قصة رائعة فراش المدرسة وأنا في مدرسة عمر بن عبد العزيز الإعدادية بحلوان كان عندنا فراش اسمه عم عبد الله النوبى وأعتقد أن النوبي هذا ليس اسمه بل هو نسب بلدته من النوبة لم أصادف في حياتي رجلا وقورا
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
فراش المدرسة وأنا في مدرسة عمر بن عبد العزيز الإعدادية بحلوان كان عندنا فراش اسمه عم عبد الله النوبي (فراش المدرسة) وأنا في مدرسة عمر بن عبد العزيز الإعدادية بحلوان كان عندنا فراش اسمه عم عبد الله النوبي وأعتقد أن النوبي هذا ليس اسمه بل هو نسب بلدته من النوبة لم أصادف في حياتي رجلا وقوراً جادا له مهابة وله شخصية مثل هذا الرجل البسيط المتواضع كان يحفظ كثيرا من القرآن وكان يؤم المدرسة في صلاة الظهر ومن خلفه كان يصطف ناظر المدرسة والوكيل وأساتذة اللغة العربية والدين وكان عم عبد الله يجلس في حجرة مثل المخزن وقد عمل في جانب منها ما يشبه البوفيه لإعداد الشاي والقهوة.وفى الفسحة كنت أذهب عنده لأشترى كوبا من الشاي بقرش صاغ وباكو بسكويت بتعريفة وكان هو يجلس على كرسي من القش المتواضع بجوار المائدة التي يعد عليها الشاي
وأذكر في يوم أن دخل علينا الأستاذ الفاضل محمد سليمان والذي كان فيه من الورع والتدين ما لم نكن ندركه ونحن أطفال صغار فكنا نعد تواضعه ضعفا وكنا نشاغبه ونطلق عليه ألقابا مسيئة بقلة وعينا فقد كنا نتهكم عليه ونسميه أستاذ ( قولحة) ربما لأنه كان نحيلا طويلا لدرجة أننا بعد مدة من هذه الرعونة والتطاول نسينا اسمه الأصلي وصرنا لا نذكره إلا بالاسم الساخر ( قولحة)
فأذكر في يوم دخل الأستاذ محمد سليمان البوفيه ( إن صحت تسميته المخزن كذلك)
فقام عم عبد الله وقدم له الكرسي ليجلس عليه ريثما يحتسى فنجانا من القهوة
ولكن الأستاذ الفاضل أبى وبشدة وقال لعم عبد الله والله لا تقوم ولا أجلس فأنت أفضل منى عند الله يكفى حسن خلقك وأدبك
كان هذا الحوار على مرأى ومسمع من التلاميذ المشاغبين أمثالنا ولكنه كان موقفا تربويا رائعا بين رجلين عظيمين بلا تكلف ولا تصنع
.وأستمر الأستاذ محمد يحتسى القهوة وهو يتجاذب أطراف الحديث مع عم عبد الله والاثنان وقوفا ولم يجلس منهما أحد
وأذكر إنني كنت يوما بمكتب الناظر مع التشكيل العصابى الذي أنشأناه لضرب التلاميذ من الفصول الأخرى وقد حولنا الأستاذ مشرف الدور للمكتب لننال العقوبة المناسبة وبينما كنا وقوفا على جانب في انتظار العقوبة
وكان الناظر مشغولا ببعض الضيوف من المنطقة التعليمية والمفتشين إذ دخل عم عبد الله حاملا صينية الشاي فأنتفض الناظر المحترم الأستاذ (صلاح خليفة) واقفا وترك مكتبه وتقدم بسرعة لعم عبد الله وتناول منه الصينية وهو يشكره ثم وضعها بنفسه على المكتب
مواقف صغيرة ولمحات عابرة جدا ولكنها كانت تربى فينا قيم ومعاني لا نقرأها في كتاب ولا نحفظها في دروس
وكان لعم عبد الله رحمة الله عليه أثرا في حياتي ودرسا لم أنسه منه قط
كانوا في المدرسة يقررون علينا مقاطع من السور القرآنية للحفظ
مثلا من سورة الحجرات يقررون علينا حفظ الآيات من قوله تعالى
( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم)
وما بعد ذلك خمس أو ست آيات ودخل على والدي رحمة الله عليه وأنا أحفظ الآيات المقررة في المنهج فقال ساخراهو أنت هتفاصل مع ربنا في الحفظ !!
يا بني المدرسة قررت عليك هذه الآيات ليس لتمتحن فيها فقط ولكن لتشجعك وتفتح نفسك لحفظ القرآن يبقى عليك حفظ السورة كلها تمتحن في المقرر وتبقى حافظا لكل السورة بعد ذلك لنفسك وكان رحمة الله عليه يحثني على الحفظ ويجزل لي العطاء كلما ختمت سورة ثم سمعتها له عن ظهر قلب ولم تكن الحياة وردية دائما ففي ليلة لا أنساها قط كان مقررا علينا حفظ بضع آيات من سورة الإنسان من قوله تعالى
( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا وإلى قوله تعالى إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) وطلب منى والدي رحمة الله عليه حفظ السورة من أولها ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) وحتى ختامها
وكلما حفظت مقطع وجئت إليه لأسمعه له كان في يده شبشب بلاستيك مصمت من النوع السميك فكلما ارتجت على التلاوة أو ترددت فيها وتتعتعت
نلت من الشبشب ضربات عنيفة قاسية كانت تترك آثارها على جسمي ما بين الأحمر والأزرق
ورغم أنى كنت بفضل الله سريع الحفظ قوى الذاكرة ولكن خوف العقوبة ومرأى الشبشب يلوح فى يد أبى كان يربكني ويجعلني أتردد وأضطرب فأنال ضربات فوق الضربات.خاصة وهو ينظر لي بتربص وتهديد مع كل كلمة
.واستمرت حلقة التعذيب هذه من الساعة السادسة مساء حتى الساعة الثانية عشر في منتصف الليل رغم أن موعد نومي كان في العاشرة
.ولكنه أصر ألا أنام قبل ختم السورة حفظا وبإتقان
.وفى الختام لا أنسى تلك اللحظات وأنا أنطلق بتسميع السورة وكأني أقرأها رؤيا العين أمامي وهو واقف في المطبخ يعد لنفسه كوبا من الشاي ويهز رأسه بالإيجاب مع كل آية حتى وصلت لختامها أخيرا دون التلعثم في حرف .. فانفرجت أساريره وقال عفارم عليك .. هو ده علاء أبنى وأقترب منى ليحتضنني فانفجرت في البكاء بعد أن كنت أتحامل على نفسي على مدار ست ساعات دون أن أتأوه من الضربات المؤلمة وقال .. تقدر تنام بقى دلوقت .. بس بكرة لازم تسمعها تانى لنفسك عدة مرات حتى لا تنساها
.دخلت وجسمي كله في حالة throbbing ممكن نقول ألم الخفقان أو بالبلدى بينقح علىّ
وقد لا يصدق البعض أنني عشت سنوات طويلة بعد ذلك ما سمعت من أحد سورة الإنسان أو تلوتها إلا واستعدت تلك الحالة من الألم ألممض تنتاب جسدي كله
طبعا الجماعة بتوع التربية قد يرون أن هذا تزيد وطريقة غير صحية في التعليم
ولكنى رغم تلك القسوة المفرطة والضرب المبرح في بحر غاية الوالد النبيلة وحرصه المبالغ فيه وحبه الزائد لي والذي مازادنى إلا حبا له وتقديرا لجهده وبذله في تربيتنا
.وفى السنة الأولى الإعدادي كان مقررا علينا حفظ بضع آيات من سورة الكهف من قوله تعالى (وأصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه .) وأربع آيات بعدها من السورة
.وطبعا كان مفروضا حفظ السورة كلها كما طلب الوالد .. وقال لي فرصة كويسة علشان تقرأها كل يوم جمعة بعد كده
وذهبت للمدرسة مبكرا جدا قبل الموعد ودخلت فصلى وبدأت فى تلاوة السورة وأعجبني صدى الصوت في الفصل الخالي من التلاميذ فصرت أترنم بالآيات وأرتلها ترتيلا وأحبرها تحبيرا ( على رأى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
وفى هذه الأثناء كان عم عبد الله فى الممر يكنس أمام الفصول قبل بدء اليوم الدراسي
فدخل عندى الفصل وبيده المقشة ثم قال .. الله يفتح عليك يا إبنى صوتك جميل .. إحفظ يا إبنى القرآن .. القرآن عزيز وبيعز صاحبه لما هتحفظ القرآن سوف يرفعك ويباركك ولن تجلس وسط الناس إلا وكنت أعظمهم حتى لو كانوا أعلى مناصب أو أكبر الرتب فقلت له ولكن مفيش وقت عندي مذاكرة والدى يطلب منى حفظ السورة كلها وليس الآيات المقررة فقط
فقال لي جملة عجيبة جدا
.قال لي ( وهو الذي يفك الخط بالكاد) ..
هو أنت فاكر العلم بالشهادة والامتحانات ؟
العلم يا ابنى هو ما تقرأه بنفسك ولنفسك وليس المقرر بتاع الوزارة
.وبعد ما هتأخذ أعلى الشهادات كل اللي ذاكرته فى المدرسة هتنساه ومش هيفضل في دماغك إلا العلم الحقيقي اللي أنت علمته لنفسك
.أوعى تكتفي بالكتاب بتاع المدرسة
.أي ورقة أمامك تقدر تقرأها سوف تضيف لك جديدا
.قال هذه الكلمات لي عام 1971م وبنفس كلماتها تقريبا
ومازالت محفورة في عقلي وقلبي بعد مرور نصف قرن من الزمان
.بعد سنوات كثيرة كنت فى لندن أؤدي امتحان زمالة كلية الأطباء الملكية في الأشعة التشخيصية
.دخلت مكتبة وبحث عن بعض المراجع الطبية وبالمصادفة فتحت مجلدا ضخما
.وجدت الصفحة الأول قبل مقدمة الكتاب مكتوب هذه العبارة.
Education is what remains after one has forgotten what one learned in school
.والعبارة منسوبة للعالم العبقري (ألبرت أينشتاين) وهى تقول أن المعرفة هي ما يتبقى للإنسان بعد ما ينسى ما تعلمه في المدرسة ذهلت وأنا أقرأ هذه العبارة التي أستشهد بها مؤلفو المرجع الطبي لألبرت أينشتين وقلت عندنا في الجنوب رجل بسيط جدا سوى الفطرة نقى العقل توصل لهذا المعنى دون دراسات أكاديمية ولا أبحاث معملية
كانت هي نفس الكلمات تقريبا التي حاول عم عبد الله الفراش المتواضع أن يشرحها لي
وأذكر وأنا أقرأ مذكرات (أبراهام لينكولن) الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية والذي حكم أمريكا من عام 1881 م إلى حين اغتياله في 1885م والذي قاد حملة تحرير العبيد وتوحيد الولايات المتحدة وإنهاء الحرب الأهلية بين ولايات الشمال والجنوب يقول في مذكراته أن أكثر الأشخاص تأثيرا فيه كانت زوجة والده التي كانت تحثه على قراءة أي شيء يقع تحت يديه لدرجة أنه كان يعبر النهر في قريته في ولاية كنتاكى ليشترى أبو فروة من بائع يلف له الأشياء في ورق جرائد فكان يشترى منه ليقرأ ورقة الجريدة التي يحمل فيها أبو فروة
(وهى نفس نصيحة عم عبد الله)
اقرأ كل ما يقع تحت يدك ولا تكتفي بكتاب المدرسة
منذ هذا اللقاء في الصباح الباكر مع عم عبد الله كنت أذهب في الفسحة لأشرب الشاي وأخذ باكو البسكويت فيأخذ منى قرشا واحدا فقط ثمنا للشاي وكان يرفض أخذ ثمن البسكويت ويقول لي البسكويت هدية منى كرامة لحفظك القرآن
الموضوع طال جدا ومواقف عم عبد الله كانت كثيرة وكم أتمنى أن أسترسل في سردها ولكنى اكتفى بذلك حتى لا أشق على القارئ
.وأتمنى لأكبر عدد من الأصدقاء القراءة كاملة للموضوع والترحم على هؤلاء العظماء البسطاء
.الذين كانت قمة عظمتهم في سهولتهم وبساطتهم
منقول
عن د علاء الدين عباس
عرض أقل
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات