في يوم مولده ومن بين ما يستعصي على العد والحصر اذكر لوالدي موقفا في طفولتي لا أنساه له أبدا .. لعله السبب الأبرز في إتمامي حفظ كتاب الله كاملا

 


بارك الله في عُمر الوالد الحبيب المهندس نصر وأطال فينا بقاءه صحبة وبرا وبركة .. وملأ أيامه كلها سعادة في طاعته ورضاه ومتعه بالصحة والعافية وجعل كل نية وحركة وسكنة في ميزان حسناته .. ورزقني حسن الشكر له.

كل عام وأنت بخير يا أبت .. كل عام وأنت إلى الله أقرب .. وعلى طاعته أدوم .. ومن جنته أدنى .. وإليه وإلى قلوبنا وقلوب عباده أحب.

في يوم مولده ومن بين ما يستعصي على العد والحصر أذكر لوالدي موقفا في طفولتي لا أنساه له أبدا .. لعله السبب الأبرز في إتمامي حفظ كتاب الله كاملا في نهاية المرحلة الابتدائية .. وإلا فالأسباب كثيرة .. فإن بيتنا أُسس على القرآن من أول يوم .. تعظيمه وما يتصل به من شعائر .. بداية من أخذ أبي وأمي للكتاب ..

وتلقينهما قصار السور لي ولاخوتي منذ نعومة أظفارنا .. مرورا بشهودنا حلقات يجالس فيها والدي وأصحابه آيات الله حفظا وفهما .. فكنت أباريهم في حفظ السورة الطويلة عن ظهر قلب وأنا لازلت في تلك السن الصغيرة .. وليس انتهاءا بمنع التلفاز أن يغزو بيتنا لما يقارب عقدين من الزمان .. بينما إذاعة القرآن الكريم تشدو في أرجاء منزلنا آناء الليل وأطراف النهارحتى حفظنا التواشيح وأسماء ومواعيد ومقدمات البرامج بل وحتى أسماء المذيعين ..وفي القلب من ذلك كله تلاوة مشاهير القرأء الأعلام المتقنين وأدائهم العذب الأخاذ .. فكان القرآن يتردد في مسامعنا وصداه بين جوانحنا .. ويسكب في أفئدتنا الصبية الغضة .

لكن موقفا ـ محفور تفاصيله في ذهني ـ له ما ليس لغيره تأثيرا عليّ .. أهديه لمن ولاه الله طفلا أو فتى وأراد له حفظ القرآن .. فما مسني من خير ولا نزل بي من نعمة إلى يومي هذا إلا ببركات القرآن ـ على شدة تقصيري في جنبه ـ .. وإلى أبي يرجع هذا الفضل كله بعد الله سبحانه.

كان لي في فترة الصيف ـ وأنا ابن تسع سنوات ـ برنامج شبه يومي لا أحيد عنه .. أحفظ في الصباح وجها (صفحة) من المصحف .. ثم أغدو بعد العصر إلى الجامع الكبير القريب من دارنا "مسجد التواب الرحيم" (هكذا كان اسمه منقوشا على لوحة رخامية بيضاء كالصفا .. وهو مسجد كلية فيكتوريا)..

فأقرأ غيبا على شيخي ما حفظت .. وبعد ذلك حزبا من المراجعة ثم أنصرف .. حيث تترقب الأسرة عودتي كالفاتح .. يسألونني في اعجاب وتشجيع عما صنعت .. ملتفين حول مائدة الغداء .. ثم أروح بعدها للهو واللعب مع أخوتي.

وفي كثير من تلك الأيام الخالية كنت أذهب إلى النادي في الصباح .. نادي المهندسين .. فأنزوي في مسجد النادي لأحفظ وردي ساعة .. فإذا استظهرته أقبلت على اللعب ساعة .. ثم أعود لأدرك العصر وجلسة القرآن مع شيخي .. وكانت تراودني دوما صيحات الأطفال وهم يلهون في الملاعب غير بعيد عني بينما أحفظ .. لكن تقدمي الحذر البطيء رويدا رويدا في كتاب الله كل يوم كان يشحذ همتي ويقوي عزمي فلا ألعب قبل أن أتم وأتقن الحفظ.

لكن في هذا اليوم غلبني الصبي الذي في داخلي .. تمرد وتساءل لماذا ألعب ساعة فقط بينما يلعبون ساعتين .. فأزمعت أمري وركبت رأسي ويممت وجهي شطر اللعب غير عابئ بما خلفت وراء ظهري من الآيات فما حفظت منها شيئا ..

ثم جاء والدي كعادته في بعض الأيام ليصحبني وشقيقيّ في طريق العودة وكان يوقف سيارة الأجرة عند باب المسجد فأنزل ثم يكملون نحو البيت .. أخبرت والدي يومها أني لم أحفظ ولا داعي للمرور بالمسجد ولنذهب مباشرة إلى البيت .. وغمرتني ثقة تامة في موافقته ..

إلا أن ردة فعله لم تكن في حسباني مطلقا .. نظر إلي بثبات وأخبرني في هدوء ممزوج بحزم شديد أنني لن أتخلف هذا اليوم عن الشيخ والحلقة .. وعبثا حاولت أن أثنيه .. ثم طفقت أتوسل إليه فما نفعني ذلك فارقت السيارة طريق البحر إذ انطلقنا من النادي .. ودلفت إلى شارع الإقبال حيث يقع المسجد (كان هذا الاتجاه متاحا قبل أن يصير اتجاها واحدا) .. حينها شرعت في البكاء أترجاه ..

لكن توسلاتي جميعها ذهبت سدى ..وراحت أدراج الرياح.. وأمضى أبي ما أراد في نهاية المطاف.. لما استيأست منه ترجلت من السيارة وعبرت الطريق للمسجد متثاقل الخطى ما تقلني قدماي .. وخلصت إلى دموعي أكفكفها إلى أن تجمدت في مقلتي . وطفقت أفكر بم أخرج من غضب شيخي إذا سألني ما خلفك عن وردك.

دخلت المسجد .. وما إن رآى الشيخ وجهي الشاحب حتى فهم .. سألني فصدقته .. فابتسم تبسم المربي الذي يوشك أن يلقنني درسا لا عقابا .. ثم أجلسني خلف الحلقة ـ ليس فيها ـ .. وكأن الحلقة صفان .. جلسوا جميعهم من حوله في الصف الأول .. وكنت وحيدا في صفها الثاني ..

ثم كان يختلس النظر إلي بين الفينة والأخرى من غير ما كلمة .. فتتابع علي وأنا زائغ العين شارد الذهن مضطرب النفس قد غطني الندم وأخذ الحرج مني كل مأخذ .. كانت نظرات المعاتب الحاني لا الموبخ القاسي.. وبعد أن انتهت الحلقة صرفني متلطفا على ألا أعود لمثلها أبدا.

ما غابت شمس ذاك الأصيل ولا لملمت خيوط أشعتها الذهبية الواهنة إلا وقد ورثتُ ذاتية دافعة وجلدا ودأبا .. فما فاتني أبدا حفظ وردي منذ ذلك اليوم وحتى ختمت القرآن .. مرضت أياما وكنت قد شرعت في سورة النحل فقضيت ما فاتني فور تماثلي للشفاء .. حفظتها في يوم واحد ..

وذهبت للشيخ بالسورة كلها فكاد يضرب كفا بكف كأنما رأى عجبا .. وحين تنقلنا بين مكة وجدة وكنا نعود إلى مصر في الإجازة .. كانت تتابع علي الأسابيع بلا شيخ وعمري حينئذ عشر سنين .. لكن أيا من ذلك لم يفت في عضدي .. ولا تباطأ دوي الحفظ والمراجعة الهادر .. حتى أني اتقنت السور الطوال كاملة وحدي بلا دليل ولا حادي .. البقرة وآل عمران والنساء والأنعام والأعراف والتوبة .. وكذلك يونس وغيرها .. وكنت فيما بعد أصلي بالناس جزءا بعد جزء فلا أخطئ إلا نادرا.

رحم الله الشيخ "محمود النجار" رحمة واسعة ورفع في الفردوس درجته .. فقد قضى في حادثة بعدها بأعوام .. أحسبه شهيدا ولا أزكي على الله أحدا.
ربما يبدو الموقف بسيطا حال حكايته وقصه .. لكن أثره في نفس الصبي يومها كان عظيما .. وربما لولا حسم والدي ذاك اليوم لكنت ألفت التكاسل والتسويف .. وما أتممت .. بل وربما أنقض ما كان قائما .. فالحمد لله الذي صرفه عن وضع الندى في موضع الحزم.

كان الوالد موفقا في اختيار هذا الشيخ المربي .. ومن قبل ومن بعد مدققا فيمن آخالط ومن آخذ عنه القرآن .. دوما على عينه ومتابعته وترغيبه ومكافآته.
بارك الله في عمر الوالد الحبيب المهندس نصر وأطال فينا بقاءه صحبة وبرا وبركة .. وملأ أيامه كلها سعادة في طاعته ورضاه ومتعه بالصحة والعافية وجعل كل نية وحركة وسكنة في ميزان حسناته ..

ورزقني حسن الشكر له ولله من قبل ومن بعد .. وجعلنا جميعا من أهل القرآن الصادقين المخلصين.كل عام وأنت بخير يا أبت .. كل عام وأنت إلى الله أقرب.. وعلى طاعته أدوم .. ومن جنته أدنى..وإليه وإلى قلوبنا وقلوب عباده أحب.
.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حوار مع الشيخ : عثمان حاج مصطفى

أسامة خليفة ..إنتاج فيلم الطفل انطلاقا من قيمناِ لاء للإنتاج الفني، تقف على خط المواجهة، وبصدق نقول هذا، فقد كانت المبادرة إلى هذا العالم الرحب في وقت كان هَمّ الآخرين أن يقوموا بدبلجة ما يقدم، نريد من يؤمن بالفكرة

موسى ابن نصير قائد عسكري عربي في عصر الدولة الأموية. شارك موسى في فتح قبرص في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان