادة الجسد؟ أم أن الجسد له إرادة مُستقلة عن إرادة الروح؟ وفي هذه الحال كيف يتعايشان إذا اختلفت الإرادتان؟ وهل يمكن في البعث مُحاسبة إرادتين؟ وإذا كانت الروح بلا إرادة فما الذي يمكن أن تُقدمه لصاحبها؟ وما الدور الذي يمكنها أن تلعبه؟

ربما يكون الأفضل للمؤمن التسليم بحياد الأرواح وعدم علاقتها بأفعال صاحبها ولا نوع دينه وإيمانه، فإذا سلم المؤمن بهذا ستكون الروح هي التعبير الديني عن الجينات، ويلزم أن تأخذ الروح شكل وحجم الجسد الذي تسكنه، فلا يجوز أن تكون أكبر منه حجماً فيقع بعض منها خارج الجسد، ولا يجوز أن تكون أصغر حجماً فتظل بعض أعضاء الجسد بلا روح، ولا بد أن تنمو بنمو جسدها طولا وعرضا ووزنا وقوة ووهناً، فهل إذا تم بتر أحد أطراف الجسد وجب على الروح أن تنكمش ليتناسب حجمها مع الوضع الجديد؟ وهل سيكون العضو المبتور قد مات وحُرم من الحياة لانفصاله عن الروح؟ أم أن الروح غير قابلة للتقطيع كالجسد؟ فإن كانت لا تقبل التقطيع فإن العضو المبتور لن تكون له حصة من الروح على اعتبار أن الروح هي الحياة وبدونها يكون الموت.

ما كان ممكنا طرح هذا السؤال قبل نجاح علوم الطب في جراحات نقل الأعضاء وزرعها، والتي أظهرت أن الروح إن كانت شيئاً حياً موجوداً فإنها لا تتقيد بجسد بعينه، فهي تقبل انضمام عضو رئيسي منقول إلى جسدها من جسد غيرها ويخص روحاً أخرى، بهذا المعنى لا تهتم الروح سوى بأن تجد جسداً حيا تسكنه أو تلبسه كالعفريت، بغض النظر عن صاحب هذا الجسد ودينه وجنسه وعنصره، وهي لا تحزن لفقد جسدها عضو من أعضائه، ولا تستطيع التعرف أو الاستدلال على جسد صاحبها، وربما لهذا السبب تحديداً اعتمد المصريون التحنيط كطريقة تتعرف بها الروح على جسد صاحبها، وهم بذلك الأكثر منطقية، المهم أن الروح يمكنها التعايش مع أعضاء غريبة وافدة على جسدها ولا تستطيع التعرف عليها عند زرعها كأعضاء غريبة عنها، ومن لا يستطيع التعرف على الجزء لا يمكنه التعرف على الكل، ومن ثم لا تكون هناك علاقة بين الروح وجسدها أو بين الجسد وروحه.

اليوم تُجرى في العالم آلاف جراحات نقل الأعضاء وزرعها، أحدهم يموت بحادث سيارة ويموت، والموت يعني مغادرة الروح للجسد خاصة مع توقف القلب عن العمل، ثم يؤخذ هذا القلب عديم الروح، عديم الحياة، إلى جسده الجديد المنتظر بالمستشفى، وبعد زرعه يعود لأداء عمله الطبيعي ويزاول نشاطه كمضخة للدم من جديد، فهل عادت روح الميت بالحادث إلى قلبه المزروع فيكون للجسد الحي روحان؟ أي هل لم تسافر روح الميت إلى عالم الميتافيزيقا إنما انتظرت ترقب المشهد ودخلت قلبها القديم عندما تم زرعه في الجسد الجديد؟ المشهد مُثير: صاحب القلب الأول يموت في حادث على الطريق، ولا نعلم هل فقدت الروح وعيها معه عندما فقد وعيه؟ وهل تفقد وعيها بالتخدير في الجراحات؟ أم تظل واعية باعتبارها غير مادية لا تؤثر فيها الحوادث؟ من المفترض أن تظل الروح تقي صاحبها ما دامت هي سبب الحياة وأن تكون حريصة على دوام الحياة، لأنها هي الصاحية الواعية، لكن ما يحدث هو أنها تغيب مع صاحبها، فوعيها في الصحو أو وعيها في الغيبوبة سيان وسواء، فهي غير ذات فائدة واضحة فيما يتعلق بوظيفتها الأساسية وهي الحياة .

نعود إلى الميت في حادث الطريق لنجد الأطباء يخرجون من الميت بالحادث قلبه، قلبه الذي توقف عن الضخ فلا ينقبض ولا يتحرك ولا يدق، مجرد عضلة لا روح لها ومع ذلك لم يمت القلب بموت صاحبه؟! على الجانب الآخر من المشهد نجد جسد المريض المنتظر فاقداً للحياة نتيجة نزع قلبه لتركيب القلب الجديد مكانه، ومع ذلك ظل الجسد الجديد الميت حياً!! لاتصاله بأجهزة ومخترعات وفرت له الحياة، ولو تم فصلها لتوقف كل شيء فيه على التو.. الجسد هنا ميت لكنه ظل حيا بفضل الأجهزة وليس بفضل الروح، وعندما تم دعمه بالقلب الجديد واصل الجسد وظائفه الحية دون حاجة لروح جديدة.. إن العضو المبتور ظل حياً لأن مصدر الحياة كامن في خلاياه، في الجين والكروموسومات، وسلامة الخلايا لا تحتاج إلى روح، ولو كانت الروح موجودة فستبقى مع صاحبها الأصلي وتترك ما تم بتره، وانسحاب الروح من العضو المبتور لم يؤد إلى موته، وتكون النتيجة أن الكلى أو القلب المزروع ليسا في حاجة إلى شيء يسمى الروح، ولم تكن ضمن أدوات الجراحة التي تمت، فهل تكون الروح شيئًا طفيليًا من زمن ما قبل العلم تُربك العقل ولا حاجة لأحد إليها؟

اليوم نرى أجزاء من الجسد تستمر حية بعد موت أصحابها ومفارقة الروح للجسد، وأوضح مثال بنوك الدم التي تحتفظ بالدماء وربما يموت المتبرع وتُفارقه الروح ومع ذلك تظل الدماء حيةً، ناهيك عن كون فكرة الروح تستلزم القول إن الجسد الواحد تسكنه ملايين الأرواح فهو مأوى وسكن لأرواح الطفيليات والبكتيريا والأميبا بكافة أنواعها وأشكالها النافعة منها والضارة.. هنا يلزم السؤال: هل للدم روح؟ فيخرج بعض الروح مع ما نتبرع به من دماء؟ فيحدث مزج لدم المتبرع بدم المُحتاج، فهل تخلق هذه العملية نوعا من الأخوة في الدم بجدارة تفوق الأخوة في الرضاعة؟

وتترتب على جراحات زرع القلب أسئلة تتعلق بسلامة الإيمان: هل سيُحاسب القلب المزروع وفق أعمال صاحبه الأول أم أعمال صاحبه الثاني؟ وهل لو كان القلب مأخوذاً من جسد كافر بالنسبة لدين صاحب الجسد الجديد فهل يتحول هذا الجديد إلى كافر؟ وكيف ستتم محاسبة جسد عمل مع قلبين مختلفين والقلب في الأديان هو مقر العقيدة؟ وما هو مصير قلب المؤمن الذي تم نقله إلى جسم كافر يستكمل معه الحياة رغما عنه، كيف سيتم حساب المُرغم؟ وماذا سيكون عمل الروح التي غادرت الجسد؟ ومع الحساب هل تأخذ الروح أخلاق صاحبها ودينه؟ وبفرض أنه قام وحوسب ودخل الجنة، هل ستستمتع الروح مع الجسد بلذائذ ومُتع غانيات الجنة وخمرها وطعامها؟ وبفرض دخل الجحيم هل ستُعذب روحه معه؟ وما هو دور الروح في التمييز بين الصواب والخطأ، والإيمان والكُفر، والفضيلة والرذيلة؟ أم أن مهمتها فقط هي إحياء الجسد الميت للحساب، ثم تنسل هاربة من الجحيم، بينما هو حسب الخيال الإسلامي يتم تعذيبه حتى ينضج جلده ويموت وتغادره الروح فيهرع به الزبانية للرحمان لينفخ فيه الروح، ليعود يُشوى على نار هادئة حتى ينضج جلده فيسرعوا به لله، وهكذا دواليك، وإلى الأبد!! ومع مُتعة التعذيب ولذته التي لا تنتهي، لا بد من السؤال: أي روح هنا تُعذب؟ أم هي سلسلة من الأرواح، ولماذا تُعذب كل تلك الأرواح مع جسد لم يسبق لها معرفته، فكل منها تُخلق كل مرة بنفخة جديدة وروح جديدة من الله بعد تمام الشوي ونضوج الجلد والموت ومغادرة الروح للجسد؟

إذا كُنا نستدل على الوجود الحقيقي للأشياء بآثارها وأفعالها، فإن ما ليس له فعل ولا أثر هو غير موجود، والروح بلا أثر ولا فعل، وهل يعني بقاء العضو المبتور حياً بشروط العلم البشري ألا شيء هناك اسمه الروح؟ لأنها لو كانت ذات وجود فاعل حقيقي لما نجحت عملية زرع القلب.. إن المعنوي اللا مادي مثل الروح لا يملك سلطة التأثير على المادي، لأن المعنوي ليس له كُتلة وليس له تأثير فيزيائي أو كيميائي أو كهربي أو حراري، فهو عديم الطاقة، وعديم الطاقة لا يمكنه إحداث أي أثر، فالروح شيء بلا طاقة ولا قدرات ولا فعل ولا أثر، هي والعدم سواء.

للإجابة على حشد الأسئلة في هذا الموضوع، تكفينا لفتة إلى المتحف المصري حيث أصحاب الاختراع الأصليين جثامين محنطة منذ ألوف السنين ولم تعد الأرواح إليها بعد، بينما لو اكتشفنا DNA حياً لتوت عنخ آمون لاستنسخناه بشرا سوياً دون حاجة للميثولوجيا المصرية.

إن كاتب هذه السطور يطرح أسئلة تخطر على بال أي مؤمن، مع تأمل فلسفي على السُنة الديكارتية في تأملاته في الفلسفة الأولى، (أهم كتبه هو: التأملات في الفلسفة الأولى)، مع بذل الجُهد من جانبنا لتجاوز ديكارت بعد أن تجاوزه الزمان، قد تصيب التأمُلات وقد تُخطئ لكنها لون من الرياضة الذهنية والترويح العقلي لقارئ أثق في تميُزه، ويكفيني أن أكون قد قدمت له لونا من التفلسف كمقدمة ومدخل إلى باب من المعارف لمن يمكنه المثابرة والاستكمال، وإصلاح الخطأ وتأكيد الصواب.

كاتب هذه السطور يكتب وينشر على مسئوليته الشخصية وحده دون الناشر، ويؤكد أن الإجابة الوحيدة السليمة على ما تقدم من حشد استفهامات عقلية هو ما حدده الإيمان، والإجابة الوحيدة السليمة عن السؤال: ( ويسألونك عن الروح) هي في كمال الآية ( قُل الروح من أمر ربي ).

ـــــــــــــــــــــ
ـ ٦ ـ

الإله الحقيقي …

قبل الحكماء السبعة وأكاديمية أثينا وسقراط وأفلاطون وأرسطو ، كان الإنسان منذ بدائيته قد وضع لنفسه أهم المُسلمات الأولى، والمُسلّمة هي مُجرد افتراض مؤقت نسلم بصحته ونبني عليه ونستنتج منه حتى يظهر ما يثبت بطلانه، ثم يتم تبني ما أظهر البطلان كمسلمة جديدة، لأن العقل البشري يحتاج دومًا نقطة يبدأ منها حتى لو كان في الفراغ.

وأهم فرض تحول إلى مسلمة فعلت الأفاعيل في تاريخ البشرية هو: بما أن لكل معلول علة فإن لهذا الكون من يُديره، وأن هؤلاء المديرون هم نوع فوق بشري من الكائنات، هم آلهة، وقد بحث كل شعب وجماعة عن علّة الكون ومديره، عن الصانع الأول، في كل بيئة وكل مكان على الأرض تم هذا البحث الجدي والدؤوب عن الصانع الأعظم، وتوصل أهل كل بيئة إلى إجابة خاصة بهم تماثل أو تناقض، أو تتفق مع بعض وتختلف مع بعض آخر، مما وصل إليه أقوام أخرى في بيئات أخرى.

واستدعت علاقة الإنسان بآلهته تساؤلات عمن حاولوا إنكار الآلهة كظاهرة ظلت موجودة ومستمرة بطول التاريخ البشري، ويزعم المنكرون أنه حتى لو وُجدت الآلهة فإنها من يحاول التقرب من الإنسان ويبحث عن التواصل معه وليس العكس، وجد العقل نفسه في حيرة بين الإيمان وعدمه، ووجد أنه لم يحدث أن ظهر إله واحد ينكر وجود البشر، والعكس هو الصحيح، أن هناك بشراً ينكرون وجود الآلهة، وأن الآلهة هي من يتقرب للبشر طالبة منهم عبادتها مقابل رعايتها لهم، ورغم حشد الآلهة في العالم القديم كما في آلهة الأوليمبوس اليوناني ومجامع الآلهة المصرية والرافدية ، فإنها لم تحاول أن تتوافق فيما بينها على واحد منهم أو كبير لهم، وفشلت اجتماعاتهم بهذا الصدد فبما ترويه لنا الملاحم السومرية والبابلية والإغريقية، وتركوا هذه المهمة للبشر ليحددوا: من هو الإله الحقيقي؟.

وقام البشر بالمهمة التاريخية عبر ملاحم من الدماء خلال المعارك التي دارت لأسباب دينية، استطاعت فيها كل جماعة تحديد الرب الحقيقي برب الجماعة التي تمكنت من هزيمة القبيلة الأخرى، فانتصارها يعني أن حليفها السماوي هو الأقوى. ويتم تنصيب الإله الحقيقي من قبل الجماعة الظافرة، كان سفك الدم البشري في ذلك الزمن ليس لأسباب تتعلق بالحياة على الأرض، وإنما تتعلق بشئ غائب حدد الجميع موقعه الجغرافي: فبيته ومسكنه وعرشه بالسماء، لأنه ببساطة ليس بإمكان بشر الوصول إلى السماء والاطلاع على ما تخفيه.

تعدُد الأديان حقيقة أقرت بها كل الأديان، وتعدد الآلهة حقيقة أقرت بها كل الآلهة، حتى المشهورة بالتوحيد منها كاليهودية، يقول موسى ” ن مثلك بين الآلهة يارب” ويقول “عرفت الآن أن الرب أعظم من جميع الآلهة / التوراة”، والديانة التوحيدية الإسلامية يحدثنا قرآنها عن آلهة مثل: وود، وسواع، ونسر، ويعوق، وهُبل، كآلهة معبودة، ويؤكد أيضًا تميز إله الإسلام في الآية “تبارك الله أعظم الخالقين”، مع الشعار الإسلامي الأشهر وهو: أن الله هو الأكبر. ويمكن تصنيف ما وصلت إليه الإنسانية في نوعين من الآلهة: نوع لا يرضى بغير نفسه إلهًا وحيدًا ينكر التعددية ويحاربها ويشن عليها هجومه ويصفها بالوثنية أو الكفر، ونوع آخر لا يمانع في وجود آلهة أخرى إلى جواره ، وهي الأديان التي تصمها الديانات التوحيدية بالوثنية.

وتميل آلهة الوثنيين إلى التعاون فيما بينها لتيسير حياة البشر، وتنفر من التحارب، وتتجمع في ثواليث كما كان عند الأمم السامية والآرية، وفي ثواليث وتتسيع، بتثليث الثلاثة 3× 3 = 9 في مصر القديمة، ولآلهة سماوية وأخرى أرضية، كلها في خدمة الإنسان، وهو المعنى والتعبير الذي وعاه العقل الرافدي فلا تجد ملحمة أو أسطورة دينية عراقية إلا وتتحدث عما تعانيه الآلهة من شقاء وعنت من أجل توفير الحياة وتيسيرها على البشر، بل وتقيم تلك الآلهة العلاقات التحالفية بالتزاوج والمصاهرة في النسب فيما بينها، فيتزوج رب قوم بنت إله قوم آخرين، تعبيرًا عن توحد القومين، وهو التقليد الذي عمل به ملوك الأرض لتحقيق الأهداف والمصالح المشتركة للمملكتين ، وفي مواسم بعينها يتصالح المتخاصمين من الأرباب بسبب الشتاء الماضي عندما اختلفوا فجاءت الريح الباردة والصقيع ومات الزرع وهلك النسل، لأجل البشر يصالح رب الريح رب المطر!


 ويدفع له بالسحاب ليفتح الآخر أبواب السماء بماء منهمر، في هارموني طبيعي لعناصر طبيعة وبيئة المكان، معبرًا عن مواسمها ومصالحها المعتمدة على البيئة، فتأتي الأرباب متوافقة والأغراض العليا للمجتمع ، وفرزًا طبيعيًا لبيئتها: من حيث درجات الحرارة وبيئة المكان زراعي أم صحراوي، ولون المواسم المناخية ودرجة ضعفها وشدتها، وطبيعة النهر أو المطر، لذلك أقام الفراعنة والأكاديين والبابليين والآشوريين والفينيقيين حضاراتهم العريقة، بتصالح المجتمع بعضه وبعض، بتصالح الظهير الألوهي فقامت الأمم الكبيرة المتصالحة.

نصوص كل الأديان تخبرنا أن ربها يسكن السماء كموضع جغرافي مرئي له وجود، لكنه في الوقت نفسه لا يمكن معرفته أو الولوج إليه، وأسمى فلاسفة اليونان العالم الغيبي اللامرئي بعالم الميتافيزيقا، حتى الآلهة المتحاربة فيما بينها تسكن ذات الجغرافيا السماوية، أي أن الإله الذي يحرض أتباعه ضد إله الآخرين، هو والإله المكروه، يتواجدان معا في نفس الجغرافيا في عالم الميتافيزيقا، وكل منهما ينكر الآخر ! 

الكاره والمكروه في مكانٍ واحد لذلك يعرف كل منهما زميله جيدا بالمعاينة والمجاورة ويعرف نقاط قوته وضعفة، ويأمر أتباعه وعابديه في الأرض بما يفاجئون به عباد الإله المكروه لينتصروا عليه. لم يسأل بشر ذلك الزمان أنفسهم، ولا سألوا الدهاقنة والكهنة وتجار الدم: لماذا نقاتل أتباع الرب الآخر ونقتلهم ويقتلوننا، بينما الأرباب المتصارعة تعيش في أمان من تلك الحروب في سمائها دون صراع ؟ لم يسأل البدائي أبشع وأخس وأنجس وأوسخ تجار الأرض عبر التاريخ من السدنة ورجال الدين: لماذا لا يقوم كل إله بمصارعة الآخر والقضاء عليه وإعلان ذلك، عوضا عن تكليف البشر الضعفاء بالقضاء على الرب المنافس، خاصة أن لدى الأرباب ميزة لا يملكها البشر، فالإنسان يعجز تماما عن أي فعل في عالم الميتافيزيقا السماوي، فليس بإمكانه أن يقتل عفريتاً أو جنياً ناهيك عن قتل إله، فقدراته تتناسب مع محدوديته البشرية الفيزيقية، أما الآلهة فتسطيع الفعل في العالمين الفيزيقي والميتافزيقي.

لو تمكن الإنسان من استرداد عقله من خزانة الكهنة والدهاقنة لتمكن من الوقوف من المعركة السماوية موقفاً محايداً، مع إقراره بحق كل إله في إثبات ألوهيته وصدق وجوده بالاعتماد على قدراته الذاتية، دون دعم البشر الذين لا حول لهم ولا قوة، وعلى المُقتدر منهم القضاء على الآلهة الزائفة. لو سأل البدائي الدهاقنة نخاسي الدم عبرالتاريخ الأسود للبشرية: هل مقصد الدين أن القدرة الإلهية فعلها قاصر على عالم البشر فقط ؟ وعاجزة عن الفعل في عالم الآلهة ؟ إن وموقفها السلبي في الصراع يفيد بوجود آلهة أخرى حتى لو كانت زائفة، والإله الذي يعجز عن قتل منافسه سيكون غير حقيقي، سيكون هو الزائف، والمأساة أن تطلب الآلهة معونة البشر فهو ما أدى إلى بحور دماء مخزية، بينما لم نقرأ في التاريخ الديني أن إلهأ قد قتل إلهاً آخر، والمطحنة الدموية على الأرض لا تتوقف لتصب الذهب بيد الكهنة والملوك والمُلاك، فالصراع على الأرض لا يقتل الإله المكروه إنما يقتل البشر، ويظل عالم الربوبية سليما معافى من كل سوء أو أذى في بلهنية الأمان ودون أن يظهر الإله الحقيقي.

ركنت أرباب الحروب القديمة إلى الاكتفاء بتحريض البشر لقتل بعضهم بعضا بغرض تصفية عالم الآلهة من الأرباب الزائفة، حتى لا يبقى سوى رب واحد أحد من بينهم يكون هو الإله الحقيقي، وحتى لو حدث هذا المستحيل فإن هذا الواحد الحقيقي لن يكون هو الأقوى والأعظم، لأن الأعظم في هذه الحال سيكون البشر الذين وقفوا إلى جانبه وساندوه وحاربوا نيابة عنه، وهو ما يعني أن البشر بانتصاراتهم وهزائمهم هم من يقرر من هو الإله الحقيقي، لأنه في عالم الميتافيزيقا لم يحدث صراع ولم يسقط فيه ضحايا وخال من النصر والهزيمة، خال من الحركة، يكاد يكون خلواً من الحياة.

رصد الإنسان القديم ظاهرة غريبة أخرى وهي أن الآلهة التي لا تفعل في عالم السماء يمكنها أن تفعل في عالم الأرض، وليس في كل عالم الأرض إنما فقط مع المؤمنين به وحدهم، فهو ينزل بهم نقمته وضرباته وعقوباته، دون قدرة على إنزال ذات الضربات على أتباع الإله المكروه، فلكل إله فرقة تؤمن به وتخلص له، وتجد كل إله من هؤلاء يثبت مهارته على فرقته فينزل بهم الكوارث والمُهلكات لأنهم قصروا في طقس من طقوسه، بينما لا يستطيع إتيان ذات الفعل من أعدائه، فقط يسبهم ويتهمهم ويحرض أتباعه للقيام بالمهمة. وعندما يتم إثبات وجود الإله الحقيقي بمساعدة البشر، فإن هؤلاء البشر يكونون من مكنوه ليثبت وجوده، يكونون هم من سمحوا له بالوجود.
ــــــــــــــــــ
ـ ٧ أ ـ

الوجود والعدم ج١ …

خلاصة ما يُفيدنا به كتاب (تهافت الفلاسفة) لفيلسوف السنة والتصوف السني حُجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي، بشأن موقف الإسلام من القضية الفلسفية في الوجود والعدم، أنَّ العالم وجود حادث مخلوق أوجده الله من العدم باختيار منه ورغبة وإرادة، في الزمن الذي أراده وعلى الهيئة التي تصورها له، وهو أُس من قواعد الإيمان والاعتقاد.
وخلاصة قول الفقه الإسلامي وفلسفته أنه من غير الممكن أن يكون وجود المخلوق سابقًا على وجود خالقه، ومن غير الممكن أن يكون الوجود المخلوق أسبق من وجود العدم، لأن الله خلق الوجود من العدم، ولا يمكن أن يكون الوجود المخلوق قد تم خلقه من شيء آخر غير العدم، فالعدم أسبق وجودًا وقدمًا وخلقًا من الوجود المخلوق منه، ويكون عالمنا ثالث ثلاثة وظهر متأخرًا بعد الله وبعد العدم.

وهنا يبدأ العقل بالسؤال:
أيهما كان القديم السابق في الوجود وأيهما كان الحادث المخلوق، الله أم العدم ؟
منطق الإيمان لا بد يفترض أن الله هو القديم والسابق، وعليه يكون وجود الله أولًا، يتلوه وجود العدم، بينما العدم نفسه لن يوجد إلا بقُدرة مُوجد، وهو ما يعني أن الله هو خالق العدم، فما هو هذا العدم الذي أوجده الله ؟ وهل هو شيء خفي غير قابل للإدراك ؟ أم هو لا شيء، ويكون الله قد خلق لا شيء ؟ إن تحرير مصطلح العدم مطلوب لتحديد أهم عناصر الوجود وماهو هذا الشئ أو اللاشئ ؟ لأنه المادة الخام التي تم خلق الوجود منها، وهل بعدما تم خلق وإيجاد الوجود من العدم، قد بقي شيء من هذا العدم ما زال موجودًا بجوار الوجود ؟، مثلا كالتراب الذي خُلق منه آدم وظلت بقيته موجودة في الوجود.

نرتب العناصر لنتأمل: قبل خلق الوجود لم يكن شيء إلا العدم، (إذن في البدء كان العدم)، وتم إيجاد الوجود من هذا العدم، ويتحتم أن يكون الخالق أسبق وجودًا من العدم، (إذن في البدء كان الله) !! ويزيد الإرباك بحتمية احتياج عملية الخلق إلى خالق، وحتمية غياب الوجود المخلوق قبل خلقه، فحتى تتم عملية الخلق لا بد من توافر عناصر ثلاث هي: 1-وجود المُوجد الخالق 2- وجود العدم 3- غياب أي وجود قبل بدء العملية، وهو ما يفضي إلى وجودين قبل عملية الخلق هما الله والعدم، فهل كانا شيئاً واحداً ؟ أم أن الله والعدم شريكان في عملية الخلق ؟ أم أنهما شيئاً واحداً بمُسميين مُختلفين ؟ بينما اشترطت عملية الخلق غياب أي وجود قبل عملية الخلق !!.

َّاذن قبل خلق الوجود كان هناك عدمُ موجود …! وقبل العدم كان هناك وجود آخر هو الله، ولا يستوي القول بوجود أي وجود في غياب الوجود …! تقول القصة الدينية: إن الوجود الذي خلقه الله يشمل إيجاد السماء وهي محل بيت الإله وسكنه وعرشه إضافة إلى الله نفسه، وأن الله هو من أوجد نفسه بنفسه، ثم أوجد الوجود الذي يشمل الله والعدم، وهو ما يعني أن الله خالق ومخلوق ( خلق نفسه ) في آن، وهو ما يؤدي إلى نتيجة: أن الله يشارك المخلوقات في صفة الوجود المخلوق المحدث، وتنفي عنه صفة الأزلية والقدم، فهل هذه نتيجة سليمة ؟

إن القول إن الله خلق نفسه بنفسه تدعو للتساؤل: ماذا تعني ( نفسه ) هنا ؟ هل ثمة ذاتًا خالقة مجهولة ربما التي يسمونها ( الذات العلية ) هي التي خلقت الوجود بما فيها الله نفسه ؟ وتكون ( نفسه ) مخلوق مُحدث كبقية الموجودات المخلوقة ؟ فأين ذهب العدم ؟ وما هو ترتيبه في الوجود ؟ هل كان العدم موجودًا قبل خلق الله لنفسه ؟ أم بعد خلق الله لنفسه، وقبل خلقه للوجود ؟ أي أنه بعد خلق الله لنفسه خلق العدم ليخلق منه الوجود، هل هذا هو الترتيب الصحيح ؟
نرتب المسألة على نحو آخر لنتأمل: اشترط فعل الخلق وجود العدم قبل وجود الوجود، وكان من سيوجد الوجود – وهو الله – موجودًا فهل كان موجودًا في العدم ؟ وكيف يستوي وجود الله كوجود موجود في العدم اللامُتعين واللامُحدد ؟ أم أن الله ليس وجودًا وليس عدمًا ؟ لأنه لو كان وجودًا لتحتم أن يكون له مُوجد، وفي الوقت نفسه هو ليس عدماً، لأنه لو كان عدمًا ما جاز له إيجاد الوجود، فالعدم هو لا وجود، فكيف يتأتى للاوجود المعدوم إيجاد وجود ؟ وبعد فعل الخلق هل انتهى العدم تمامًا ؟ أي حل الوجود محله بالكُلية، أم ما زال بعض العدم حاضرًا مع الوجود ؟ رغم أن الوجود والعدم لا يجتمعان أبدًا، إذن لا هكذا ولا كذلك !! وما زلنا في المتاهة الإيمانية.

قراءة أُخرى تُفضي إلى: إذا كان الله موجودًا في العدم الذي منه خُلق الوجود، لوجب أن يكون العدم وجودًا وإلا تحتم أن يكون الله عدمًا، ولا يجوز للموجد أن يكون عدمًا لأنه لن يتمكن من إيجاد الوجود أو إيجاد ( نفسه ). أم أن الصواب هو القول إن العدم أوجد نفسه ثم أوجد الوجود من نفسه ؟ لأنه لا يستقيم وجود أي وجود مع العدم، أم يصح أن يكون قبل العدم شيء ما لا نعلمه صار عدمًا ثم أوجد نفسه ثم قامت نفسه بإيجاد الوجود فيكون الواجد هو العدم ؟ وبهذا الخصوص تُعلمنا القصة الدينية بتفاصيل عملية الخلق الكوني والكائني بالتفصيل والشرح المستفيض لكنها لم تعطنا أبداً أي معلومة حول خلق الله لنفسه، وهل بدأ بالذات أم بالصفات ؟

وإذا كنا نعلم اعتقادًا أو فلسفة أن قُدرة ألله وحريته وإرادته مُطلقة، وأنه بهذه القدرة المطلقة أمكنه أن يوجد نفسه عن اختيار ورغبة في أن يوجد، فإنه بذات المنطق أنه كان أيضا قادرًا ألا يوجد نفسه باختيار إرادته المطلقة، فمن قدر على إتيان الفعل قدر على عدم إتيانه، وهو شرط الإرادة مع القدرة، فالمُريد القادر هو من يمكنه إتيان الفعل أو عدم إتيانه أو إتيان ضده، فالله لم يكن مجبرًا على إيجاد نفسه، كان حرًا في أن يوجد أو لا يوجد، وأن يخلق أو لا يخلق، والمشكلة هنا في أن الله كان قادرًا على ألا يوجد نفسه إنما تعني أن هناك من أجبره على إيجاد نفسه، وهو ما يتنافى ومعنى الكمال الإلهي، بمعنى آخر: 

أن القادر على إتيان فعل قادر على إتيان ضده فهو يُحيي ويُميت، ويُنعم ويمنع ويمنح، وكان قادرًا على إيجاد نفسه وكان قادرًا على عدم إيجادها، لكنه اختار أن يكون موجودًا، فأوجد نفسه وهو ما يُحيل إلى إرادة اختارت لله الوجود، لأن الدليل على وجود الله هو القُدرة، والقُدرة تعمل وفق إرادة ، والإرادة تسوق القُدرة لهدفها، فالإرادة المطلقة التي اتخذت القرار هي الأسبق والأقدم في الوجود، وقبل قرارها لم يكن الله موجودًا، وبعد قرارها كان وجود الله هو الاختيار النافذ وعدم الوجود هو الاختيار المرفوض، وعليه ستكون هذه الإرادة هي من اختار لله صفاته بالتمييز والمفاضلة بين صفات كثيرة مُتاحة يمكن اختيارها ، فاختارت الثمين والحميد وتركت الذميم ، واختارت ألا يحمل الله غير هذه الصفات، فهي من انتقى لله صفاته، وتكون الصفات – في تصور الإرادة – أسبق في الوجود من وجود الموصوف، وحسب هذا الاحتمال يتغير ترتيب الله في الوجود فلا يكون هو القديم الأول إنما تكون الإرادة هي الأُقنوم الأقدم السابق، والصفات أُقنوم ثان تال، والله ثالثاً ؟ …!

أمام قضية الوجود والعدم حاولت فلسفة التصوف الإسلامي حل المشكلة بدمج الكل في واحد فيما نعرفه بوحدة الوجود، ويمثلها رتل جليل من كبار المتصوفة من ابن عربي إلى ابن الفارض إلى الحلاج إلى السهروردي إلى ذي النون المصري، وأعلام كُثرُ لم يجدوا لمثل ما طرحنا من تساؤلات سوى هذا الحل الذي لم يُعجب عامة المؤمنين، فتعرض فلاسفته للقمع والتنكيل والقتل من العوام، لذلك طلب الغزالي ( حُجة الإسلام ) مؤسس التصوف السني في كتاب عنوانه هو المطلب: ( إلجام العوام عن علم الكلام )، وعلم الكلام هو الاصطلاح الأشهر لما جرى في التاريخ الإسلامي من نقاشات وفلسفات أدت إلى فرق كالمعتزلة وأهل السنة والجماعة والأشاعرة والماتريدية والمُرجئة والمُعطلة .. إلخ .

 ويمكن تلخيص ما وصلوا إليه – على اختلافات هينة بينهم – أن من الضروري أن يكون العدم لازماً في عملية الخلق لزوم وجود الخالق، فكليهما ضروري لإتمام العملية، وكان الحل في القول إن عملية خلق الوجود لا ترتبط بالنصوص الدينية التي تخاطب العوام، وإنما كان الوجود من فيض وجود الله الذي يمتلئ بالوجود، فيفيض منه الوجود فيضًا مستمرًا ( كما في فلسفة الفيض الإلهي عند الفارابي وابن سينا )، ويكون حدث الوجود هو عملية فيض وجودي مُستمر من الله الممتلئ وجودًا، ويكون الخلق بضعاً من الخالق وبعضًا منه، ويصبح المُوجد والوجود والعدم شيئًا واحدًا في خلطة تتم إحالتها للقلب والشعور والوجدان فالوجد الصوفي، وليس إلى العقل.

حاول التصوف الإسلامي بحل جرئ وراقٍ أن يجمع كل الديانات والكون والخالق والمخلوق في جسم واحد وروح واحدة هي الوجود الكوني والكائني، وكلها معًا هي الله في نفس الآن، وهو ما بدأه فلاسفة الإغريق بفلسفة وحدة الوجود في اللوجوس أو الناموس ( القانون الكوني ) التي أكملت نُضجها في فلسفة الكلمة التي كانت هي البدء لكل شيئ عند الفلاسفة الرواقيين الإغريق . 
كانت المشكلة تتمثل في السؤال: لماذا يُقر الناس بوحدانية الكون ولا يقرون بوحدانية خالقه ؟ رغم أن الخالق خلق كوناً واحداً ولم يخلق سواه، فعملية الخلق عملية واحدة وحيدة لم تتكرر، لذلك لا نرى عديدًا من الأكوان لننسبها إلى عدد من الخالقين، فرغم أن الكون واحد والخالق واحد، إلا أن الاتفاق حول الكون أو الوجود قائم بلا خلاف، وكل الاختلاف حول الخالق …! 

هل ذلك لأن الكون مرئي للجميع ومُدرك بكل حواس كل البشر ؟ ولأن الإنسان على يقين بوجود الكون لأن الإنسان نفسه جزء من هذا الكون، هو من بروتين الكون جسمًا وعقلا ، وأن الإنسان عندما يفكر يكون تفكيره نتيجة تفاعل حواسه وعقله مع الكون، لذلك يدرك الإنسان عن يقين وحدة الكون والوجود لأنه جزء من هذا الوجود، ولو انتسب الإنسان إلى كون آخر – بفرض وجوده – لكان إدراكه للكون الذي هو منه، وليس لما ليس منه، فتكون النتيجة أن الإنسان والسبب والنتيجة والعلة والمعلول والله والزمان والعدم هي كلها معا، ما نسميه الوجود أو الكون في وحدة واحدة وقانون أو ناموس واحد.

وعندما قرر التصوف الإسلامي إحالة الأمر إلى المشاعر والحب الإلهي الذي فاض بالوجود، فإن ذلك لم يؤدِ إلى تنحي العقل عن طلب إجابة، فالعقل لا يرى في التصوف ما يُرضيه، لأنه لا يجوز أن يكون المخلوق أزليًا، كما لا يجوز أن يكون العدم أبديًا، لأنه لو كان المخلوق أزليًا لامتنع وجود الخالق، ولو كان العدم أبديًا لامتنع وجود الخلق، فلا بد لعملية الخلق من وجود عدم غير أبدي، ومخلوق غير أزلي، وأن يسبق الخالق المخلوق في الوجود، وأن يسبق العدم الوجود المخلوق منه.

يتبع …
ـــــــــــــــ
ـ ٧ ب ـ

الوجود والعدم …

في طفولتنا وحكايات هذا الزمن البرئ أن أسداً أمسك بأرنب يريد التهامه، فكان من ذكاء الأرنب الضعيف أمام الأسد القوي أن صك له حكاية يهرب بها من الموت، فأخبره أن بالبئر مئات الأرانب وذهب به للبئر فنظر الأسد فإذا بصورة الأرنب تتلألأ على صفحة الماء أرانب عديدة فهجم عليها الأسد وهوى بالبئر ونجى الأرنب الأريب.

ان الصورة التي رآها الأسد على صفحة الماء للأرنب ليست وجوداً ولا عدماً، لأنها لو كانت وجوداً لأكلها الأسد، ولو كانت عدماً ما قفز الأسد إلى البئر ليفوز بها، فالمخ هو الذي يصنع الفكرة عن الصورة في بئر أو في مرآة فهي انعكاس الضوء إلى عين الأسد التي أرسلتها إلى المخ، الذي ركب مجموعة صفات الأرنب الواصلة إليه، صورة ضوئية لشئ غير موجود في الحقيقة. نعود هنا إلى الفيلسوف الإنجليزي ( جون لوك ) ومن بعده المثالي الألماني ( إيمانويل كانط ) الذي وصل منها إلى كتابه الأهم في العقل الخالص، لنتعرف: كيف تنتقل الموجودات الحقيقية من الواقع المحسوس إلى الدماغ في شكل صور عقلية، عندما تنقل كل حاسة من حواسنا ما تحسه حسب وظيفتها رؤيةً أو صوتاً أو مذاقاً كصفة واحدة، يكون إحساس الحاسة الواحدة هو فكرة بسيطة واحدة تتلقاها من الواقع، لترسل مجموع الحواس ما التقطته من الواقع إلى العقل، ليقوم العقل بتركيب ما وصله من مجموعة أفكار بسيطة على بعضها البعض في فكرة واحدة مركبة، فينتقل الشئ المادي من الواقع المحسوس إلى العقل متحولا من مواد محسوسة إلى أفكار مجردة.

مثال آخر يوضح المُراد، عندما تعرض تفاحة على شخص لم ير هذه الفاكهة لأول مرة فإنه لن يتعرف عليها، لكن من عرف التفاح وشكله ولونه وطعمه وملمسه سيدركها بوضوح، فكيف تمت معرفة هذا العارف؟ لدى العارف التسمية اللغوية التي توافق لسان مجتمعه عليها كخبرة مجتمعية، كفكرة سمعية بسيطة واحدة، ونقلت له العين لونها وشكلها الكروي كفكرة بسيطة واحدة، ونقلت له الأصابع ملمسها الناعم كفكرة بسيطة واحدة، ونقلت له الأنف رائحتها المميزة لها كفكرة بسيطة واحدة، ونقل له اللسان مذاقها الذي يخصها كفكرة بسيطة واحدة، ليقوم المخ بتركيب مجموعة الأفكار البسيطة: الاسم على الشكل على اللون على الرائحة على الملمس على الطعم، فيتم الإدراك وتحدث المعرفة بانتقال المادة كأفكار بسيطة حسب كل حاسة ، إلى فكرة مُركبة غير مادية داخل العقل.

لكن يُمكن للعقل أن يختلق بخياله أفكاراً مركبةً يصنعها لنفسه من مجموعة أفكار بسيطة فتأتي فكرة مركبة غير موجودة في العالم المادي المحسوس، لأن التركيب جاء صنعة عقلية وهمية من أفكار بسيطة حقيقية، كأن يصنع أبا الهول ( سفنكس ) برأس إنسان وجسد أسد، فرأس الإنسان موجود في الواقع وجسد الأسد موجود في الواقع لكن لا وجود لأسد برأس إنسان في هذا الواقع، ولا وجود لحصان آلهة الأوليمب الإغريقية ذي الأجنحة ( بيجاسوس )، ولا لثور برأس إنسان وذي أجنحة مثل ثور بابل، واسمه بالبابلية والعبرانية ( قروب وأيضا قُراب )، ونطقه لسان العرب ( بُراق ) لطيرانه كالبرق بقلب الأحرف كما في ( زوج ، وجوز )، وهي الظاهرة اللغوية المعروفة بمصطلح ( الميتاتيز )، فكلها صنعة خيال عقلي لفكرة مُتخيلة مُركبة من مجموعة أفكار بسيطة حقيقية قادمة من الواقع المادي المحسوس.

في حكاية الأرنب والأسد، نجد أن الأرنب وصورته في البئر ليسا شيئين إنما هما شيئاُ واحداُ، كما أن الأرنب ليس سبباً في وجود الصورة في البئر وليس هو علتها ، لأنها في الحقيقة ليست شيئاً موجوداً ، فالعلة والمعلول هنا شيء واحد، لكن العقل يجعلنا نظن أننا أمام شيئين مختلفين أحدهما علة لوجود الآخر، نتيجة احتساب الصورة في البئر حقيقة وجودية بينما هي في الواقع الفيزيقي لا شيئ، لا وجود، هي فكرة في عقولنا. 

ودون وجود حواسنا وعقلنا الذي يدرك الصورة على صفحة الماء فلن يكون هناك وجود للصورة ولا للأرنب، هو خيال يقبله العقل المُتفلسف فيرى الأرنب علّة لمعلول في البئر، ولا يمكن القبول بالمثالية الألمانية التي تقول ( في صورتها الأبسط ) أن الصورة العقلية هي علة وجود الأرنب في البئر، لأنه لو صح ذلك لكانت الصورة العقلية للأرنب الحقيقي هي علة وجوده ويكون الأرنب الحقيقي مخلوقاً ومعلولا لتصور ذهني وهو المُحال، ولا يبقى سوى التسليم بعدم وجود أي علاقة للشئ بصورته في البئر أو في العقل، ولا علاقة علِّية هناك، لأن كل منهما يقع في عالم يختلف عن الآخر، 

فالفكرة المركبة بالعقل هي أصلا معطيات حسية في شكل أفكار بسيطة تُحول الشئ الواقعي إلى فكرة تعبر بالتمام عنه كموجود محسوس، لكنها شيء والواقع المحسوس شيء آخر، هي ليست هذا الشئ، فالشئ موجود سواء حصلت عليه الحواس أو لم تحصل، ولو كان عالم الأفكار الذي معظمه خيالا هو الذي يتحكم في عالم الحقيقة لكانت الأفعال تتم بمجرد التفكير فيها بالتمني، ولكانت الكلمة واللوجوس هي الوجود الأول، ولصح أن في البدء كانت الكلمة، وأن للكلمة السلطان الأول والأخير على هذا الكون، كما ذهبت الفلسفة الرواقية اليونانية المؤسسة الحقيقية للمذهب المثالي في تاريخ التفلسف، رغم خروجها من بطن أعتى المذاهب مادية ( الأبيقورية ) نسبة لأبيقور اليوناني.

الفكرة إذن معلومة عقلية بحت تعجز عن التأثير في مكونات الوجود بالفك أو التركيب أو التفريق أو التجميع أو التحريك، لكن العقل بالمعلومة التي تتراكم بجوار زميلاتها يبدأ مشواره المعرفي، والمعرفة داخل عقله، لذلك يمكنه اللعب بها كيف شاء، فهي من ممتلكاته وصنعته لذلك هي لينة ومرنة وخاضعة لإرادته وتصرفه، يمكنه تفكيكها وتركيبها في أشكال جديدة مُبتكرة ومستحدثة ولا مثيل لها في الواقع، هي مأخوذة من الواقع في شكل أفكار بسيطة سواء من البيئة أو من الموروث الثقافي لمجتمعه ، وعندما يقوم العقل بإعادة تركيبها على أكثر من شكل يكون الإبداع، فيمُارس العقل عمله الحقيقي بإيجاد ما لم يكن موجوداً في الواقع بالتخيل، ويتحول الخيال إلى حقيقة عندما يتمكن الإنسان من تفعيل ما تخيله وتنزيله على الواقع المحسوس لإيجاد ما لم يكن له وجود.


نؤكد مرة أُخرى أن أفكارنا التي هي صور عن الواقع، سواء حضرت أو غابت فإن ذلك لا يضيف للوجود ولا يُنقص منه، فما لدينا من معارف حتى اليوم عن الوجود لم يضف شيئاً للوجود أو الكون، فهو موجود سواء وُجد البشر ليدركوه ويعرفوه أو لم يوجدوا. فالكون هو نفسه سواء وُجد عقل يُفكر فيه من عدمه، فيظل هو هو أيا ما كانت فكرة العقل عنه سلباً أو إيجاباً، وجوداً أو إنكاراً أي عدماً. فكل ما هو محسوس واقعي موجود له صورته في العقل. لكن ليس كل ما هو موجود كفكرة في العقل له بالضرورة وجود في الواقع، لأن المخ عندما يقوم بتفعيل وظيفته ( العقل )، يقوم بفك وتركيب ونقل صفات وألوان وأعضاء لغير مكانها الطبيعي ولغير وظائفها الأساسية فيخلق صوراً مركبة جديدة مُتخيلة ليس لها في الوجود وجود، فيكون بعض نتائج عملة حقيقي وبعضه ليس كذلك.

 وناتج عمله تختلف باختلاف البيئات وألوان موجوداتها وجغرافيتها، يقوم باختزانها في ذاكرته حتى يصبح لديه حشد من المعارف، بعضها جمعه المخ مما يصله عبر الحواس وبالسماع نقلا عن المجتمع وبعضها عند تفعيل وظيفة المخ ( العقل) بالتخيل والابتكار وتشكيل جديد لم تعرفه الحواس، ثم يقوم بتنزيلها على الواقع في عمليات تجريب لمعرفة مدى صلاحيتها للتطبيق.

أيضا يختلف المُنتج العقلي باختلاف الزمان، فخيال البدائي أراد أن يصل بالإنسان إلى الطيران إلى ما تصوره سقفاً للأرض أسماه السماء، فاختار أسرع ما أمكن ترويضه من كائنات الأرض ( الحصان )، ثم اختار له أقوى الأجنحة ( النسر )، فصنع ( بيجاسوس ) حصان الآلهة، ثم اعتقد أن هذا ال ( بيجاسوس ) موجود فعلا في عالم الميتافيزيقا لا يدركه ويعاينه سوى الآلهة وبعض المُختارين من البشر، وعليه فإن مجموع المعارف هو حشد من الأفكار المركبة التي تتركب من أفكار تأتي من تراث منقول وصور بسيطة من الواقع، ثم تفاعل هذا الحشد بعمليات فك وتركيب أدت إلى مُنتج جديد ليس له وجود حقيقي في الواقع، لكنه كان الخيال الضروري الذي أدى لظهور كافة ألوان الفنون التشكيلية والمعمارية واللغوية شعراً ورواية وغناء وموسيقى فأقام الحضارة الإنسانية ، ورغم أنه ابتدأ بالحصان الطائر فإنه انتهى إلى مركبات الفضاء.

فالعقل البشري خلاق بطبيعة عمله وواجبات وظيفته، يصنع لنفسه عالماُ غير موجود بإبداع تخليقي ذهني، فأنشأ إلى جوار الوجود الفيزيقي وجوداً ميتافيزيقياً، فعالم الميتافيزيقا كله هو من صنع العقل البشري، شكّله ورتّبه وفق موروثاته وبيئته ومنطقه وقوانين مجتمعه ورغباته وأغراضه وأمانيه، ثم أضاف كل هذا مع ظاهرة الأحلام التي كان يرى فيها الأموات أحياء يفعلون، إلى عالمه الميتافيزيقي، وافترض له وجوداً مُستقلا مُفارِقا، خارج العقل ومستقل عنه وعن الوجود الفيزيقي. 

فكان أهم مخيال عقلي أثر في تاريخ البشرية هو اصطناع عالم الميتافيزيقا اللامادي ، الموجود في مكان ما وراء أو بعد أو فوق أو تحت عالمنا الفيزيقي، بما ذهب بالعقل تفلسفاً إلى طرح تساؤلات ما كانت لتُطرح لولا هذه الصنعة العقلية الباهرة، ومنها السؤال عن: وجود وعدم، وخالق ومخلوق، وقديم ومُحدث، وجنة ونار، وبعث وحساب، وإله وشيطان، وأول وآخر، وبداية ونهاية، وجسد وروح، ومُقدس ومُدنس، وعليها وعلى كتاب الغزالي ( المنقذ من الضلال ) التي ربما أقام ( رينيه ديكارت ) فلسفتة في الشك المنهجي عليه، في كتابه الأهم: ( التأملات في الفلسفة الأولى ) مؤسساً للمذهب العقلي، وعلى ( ديكارت ) أقام ( طه حسين ) تأملاته في الشعر الجاهلي، وارتقاء عليهما ( ومنهما ) بعد زمن وتطور، أقمنا عملنا هنا في تأملات تختلف بالكلية عما ذهب إليه أساتذتنا الكبار سواء في التناول أو المنهج أو طريقة العمل أو النتائج المطلوبة، هو جهد له فرادته التي قد تُخطئ أو تصيب.

إذن الفكرة البسيطة ليست عدما لكنها أيضاً ليست وجوداً، والفكرة المركبة بدورها ليست عدماً وليست وجوداً حقيقياً واقعياً، كذلك المُوجِد ليس عدماً وليس وجوداً وإلا استلزم مُوجد له سابق عليه في الوجود، هو فكرة مركبة في العقل وحده، والمكان الذي يسكنه من ليس وجوداً ولا عدماً لن نستطيع تحديده، لأن مكانه العقل البشري وحده. ولم يكتشف العقل البشري أخطائه المنهجية إلا بعد ديكارت على يد مؤسس المنهج التجريبي الإنجليزي ( أوجست كونت ) مًكتشف المنهج العلمي في التفكير ومن تبعوه بإحسان، وهو ما أدى إلى قفزات نوعية في العلوم الفيزيائية والإنسانية، فظهرت حقائق لم تكن معلومة للبشرية، شرحت وأوضحت كيف تنشأ الصور داخل المخ.

 وكيف تتنوع بتنوع البيئات والكائنات الحية المستقبلة لهذه الصور من الواقع، فهناك كائنات تُدرك صوراً حرارية كالحيات، وكائنات ترى بالحركة، وكائنات ترى بصدى راداري كالخفافيش، وكائنات تُدرك بالرائحة، والإنسان وحده الذي يملك عدداً من أدوات الإدراك وتعدد في المدخلات، وهو الوحيد القادر على الفك والتركيب بنزوع تخيُلي وفني من بين الكائنات الحية.

وإعمالا لما سلف فإن عالم الميتافيزيقا هو مجموعة عمليات عقلية لا علاقة لها بالوجود، فهي موجودة داخل العقل البشري وحده، ولو لم يوجد العالم الفيزيقي ما وُجد الميتافيزيقي، فعالم المُثل الذي تصوره ( أفلاطون) أو الملأ الأعلى بلغة الأديان هو نتاج العقل لذلك لا تظهر في العقل تصورات إلا لما كان وما هو كائن، ولا يظهر بها ما سوف يكون، فعالم المُثل الأفلاطوني الروحي لم تكن فيه ثلاجات ولا غسالات ولا سيارات ولا قطارات ولا طائرات ولا صواريخ ولا أقمار صناعية، لقد عكس أفلاطون الوضع فقال إن عالمنا المحسوس هو ظلال لعالم حقيقي مفارق لا يقع تحت حواسنا، فجعل عالم المُثل الذي هو فكرة صنعها عقله النسخة الأصلية لعالم الحقيقة، وواقعنا المحسوس هو وهم زائل.

هل معنى ذلك أن يختفي عالم الآلهة والأرواح لأنه غير حقيقي وغير واقعي؟ كي يحدث هذا لابد أن تختفي الشروط التي بموجبها وُجد عالم الميتافيزيقا، وأن يختفي مكانه المجهول للجميع، وأن يختفي زمانه باختفاء وجوده في المكان المُتوهم، فما يوجد على شرط يزول بزوال الشرط، والشروط لا تفنى ولا تُستحدث. 

وللتوضيح نضرب الأمثلة المحسوسة، فمشرق الشمس مثلا وغروبها مشروط بوجود عين ترقبها وتتابعها في حركتها، وعقل يستقبل الصور الآتية إليه عبر الحواس وخاصة العين، وإدراك حضور الشمس وغيابها بحركة متتابعة رتيبة التكرار، وإدراك مثل هذا لا يتيسر إلا بوجود العقل البشري والحواس الجسمية للإنسان التي ترى وترصد، فالكائنات التي تعيش في قاع المحيط المظلم لا عيون لها لأنها بغير حاجة إليها، والطفيليات التي تعيش في أمعائنا بلا عيون ومن ثم هي لا تدرك الشمس ولا حركتها. والشرط الثاني لإدراك شروق الشمس وغروبها هو أن يكون العقل المُدرك موجود على كوكب الأرض تحديداً، لأنها هي التي تدور حول نفسها في يوم أرضي وتدور حول الشمس في سنة أرضية، فمن كان على سطح القمر يراقب كوكب الأرض لن يرى هذا الشروق والغروب. 

والشرط الثالث الذي بدونه لا يكون شروقاً ولا غروباً هو أن يكون محور الأرض حول نفسها غير عمودي على مدار دوران الأرض حول الشمس، أي يكون محور الدوران غير متجه دوما نحو الشمس وغير متعامد عليها، لأنه لو كان كذلك لأصبح للأرض وجه دائم الاتجاه نحو الشمس ويكون نهاراً دائماً ونصفها الآخر لا يرى الشمس في ليل دائم، فتختفي ظاهرة الشروق والغروب والليل والنهار، ولا يكون هناك وجود للأمس ولا لليوم ولا للغد، ويختفي كل ما هو قديم، ومعه القديم المُطلق، وكذلك المستقبل قريب أو بعيد، ولا يكون هناك أزل ولا أبد، ويتوقف الزمن الذي يعرفه البشر، والذي يعرفه آلهة البشر.


للتوضيح الشارح قمرنا الذي يدور حول أرضنا، هو مثل الأرض يدور حول نفسه ويدور حول الأرض ويدور مع الأرض حول الشمس، لكن الخلاف الجوهري أن محور دورانه حول نفسه يتجه نحو الأرض أي أنه عمودي على محور دورانه فيكون نصفه متجه نحو الأرض دوماً وهو الذي نراه ونصفه الثاني لا نراه أبداً، وهو حال كواكب أخرى مثل الزهرة وعطارد، ولو اتخذت الأرض مثل هذا المدار لكان للأرض ذات النصفين ، نصف يواجه الشمس دوما ونصف لا يرى الشمس دوماً ولا يعرفها بالمرة . 

وهو ما يعني استحالة وجود حياة عليها سواء في الجانب المواجه للشمس حيث حرارة فائقة ولا في النصف الغائب عنها حيث البرودة الفائقة، وتصبح الأرض والقمر سواء بسواء بلا حياة، وبلا زمن. ومن ثم فوجود الشروق والغروب والزمن والسنين كلها مشروطة بشروط متى توفرت ظهرت، ومتى غابت اختفت وتختفي معها جميع الآلهة على مُختلف صنوفها. فمنذ الشامان البدائي إلى كاهن الدين الحالي، كانت أدلتهم على وجود الآلهة تعتمد على الأدلة الكونية وأهمها ظاهرة الشروق والغروب التي لم يجد لها البشر نهاية ولا يعلمون لها بداية، ولا يعرفون عدد المرات التي أشرقت فيها الشمس وغربت، لذلك يقول الكهنة إن الرب كان قبل أول شروق وسيبقى بعد آخر غروب وهو مالا يمكن للبشر إدراكه واستيعابه، وهنا الدليل الإعجازي الذي يدلل على وجود الآلهة، وفي نصوص مُختلف الأديان تدلل الآلهة على وجود نفسها بوجود الظواهر الكونية، فإن لم يوجد الكون فما الذي يدلل على وجودها ؟

تقول ( المشناة ) إن رب موسى أعجز الفرعون بالدليل الكوني وقال له بلسان هارون: أنا آتي بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب وهذا دليل وجودي، أنا أهب وأرزق وأُحيي وأُميت! 
ووفق هذا الدليل الكوني معنى آخر نقيض وهو أنه ما كان كل هذا ليحدث لولا حدوث الكون أولا، فإن لم يوجد الذي ستكون مهمته إدراك هذا الوجود بمكوناته ومظاهره والحياة والرزق والموت ومشرق الشمس ومغربها، فلن يكون ثمة معنى لوجود الآلهة. والفكر الديني كله يضع جدولا زمنياً يرتب عملية الخلق يوما بيوم ،

 فإن لم يكن هناك أيام ولا زمن فلن تحدث عملية الخلق المُجدولة، ومن ثم يكون الأمر كله قائم على شروط أولها وجود الزمن، وما كان وجوده على شرط كان غيابه محتماً مع غياب الشرط أو فهم كيف حدث الشرط، ولا يبقى سوى نتيجة بسيطة هي أن وجود الزمن نتيجة التركيب الكوني ووجود العقل البشري ضمن هذا الوجود هي الأسباب الحقيقية لوجود الآلهة، ولا وجود لعدم ولا لمُوجد للعدم ويبقى الوجود وحده دالا على نفسه.


وتظل الفروض فروضاً والتأملات مجرد تأملات، في رياضة عقلية لا تنال من اليقين، وهي رياضة ذهنية مارسها معظم الفقهاء دون أن تنال من يقينهم، وأنشرهم بهذا الشأن الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه ( المنقذ من الضلال )، الذي ذهب بعيداً عما أتينا به هنا، و نتفرد عنه بالتمام، لأن اليقين برب واحد هو ضمان استمرار سلامة إيمان المرء وضمان أبديته.” ـ سيّد القمني، الحوار المتمدن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيد القمني ابن المحظوظة

Mohamed Tolba Radwan


هل يمكن قراءة سيد القمني بمعزلٍ عن تكفير خصومه له؟ في تقديري، يمكن، نستأذن القارئ في هامش نقدي، لا يحكُم على عقيدة القمني، والله، وحده، أعلم بها، ولا يحدّد مصيره الأخروي، والله وحده، أعلم به، لكنه هامش يشتبك مع "المكتوب" من إنتاجه، والمكتوب وحده، من دون المسموع والمرئي الذي تحكمه سياقاتٌ لا يمكننا استدعاؤها. ممكن، خصوصا لو طلبنا له الرحمة، بصدق، وسألنا الله الذي سبقت رحمتُه عدلَه، أن يرحمه ويعفو عنه، وهو الواجب و"الأصول" أمام هيبة الموت. يمكن، بصعوبة، التخلص من ظلال متطرّفي الإسلاميين في مناقشة القمني.

