في ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة مطلع الخمسينيات؛ انتشرت في الولايات الأميركية حمى الانتقام
مناهضة شعبية وتصعيد رسمي
في ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة مطلع الخمسينيات؛ انتشرت في الولايات الأميركية حمى الانتقام من الشيوعيين. ولم يتطلب هذا الانتقام أدلة بل كان يكفي وصف شخص أو أشخاص بأنهم شيوعيون، ليتم التنكيل بهم وفصلهم من أعمالهم وحبسهم وملاحقتهم.. إلخ.
وذلك كما حدث لأكثر من مئتين دفعة واحدة من الدبلوماسيين الأميركيين،اتهِموا بالشيوعية ولحقهم مئات في وظائف أخرى، وقد تبنى تلك الحملة السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي، ولم يجد رسام الكاريكاتير الأميركي هربرت بلوك عام 1950 وصفا يليق بتلك الهستيريا الجماعية؛ فأطلق عليها "المكارثية" (نسبة إلى السيناتور مكارثي).
خفت حدة تلك "المكارثية" بعد مرور ثلاثة أعوام على انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي،الذي شجع تلك الحالة الهستيرية(المكارثية) ضد خصومه السياسيين من جماعة الإخوان الذين عمل فُيهم قتلا وسجنا وتشريدا،وسط تصفيق من أنصاره والمخدوعين به.
ويرجع السبب في خفوت تلك الهستيريا إلى تصاعد الفشل السياسي والإداري والاقتصادي لنظام السيسي،الذي وعد المصريين بالمَنّ والسلوى والعسل المصفى، وطالبهم بأن يعطوه فرصة سنتين فقط ليجعل مصر"قد الدنيا أو أكبر من الدنيا" حسب وصفه، ولكن عكس ذلك تماما هو الذي حدث وشعر به المصريون، الذين ضاقت عليهم حياتهم وضاقت عليهم أنفسهم، ولم يجدوا ملجأ من هذا الفشل إلا المزيد من الفشل.
خفت حدة تلك "المكارثية" بعد مرور ثلاثة أعوام على انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي شجع تلك الحالة الهستيرية (المكارثية) ضد خصومه السياسيين من جماعة الإخوان الذين عمل فيهم قتلا وسجنا وتشريدا، وسط تصفيق من أنصاره والمخدوعين به. |
ما إن فقدت تلك القطاعات الشعبية الداعمة للسيسي حماسها لحملات الكراهية والتحريض ضد الإخوان، وما إن بدأت تظهر بوادر تغير في مواقفها عبر احتضانها لبعض المظاهرات الشعبية -التي كانت تطاردها من قبل جنبا إلى جنب مع رجال الشرطة- حتى شعر نظام السيسي بالخطر، خاصة أنه يعد العدة للتقدم لدورة رئاسية جديدة في انتخابات 2018 التي لم يعد يفصلنا عنها سوى بضعة أشهر.
ولمحاولة استعادة السيطرة على هذه الجماهير التي يخشى النظام انفلاتها تحت نير الغلاء الفاحش والبطالة المتزايدة؛ أطلق رأس النظام صافرة البداية لجولة جديدة من "المكارثية"، حين دعا وسائل الإعلام أثناء المؤتمر الرابع للشباب (25 يوليو الماضي) لنشر "فوبيا الفشل" بين المصريين.
ودعا لإنتاج أفلام ومسلسلات تدعمها الدولة لهذا الغرض، ومع ذلك تسابقت الأذرع الإعلامية والفنية في تنفيذ توجيهات السيسي، وشهدت البرامج التلفزيونية والصحف المصرية حوارات وتقارير مطولة عن مخططات إسقاط الدولة، التي تنفذها جماعة الإخوان وغيرها من مناهضي النظام (والمقصود بها طبعا هو إسقاط النظام لا إسقاط الدولة).
وعادت إلى الظهور مجددا مقولات تطالب بسحق الإخوان واستئصالهم تماما كما حدث مع النازيين في ألمانيا (حوار رئيس مؤسسة "أخبار اليوم" ياسر رزق يوم 8 أغسطس)، بل دعا أحدهم -وهو شريف الصيرفي الذي كان مؤسسا لمجموعات "بلاك بلوك" التي نشرت الفوضى في عهد الرئيس محمد مرسي– إلى سن تشريع لنزع أطفال الإخوان منهم حتى لا يشبوا على فكرهم.
وأعلن النائب البرلماني وعضو "ائتلاف دعم مصر" الحاكمِ محمد أبو حامد في 6 أغسطس، أنه يعتزم التقدم بمشروع قانون جديد إلى البرلمان في دورته المقبلة، يقضي بفصل أعضاء جماعة الإخوان المسلمين من وظائفهم في الجهاز الإداري للدولة.
ودعا وزير الأوقاف المصري مختار جمعة الشعب المصري إلى عدم الاختلاط أو التعامل مع أعضاء الجماعة أو حتى مع المتعاطفين معهم، معتبرا أنهم أشد خطرا على المصريين من الأمراض الفتاكة، مثل الإيدز والفيروسات القاتلة، على حد قوله!! ولم يكتف الوزير بذلك؛ بل عمد إلى نشر كتب بأسعار رمزية ضد الإخوان مثل كتاب "ضلالات الإرهابيين وتفنيدها".
ورغم خطورة هذه الدعوات التي تُوقع أصحابها تحت المساءلة الجنائية -إن محليا أو دوليا- فإن الاستجابة لها في هذه الموجة الجديدة ضعيفة، بل حلت محلها السخرية من هذه الدعوات لدى كثير من المصريين الذين دعموا الموجات الأولى، وذلك بعد أن تبينت لهم كيديتها وأنها مجرد غطاء لفشل النظام الذي يدفعون هم فاتورته الباهظة.
بل تجاوزتها إلى غيرها كما حدث مؤخرا مع أسرة الشيخ يوسف القرضاوي الذين لا ينتمي أغلبهم إلى جماعة الإخوان، حيث ضمت القائمة مثلا الشاعر عبد الرحمن يوسف وأشقاءه وشقيقاته جميعا، وأزواج شقيقاته.
كما شملت صحفيين لا ينتمون إلى الإخوان أيضا مثل الصحفي عبد الواحد عاشور مؤسس ورئيس تحرير صحيفة "بوابة القاهرة"، والصحفي مصطفى صقر مؤسس صحيفتيْ "البورصة" و"ديلي نيوز إيجيبت" (التي نشر السيسي نفسه فيها عام 2014 مقالا عن الاقتصاد المصري)، وعمر الشنيطي صاحب سلسلة "مكتبات ألف".
ناهيك عن سحب العديد من المدارس من أصحابها سواء كانوا من الإخوان أو غيرهم وضمها لإدارة حكومية تحت اسم "مدارس 30 يونيو"،وتعتبرالأحكام الهزلية بالإعدام والسجن المؤبد والأشغال الشاقة بحق المئات من مناوئي الانقلاب جزءا أصيلا من هذه "المكارثية" الرسمية.
كما توسعت السلطة في إصدار قوائم ما تصفه بـ"الإرهاب" التي ضمت المئات من المصريين، سواء كانوا من الإخوان فعلا أو من غير الإخوان، مثل اللاعب الشهير محمد أبو تريكة، ورجل الأعمال المعروف صفوان ثابت، والناشط اليساري المعروف هيثم محمدين.. إلخ.
وهو ما يذكرنا بما فعلته "المكارثية" الأميركية أيضا مع رموز معروفة في الفنون والآداب والعلوم، منهم مارتن لوثر كينغ وألبرت آينشتاين وآرثر ميللر وتشارلي تشابلن.
كما صنف نظام السيسي -بالتعاون مع ثلاث دول خليجية- قوائم إرهاب أخرى خارج الحدود، وطالب بتسليم أفرادها تماما كما فعل السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي، الذي أرسل وفدا إلى الدول الأوروبية لوضع الكُتّاب اليساريين والشيوعيين في "قائمة سوداء أوروبية".
وإذا كان مكارثي أجبر وزارة الخارجية الأميركية على منع دخول كتب أكثر من أربعمئة كاتب وأستاذ أوروبي متهمين بالشيوعية؛ فإن نظام السيسي حرق الكتب فعلا في بعض المدارس وسحبها من المكتبات العامة، لأنها لكُتاب من الإخوان أو الإسلاميين، بل إنه أغلق العديد من القنوات والصحف والمواقع الإلكترونية لمنع الأصوات المعارضة.
وإذا كانت "المكارثية" الأميركية حظيت -في بدايتها- بدعم شعبي كبير؛ فإنها سرعان ما انهارت، بل إنها ساقت صاحبها نفسه إلى نهاية مأساوية بعد انكشاف أكاذيبه وتدليسه. وكذلك فإن "المكارثية" المصرية ستلقى المصير ذاته، وسيلقى عرابوها مصير السيناتور جوزيف مكارثي.
تعليقات