لكن غير الممكن، إطلاقا، التخلص من ظلال القمني، نفسه، والتي لا تترك فرصة لقراءةٍ لا يتخللها الضحك و"الكركعة" وضرب الكفّ بالكفّ، فالقمني، رحمه الله، كان "حكّاء" مدهشا، صاحب خيال، وخفّة دم "مصرية" تستحق الإشارة إليها، ربما أكثر من "كل" ما كتب.
كان القمني ابن سياق "الصحوة الإسلامية"، وصراعاتها الحدية، وصياغاتها العدوانية، وما أنتجته من "إسلامٍ غاضب"، وكل خطاب يستدعي نقيضه، بالضرورة. كما أنه عاصر المشروعات الأيديولوجية الكبرى التي حاولت أن تجد مخرجا للأمة في تراثها، ومخزونها النفسي والحضاري، بتعبير حسن حنفي، فإذا بها تعيد قراءته، أو بالأحرى توجيهه، ليتناسب مع أيديولوجيات تقدّمية محدّدة سلفا. من هنا جاء القمني، لكنه لم ينته إلى ما انتهى إليه أصحاب "المشروعات الحقيقية"، فهم، على الرغم من القراءة الموجهة، التزموا منهجا، واستهدفوا قيمة، وأصابوا وأخطأوا، وأفادوا واستفادوا،وعلّمونا، بالقدر الذي يسمح لنا بنقدهم وتجاوزهم. أما القمني فقرّر أن يلعب اللعبة بكل ما أوتي من خيال، وكل ما يحتمل السياق الديني المأزوم، من شعبوية و"تهجيص" وبكل ما يسمح به السياق السياسي "المنحطّ" من "فهلوة" وانتهازية، ولعب بالبيضة والحجر.
في تصوري أن الكلام عن "حالة" القمني أهمّ، بكثير، من الكلام عن مشروعه، فهو بلا مشروع حقيقي، أو قيمة مضافة، أو إسهام يستحق المتابعة والنقد والاشتباك -للأمانة، أتحدث عن الكتابات الإسلامية للقمني- أتوقف هنا أمام توصيفات وتصنيفات مجانية مثل "ألقى حجرًا في الماء الراكد"، "كان شجاعًا"، "واجه الإسلاميين"، "لم يخشَ المتطرفين"، إلخ. وأتصور أن "اللافتة" وحدها لا تكفي لصناعة فكرة أو حزب أو تيار أو مشروع، ينطبق ذلك على الأطراف كافة، تَعوَّدنا أن نقوله، بحقّ، على الإسلاميين، بوصفهم الطرف الأكثر استثمارًا في الشعارات واللافتات بلا مشروع حقيقي، إلا أن الحالة "اللا دينية"،

-ولا أقول العلمانية ولا أعتبره توصيفًا دقيقًا في ما يتعلق بالقمني- لا تخلو بدورها من شعبويات لا تقلّ ركاكة في صياغاتها، وتهافُتًا في طرحها، وتعمُّدًا للإنهاك وتضييع الوقت والجهد في "كلام فارغ". ملاحظة أخرى مهمة، هي أن الاشتباك مع "الحالة القمنية" هو اشتباك مع "الطريقة" لا الطريق، فالقمني وغيره أحرار في ما يكتبون، أحرار في أفكارهم، والتبشير بها، والجدال عنها، والعمل على نشرها، ما وسعهم ذلك (أتحدث عن قناعاتي لا ما نعانيه جميعًا في ظلّ أنظمة سياسية واجتماعية ودينية لا حرية فيها لأحد)، بل إنني أزعم أنه لا قيمة لإيمان في مجتمَع لا يمنح أفراده "حرية الكفر"، ليس في الاعتقاد وحده، بل في التعبير عنه، بشتَّى الطرق. ولا يطوّر رؤيتَنا الدينية قدر نقاد الدين، نفسه، ولا يساعدنا على تجاوز مشكلات التديُّن بوصفه مُنتَجًا بشريًّا، يدور حول المقدس، سوى نقد المقدس ذاته، لذلك فوجود "الباحث الجادّ" مهم لأصحاب الأديان قبل غيرهم. ما الإسلام؟ الإسلام هو "الخطة الجهنمية" التي أعدّها عبد المطلب بن هاشم جد النبي، ليحسم الصراع بينه وبين أمية، ويوحّد العرب، ويحكمهم.

هذه هي إجابة القمني (باختصار طبعا)، فهل يمكن إثبات ذلك؟ لا طبعا، لكن يمكننا أن نصف عبد المطلب بصاحب "الرؤية الثاقبة"، و"الوعي السياسي"، و"الحسّ القومي"، وأن نعبث بتواريخ موته، وموت خصومه، فنضع الأخير أولا، والأول أخيرا، مع توصيفاتٍ "تخض" لما نفعله، بوصفها إضاءات للمساحات المعتمة، وكشف غير مسبوق، وقراءة علمية ومنهجية، لا يمكن إنكارها، أو نقدها، ثم نمرّر ما نريد.

هيا بنا نلعب (حرفيا): جد النبي هو صاحب الرسالة الحقيقي، والدليل افتخاره بأولاده وأحفاده وقوله "إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها مثل هؤلاء"، ومحمد (صلى الله عليه وسلم) هو "المختار" من جدّه للتنفيذ، والقرآن كتبه أمية بن أبي الصلت، خصم محمد، بشخصه وعائلته، أخذه محمد منه أو عنه، والدليل: بعض أبيات الشعر، المنسوبة لأمية، والتي تتشابه مع بعض أوصاف القرآن الجنة والنار، والتاريخ كله مزوّر، والقمني، وحده، كشف عن دموية هذا التاريخ وخسّته ونذالته وسواده، أما المصادر والمراجع فهي توافقه وتدعم قراءته، بل وتردّدها.

يعود الباحث "الشاطر" منصور أبو شافعي إلى المصادر، (الرد على سيد القمني - مكتبة النافذة ٢٠١٠) فيكتشف خطأ التواريخ، وتزوير الاستشهادات، ونسبة كلام لابن كثير قال عكسه تماما، ونسبة كلام للعقاد قال عكسه تماما، والاعتماد على أسطورة دجّال قرأ "كفّ عبد المطلب"، وبشّره بنبي من صلبه لإثبات خطة "تجهيز محمد" للنبوة، ناهيك عن شهادة أمية بن أبي الصلت بصدق محمد، وكونه على الحق، واستعداده بعد ذلك بسنوات لاتباعه، لولا العصبية القبلية، ونسبة أشعار له تتجاوز الأخذ عن القرآن إلى الدعوة إلى اتباع محمد، وكلها مكذوبة على أمية، كما أشار جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام". لكن لا بأس من علمنة الأسطوري، وأسطرة العلمي، واعتماد "قراءة الكفّ" مصدرا تاريخيا.

هكذا يتحرّك القمني مع قارئه، وتتحرّك مع كتاباته وزارة الثقافة في عهد فاروق حسني فتساويه، زورا، بحسن حنفي وتمنحه جائزة الدولة التقديرية، لحسابات سياسية، ويتحرّك معه الإسلاميون، فيردون عليه، ويتوعدونه، فيتحول إلى مفكر وبطل، كما يتحول الآن عبد الله رشدي إلى "عالم" وإسلام بحيري إلى "تنويري" وعبد الفتاح السيسي إلى "طبيب فلاسفة" أرزاق.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

الكلمات:القدسُ وعكّا نحنُ إلى يافا في غزّةَ نحنُ وقلبِ جِنين الواحدُ منّا يُزهرُ آلافا لن تَذبُل فينا ورقةُ تين ما هان الحقُّ عليكِ ولا خافَ عودتُنا إيمانٌ ويقين لن نسكتَ لن نستسلمَ لا لا لا لا نفديكِ لنحيا يا فلسطين فلسطين بلادي نحملُها جُرحاً أو أملا لا لا لا ورح نبقى فيها ليوم الدين فلسطين بلادي كي تُشرقَ شمسُكِ فوقَ أمانينا وينامَ صغارُكِ مُبتسمين ونراكِ بخيرٍ حين تُنادينا لعمارِ بُيوتٍ وبساتين سنعيدُكِ وطناً رغم مآسينا أحراراً نشدو متّحدين لن نسكتَ لن نستسلمَ لا نفديكِ لنحيا يا فلسطين فلسطين بلادي نحملُها جُرحاً أو أملا لا ورح نبقى فيها ليوم الدين فلسطين بلادي#palestine #فلسطين

العالم روبرت غيلهم زعيم اليهود في معهد ألبرت أينشتاين، والمختص في علم الأجنة أعلن إسلامه بمجرد معرفته للحقيقة العلمية ولإعجاز القرآن